من الطبيعي أن يؤدي التراكم الكمي في الآونة الأخيرة لقصيدة النثر، إلى محاولة اعادة انتاج ذلك الكم، عبر التأكيد على النموذج المفارق، ليس على مستوى الشكل وحده، ولكن – أيضا – على مستوى تأسيس جنس أدبي جديد.. يبتدىء من الشعر، لينتهى إلى الشعرية.
لقد كانت الاشكالية الاساسية التي تمثل مأزقا للقصيدة الجديدة، أنها تكتب من خلال ذاكرة عروضية بحكم الممارسة التاريخية، كما أن العديد من شعرائها كانوا قد تمرسوا في كنف قصيدة التفعيلة. وبالتالي، كتبت نماذجهم الجديدة، طبقا لقوانين وقواعد شعرية سابقة. ولم يستجد على القصيدة، سوى اطراح الملمح العروقي منها، وان كان قد تم استبداله بحيل صوتية اخري، مما تزدحم به اللغة العربية، باعتبارها لغة ايقاع بالأساس. وبالتالي، اقتربت تلك النماذج من صورة (القنطور)، الذي له رأس جديد وجسد قديم.
وكان ظهور عدد قليل من الشعراء الذين لم يشغلهم سوى هاجس خلق النموذج الشعري المفارق، مؤشرا على بداية تأسيس قصيدة مختلغة، تمتلك الوعي بذاتها داخل الزمن. وكان أبرز هؤلاء الشعراء وديع سعادة. لقد كان نموذجه الشعري اقرب إلى البرهان، الذي تبين به الخيط الحداثي من الخيط الكلاسي. بل ان هذا النموذج قد أثر بعمق في العديد من الشعراء الذين تقاسوا معه. ويمكن لنا أن نرصد أن معظم تجليات القصيدة الجديدة، خاصة لإنتاج ما يسمى بجيل التسعينات، هي امتداد لذلك التماس والتفاعل.
ومن خلال الديوان الاخير "بسبب غيمة على الارجح "، سوف نحاول استخلاص العناصر المهيمنة داخل هذا الديوان، والتي تمنحه تميزه. ولعل أهو تلك العناصر:
– تحولات النظرة
– بلاغة الانفصال
تحولات النظرة
شأن العلاقة بين اللغة والكلام، فإن الرؤية امكانية بينما النظرة انجاز. إنها الصلة بالآخر عبر الفراغ، والتي يشترط لتحققها وجود طرفين: الرائي والمرئي. لكن القصيدة حين تتعامل مع مفهوم النظرة، فإنها – بالضرورة – تدمجها داخل علاقات جديدة، بعد أن تعيد إنتاج السياق الذي يؤطرها.
ومن الطبيعي أن وديع سعادة حين يتعامل – بدوره – مع هذا المفهوم، أن يقوم بإعادة انتاج العلاقة التي تنتظمه، طبقا لرؤيته الخاصة كشاعر فهو – بداية – لا يشترط لتحقق النظرة سوى وجود احد طرفي العلاقة، إما الرائي أو المرئي. وبالتالي، فإن النظرة – من وجهة نظر شعرية – لا تصبح سباحة بصرية في الفراغ لرؤية الأخر، بقدر ما هي سفر في الزمن لاستدعاء ذلك الآخر من ماضيها. أي أن فاعلية النظرة عند وديع سعادة، تنتقل من العين أحيانا لتحل في الذاكرة. وبذلك، فإنها تصبح تعبيرا عن الحركة الدائبة بين الرؤية والتذكر، وبالضرورة بين الاتصال بالآخر والانفصال عنه.
وفي ديوان "بسبب غيمة على الأرجح "، يحتل مفهوم النظرة مكانة مركزية، خاصة في قصيدة «لحظات ميتة»، التي تعد محورا للديوان، بحكم المساحة والانجاز معا. وفي هذا الديوان، فان آلية الاتصال / الانفصال التي تشغلها النظرة، إنما تعبر عن التراسل بين الانفصال المكاني من ناحية، والاتصال الزمني الذي يحل بديلا عنه من ناحية أخرى. فالرؤية الميتة التي يولدها غياب الاخر، تحيلها النظرة باتجاه محو الغياب عن طريق التذكر، أو الرؤية بالذاكرة. وبذلك، فان وديع سعادة حين يستخدم النظرة، فانه لا يعتبرها تجليا فسيولوجيا، بقدر ما يعدها خطابا زمنيا. وهو بذلك يؤكد على أن سياق التخاطب بين الذات والاخر الذي يمحى بالغياب، انما يعاد انتاجه بوساطة النظرة، التي تنقله من مستوى الرؤية بالعين الي مجال الرؤية بالذاكرة. فالشاعر يكلف النظرة بأن تعيد الغياب الى تمام الحضور.
ولعل أهم سمات استخدام النظرة داخل الديوان، انما تتضح عبر اخضاعها لقانون السحر الاتصالي كما عند جيمس فريزر، حيث الاشياء التي كانت متصلة بالانسان ثم انفصلت عنه تظل تحمل تأثيره، بل ويصل بها الأمر إلى امكانية أن تؤثر به، رغم اتساع المسافة المكانية التي تفصل بينهما. فالنظرة تصير (أثرا) متصلا بمحدثها، بالمفهوم السحري، أي أنها تصبح شاهدا تنوب بحضورها عن الآخر/الغائب:
"لا أعرف لماذا أهجس اليوم بالاصدقاء. كانوا يجلسون هنا، على الكنبة، نظراتهم لا تزال عالقة على الطلاء. ويخيل الي أني أرى وجوههم كذلك. كأنهم حين رحلوا وتركوا نظراتهم، أرسلوا وجوههم لتفقدها، فعلقت هي ايضا على الحيطان ".
وطبقا لقانون السحر، فإن النظرة حين تتخلف عن محدثها، فانها تستحيل من مجرد أثر، لتصبح حضورا إنسانيا شاملا. وهنا، يستطيع الاثر أن يمارس نوعا من الاستقلال الذاتي عن المحدث مؤقتا، حتى يتمكن من ممارسة تأثيره اللاحق على المكان: "عرفت ناسا في حياتي، رحلوا وبقيت عيونهم سنوات، جالسة بهدوء في اخر مكان نظروا اليه ".
وهكذا، يتأكد القانون، ويصبح الشعر رديفا للسحر، والقصيدة بديلا للطقس. فالعين تظل – رغم غيابها -حاضرة من خلال الاثر، الذي يصبح وجودا أيقونيا لها. وهنا، تصبح النظرة مكلغة بعمل يفوق طاقتها.
واذا كان النص المقدس يشير إلى انه (في البدء كان الكلمة)، فإن وديع سعادة يقرر أنه (في البدء كان النظرة). فهي لم تعد قادرة على مجرد الوجود، بل على تأسيس ذلك الوجود، والانتقال به من القوة إلى الفعل، من خلال قدرتها على الخلق:
"انظر إلى اثاث الغرفة من غير ان اتحرك من مكاني نظرة صغيرة قد تجعل هذا الأثاث صديقا".
فالنظرة – شأن الكلمة – قد امتلكت القدرة على الخلق، ومن الطبيعي أن تمتلك كلتاهما القدرة على التحول، أي على إعادة إنتاج الذات من جديد:
"التقيت كلمات ونظرات غادرت اصحابها، وتحولت الى كائنات جديدة ".
فالنظرة – هنا – تؤكد على التراسل ما بين العين والمخيلة. وبذلك تغدو وكأنها عصا الشاعر السحرية، التي يستطيع بإشارة منها إدخال الوجود الى دائرة الوعى، وكأن وديع سعادة يؤكد على تصور بورخيس: (أن يكون المرء هو أن يرى).
وطبقا لآلية الاتصال / الانفصال، فإن العين – كمحدث للنظرة – تمارس وجودها المستقل خارج حدود الجسد، ليصبح وجودها غير مشروط بالاندراج داخل اية وحدة جسدية:
"يتركون عيونهم ويمشون متكئين على نظرات قديمة "
فإذا كانت العين تمارس استقلاليتها، فإن النظرة – بالضرورة – سوف تسعي لممارسة آلية الاحلال والابدال. فالنظرة لم تعد مجرد نتيجة للرؤية، بل إنها أصبحت الرؤية ذاتها. لذلك، فمن الطبيعي أن نجد هؤلاء الذين يتكئون على نظراتهم القديمة، يمارسون نوعا آخر من تحولات النظرة، إذ أنهم:
"حين يتعبون يفرشون نظرة وينامون "
فالنظرة انتقلت من كونها ضرورة للحياة، لتصبح أسلوبا لها في نفس الوقت.
على أن السمة الأساسية للعلاقة بين العين والنظرة داخل الديوان، أشبه بالعلاقة بين المادة والطاقة في الطبيعة، حيث أن كلا من حدي العلاقتين، يصدر عن الطرف الآخر، مع امكانية التحول اليه مرة اخرى. وهكذا، يمكن لنا -من خلال القياس -أن نؤسس «قانون بقاء النظرة» فكما أن الطاقة لا تفنى، فإن النظرة عند وديع سعادة لا تفنى بدورها. فهي قد تكون تحولا عن العين، أو صدورا عن الإنسان، وفي الحالتين تصبح محض طاقة عاطفية، تشع داخل الزمان والمكان.
ونظرا لأن النظرة تمتلك القدرة على تجاوز الزمان والمكان، نظرا لما تتمتع به من ديمومة داخل الديوان، فإنها بذلك تصبح قادرة على استدعاء الآخر أو الذات من الغياب. فالشاعر يؤكد على أن الانفصال المكاني بين النظرة والذات أو بينها وبين الآخر، انما يؤدي إلى اتصال مرئي عبرها، فهي صلة بين الغياب وبين الحضور، وبين الذات والآخر. لذلك، فمن خلالها لا ينقطع سياق التخاطب بين تلك الأطراف الأربعة.
على أن آخر تحولات النظرة داخل ديوان " بسبب غيمة على الأرجح "، تتمثل في قدرتها على التشخيص، من خلال أنسنة الاشياء، عبر اضفاء ظلال إنسانية عليها:
"ذلك النهار..
ظل مقعدان حجريان فارغين،
كانا صامتين
ينظران الى بعضهما،
ويدمعان "
فكأن وعي الجماد – الشبيه بالوعي الإنساني – لا يتم اكتسابه إلا عن طريق النظرة، كما أن الحياد العاطفي الذي يلتزمه، ينهار دفعة واحدة عبر فعل الرؤية. بل إن هذا الفعل قد يؤدي إلى نوع من انعكاس الفاعلية بين الانسان والاشياء كما انه – وان كان يحيل الاشياء باتجاه الانسان – فانه قد يرد الانسان ذاته باتجاه الاشياء. وهكذا، تندرج كل عناصر الوجود – عبر الرؤية – داخل وحدة كونية شاملة:
"نبتة زرعها البارحة
خرج نسغ من يديها إلى عروقه
خرجت من عينيه أوراق إلى غصونها
وحين اراد العودة
لم يبرح مكانه،
كانت قدماء تحولتا
جذورا "
إن فعل الرؤية هنا هو أداة لشخصنة النبتة، ووسيلة لدخولها كطرف في وحدة وجود مع الإنسان. وفي هذا الفعل، يكمن مبرر وجود الشجرة، باعتبارها أحد تحولات النبتة:
"وقال توأمين: والده والشجرة
يلقي ذراعه عليها
وتلقي غصنها عليها
تخضر حين ترده "
إن اخضرار النبتة، ومن قبل شخصتنها، يتحول في موضع ثالث – بتأثير النظرة -إلى ممارسة دورة حياتها، عبر فعل الاثمار، حيث أن العين يمكن أن تحل بديلا عن الشمس في عملية "التمثيل البصري " البديلة لعملية التمثيل الضوئي:
"كانوا يتقدمون خطوتين ويلمسون
– قبل نسمة الفجر – جذوع الشجر
وتحت نظراتهم
تثمر غصون "
وأصحاب تلك النظرة ينتقلون بها من أشكال تحولات الحياة، باتجاه مختلف أشكال التشيؤ في الوجود، من المقاعد قبلا إلى الملابس فى نص لاحق:
" في عودتهم يقفون امام الواجهات
يقيسون بانظارهم ثيابا لأولادهم ويمشون "
وهكذا، تصبح الرؤية بشكل عام، والنظرة على وجه أخص، اطارا معرفيا شاملا لإثبات وحدة العناصر الكونية، والتراسل ما بين الإنسان والاشياء، بل انها تصبح منهج حياة، اضافة إلى كونها ضرورة وجود، لا للإنسان وحده، ولكن للأشياء أيضا. فمن خلالها، يمكن لنا أن نعاين تحولات الوجود، بين الانساني، وبقية مفردات الكون، وبين التحولات الداخلية للإنسان، التي تتمثل في الذات والآخر.
وبذلك، يصبح مفهوم النظرة أحد العناصر المهيمنة في نص وديع سعادة الشعري، ومدخلا لفض شفرة ذلك النص.
بلاغة الانفصال
أدت بنا دراسة النظرة في ديوان " بسب غيمة على الأرجح "، الى نتيجة مؤداها أن الرؤية الشعرية لوديع سعادة، إنما تؤكد على وحدة الافعال الانسانية، واندماج كل عناصر الوجود داخل وحدة كونية شاملة. إلا ان الوجه الآخر لتلك الرؤية الشعرية، يتمثل في أن الحراك المستمر لمفردات الوجود، يؤدي بعناصره – عادة – إلى الانفصال بعد الاتصال، كي تمارس قدرا من استقلاليتها، التي يمكن بعدها أن تندرج – مرة أخرى – داخل وحدة كونية شاملة. فكأن دورة المادة في الطبيعة تمارس تأثيرها على الرؤية الشعرية، التي ترى كل عناصر الوجود في حراك وتحول مستمرين، وهذا الحراك يظل محكوما باليات الاتصال /الانفصال.
واذا كانت النظرة هي أداة الاتصال داخل الديوان، فإن الأعضاء هي التي تمارس لعبة الانفصال. ومن المؤكد أن هذه الأعضاء تندرج داخل وحدة جسدية واحدة، إلا أن وديع سعادة لا يردها إلا باعتبارها تمتلك وجودا مستقلا، وبالتالي فإنه يمنحها الحق في ممارسة ذلك الوجود بمعزل عن السيطرة المركزية التي يمارسها الجسد عليها.
ويبتدىء فعل الانفصال من الظل، لا باعتباره عضوا، ولكن باعتباره رمزا أيقونيا لوحدة الجسد الإنساني:
" خيالاتهم حين مرت على الحقول
في رقهم بعضها ونام م هناك.
وخيالات تشبثت بالصخور وانمغطت
واعادتهم اليها "
فالصورة – بداية – تنفصل عن الإطار، كما أن الظل ينفصل عن الجسد كمحدث له. ومن الطبيعي الا يتم انفصال الظل عن الجسد إلا تحت شرط العتمة المعلقة، لذلك فإن الشاعر حين تقرر ان:
"فوقهم كانت الشمس تبحث عن إبرة
لتعيد وصلهم بالظلال "
فان تلك الإبرة التي تعيد اتصال الظل بالجسد، لا يمكن أن تكون سوى الضوء ذاته، الذي يبدد العتمة، وبالتالي ينفي شرط الانفصال، والذي يظل قائما وممكنا في الوقت ذاته.
وحين ينتقل الشاعر من العلاقة بين الظل والجسد، إلى العلاقة بين أعضاء الجسد ذاته، فإنه يرصد تلك الأعضاء وهى تمارس انفصالها، لتحقق وجودا مستقلا عنه:
"لنا عيون وأقدام
لا تزال هناك
لذلك، حين نمشى، لا تشعر
الدروب بنا "
فكأن الجسد الإنساني يمضى قدما تحت ضغط قصوره الذاتي وحده، بعد أن انفصلت عنه العيون والأقدام. وبافتقاد وسائل الرؤية والحركة، يصبح الاستمرار في السير مستحيلا، إلا إذا قبلنا الافتراض الضمني للشاعر، من أن كل عضو يمتلك امكانية القيام بوظائف الأعضاء الأخرى، مما يمنحا قدرا من الاكتفاء الذاتي على المستوى الفسيولوجي. في نفس الوقت، ندرك أن الأقدام والعيون قد مارست حق تقرير المصير، الذي نتج عنه الانفصال عن الخارطة الجسدية.
وطبقا لتلك الآلية الممتدة داخل الديوان، فإن الشاعر يرى عبر الحرب أن الأعضاء تمارس استقلالها، لكن تحت وطأة قوة خارجية هذه المرة:
"رأينا تحت الجسور اشلاء حياة
وشظايا عيون
تبحث عن نظراتنا"
فالنظرات -كما توصلنا سابقا- هي أداة التئام، لذلك تظل الأشلاء في حالة بحث دائب عنها، لأن التفتت تم رغم إرادتها:
"كان الهواء يحمل لنا نظرات
ضيعها اصحابها "
وانفصال النظرات هنا، هو إشارة ضمنية لممارسة العين لحقها في الانفصال عن باقي الجسد.
وهكذا، عبر الانتقال من الانفصال الذي يمارسه الظل كأثر، إلى الانفصال الذي تمارسه النظرة كفعل انساني، تتأكد امكانية تحلل الوحدة العضوية للجسد، باعتباره التجلي المادي للوجود الانساني ككل. وهذا التحلل يتحقق بالفعل عبر ممارسة الأعضاء لإرادة الانفصال الداخلي التي تحركها ولأن هذا الانفصال قد يبدو للبعض غير ممكن، فإنه يحتاج إلى تبرير من الشاعر لذلك فإنه بالفعل يقدم مبرراته:
"يصبح العالم أجمل هكذا، حين يكون الشعر صديقا.
العالم
قريب من القلب مع الاعضاء الصديقة. حين تحبك
اعضاؤك،
ينقص عدد الأعداء"
وبعد أن يتمرد كل من الظل والنظرة على الانتماء إلى الجسد، فإن القدم تبتدىء في إيهام الوعى الانساني للشاعر، بوجودها المستقل الذي يمكن أن تمارسه وقتما تشاء:
"أرفع قدمي، اضعها على الأريكة امامي كانت رفيقتي
الوحيدة.. قدم غريبة الاخلاص، الى درجة انها لم
تفارقني ولا يوم. أعرف اقداما كثيرة ملت وغادرت
اصحابها انقطعت عنهم بحجة المرض، أو انفصلت
فجأة على الطريق.."
إذن، فوجود القدم داخل الوحدة الجسدية، لا يتم إلا بإرادتها المطلقة. وص لا تمارس التئامها إلا من خلال صفة العشق التي يضفيها صاحبها / الشاعر عليها:
" الآن، كأنني أشعر بها لأول مرة. يفعل واحد حين
يكتشف أن عاشقة تبعته أر بعين عاما، دون أن يدرى؟"
وهذا ما يؤدي به إلى أن يتساءل مرة أخرى:
"كيف مشت معى هذه العظام سنوات، دون أن أسمع
ازيزها، أو أرى انهيارها المفاجيء على الطرقات ".
فالجسد هنا يعترف بحق أعضائه في الانفصال، حين ينفصل هو عنها بفعل الرؤية، ليشاهد صيرورتها من القوة إلى الوهن. والشاعر- صوت الجسد – في محاولة لإثبات تلك الصيغة يقرر أيضا:
"عرفت ناسا تعاملوا مع أعضائهم، مثل جمهرة التقت مصادفة في احتفال، ثم ذهب كل واحد في طريق .. على الأدراج، وفي الشوارع والساحات تتوزع أعضاء ضائعة، وأعضاء غافية. بعضها كان قد ولد للتو، وبعضها يموت".
فالشاعر يرى, أن الجسد ليس سوى مصادفة فسيولوجية، تتجمع الاعضاء بغتة طبقا لها. فالتوحد – إذن – هو وليد الصدفة وليس وليد لذلك الضرورة. كما أن الجسد ليس وجودا ماديا، بقدر ما هو وجود ذهني. لذلك فان الشاعر يستطرد.
"التقيت عيونا تسهر من دون أصحابها، وأرجلا تمشى وحدها على الطرقات، وشفاها تتكلم وحدها مع العابرين.
التقيت كلمات وأنفاسا ونظرات غادرت أصحابها،
وتحولت
إلى كائنات جديدة".
إن ممارسة إرادة الانفصال تحيل العضو من الجزء إلى الكل، ليصبح كائنا قائما بذاته. فالشاعر يلح على تلك الرؤية في أكثر من موضع، حيث تتحول الأعضاء الى كائنات، لا تمتلك كينونتها فقط، بل وتمارسها في نفس الوقت:
"إنني مع هذه الكائنات جالس الآن، مع أشياء انسحبت
من ماضيها، وبدأت حياتها الخاصة. وأشعر كأن
أعضائي
على وشك الانسحاب مني، لتبدأ هي أيضا حياتها. في أية
حال، لم أنظر يوما إلي اعضائي كشيء لصيق بي، بل
كانت دائما تتمتع باستقلالها. يخرج بعضها مني وأنا
نائم ليجلس على الشرفة، يخرج بعضها ويتمشى في
الشارع. ومرات حين
"أستيقظ في الصباح. اقضي نهاري في البحث عن
عضو مفقود، وأحيانا لا اجده"
اليس هذا النص هو وثيقة من الجسد يسقط بها الحماية الفيزيقية من الأعضاء؟
وهكذا، تصبح العلاقة بين النظرة من ناحية والأعضاء من ناحية أخرى، هي علاقة جدل، تشكل صيرورة الوجود الانساني في التحول بين الاتصال والانفصال، وبين التشرذم والالتئام. وهذا الجدل الخفي هو ما يمنح ديوان "بسبب غيمة على الأرجح" سحره المتميز، وما يؤسس لشعرية وديع سعادة منظورها الخاص في رؤية الذات الانسانية، في توحدها وانفصالها مع الآخر الانساني من ناحية، وفي حركة اقترابها أو ابتعادها عن المفردات الكونية من ناحية ثانية.
عبدالعزيز موافي ( كاتب من مصر)