ولد تاركوفسكي في الرابع من ابريل عام 1932, واليوم يحتفل العالم بمرور سبعين عاما على ميلاد نابغة السينما الروسية في القرن العشرين, وصنو سيرجي ايزنشتاين الذي يدين له الفن السينمائي بأعمال وكتابات هامة, خاصة في مجال المونتاج وتوظيف الفن لخدمة الفكر. درس تاركوفسكي الموسيقى واللغة العربية قبل ان يلتحق بجامعة السينما في موسكو وقد كان لهواه الشرقي أكبر الأثر في أفلامه- كما يشير في الحوار الذي نقلناه الى العربية عن مجلة ؛المفاتيح الجديدة أو «لي نوفيل كليه« الفرنسية- ليس فقط في روحانيته ونسقه الأخلاقي وانما أيضا في لغته البصرية الرصينة الأقرب إلى تصوف الزهاد وفي أسلوبه الرزين بقسوة الذي يجعل منه زميل كفاح لكبار المخرجين الأوروبيين أمثال إنجمار برجمان السويدي أو بيتر جرينواي البريطاني. ولاعجب أن يكون عنوان أول أفلامه «القتلة« (1958) وآخرها «القربان« (1986) وأن يكون فيلمه «طفولة ايثان« (1962) أول الأعمال التي تلفت النظر اليه عالميا (فقد حاز على جائزة أفضل فيلم من مهرجان فينيسيا). على مدى أكثر من خمسة عشر عاما قدم أندريه تاركوفسكي عددا محدودا منن الأفلام تمثل كلها علامات في تاريخ الفن, هي ؛أندريه روبليف« (1969), «سولارس« (1973), و«المرآة« (1875), وهي من انتاج أمريكي, ثم ؛ستالكر« (1979), و«نوستالجيا« (1983) من انتاج روسيا, وأخيرا «القربان« (1986) انتاج فرنسي, تم تصويره في السويد بمساعدة فريق العمل الخاص لإنجمار برجمان.
بعد عدة أشهر فقط من عرض فيلم ؛القربان«, توفي أندريه تاركوفسكي في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1986 مصابا بداء السرطان. والحوار الذي نترجمه اليوم عن الفرنسية احتفالا بذكرى مولد تاركوفسكي لم ينشر بلغته الأصلية إلا مؤخرا وتلك هي الترجمة العربية الأولى له. أجرى الحوار توماس جونسون في الثامن والعشرين من إبريل عام 1986, وكان تاركوفسكي آنذاك طريح الفراش في بيته الباريسي.
) يشعر المرء أن البشرية كلها قد خيبت ظنك فيها, فعندما نشاهد أفلامك نشعر بالخزي لأننا بشر. فهل ثمة بريق خافت في قاع البئر يحدونا للأمل?
) مناقشة التفاؤل والتشاؤم أمر فيه بلاهة. إنها مفاهيم فارغة من المعنى, إن من يحتمون بالتفاؤل إنما يفعلون ذلك لأسباب سياسية أو ايديولوجية, لأنهم لا يبغون البوح بما يفكرون فيه. كما يقول المثل الروسي: المتشائم هو متفائل عليم. إن موقف المتفائل موقف خبيث فكريا, موقف مسرحي يخلو من الصدق. في المقابل, الأمل صفة من صفات الانسان, وهو ميزة البشر التي يولدون بها. إننا لا نفقد الأمل في مواجهة الواقع لأن الأمل غير عقلاني, يفرض نفسه ضد كل منطق. يقول ؛ترتوليان« عن حق: ؛إنني أعتقد لأنه من العبث أن نعتقد«. ويتأكد الأمل لدينا حتى في مواجهة أكثر مجتمعاتنا الحالية بؤسا, ببساطة لأن البشاعة, مثلها مثل الجمال, تثير لدى من يؤمن أحاسيس تؤكد الأمل وتدعمه.
) ما الأحلام التي أثرت في حياتك أكبر الأثر? وهل لديك رؤى للمستقبل?
) أعرف الكثير عن أحلامي, وهي تكتسب عندي أهمية قصوى, لكني لا أميل للكشف عنها: أريد أن أقول لك إن أحلامي مقسمة إلى قسمين: هناك الأحلام الاشراقية التي أتلقاها من عالم الماوراء, من عالم الغيب, وهناك الأحلام العادية التي تأتي من علاقاتي بالواقع. الأحلام الاشراقية أو التنبؤية تأتيني أثناء النوم عندما تنفصل روحي عن عالم الوديان وتصعد إلى قمم الجبال. ما أن ينفصل الانسان عن الوديان, يبدأ رويدا رويدا في الاستيقاظ.
وفي اللحظة التي يصحو فيها, تكون روحه نقية طاهرة وتكون الصور محملة بالمعنى, إن الصور التي نعود بها من العالم العلوي هي التي تحررنا, المشكلة أنها تختلط سريعا مع صور الوديان ويصبح عسيرا علينا أن نجد المعنى, الشيء الأكيد هو أن الزمن, في العالم العلوي, قابل للانعكاس, الأمر الذي يثبت لي أن الزمان والمكان لا يوجدان إلا من خلال تجسدهما المادي. الزمن ليس موضوعيا.
) لماذا لا تحب فيلمك ؛سولارس«? هل لأنه الوحيد الذي لا يؤلم?
) أظن أن مفهوم الضمير الذي يتمثل في هذا الفيلم قد تم التعبير عنه بشكل جيد. المشكلة أن هناك الكثير من العناصر العلمية المزيفة في هذا الفيلم: محطات الفضاء, الأجهزة, كل هذا يزعجني بشدة وبعمق. تلك الحيل والأدوات الحديثة, التقنية, هي بالنسبة لي رموز الخطأ البشري. الانسان الحديث مشغول بنموه المادي وبالجانب البراجماتي من الواقع. إنه مثل حيوان مفترس حائر فيما يفترسه. لقد اختفى اهتمام الانسان بالعالم الأعلى المفارق وأصبح الانسان الآن يتطور مثل دودة الأرض: أنبوب يبتلع الأرض ويخلف وراءه القليل. لو أن الأرض اختفت يوما ما فذلك لأن الإنسان سيكون قد أتى عليها ولن يكون هذا مستغربا. ما فائدة الصعود إلى الفضاء مادام هذا ينأى بنا عن المشكلة الأهم: التناغم بين العقل والمادة?
) اين تصنع نفسك في سياق ما أطلق عليه لفظ ؛الحداثة«?
) مثل انسان يصنع قدما على ظهر مركب والأخرى على ظهر مركب آخر.. المركب الأول يبحر رأسا والآخر يدور إلى اليمين. شيئا فشيئا, أدرك إنني أقع في الماء. الإنسانية كلها في هذا الموقف حاليا.
أستشعر مستقبلا مظلما, خاصة إذا لم يدرك الانسان أنه موغل في الخطأ. لكني اعرف أنه عاجلا أم آجلا سوف يعي الموقف. ليس بوسعه أن يموت كما يموت مصاص الدماء الذي يصفى دمه أثناء النوم لأنه خدش نفسه قبل الخلود للنوم. يجب أن يكون الفن حاضرا ليذكر الانسان أنه كائن روحاني وأنه جزء لا يتجزأ من عقل متناهي الكبر سيعود ليتحد به في نهاية الأمر. لو أن الإنسان اهتم بهذه الأسئلة, لو أنه طرحها على نفسه, فقد نجا روحيا بالفعل. الاجابة بلا أهمية تذكر. أعرف أنه بدءا من تلك اللحظة, لن يستطيع أن يحيا كما تعود في السابق.
) مهما بدا ذلك غريبا, يبدو أن الذين يعشقون أفلامك, يحبون أيضا أفلام ستيفن سبيلبرج, الذي يبهره هو أيضا عالم الاطفال, هل شاهدت أفلامه? وما رأيك فيها?
) بطرحك هذا السؤال تبين عدم معرفتك.. سبيلبرج وتاركوفسكي يتشابهان في نظرك. خطأ! هناك نوعان من السينمائيين: النوع الأول يعتبر السينما فنا ويطرح تساؤلات شخصية, يرى السينما معاناة وهبة, واضطرارا. الآخرون يرونها وسيلة لربح المال, تلك هي السينما التجارية: مثلا فيلم E.T حكاية مدروسة ومصورة سينمائيا بهدف نيل إعجاب أكبر قدر من الناس. لقد بلغ سبيلبرج هدفه بذلك فهنيئا له.
هذا الهدف لم أسع قط للوصول اليه, بالنسبة لي, كل هذا خال من الأهمية.
لنأخذ مثلا: في موسكو, هناك مئة مليون نسمة بما في ذلك السائحون, ولكن هناك فقط ثلاث قاعات كونسير للموسيقى الكلاسيكية, هي قاعة تشايكوفسكي والقاعتان الكبيرة والصغيرة في الكونسرفتوار. أماكن قليلة جدا لكنها ترضي الجميع. رغم ذلك لا يدعي أحد أن الموسيقى لم تعد تلعب دورا في الحياة في الاتحاد السوفييتي. الحقيقة عن مجرد وجود هذا الفن الكبير الروحاني الرباني يكفي في ذاته. بالنسبة لي, فن الجماهير أمر عبثي. الفن يتجلى بروح سامية ارستقراطية, الفن الموسيقي لا يمكن إلا أن يكون ارستقراطيا, لأنه في لحظة خلقه يعبر عن روح الجماهير, ذلك الشيء الذي تطمح اليه غير واعية. لو أن الجميع باستطاعته فهم الموسيقى, لأصبح العمل العظيم عاديا مثل نبتة بزغت في الحقول, ولما كان ثمة اختلاف في الامكانيات يتولد عنه الحركة.
) غير أنك تحظى بشعبية كبيرة في الاتحاد السوفييتي, عندما نريد مشاهدة أحد أفلامك نتسابق للحصول على تذكرة.
) أولا, في الاتحاد السوفييتي يعتبرونني مخرجا ممنوعا من العرض, مما يثير شهية الجمهور. ثانيا: أتمنى أن تأتي الموضوعات التي أحاول اخراجها من قرارة نفسي وروحي بحيث يصبح ذلك هاما بالنسبة لآخرين سواي. ثالثا: إن أفلامي ليست تعبيرا عن ذاتي وإنما هي صلاة, عندما أخرج فيلما يصبح اليوم يوم عيد, كما لو أنني أضع أمام أيقونة شمعة منيرة أو باقة ورد.
المتفرج يفهم في النهاية عندما نخاطبه بصدق. إنني لا أبتكر لغة خاصة ليبدو عملي أكثر بساطة أو أكثر تفاهة أو أكثر ذكاء. عدم الصدق يدمر الحوار. والزمن فعل فعله معي: عندما أدرك الناس أنني أتكلم لغة طبيعية وأنني لا أدعي وأنني لا اعاملهم كأنهم حمقى وأنني لا أقول إلا ما أفكر فيه, عندئذ بدأوا يهتمون بما أعمل.
) هل تعتقد مثل سولجنستين أن الغرب قد دالت دولته وأن الواقع الحقيقي لن يأتي إلا من الشرق?
) أنا بعيد كل البعد عن هذه التنبؤات, باعتباري أرثوذوكسيا اعتبر روسيا هي أرضي الروحية. لن أتنازل عن ذلك أبدا حتى لو قدر لي ألا أراها أبدا. يقول البعض إن الحقيقة سوف تأتي من الغرب, والبعض الآخر من الشرق, لكن التاريخ مليء بالمفاجآت لحسن الحظ. في الاتحاد السوفييتي, هناك صحوة روحية ودينية نشهدها اليوم ولا يمكن أن يكون ذلك سوى أمر طيب. لكن الطريق الثالثة بعيدة المنال.
) ماذا بعد الموت? هل خالطك الاحساس قبل ذلك بأنك مسافر في عالم الغيب? وماذا كانت رؤاك?
) لا أؤمن إلا بشيء واحد, أن الروح الانسانية أبدية لا يمكن القضاء عليها, في عالم الغيب, يمكن أن نجد أي شيء, لا أهمية تذكر لذلك, ما نسميه الموت ليس موتا, بل هو مولد جديد. الدودة تصبح يرقة. أعتقد أن ثمة حياة بعد الموت, وهذا تحديدا ما يقلق. من السهل أن نتخيل أنفسنا مثل حبل الهاتف حين نفصله عن الحائط, ويمكننا عندئذ أن نحيا كما يحلو لنا.
) متى اكتشفت أن ثمة رسالة عليك أن تؤديها للانسانية?
) إنه واجب نحو الله, الانسانية تأتي فيما بعد, الفنان يجمع الأفكار الموجودة لدى شعبه ويركزها فيه, هو صوت الشعب, ما تبقى ليس سوى عمل وعبودية, وموقفي الجمالي والأخلاقي إنما يتحدد وفقا لهذا الواجب.
) ماذا تحب أن تقول للناس قبل أن ترحل عن هذه الأرض?
) أهم ما أردت قوله موجود في أفلامي, يصعب علي أن أصعد على منصة لم يدعوني أحد إليها.
) في كتابك ؛اكتمال الزمن« تقول: ؛يصيح الغرب دون توقف: أنظروا! هذا أنا! انظروا كيف أعاني! كيف أحب! أنا! أنا لي أنا…« كيف استطعت أن تحل إشكالية الأنا كفنان مرموق?
) لم أستطع بعد حل المشكلة. لكني شعرت دوما بأثر الثقافة الشرقية على وسحرها الأخاذ. إن الرجل الشرقي يعطي نفسه للكون هدية«.
بينما في الغرب, المهم هو أن يظهر الانسان نفسه, أن يؤكد ذاته, يبدو لي ذلك مؤسيا, ساذجا, حيوانيا, أقل روحانية وأقل إنسانية. لذلك أتحول أكثر فأكثر الى رجل شرقي.
) لماذا تنازلت عن تصوير حياة هوفمان?
) لم أتنازل عن هذا الفيلم إنما أجلته, تصوير فيلم ؛القربان« كان أكثر إلحاحا. حياة هوفمان كانت ستصبح فيلما رومانسيا, غير أن الرومانسية ظاهرة غربية بحتة. الرومانسية مرض أو داء, عندما يشيخ الانسان, يرى شبابه كما يرى الرومانسيون العالم. لقد كان العصر الرومانسي عصرا ثريا بالروحانيات لكن الرومانسيين لم يتمكنوا من استخدام الطاقة الروحية, كما ينبغي. الرومانسي يسعى لتجميل الأشياء, يفعل كما أفعل أنا عندما لا تكفيني نفسي, أبتكر نفسي, لا أخلق العالم إنما أبتكره.
) لماذا تقول في نهاية فيلم ؛القربان« إن في البدء كانت الكلمة?
) إننا نخطئ كثيرا فيما يخص الكلمة, فالكلمة لا تكتسب قوة السحر إلا حين تكون حقيقية. اليوم تستخدم الكلمة لكي تخفي الفكرة. في أفريقيا, اكتشفت قبيلة لا تعرف الكذب. حاول الرجل الأبيض أن يشرح للقبيلة معنى الكذب ولم يفهم أحد. حاول أن تفهم تصوف هذه النفوس لتعرف لماذا في البدء كانت الكلمة. ان حالة الكلمة تكشف حالة العالم الروحية, حاليا لم تزل الهوة تتسع بين الكلمة ومعناها, أمر غريب أقرب الى اللغز!
) هل نعيش نهاية العالم أم نهاية عالم?
) حرب نووية الآن? لن يكون هذا انتصارا للشيطان بل أدنى من ذلك. سيكون مثل طفل يلهو بالكبريت ويشعل النار في البيت. لن يكون بامكاننا حتى اتهامه بهوس الحريق. روحيا ليس الإنسان مؤهلا للحياة بالقنابل, ليس ناضجا بعد. عليه أن يتعلم أولا من التاريخ, وإذا كان ثمة شيء قد تعلمناه من التاريخ فهو عجزه أبدأ عن أن يعلمنا شيئا, إنها خلاصة فكرية بالغة التشاؤم, إن الانسان يكرر أخطاءه دون كلل, شيء بشع. لغز جديد! أعتقد أن علينا أن نبذل جهدا روحيا هاما حتى يعلو التاريخ إلى مستوى أرقى. أهم ما في الأمر هو حرية المعلومات التي يجب أن يتلقاها الإنسان بلا رقيب, إنها الأداة الوحيدة الايجابية. الحقيقة بلا رقيب وبلا مسيطر هي بداية الحرية.
———————————————————-
حوار لم يسبق نشره مع المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي.
حوار: نوفيل كليه – ترجمة: مي التلمساني كاتبة ورائية من مصر