بخلاف أمكنة عديدة، أخرى، تؤسس لها المدينة، كشرط وضعته لوجودها التأريخي والحاضر، يعلن المتحف هويته ، بمثابة مكان يمنح حكمة البقاء للرؤية على نحو حميم ومتوا صل.
إنه يلازم بطريقته شرط المدينة في هذا الوجود الثنائي – التاريخي والحاضر – بدءا، حينما يستل من الأول مآثره الخفية، ويعرضها كأساليب فنية متعينة، قابلة للمشاهدة والانفعال . ويبقى على الثاني ، تاليا، باعتباره علاقة تحرض لجمالية دائمة.
ما بين التاريخي والحاضر، يشخص المتحف داعيا لضرورة الذاكرة الخلاقة.. القادرة، في ان تكون أيضا، ذريعة اتصالنا بأحلامنا القادمة، وما يمكن من تسميتها والحوار عنها.
المتحف ، فكرة تنسجها المدينة – لا متاحف دون مدن – فهو وثيقة لوجودها في العصر، عندما يلامسها بشفافية الخيال ، وخامة المادة . وكذلك ، بما لا يجعل الغياب والنسيان فضاءها الذي تتداوله بحرية.
انه بمعنى ما. . عاطفتها، قلبهاالدائم الذى يثير الألفة.. . ضد اغترابها الممكن .
بذلك لا يكون إلا هبتها للأخرين . من أجل ألاتكتفي معهم ،.
كمأوى بل انشغال وسؤال يتداولونه بلغة التلقي ومحاولة الكشف عنها.
المتحف ذائقة المدينة
هذا الحضور النبيل الذي يستدعينا، كي نحيا الوقت فيه . .بحس متخيل وتعبيري ، ولكن ليس أي وقت ..! . انه ذلك الاستثناء القابل على النفاذ الى الحرية، وتمثله بعناصر العمل الفني . مخترقا بهذه الممارسة المبدعة، فعل البقاء خارج المعنى، حيث يفصح المتحف – بسلطة الابداع لابسلطة الحدث ، عن زمن يستدل أن ، المعنى الذى يعيدنا طواعية أي شرط معناه ، غرائزه ، وسريته المعلنة.
انه المجال الذي امتلك قدره انتقاء الضرورة والذاكرة على نحو مغاير. ضرورة، باعتباره فاعلية الحاضر، ما هي إلا نتاج انشغالات سابقة وذاكرة.. في كونها اسلوبا نستدل خلاله على شهادات لخبرة ذلك النتاج والتواصل معه . فالمتحف خيار، يعيننا على امتلاك شعور يضلل الوحدة، بالنظر مليا الى منجز الاخرين ، – بمعنى المشاركة – من هنا تتبقى محاولته في ان يهبنا وجودا جماليا مضافا، بدافعية العمل الفني . هذا الوجود الذي ابتكره الانسان كى يخترق وجوده الاضطراري الاخر في الحياة. مرة حينما يطلع على زمن لم يعاينه ، ولكنه يراه باعتباره المالك الوحيد له ، ومرة اخرى حينما يحافظ على بقائه القادم في وعي زمن لن يستطيع الوصول اليه . وانما التفكير فيه . انها دعوة لا فتراض بقاء اخر، بقاء تتلاحق فيه ومن خلاله .. ولادات متكررة .
ومثل هذه المقاربة، لا تحقق للمتحف الا صفة معلنة، انجزتها صعوبات تمثله لاستجابتنا وحاجتنا بما يهيىء من وظائفية اتصال ومشاهدة جمالية، ولكن يبقى هنالك ما هو خارج هذه الصفة المعرفة ؟.
انه – امتياز – المتحف ، فرادته ، والتي تتأتى جزاء علاقة على قدر من التعالي مع العمل الفني ، إذ يهبه ما لا يستطيع أي فضاء آخر! . فالمتحف لا يكتفي بادراج العمل الفني وثائقيا في تاريخ الفن ، بل يستعين بحجة هذه الوثيقة، تداولية بقائه الاخر، بقاء الحوار عنه ، وهى ما تمنحه تاريخه الخاص وهويته المغايرة، مع دافعية البحث عن جمالية لم تستنفذ فيه والكشف عن خبرة تمنحنا اهميته .
شكل الحضور هذا، ما يهب العمل الفني دائما، مقاومة الوجود بصورة مضاعفة، حينما يقصى عنه هدفه المباشر. . من اجل تكريس مقاصده المستقلة . ويمثلها، نفترض تواصلنا معه ، عندما نحاول ان نتخطى دهشتنا بالتجربة في البحث عن وضوح ما.. . اقل التباسا واكثر قربا لمرجعياتنا المعرفة .
يستدعي المتحف ، العمل الفني ، من حاضر للتجربة لابقائه في المستقبل باطلاقه في فضاء التلقي ، حيث يهبه معنى يساوي عدد الاستجابات من قبل عدد المتلقين والتي تفضي إلى قراءات متواصلة ومتغيرة. انه بذلك يمنحه ممارسة الظهور بمعان جديدة . فالعمل الفني حقيقة جمالية مضافا لها. . كل تلك القراءات التي تلبي فضوله الذاتي ونواياه الغامضة، في ان يشارك ما يوازي الحياة وعلاقاتها، معلنا عن وجوده جراء هنا الانشغال ، في ذاكرة لا تستطيع الحياة ذاتها. . الغاءها، تحت شريعة الحاجة لتخيلات الحقيقة .
بذلك لا يكون بمثابة كيان فني ينتج للاخرين مشاهد صورية وحيدة، بل رؤى تنتظر خلاصهاالعابر.ان الفنانين باعتبارهم امراء اساليبهم يودعون في مثل هذا الخلاص سريتهم ، غيابهم المؤجل الذي يوجده المتلقي، بالتحديق مليا في اعمالهم. . اي ثراء مقاصدهم .
بهذه الغاية المشتركة – الجمالية والتاريخية – ما يجعلنا نمنح اعتزازنا الخاص، الأكثر طمأنينه وألفة. فللمتحف غموضه المهيب وقداسته الدنيوية .
أعمال فنية، تخاطب العين ، وأخرى تحرض الذاكرة، واعمال تلامس القلب ، واعمال نلامسها باطراف اصابعنا.
المتحف جدران ، واروقة، وتخيلات اولى، نوايا موغلة في الغازها، وجماليات مبكرة" رؤى مستترة انتظمت حسب الاساليب ، او حسب تاريخ يعاود حضوره اليومي كمشاغل الحياة. المتحف ، كهف المدينة المعاصرة سحرها الواعي على نحو مرئي ، القادر بخصوصيته وتفرده لن يمنح رواده تامل روح الحاضر. . . برغبات قريبة المنال .
سعد القصاب (كاتب عراقي )