ان غرض هذه المقالة هو تبيان أن علي اللغات المستخدمة غالبا في الخطاب السياسي أن تكون مقيدة بتلك اللغات و(أنواعها) المستخدمة من قبل منظمات تسييس القرار.
ان الصور المرئية في وسائل البث والصحافة المطبوعة تعمل كالعدسات في الكاميرات: فور التقاط الصورة، فانها تصبح سجلا ثابتا ودائميا ورقميا. وهي تصبح أيضا، بمفهوم ما، لفة جامعة يتم فهمها عالميا، ثم توضيح هذا بقوة خلال الاضطرابات الأخيرة عبر المناطق الفلسطينية، في مواجهة العنف الشديد للسلطات اليهودية. إن الكاميرات التي التقطت صور وجوه الصبية الصغار الذين تلقوا من قبل الجنود الاسرائيليين، وخاصة محمد الدرة ذا الاثني عشر ربيعا بينما حاول أبوه حمايته، كان لها، بلغة وسيلة اتصال صوفة، دور أكبر بكثير من كل المقالات التي كتبت حول الاضطرابات الأخيرة حتى تلك اللحظة. (التقطت تلك الصور من قبل صحفي عربي وشخص معتبر يعمل لصالح محطة تليفزيون فرنسية.) إن هذه الصورة سمت فوق التحديدات الثابتة للغة، وفوق حدودها. بدون الصورة، ما لم تكن قصة محمد قد كتبت بلغة مألوفة للقراء، فإن عدد الأشخاص الذين تمت توعيتهم بالأحداث العصيبة كان سيصبح أقل بكثير.
ان صعوبة اختراق مجتمع ما بمعلومات، بسبب تقييدات حواجز اللغة، هي حاليا على أشدها. يبدو أن هناك قلة من الناس نسبيا، الذين يفهمون بدقة ما يمكن للغة واستخدامها أن يفعلاه أو (يفشلا فيه) من أجل قضية ما. ان صورة ما كلقطة فيديو قد أثبتت كونها أفضل وسيلة ناجحة لايصال الخطاب، ومن فير المؤكد أن يتغير هذا في المستقبل القريب.
إن تكوين نوع من اللغة المشتركة الحقيقية لن يكون بسهولة خلق لغة الاسبرانتو: فبينما تهيمن اللغة الانجليزية عالميا، ستظل هناك مجالات لتحفظ اللغة وفقرها تكون فيه الحاجة الى الأشكال المرسومة كوسيلة اتصال دولية. ومع ذلك، فلن يقدر أمر ما على تهشيم قوة اللغات المقروءة والمكتوبة على المستوى اليومي ولأمد طويل جدا: انها لا تزال أرخص وسيلة للاتصال وأكثرها شيوعا.
ما هي – في مستهل القرن الحادي والعشرين – مشاكل تبادل الأفكار التي تواجهها الدول النامية؟ كيف يمكن لحكومات العالم الثالث ومؤسساته وأفراده أن يتصلوا بشكل فعال مع بقية أرجاء العالم، باستخدام اللغة كتابة؟ كيف يمكن لهم أن يشدوا انتباه نصف الكرة الشمالي الفني، الذي تهيمن فيه اللغة الانجليزية.
ليس من الصعب تحديد المجالات التي لا يستطيع فيها العالم الثالث أن يوصل خطابات مؤثرة (بأية وسيلة إعلام كانت – التي تخاطب الجموع أو الأفراد) تخص أمورا مهمة محليا. ان مجالات مثل إعادة تسديد القروض، ادارة الأمور الصحية، التجارة الدولية أو الاستعمار الحديث، تثب في الحال الى المخيلة كيف يمكن خلق صورة يمكنها أن تثير اهتمام الرأي العام أو حكومة غربية وتستحثه دون استخدام لغة النفوذ الشائعة – غالبا، وليس دائما، الانجليزية؟ كيف يمكن اقناع الحكومات والمؤسسات الدولية كي تستمع وترد علي مطالب معقولة بشكل بناء؟ تتراوح المشكلة ما بين ناطق قد لا تكون لغته الانجليزية جيدة بما يكفي لتضمن له فسحة على شاشة CNN، والى موظف بيروقراطي ربما لا يكون بمقدوره تقديم قضية مقنعة بما فيه الكفاية لضيوف من مسؤولي "البنك الدولي".
ليست هناك لفة من دون قوة، والقوة اللغوية هي نتاج القرينة التاريخية لتلك اللغة. أين تطورت؟ ما هي ارتباطاتها؟ بأي شكل للبناه اللغوي يتم تجديد المعنى باستمرار؟ ان لفات أفقر شعوب الأرض (الكانتو نية، الهندية البنجابية، السواحيلية، وغيرها) هي أحد العوامل الموهنة التي تحكم العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية ما بين النصفين الفني والفقير للكرة الأرضية.
إن نتيجة طبيعية لهذه تكمن في معارضة الدول النامية ترك الأمان الذي توفره محمياتهم اللغوية والاجتماعية والثقافية. إن هذه المعارضة لمناقشة مسائل عالمية أوسع بلغة جامعة هو من اعراض الأسلوب الذي يتم به تركيز أغلب المعلومات المحلية الحيوية ضمن هذه المناطق وحدها. هناك رغبة ضعيفة لهذه الكينونات بترويج قضايا العالم الثالث الحقيقية خارج مجتمعات العالم الثالث. ان الكثير من المعلومات ذات الأساس المحلي تعالج ويعاد معالجتها حسب برامج تعليمية، عبر وسائل الإعلام ومراكز المعلومات الحكومية المحلية، مع أنه تم ترويج هذه المعلومات بشكل جيد في هذه المجتمعات. في بعض الحالات أبقت هذه الحقائق الرأي العام في نوع من وهم ثقافي (مثال على هذا، ضمن أوروبا، كانت صربيا تحت حكم ميلوسوفيتش). قد تكون هناك مجالات مثل تفكك الترابط الاجتماعي، نقص العناية الصحية الأساسية، قلة سريان القانون، وعدم احترام الحريات الأساسية الموصى بها في ميثاق الأمم المتحدة حول حقوق الانسان. ومع ذلك فان نقص الدعاية لأبعد من العالم الثالث نفسه قد أتاح لهذه الخروقات التي ظلت في حاجة الى معالجتها، أن تزداد سوءا، وأن تصبح متشربة بنيويا بشكل متكرر في العمليات السياسية لدولة ما.
في عالم تهيمن فيه البنية اللغوية والتجارية والفلسفية لسيطرة دولة على غيرها، الممارسة من قبل الشعوب الناطقة بالانجليزية (سابقا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبشكل متزايد حاليا، المجموعة الأوروبية) ربما ليس من الغرابة أن العديد من المجتمعات المحرومة تغوي بالتقهقر الي ماض ستمثل بخصوصيتها الحضارية واللغوية. ومع ذلك، فان هذا يولد عدم اتزان حظي، حتى الآن، باهتمام اكاديمي ضئيل.
في اعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبح نشر النشاطات السياسية الداخلية للدول الغربية الزاد الغالب لوسائل الإعلام النامية عالميا. ربما كان التفكك السريع للامبراطورية البريطانية بين 1945و 1970 ذد علاقة كبيرة بالشمولية البالغة للفة الانجليزية، كما هو اضعاف للوطن "الأم" بعد الحرب بدأ المجتمع الدولي بمناقشة الأمور حسب اتجاهات تم توضيحها من قبل تلك الدول التي كانت متفوقة في الأمم المتحدة – بشكل ملحوظ الولايات المتحدة، ولاحقا، المجموعة الأوروبية. متحدين في تفهم لمبادي، التحرر الأساسية، المدونة بشكل متكرر باللغة الانجليزية. أعطى هذا تلك الدول التي كانت أقاليم بريطانية، الذخيرة الفكرية و(اللغوية) للنزاع المقبل.
إن هذه الدول التي أقامت حواجز من السرية (مثل يوغوسلافيا سابقا لم جمهورية صربيا) بدأت بشكل محتم تقريبا الاضرار بنفسها. تؤثر مثل هذه الحواجز على الشعور بالأمان لمثل هذه المجتمعات. غالبا ما تكون هناك نشاطات غير مقبولة إنسانيا تمارسها الدول ضد مواطنيها أنفسهم. تخفي هذه النشاطات باستمرار وذلك باعاقة أعمال الأكاديميين والصحفيين،وتكون الأداة الرئيسية للقيام بهذا هي فصل الدولة لفريا عن المناظرات العالمية الأكثر شمولا. في صربيا أمكن لميلوسوفيتشر عمل القليل جدا، بالرغم من اغلاقه لصحيفة "التلغراف" الموالية للغرب في أوائل العام 1999. كانت الحدود الثقافية في ذلك الحين قد أصبحت نفاذة جدا لكي يتم احتواؤها حقا.
إن التحقيقات الصحفية والأكاديمية النشيطة هي الوسيلة الأكثر فعالية للكشف عن، ونشر، النشاطات الحكومية وشبه الحكومية التعسفية. يتم القيام بأغلب هذا العمل من قبل منظمات متمركزة في أو مدعومة من العالم المتقدم لدول العالم الثالث منظمات أو مؤسسات قليلة جدا من هذا النوع. إن الدول التي أدركت أهمية مثل هذه المؤسسات قد تمتعت بالفوائد الناجمة عن مثل هذا النشر – أساسا لقدرتها التأثير على صانعي الرأي الغربي لصالحهم.
ان السرعة التي لا تصدق والتي يتم بها الآن نشر المعلومات (بأية وسائل كانت، الصحافة المطبوعة ووسائل البث، الانترنت أو حتى السفر الشخصي) قد عززت الهاوية الكامنة والحقيقية على السواء لتلقف الجماهير لشؤون الوطن. هناك العديد من المنظمات الوطنية وفوق الوطنية تعمل باعتبارها "مروجة"، غالبا بدعم محدد من مجموعة كاملة من الزبائن (دول، شركات، مجموعات الضغط، أو حتى أفراد). لم تعد المعلومات شرطا لازما للنخبة: عبر الخمسين سنة الماضية، وبسرعة متزايدة وأكثر فعالية، أسقط وابل من وسائل الاتصال المتنوعة علي شرائح سكانية كبيرة. بالرغم من ذلك، فإن القسط الفعال الذي قام به العالم الثالث لصناعة الخطاب بدلا من استهلاكه فقط يبقى ضئيلا جدا. على كل حال، يوجد ضمن هذه الدول ميل لدى بعض الحكومات كيلا تعلن عن نشاطا تها. يمكن لأوكسجين الإعلان أن يكون عنصرا مسموما لبعض الدول المعينة جدا، المعزولة ثقافيا. في مثل هذه المجتمعات (المتكيفة للسرية بواسطة سنين من الممارسة السياسية) يندر تدارك أهمية الانفتاح في مجال الاتصالات حتى في المجتمعات الأوروبية المسمدة (منفتحة) كالمملكة المتحدة على سبيل المثال، توجد مخاوف بأن يشكل الانترنت خطرا على عوامل داخلية محددة من حياة الدولة.
حتى عندما يتم ترويج القضايا بواسطة حكومات العالم الثالث أو المؤسسات شبه الحكومية، فإن الطرق المتبعة هي غالبا عديمة الفعالية. ببساطة، ليس هناك حوار جار ضمن هذه الجماعات – لا يوجد شعور لدى الجماعة بإعلام نفسها حول الأمور الهامة. لذلك فإن المشاكل ذات الاهتمام تضمحل من جدول النقاش الى الحد الذي تشطب فيه من النقاش كلية. هذا هو الحال خصوصا عند تناول حقوق الانسان، عدم التوازن الاقتصادي أو الاجتماعي، والأمور البيئية، التي يلغى مجالها جميعا من النقاش على لوحة الاعلانات الاجتماعية.
إن إحدى نتائج "ندرة مناقشة الأمور" هي كون الهوة ما بين الذين يملكون والذين لا يملكون تزداد اتساعا يوميا. إن واحدا من رموز الأعلام الذين أثاروا الاهتمام بهذه المشكلة، وأكتب من تجربة شخصية، هو الأكاديمي الفلسطيني ادوارد سعيد، برو فيسور الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا. في أكثر نقاشاته حول المسألة الفلسطينية، أو المشاكل السياسية بين الغرب والشرق الأوسط واسرائيل، يتتبع النسيج المعقد للحرمان من وسائل الاتصال، موضحا بأنه ضمن عالم النفوذ العربي يراعى اهتمام قليل جدا بمسألة معالجة المشاكل المحلية أو كيفية سعالجتها. هو يعتقد بأنه ينبغي إجراء دراسة شاملة حول الكيفية التي تعمل بها المجتمعات العربية. كيف تستلم وتنشر وتهضم وتتقبل مواد ذات علاقة بأنفسها، وكيف تستطيع القيام بنفس الشيء مع مواد تخص مجتمعات ذات تأريخ مختلف تماما عنها وبالتالي، طبعا، ذات لفة مختلفة. انه يعتقد بأن استخدام لغة محددة في مجتمع معين زي أهمية قسوى اذا ما أريد لمسألة ما أن تنجر في نشرها ومن ثم فهمها، اللغة هي المفتاح لتحريك الرأي العام باتجاه فهم مسائل هامة.
على سبيل المثال، ينبغي استخدام اللغة الانجليزية لترويج أمور العرب في الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية سادامت الآن واقع حال كونها اللغة الجامعة العالمية. هذا لا يعني القول بأنه لا ينبغي على أولئك الذين يريدون الترويج لقضيتهم في فرنسا أن يستخدموا الفرنسية أو الألمانية في ألمانيا. يجب أن يكون التفكير الأساسي بأن هذه الدول المتقدمة لن تأتي خاضعة لتستمع وتفهم ما تريد قوله الدول النامية عوضا عن ذلك يجب علي الدول النامية أن تلعب لعبة الدول المتقدمة. اذا أرادت دول العالم الثالث أن تعرض مشاكل ما، وتخلق صورة مضبوطة لصياغة هذه المشاكل من قبل دول العالم الأول، فإن عليها إذن أن تفاتح الدول المتقدمة بنفس الطريقة التي تفاتح بها الدول المتقدمة الدول النامية. إذا قامت شركة كوكا كولا أو ماكدونالدز بالاعلان عن حضورها في المجتمعات العربية باللغة العربية، إذن، وبالعكس، يجب على العرب استخدام اللغة الانجليزية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة لنشر برامجهم. برأي ادوارد سعيد، لم يتم حتى الآن اعتبار مسألة بروتوكولات الاتصال كونها السبب الرئيسي لاسكات أصوات العالم الثالث.
ان الاخفاق في تقدير واستخدام بروتوكولات اللغة – أي استخدام اللغة كأداة سياسية – يولد الدورة التي نشاهدها في العديد من مجتمعات العالم الثالث، وعلى وجه التحديد،أكثر المجتمعات العربية. يتم اعادة تدوير المسائل بدون اضافة طريقة تفكير "خارجية". اذا أراد العالم الثالث من العالم المتقدم أن يهتم بمشاكله، فما عليه الا أن يقوم بتقليد الاسرائيليين. ان السبب في الاستماع الى و(تصديق) الاسرائيليين هو لأنها تخاطب كل دولة بلغتها. ان حقيقة كون اسرائيل تفخر بأولوية وأهمية لغتها لا يغير إلا القليل جدا عندما تتبنى السياسة الواقعية. عندما تصل الى التروج للنهج الاسرائيلي عبر نشر الأخبار عنها فإنه يتم بذكاء استخدام اللغات الأخرى. في الحقيقة. عندما يرمي الاسرائيليون الى التأثير على الرأي العربي أو صانعي الرأي العربي، فإنهم يتحدثون العربية. (في اسرائيل نفسها، تعمل الصحف العربية المملوكة لاسرائيل كواحدة فقط – مع أنها مهمة – من أدوات الحكم الاسرائيلي.).
في الولايات المتحدة (كما في المجموعة الأوروبية) يطو صدى مجموعات الضغط الخاصة بقضايا العالم الثالث، وتتنافس كل مسألة لجذب انتباه المنفذين في السلطة، أو المقربين اليهم – أو حتى ما يمكن من الفعا ليات السياسية وذلك بمناشدة الصوت الديمقراطي لعامة الناس. يلاحظ ادوارد سعيد بشكل متكرر بأنه يوجد في الولايات المتحدة آلاف الأكاديميين الذين يدافعون باستمرار عن حقوق اسرائيل، وهم يقومون بذلك باللغة الانجليزية. مع ذلك فعندما يأتي الأمر الى الأكاديميين العرب ومجموعات الضغط العربية، علاوة علي حقيقة وجود عدد أقل بكثير من الأكاديميين الذين يرغبون بالتحدث عن أمور العرب، فان الذين يعتقدون بجدوى الترويج للمعلومات الضرورية باللغة الانجليزية هم حتى أقل من ذلك. ربما يملي المنطق بأنه كلما كان الموقف العددي لطرف ما أضعف، كان ينبغي عليه أن يستعمل جميع الأدوات المتاحة في يديه لبلوغ أهدافه. يبدو أن الكتاب العرب قد اعترفوا بالهزيمة وانسحبوا الى معزل لغوي.
للولايات المتحدة مجموعتان لغويتان رئيسيتان: الانجليزية والاسبانية ( يتكلم 11.8 % من سكان الولايات المتحدة اللغة الاسبانية باعتبارها لغتهم الأولى أو الوحيدة). للأغراض الأكاديمية والصحفية، فان اللغة الانجليزية تهيمن بشكل كلي. ومع ذلك، فانه عندما يأتي الأمر الى الكتاب العرب الذين يناقشون أمور العرب فان اللغة المستخدمة هي العربية بالرغم من حقيقة كون أقل من 2% من مواطني الولايات المتحدة يتحدثون بها باعتبارها لغتهم الأولى أو الثانية. والأغرب من هذا، عندما يكون المستمعون الى وجهة النظر العربية هم على الأرجح من غير الناطقين بالعربية.
ان واحدة من كبرى المروجين في القرن العشرين، التي بدأت نشاطها في العام 1923، وهي مؤسسة خلبت مخيلة (وحتى اعجاب) الملايين، هي هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي". لقد أدركت الحكومة البريطانية مبكرا أهمية نشر الأخبار بأسلوب يناسب الأهداف السياسية واحتياجات المستمعين على حد سواء. وكوسيلة بث امبريالية ذات واجبات عالمية، فإنها تنوعت بسرعة في اللغات الوطنية للامبراطورية. كان لكل منطقة شبكة البث الثانوية الخاصة بها، وكانت الاستوديو هات تقع عادة في لندن في بناية "بوش هاوس"، بحيث أصبح نطاق "بي بي سي" عالميا حقا قبل أية جهة بث أخرى مقارنة. وفسرت "بي بي سي" الاخبار والمعلومات حول المملكة المتحدة، زراعتها، وصناعتها، وسياستها، والاهتمامات الاجتماعية لشعوبها، بالاضافة الى تصورها للأحداث الدولية. وأصبحت الناطق الذي يوضح أي موقف حكومي ذي علاقة. ولد هذا مجموعة كبيرة من النتائج المفيدة، مشجعا من أوامر التجارة البريطانية في وقت كانت تمر فيه المملكة المتحدة بفترة تجديد كبير. حصل العديد من الزبائن الدوليين العاديين على حق اختيار البضائع البريطانية، والتعليم والثقافة البريطانية ببساطة من خلال كونهم جزءا من مستمعي الإذاعة العالمية لمؤسسة "بي بي سي". في الكتاب "أصوات العرب" (وهي دراسة لقسم البث الخارجي لهيئة الاذاعة البريطانية، وخصوصا القسم العربي) يبين بارتنر بوضوح موقف المذيعين البريطانيين تجاه نظرائهم المصريين:
"اخترقت (صوت العرب) وعي القادة السياسيين الغربيين، وجعلتهم مقتنعين بأهميتها السياسية الصادقة. لم تقم باثارة السخط فحسب. انها أرعبتهم. وكان رد القادة السياسيين على التخويف البحث عن سلاح بنفسر الطبيعة التي يرونها تهددهم". (1)
لقد بين هذا، في ذروة قوة عبدالناصر ونفوذه في الخمسينات، حيث استخدم وبفعالية راديو "صوت العرب" كوسيلة إعلامية ومؤثرة أن هيئة الإذاعة البريطانية أحست بأنها مستفزة. شعرت بأنها غير قادرة على مضاهاة نجاح إذاعة عبدالناصر، مهما كانت رغبتهم جامحة في تقليدها. "نشرت (صوت العرب) الحيادية والعروبة في جميع أرجاء العالم العربي، وكان تأسيس الجمهورية العربية المتحدة في أوائل العام 1958 قد أدى في ذلك الحين الى الهيمنة المصرية على الراديو السوري. أرادت الحكومة البريطانية أن يكون لها "صوت في المنطقة"، وكانت الحجة السياسية للرد على "صوت العرب" و "إسكات الناطق بلسان عبدالناصر" قد قادتهم الى أن يقرروا القيام بتوسيع كبير للقسم العربي وتوفير مرسلات أبعد لكي تنقل البث. ولكن، بعد إقرارها صرف هذه المبالغ، هل كانت الحكومة تتوقع من بي بي سي "دعاية هجومية"، منعها دستورها من توفيرها، والتي كانت في أي حال من الأحوال ستصبح غير فعالة مقابل المد الناصري" (2).
هنا كان تزاوج ما بين لائحتين لآيديولوجيتين مختلفتين تماما: القومية العربية التي كان لها صوتها في الإذاعة العربية "صوت العرب من القاهرة" والتي كانت تبث من القاهرة والصوت الأقدم للامبريالية المنحسرة ذات المرتبة الأوروبية التي فقدت الرغبة والوسائل لبسط دورها عالميا. نما منذ السبعينات تنافس جديد بين وسائل الاعلام الاخبارية العربية المتنوعة في محاولة لاستثمار التأثير النسبي لعرب الشتات في أوروبا. فمثلا كانت أول صحيفة عربية تأسست في بريطانيا هي "العرب" اليومية في العام 1975. وقد أسسها الصحفي الليبي المحنك، المغفور له رشاد الهوني، وكانت هذه أيضا أول صحيفة يومية عربية تطبع بالكامل وتوزع من عاصمة أوروبية – لندن. تبعت هذه التجربة الرائدة عدة صحف ومجلات أخرى، وتأسست قناة تليفزيونية عربية، وهي مركز تليفزيون الشرق الأوسط (ام بي سي)، في نهاية الثمانينات، تبث "ام بي سي" من لندن الى العالم العربي عبر القمر الصناعي "استرا" وهي ناجحة جدا في اتخاذ مركز لائق في هذه المرحلة الأخيرة من ثورة وسائل الاعلام. هناك الآن العديد من المحطات الأخرى المتنافسة حيث تصبح التقنية والوصول الى التقنية أرخص وأكثر سهولة ولكن كل هذه الامدادات الاعلامية هي محاولة للتأثير على رأي عرب الشتات وليس للآراء الخارجية كما يجب أن يكون.
هل توجد وسائل اعلام باللغة الانجليزية في العالم العربي (أو غيرها من الأماكن) الموجهة الى جمهور عالمي؟ هل انه لا يمكن استخدام اللغات الأوروبية (مثل الانجليزية والفرنسية والاسبانية) لتوجيه الخطابات الى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص الشرق الأوسط؟ وهل توجد مثل وسائل الاعلام هذه التي لديها معلومات حول الشرق الأوسط لم تهيمن عليها أوروبا أو الولايات المتحدة؟ يستشهد ناعوم تشرمسكي مثلا بوسائل الإعلام الاسترالية لكونها مصدرا مفيدا غير متحزب للمعلومات باللغة الانجليزية. ولكن يوجد القليل جدا مثلها في أماكن أخري. لو وجدت مثل هذه القنوات العالمية للمعلومات الموضوعية باللغة الانجليزية، فلربما كان يمكن تجنب أعوام من سوء الفهم الغربي (بما في ذلك الموقف المشؤوم تجده فلسطين، والمعلومات المعكوسة التي أتاحت الابقاء على الحصار المفروض على العراق منذ العام 1991 وحتى 2000. أو على الأقل تخفيفها – ربما كانت الأصوات البديلة ستسمع بشكل أكثر وضوحا، وأكثر تكرارا. لعله كان لفقدان وسائل فعالة بديلة مثل هذه التي توفر منظورا بديلا، دوره الهام في ضعف فهم الغرب للعوب. إذا ما كان جزء من الموارد الضخمة الموجودة في الشرق الأوسط قد وجه نحو تغيير مواقف الدول المتقدمة فلربما كان حصول تغييرات في مواقف الغرب ممكنا. لعل الرأي العام الغربي المتنور أكثر كان سيتشجع ليضغط على الحكومات لصالح فلسطين على سبيل المثال. لكن، ولأن معظم الخطابات التي تبث باللغة الانجليزية تبقى منتقدة بعمق للسياسات العربية وتفتقد الى أي منظور متعاطف مع العرب، فإن الفرصة أمام بناء رأس جسر ما بين تقاليد ثقافتين تضعف. يجب أيضا توجيه الانتقاد على نفس المستوى تجاه الحكومات العربية (وشركات وسائل الاعلام) التي لا تكترث بالتفكير بتوجيه المعلومات نحو الجماهير من الأوروبيين والأمريكيين. مهما تكن المعلومات التي تم جمعها حول مواضيع تنموية (القضاء على غابات أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال)، فإنها قد أنجزت من قبل وكالات الأخبار الغربية وحسب مفاهيم الفوب على الأكثر. توجد بالطبع طرق أخرى لايصال الخطاب. إن منظمة العفو الدولية، رغم حصولها على دعم قليل من الحكومات أو بدون دعم منها (مهما كانت القوة التي كونتها لنفسها عن طريق الناس المتعهدين العاديين)، قد أوجدت حضورا عالميا فعالا له وزنه. ان منظمة العفو الدولية تكيف استخدامها للغة اعتمادا على منطقة عملياتها.إنها تستخدم اللغة العربية في الشرق الأوسط. بالمقارنة، قبل فترة مرت أعطيت منشر را من قبل متظاهرين أتراك أمام السفارة البلجيكية في لندن. كتب هذا المنشور بلغة انجليزية ركيكة جدا، كانت اللغة المستخدمة دون المستوى لدرجة أنها لم تكن مفهومة لم يكن لأي ناطق بالانجليزية، ولا الأتراك الذين يعيشون في المملكة المتحدة، أو في الحقيقة حتى أي شخص ذي معرفة باللغة الانجليزية (ربما كاتبي المنشور فقط) أدنى فكرة عن هدفها. يركز هذا المسؤول على استخدام اللغة لتروج معلومات في مجتمع محدد ولأغراض معينة كيف يمكن لشكل ركيك من اللغة أن يقنع حتى المهتمين أو المتعاطفين من العارة دعك من جمهور أوسع في شعب يفخر بلغته؟
يشرح ادوارد سعيد مشكلة مشابهة تماما في مقابلة ذكرت في كتابه "السلم والساخطين عليه": غزة جرش، 1993- 1995 (شركة فنتج لندن).
لم يركز عرفات في الواقع أبدا على فهم الاسرائيليين – تفكيرهم السياسي وأهدافهم المحددة وطرق تفاوضهم. هذه هي وضعية التوقف "عن الفهم". ليست هذه مشكلة الكفاءة أو عدم الكفاءة فقط. هناك أبعاد أخرى وأخطر لهذه المسألة. أعني أعطيكم بعض الأمثلة: هل من المقبول صياغة اتفاقية مع اسرائيل والتوقيع عليها دون أخذ أي رأي خبير قانوني؟
ما الذي سيفسر مثل هذا السلوك عدا لامبالاته بمصير الشعب الفلسطيني الى حد الاشتراك في جريمة؟ دعوني أعطيكم مثالا آخر: إن عرفات ومساعديه الرئيسيين في اتفاقية أوسلو، أبو مازن (محمود عباس) وأبو علاء (أحمد قريع)، لا يتكلمان الانجليزية أو حقا لا يفهمانها، وهي اللغة التي كتبت بها وثائق أوسلو. ولا هم سعوا للحصول على مشورة تخص اللغة. إذا أردت أن توقع على اتفاقية مع اسرائيل، فإنه يتوجب عليك عندها أن تعرف بأن الطرف الآخر لهذه الاتفاقية سيأخذ توقيعك عليها بمأخذ الجد، وأنه لا يمكنك التراجع عنها الا لتقديم تنازلات أكثر. أنت تعلم والعالم كله يعلم بأن للفلسطينيين موارد بشرية موهوبة. ان عرفات ومساعديه لم يستخدموا أبدا هذه الموارد أثناء مفاوضات أوسلو. (ص 182)
إن الاستخدام الصحيح والمناسب للغة هو أمر حيوي، ليمي فقط في المفاوضات ولكن في كل جانب من جوانب ترويج القضايا الدولية. إن دول العالم الثالث، مع ذلك، قد فشلت غالبا في أخذ اللغة مأخذ الجد، حتى عندما تقدم مشاكلها الى الاهتمام الدولي. هذا هو السبب في كون العديد من القضايا الانسانية قد لاقت بحرا من اللامبالاة الغربية. ضمن الأمم المتحدة، تشكو دول العالم الثالث من المردود الضئيل الذي تحصل عليه مقابل منتجاتها الزراعية، موادها الأولية وبضائعها المصنعة التي تباع الي الغرب. وأسعار الكاكاو والقهوة والموز والجلود والمطاط تكاد بالكاد تساوي العمالة المنفقة على انتاجها. بالشكوى من خلال (منظمة العمالة التابعة للأمم المتحدة) أو (الاتفاقية العمومية حول التجارة) والرسوم لم منظمة التجارة العالمية) تقع شكاوي حكومات العالم الثالث على آذان صماء. مثلا، أعرف شخصيا مسألة معينة لاحظها مندوب أوروبي كان ضمن هيئة تعالج عدم التوازن التجاري والاقتصادي بين نصفي الكرة. برأيه أنه مهما كانت النقطة التفاوضية التي تطرحها دول العالم الثالث فإن امكانياتهم في الحصول على فرصة الاستماع اليهم كانت تتلاشى تقريبا قبل أن يبدأوا. يعود هذا الى امكانية الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية واليابان لم مجموعة السبعة الكبار) في الدفاع عن مواقفهم وذلك بحضورهم الى مثل هذه الاجتماعات وهم مسلحون بآخر الاحصائيات، والنشرات الاقتصادية وتحليلات توقعات المناخ ودراسات احتمالات سوق المال المخططة لسنين قادمة. أما مندوبو دول العالم الثالث، في الجانب الآخر، فهم غير قادرين عموما على الرد بنفس المستوى. انهم لا يفتقدون الى مثل هذه الاحصائيات فقط، بل إن قدرتهم على تقديم قضية متماسكة باللغة الانجليزية هي محدودة بشكل خطير. لهذا تتم تسوية قضيتهم على نحو متكرر منذ البداية.
ان عدم التوازن هذا في وسائل الاتصال هو قمة جبل جليدي يجب عليها أن تؤخذ في الحسبان رغبة حكومات العالم الثالث في تصحيح هذه المشاكل. في الواقع انها تحتاج الى جهود صحفي أو كاتب أو ربما حتى موسيقي أو شاعر أو ممثل، للاتيان بنوع ما من وسيلة مبتكرة لعبور الهوة. ولكن مثل هذه الجهود ستخاطر بالكثير، وتحتاج الى تعهد متكافيء مع قضية. مهما كانت الجهود المبذولة، فإن فرص نجاحها محدودة اذا لم تكن مستندة على مباديء مدروسة بعناية، وتم تركيبها من قبل اختصاصيين لفريا ومرئيا. يجب على تقنيات الدعاية أن تكون محترفة، وليست عشوائية، خصوصا وأن أغلب المنظمات المهتمة بتروج العدالة دوليا تتمركز في الغرب. إن التدريب والموارد المطلوبة ليممت بأي شكل من الأشكال ضئيلة وقد تتجاوز امكانيات بعض حكومات العالم الثالث ناهيك عن منظمات العالم الثالث على انفراد.
إن لغات النفوذ تولد أنواعا مختلفة من الخطاب (ربما ليست تلك المفضلة من قبل، أو المفيدة أكثر لشعوب العالم الثالث) وتخاطب المستمع بطرق تستثني تلك المجموعات التي قد لا تكون "مفضلة لغويا". ربما لا يكون هذا الاستثناء مقصودا، ولكن تأثيره يكون كبيرا ومدمرا. بالطبع هناك دوما صراع للتفوق في أي اجماع للرأي، هنا، مع ذلك، حاولت أن أصف صراعا ليسمع ليس الا. إن القدرة على الاتصال وفهم وسيلة الاتصال هي أداة سياسية حيوية. بدونها، قد تصبح مجموعة أو مجتمع أو دولة حتى دول ما محرومة من حق شرعي. بالمقابل يزعزع هذا من استقرار مناطق بأكملها، ويضيق ويعمق لولب سلب القوة. فقط لكون اللغة الانجليزية اللغة الأولى في عملية العولسة لا يمكنه لوحده ضمان عدالة الاتصال عالميا. ربما، كما كان الحال ضمن العالم الناطق بالانجليزية، يمكن للغة أن تنمو كي تفرق بنفس القدرة الذي به توحد.
ــــــــــ
1- بيتر بارتنر، أصوات العرب: القسم العربي لهيئة الاذاعة البريطانية 1938- 1988، (منشورات بي بي سي، 1988)، ص 93.
2- بارتنر، نفس المصدر، ص 166
غالية آل سعيد (كاتبة من سلطنة عمان)