المقاربة التي نطمح الى انجازها حول ديوان "حياة صغيرة "(1) للشاعر المغربي حسن نجمي، مقاربة تعلن منذ البدء، بتواضع ماكر، اختلافها عن المقاربات التحليلية التي عرفها هذا العمل الشعري الهام، وهو اختلاف ناتج من ناحية عن انصات متأن لنصوص الديوان، وناتج من ناحية أخرى عن فرضيات الانطلاق ومنهج المقاربة. فنحن سننطلق في قراءتنا للديوان من اعتباره كلية شاملة تؤسسها عناصر متواشجة مع ناظم جوهري ومتجاوبة معه. فبرغم تقسيم الشاعر لديوانه الى ستة أبواب ( صور شخصية، أصدقاء، مثنويات، في صداقة ن.أ، متاهات، الضاحك) فاننا نفترض أن هناك وشائج رفيعة تصل فيما بينها، وبالتالى تنهض كمبرر واع او غير واع لاصدارها مجموعة في كتاب شعري واحد.
وحتى يتيسر لنا كشف تلك الوشائج، نرى ضرورة: الكشف عن التيمات الشعرية الكبرى المؤسسة للمتخيل الشعري في المجموعة. وقد قادتنا قراءتنا لحياة صغيرة الى استخلاص أربع تيمات أساسية وهي: الموت، الشبقية، الصداقة، السخرية.فما هي اذن صيغ حضورها في الديوان، وما هي طبيعة العلائق التي تربطها بموضوعة الشبقية والسخرية: هذه اسئلة سنرجىء تلمس جواب عنها الى حين مساءلة الوضع الاعتباري لتيمة الموت في الخطاب الميتا- شعري العربي المعاصر. المشرقي منه والمغربي.
1 – تيمة الموت في الخطاب الميتا- شعري العربي المعاصر.
1-1: مقاربة نازك الملائكة
في الباب الثاني من القسم الثاني من كتابها "قضايا الشعر المعاصر» عالجت نازك الملائكة تحت عنوان "في الصلة بين الشعر والحياة » موضوعين مستقلين: "الشعر والمجتمع » ثم "الشعر والموت ». واذا كانت نازك الملائكة قد انتقدت في الموضوع الاول، الدعوة الاجتماعوية الضيقة التي واكبت ظهور حركة الشعر، كاشفة من تناقضاتها، مدافعة في المقابل عن الذاتية الاجتماعية للمبدع، تلك الذاتية التي تصون انسانيته وتمنحها جذرا أجتماعيا حتى في انفعالها بالاشياء الصغيرة الرمزية (وردة – طائر- غيمة…) فانها- أي نازك الملائكة – ترسيخا لهذه الذاتية، قامت في الموضوع الثاني، بمعالجة تيمة الموت. عند حركة أدبية رفعت الذات الفردية الى مستوى العصب الذي تتمحور حوله التجربة الشعرية، نعني بذلك الحركة الرومانسية.
لم تسم نازك الملائكة هذه الحركة الادبية باسمها، غير أن النماذج الشعرية المحللة تقدم لنا مفتاح ذلك، فهي لشعراء يموضعهم تاريخ الادب داخل الحركة الرومانسية، ونقصد بهم الشاعرين الانجليزيين: جون كيتس وروبيرت بروك، والشاعرين العربيين: أبو القاسم الشابي، ومحد الهمشري. وتصدر نازك الملائكة في مقاربتها لتيمة الموت عند هؤلاء الشعراء، عن نظرة مقارنة، غير أنها مخترقة بخلفية غربية مركزية، بحيث تجعل من كيتس المركز الذي تدور في فلكا الرومانسية العربية مشخصة في الشابي والهمشري. وهو ما يمكن تلمسه في هذه النماذج من أقوالها: (2)´
– «هذا الموقف الذي يقفه شاعرنا (الشابي) من الموت الذي يعيد الى الذاكرة موقف الشاعر الانجليزي جون كيتس الذي يمكن أن نسميه شاعر الموت المفتون الأكبر».
– "ان احساس هذا الشاعر (محمد الهمشري) بالموت أكثر تميزا منه عند الشابي مثلا، حتى يكاد يقترب من كيتس".
وتذهب نازك الملائكة، في اتجاه رصد الخصائص المميزة للحركة الرومانسية في موقفها من تجربة الموت. وفي هذا الاطار تميز بين موقفين أصيلين:
أ- موقف يختر الموت تجربة مبهمة وغامضة عامرة بالسحر والجمال. ويصدر عن هذه الرؤية كل من كيتس والشابي والهمشري وكل هؤلاء الشعراء يؤمنون بأن "الحياة الكاملة لا يبلغ قمتها من الادراك والوعي حتى تناغم بالموت وتفهمه فهما جماليا خالصا (الملائكة.ص: 305).
ب – موقف يعتبر الموت حدثا اعتياديا له "ما للحياة من جمال وفيه ما فيها من ازعاج لا أكثر "(الملائكة:ص:309) وينفرد الشاعر روبيرت بروك بالصدور عن هذه الرؤية، دون الشعراء الآخرين.
غير أن هؤلاء الشعراء جميعا يتوحدون في "حدة الاحساس او القدرة على الانفعال العنيف » (الملائكة.ص: 11 3) وهي الخاصية التي ستفسر نازك الملائكة في ضوئها، الموت المبكر لهؤلاء الشعراء (قبل ثلاثين سنة) منتقلة بذلك، دونما مبرر من دراسة لتيمة الموت في الشعر الرومانسي. الى طبيبة شرعية مشخصة لاسباب الموت الحقيقي عند الشعراء، خارجة بذلك عن مملكة النقد الأدبي. وتختم مقالتها بالاعتراف بأن ما قامت به ليس الاجولة في موضوع ومشي. لا يزال يقطب المقاربة.
1 -2. مقاربة محمد بنيس
في الفصل الخامس من القسم الثالث من أطروحته، عالج محمد بنيس "فضاء الموت » في "الشعر المعاصر" معالجة لها عمقها وجدتها، التي تذهب في اتجاه كشف الحجاب ومساءلة اللامفكر فيه، ليس في مقالة نازك السالفة الذكر، بل في عموم الخطاب الميتا- شعري العربي المعاصر في مقاربته لتيمة الموت. ولالتقاط الخصائص المميزة في رؤية "الشعر العربي الحديث » للموت، انتهج محمد بنيس مقاربة مقارنة، تقابل بين رؤية كل من "الشعر المعاصر" للموضوع، وبين رؤية الشعر الرومانسي والتقليدي. وفي هذا السياق، سيرصد محمد بنيس ابدالات الشعر العربي الحديث. في انتاج دلآلية الموت، معتبرا أن "بعث الشاعر العربي المعاصر، عن مسكن شعري حر، سعي نحو اختيار كتابة مغايرة لفضاء الموت، ولذلك فان الشعر المعاصر مباين كل من التقليدية والشعر الرومانسي العربي، ما دامت الانساق الشعرية متغايرة في بنيتها للفضاء النصي »(3). وسيجعل محمد بنيس، بشكل ضمني من درجة التراجيدية معيارا للقيمة، وأساسا للابدال الشعري في رؤية الشعر الحديث للموت. فاذا كان الموت سواء الشخصي منه او الحضاري، عند التقليدية، قد ظل «دون حالة تراجيدية " محمد بنيس. الشعرالمعاصر.ص:212) نظرا لاحساس الشاعر بالعناية الالهية، فانه مع الرومانسية سيخطو أولى خطواته في اتجاه التراجيدية، نظرا لاحساس الشاعر بالتجلي الالهي وبالوحدة أمام الموت. وهذا ما سيدفع الشاعر الرومانسي للارتباط الارادي والحالم بمصيره (الموت)، وهو ما سيخفف – في نظري- من حدة تلك التراجيدية. على، أن هذه الحدة ستتعمق أكثر مع الشعر المعاصر، بحيث لم يصبح الموت معه ملازما للانفعال والتأمل فقط، بل سيندغم مع «الاحساس بالزمن فرديا وحضاريا» وبالتالي سيصبح الموت فيه "ملتقى الرغبات وتعارض الاختيارات » (بنيس. المرجع نفسه.ص:12 2).
وانسجاما مع "مسار الشعر في البحث عن الذات » سيخطو محمد بنيس خطوة أخرى في استنطاق اللامفكر فيه في الخطاب الميتا- شعري العربي المعاصر، وذلك عبر تحويل مسار البحث، من قراءة فضاء الموت من خلال الاسطورة الى اختبار فضائه من موقع عناصر الطبيعة وفي هذا السياق سيلتقط محمد بنيس ثلاثة عناصر طبيعية يعتبرها "مهيمنة في بناء النسيج النصي، وهو يسعى لانتاج دلآلية الموت في الشعر المعاصر» (بنيس. المرجع نفسه.ص:18 2). وهذه العناصر هي: الماء مع بدر شاكر السياب، والنار مع ادونيس، والتراب مع محمود درويش، ومحمد الخمار الكنوني، وجميع هؤلاء الشعراء اختاروا استراتيجية تسمية الموت ومواجهته من خلال الاحتماء بعناصر الطبيعة المذكورة، وبذلك حققوا خاطرتهم القصوى، التي بها استحقوا مكانتهم المتميزة بين الشعراء المعاصرين.
وقبل رصد ملامح تسمية الموت ونسيانه في مجموعة «حياة صغيرة » نرى من الضرورة ملامسة محرق التركيز في شعرية العمل. ومكانته داخل الشعر المغربي المعاصر.
2- "حياة صغيرة " وشعرية العين.
يندرج ديوان "حياة صغيرة » في سياق التحول الثالث الذي بدأ يعرفه التحديث الشعري العربي بالمغرب في التسعينات، التحول الذي يتناغم مع هاجس الخروج على شعرية الانشاء وما تقتضيه من شفوية وغنائية باذخة، في اتجاه تأسيس شعرية العين وما تقتضيه من كتابية بصرية ملحمية حينا، ومتفككة، ومتشظية، ومتقشفة حينا أخر، خاصة في مرحلتها الواهنة، وهذا التحول يوازيه تحول آخر مرتبط بمخاطب القصيدة، فهذه الاخيرة لم تعد تخاطب متلقيا يبحث عن التطريب والانفعالات العقائدية (المضمون الايديولوجي). بل تخاطب قارئا منعزلا في زاوية بيت او مقهي.. فلا تتوانى عن تعنيفه، وتكسير أفق انتطاره، بل والسخرية منه أيضا.. وهو أمر يفسر في بعض وجوهه عزلة الشاعر الجديد وعزلة قصيدته، وانصراف القراء عنه الى أجناس أدبية اخري، أقل "اسرافا» في العدوانية والتهكمية.
لقد جاء في الديوان، في قصيدة "طبيعة ميتة » اشارة صريحة للعين، هذه البؤرة الجديدة التي يفيض عنها العمل الجديد انها "عين تخلط الصمت بالكلمات » (الديوان:18) فيما هي تسعي جادة الى رصد الاشياء وتحويلها الى كلمات منظورة. ويبدو لنا أن العين موظفة في الديوان، عبر مستويين:
أ- مستوى العين المؤسسة للفضاء الشعري (التفضية) عبر تركيب السواد والبياض أو جدل (الصمت والكلمات). وهي عين حرة مزاجية. متحررة من كل الارغامات الجمالية القبلية، ولا يقودها في ليل النص الا ضوء الداخل.
ب – مستوى العين الملتقطة للمادة الشعرية، في حيادية عالية، والراصفة لها في تجاور شعري ماكر وملغز. وهي العين التي تجعل من ديوان «حياة صغيرة » تجربة مشهدية تعتمد على "الجمل القصيرة.. التي تقول كل شيء». هذه الجمل ذات البعد الشذري، تذكرنا بالشعر الفلسفي الحكمي الذي في لمسات سريعة يجرح الاشياء، فيما هو يحاول القبض عن لحظة الارتجاج والائتلاف داخلها.
وتسمح لنا مشهدية الديوان بالحديث عن اسلوب اللقطة الشعرية الذي يتخذ في "حياة صغيرة » مظرين، نمثل لهما معا بمقاطع من قصيدة "رجل بلا صفات ».
1- أسلوب اللقطة الشعرية التي ترصدها العين الشعرية، في تأمل دينامي متناغم
– (2- مشهد)
– تبكي العين
ويتبلل خد الطين
ولا ترتجف الشفاه
ب – اسلوب اللقطة المفككة التي ترصد العين الشعرية في تأمل تراكمي منفصم، يقوم على تقنية الكولاج.
– (3- جنوح)
– ليلك بلاصفات
ولديك روح "جانحة »
كيف ستشفى من تعب الوضوح: (الديوان. ص:19)
عبر اسلوب اللقطة الشعرية اذن، سيسعى حسن نجمي في "حياة صغيرة » الى مواجهة الموت (مواجهة شخصية) عبر تسميته واستنفار أفعال نسيانه، وهذا ما سنعالجه في العناصر التالية:
3- تيمة الموت في "حياة صغيرة ".
تتجسد تيمة الموت في "حياة صغيرة » من خلال حركتين جوهريتين: حركة هاجس الموت وتسميته، وحركة نسيانه، وينتج عن التفاعل الجدلي بين هذين
الحركتين، ما يمكن تسميته بالرؤية الشعرية للديوان، وهي رؤية مفترقة بالتراجيدي المتناغم مع السفري والشبقي (والامومي). وبهذه الرؤية المتعددة اختار الشاعر توقيع اسمه الشخصي. في خريطة الشعر المغربي الجديد. لنحاول الآن الكشف عن العناصر المكونة لكل من الحركتين.
3-1- عناصر حركة هاجس الموت
يكبر هاجس الموت في ديوان.حياة صغيرة " ويجد في رسم جغرافيته الداخلية، وذلك عبر مجموعة من نصوص الديوان والعتبات المؤطرة لها، وهي عتبات تفصح حينا عن تورط مباشر في فضاء الموت ويتضح هذا من خلال عناوين مثل (حروف ميتة. طبيعة ميتة، موت حفلة) فيما تكتفي أحيانا أخرى بافصاح غير مباشر، وذلك عبر عناوين مثل (خراب الزمن، الطين، الحرب…) اضافة الى تجسداته في العتبات النصية، يفاجئنا الموت بحضور0القاتم في كثير من خواتم القصائد.. وكأنه الموازي الشعري للموت الذي يحدق بنا عند نهاية العمر. ويتشخص هذا الامر في قصائد مثل (شمسى باردة، تصويبات، الطين…) هذا فضلا عن وجود نصوص يخترقها وسواس الموت من بدايتها الى نهايتها، وتبدو لنا قصيدة "الطين " نموذجا صالحا للتمثيل لهذا الامر.
لالتقاط صيغ حضور "هاجس الموت " في المجموعة بشكل دينامي (تصاعدي) نقترح تحليل العناصر التالية: الانفصال.، الخراب، الموت الشخصي، الموت الفني.
3-1-1: الانفصال
يساهم عنصر الانفصال في انتاج دلالية هاجس الموت في تجاوب نصي مع أفعال أخرى، تتفاعل في الخفاء لتنسج خلفية شفافة حينا، وقاتمة احيانا أخرى لموت يهجس بمغامرة الذات واستحقاقها لمجد التسمية. والافعال المقصودة هنا، هي الانفصال ذاته، والغروب، ثم الغياب، وقيما يلي اضاءة موجزة لكل منها.
أ- الانفصال: ويتشخص في الديوان من خلال قصيدتي: الخان والفصول الاربعة. في القصيدة الأول (الخان) يطالعنا وسواس انفصال الشاعر عن ظله الذي يمكن أن يؤول الى انفصاله عن ذاته، انفصال يشي بشرخ جوهري، لا يمكن للذات المتلفظة رتقه وعبوره الا عن طريق الغرائبي. يقول النص: – – في الخان المجاور –
رأيت ظلي يشرب كأس نبيذ
……………..
وآنا هنا
يداهمني السكر
تترنح كلماتي. (الديوان.ص:12)
أما القصيدة الثانية «الفصول الأربعة» فتهجس بفعل الانفصال عن طريق فضح اللاتواصل الجوهري الذي يسم علاقة الشاعر بذاته، وعلاقة الأشياء به، ثم علاقة الاشياء فيما بينها. تقول القصيدة:
– ورود في جوار
ولا تتخاطب
وهذه الفصول تتناوب على جسدي
لا تكلم بعضها ولا تكلمني
وأنا هنا بلا صوت
أكلم الاشياء كلها
ولا أكلم نفسي. (الديوان.ص: 13)
ب – الغروب. ينهض فعل "الغروب » بانتاج دلالية الانفصال، وبالتالي بمجد تسمية مداورة للموت، من خلال قصيدتي "شمس باردة » و" نور الدين العايل ». وبقليل من التأمل تبدو لنا، الشمس الباردة، شمسا مودعة، أيلة للغروب، والغروب موظف هنا بالمعنى الفلسفي، الذي يعني الزوال والموت، وهو ما يمكن أن نلمسه في المقطع الأخير من قصيدة «نوم الدين العايل »:
– رجل مرآة
يشرق هناك حيث يقيم المغيب (الديوان.ص: 24)
قصيدة «شمس باردة » تنتهي هي الاخري بمقطع مماثل:
– ظلمة أخرى
رجل يطفئه الليل
هنا يمكنه أن يموت بحرية. (الديوان.ص:14)
فهذا الرجل الذي أظفأه الليل، هو رجل مهزوم وبلا فعالية. والقصيدة هنا تخلت عن دورها التعريفي والتبشيري السابق. القصيدة لم تعد مجال فعل وتحفيز. بل تكتفي برصد الاشياء في حيادية بيضاء والهاش الوحيد (الجديد أيضا) الذي تغط فيه، هو هامش تسمية الموت، والتحضير له (هنا يمكنا أن يموت بحرية).
ج – الغياب. لفعل الغياب كذلك تجاوباته النصية مع الافعال الاخري في نسج دلالية الموت، ويتشخص هذا الفعل بشكل بيد في نص "حروف الموت » الذي يقول:
– لم يمر الماء تحت الجسر
والرؤوس استوت على اكتافها
المقهى مغلق هذا الصباح على غير عادته والمخبزة فارغة
نادل البار وحده يشرب. (الديوان. ص:17)
فهذا النص لا يكشف فقط، عن غياب الذات الفاعلة في القصيدة، بل يذهب بعيدا في رصد تحولها الى آلة باردة للسرد الحيادي لوجوه الموت التي مست عالم الشاعر بأشيائه وأناسه.
3-1-2 الخرب:
ينهض عنصر الغراب في المجموعة باعتباره احد العناصر الاساسية التي تشكل تيمة الموت، وهو في ذلك يتبادل الاضاءة مع عناصر أخرى، غير أن ما يخصصه اكثر، هو احتفاظا بتداخله النصي مع نصوص أخرى من الشعر العالمي، ويبدو لنا أن نص "خراب الزمن » على قصره، يمثل نموذجا جيدا لاضاءة الجغرافية السرية لهذا العنصر. يقول النص:
– فجأة غمرني خراب الزمن
ولأنه لا أمكنة في هذا اليباب
بقيت وحدي
فجأة صرت بلا شمس
بلا مساء. (الديوان. ص: 10)
إن هذا النص، يشي بإحساس فظيع بالزمن، وهو على مستوى التلفظ، يتوسل ضمير المتكلم في التقاطه لذلك الاحساس، وفي ذلك تعرية للذات،. وجعلها وحيدة أمام مصيرها (بقيت وحدي). غير ان فرادة النص، تتمثل في تحويله لطرفي الاستعارة المرتبطة بالزمن، فاذا كان هذا الاخير يقترن في المتخيل الشعري العالمي بعنصر الماء الذي يضفي على الزمن صفة الانسياب والانفلات والفجاءة (فجأة غمرني…) فانه في هذا النص يقترن بدال الخراب، ليحيل على عنصر التراب، وبالتالي على دال أكبر وهو الارض. ويستمر النص في حفره العمودي، في المتخيل الشعري العالمي، لينتقل من صيغة ت.س.اليوت: (الارض الخراب) الى صيغة جديدة (الزمن الخراب). أي من خراب الأرض الى: «خراب الزمن » وفي هذه الصيغة معانقة للهاجس الاليوتي، وتنويع عليه.
3-1-3 الموت الشخصي:
الموت الشخصي في ديوان "حياة صغيرة » هاجس واختيار، هاجس يخيم على الذات فيما هي تحوله الى فعل اختيار، أي الى فعل ارادي به تسمي الموت وتحاوره. وتنهض قصيدة "الطين » بهذه التسمية خير نهوض، وذلك عبر اصرار الذات الشاعرة على الذهاب للموت وتجريبه. يقول الشاعر:
– تركت دفق الغاز يلتهم هواء الغرفة. استلقيت لأنام كما يليق بموت آسر… (الديوان.ص: 20)
ان فعل "تركت » يشف عن اصرار وعزم كبيرين، الشيء الذي يضيء فعل الاختيار الحر لتجربة الموت، طبعا، بعد افراغها، ليس فقط من الدلالات
الرومانسية الحالمة التي ارتبطت بها مع شاعر كأبي القاسم الشابي(4) بل أيضا من أبعادها الانبعاثية (اسطورة تموز..) التي ارتبطت بها مع الشعر المعاصر في مراحله الاولى. وهذا ما يجعل من تجربة الموت الشخصي، عند حسن نجمي، تجربة موسومة بخصوصية الذات المتلفظة التي تذهب في اتجاه تجريد الموت من فظاعته الدرامية، عبر تلوينه باستيهامات ساخرة:
– أضحك إذ أتذكر كيف سيتغذى دود العتمة بآخر أوهام نفخت جسدي. (الديوان.ص: 20)
3- 1 -4. الموت الفني.
تستمر قصيدة حسن نجمي في تسمية الموت، وتستمر أسماؤه في التناسل، بحيث كلما انتقلنا من اسم لآخر تظر التجاوبات القائمة فيما بينها ترن بعيدا في أغرار الذات المتلقية، وهذا ما يجعل من تجربة "حياة صغيرة » نشيدا اوركستراليا للموت.
وآخر موت في هذا النشيد، هو ما سميناه بـ"الموت الفني» الذي يجد في قصيدة "تصويبات » أحد أجمل تجسداته.
تسمي قصيدة "تصويبات » الموت بطريقة مغايرة، لها التأمل أساسا، وهو تأمل اذ ينصب على العمل الفني، فانه يجعلنا ننتقل من صيغة "فن الموت » التي تنسحب على العناصر- الاصوات السابقة، الى صيغتها المعكوسة، ونعني بها "موت الفن » لقد أصبحت القصيدة تتأمل موتها الخاص، من مرقع أصبح مألوفا في "حياة صغيرة " نقصد موقع السخرية.
تقول القصيدة:
– الليلة، أكمل سورته
الأفضل أن يكون لا شعر رطب وأنف مجروح
هذا الفم يليق به دونما لسان. ويمكن لهذا
الأحمر أن يحرك دمه. الليلة –
داعبته قليلا فاضحكتني أطرافه. كانت في حاجة
الى بقايا. انتبهت لوجهه – كانت تنقصه شذرات
قلت الليلة اكتبه –
وبعد قليل سينهض طينه تحت شمس هذه القصيدة
وهو الآن رميم
مات حتى قبل أن تجف الكلمات (الديوان.ص:16)
تحكي لنا هذه القصيدة. بطريقة مبتكرة، عن سخرية الفنان من عمله، ومن ابداع يده، سخريته من انجاز فني (لوحة تشكيلية.. بورتريه.. تمثال.. قصيدة..) يظل معترفا بنقص جوهري، وتشوه مقصود (هذا الفم يليق به دومنا لسان). وربما ليس هذا التشوه، الا دلالة على بذرة الموت التي نحملها بداخلنا.. وما دام الموت يقع لنا في زاوية معينة، فالامر كله مفتوح على أفعال السخرية
– اللعب الساخر: الليلة
، داعبته فاضحكتني أطرافا
– الاستشراف الساخر:
: قلت الليلة اكتبه
وبعد قليل سينهض طينه تحت شمس هذه القصيدة.
– المصير السافر:
. هو الآن رميم
مات حتى قبل أن تجف الكلمات.(الديوان.ص 16)
إن تأمل القصيدة لموت الفن، يوقظ في دواخلنا اصداء سلالة شعرية. اسطورة بعيدة. نقصد اصداء بجماليون المثال(5) التي تحتفظ قصيدة «تصويبات " بحرية التفاعل الحر معها، عبر قانون الحوار. فاذا كان بجماليون قد عشق تمثال الانثى التي أبدعتها يداه، وتضرع لربة الجمال «فينوس " كي تمنحها الحياة. فان الذات المتلفظة في نص حسن نجمي، على عكس ذلك. لا ترتبط بأي نوع من التعاطف مع مخلوقها الفني، بل هي تسخر منه، متعمدة طبعه بنقص جوهري، سادة بذلك، في وجهه جميع فرص الحياة، معلنة ببرودة في النهاية خبر وفاته (قبل جفاف الكلمات) يبدو جليا، اذن أن قصيدة "تصويبات " مارست وظيفة القلب على النص الاصلي لاسطورة بجماليون المثال.
3-2 عناصر حركة نسيان الموت
تتبادل حركة «هاجس الموت " التفاعل الجدلي مع حركة «نسيان الموت " لتسوغ معها في النهاية، الرؤية الشعرية الخاصة بالديوان، وحركة نسيان الموت بدورها حركة متعددة، بحيث تتضافر أصوات كثيرة في اضاءة طبيعتها الدفاعية، باعتبارها رد فعل نفسيا وشعريا، يتوجه نحو امتصاص «هاجس الموت " وافراغه من جديته وايحاءاته التراجيدية. فتسمية الموت، او مواجهته في الديوان، لانتم عبر الاحتماء بعناصر الطبيعة (الماء، التراب، النار…)، كما رصد ذلك الاستاذ محمد بنيس بحذق نقدي في كتابه «الشعر المعاصر". بل من خلال الاحتماء بالسخري والشبقي، والصداقي (الصداقة). وهذا ما يمنح أبواب الديوان.( على اختلافها الظاهري) تجاوبات دلالية، تجعل منها تجربة موحدة الرؤية الشعرية.
3-2- 1- الصوت السخري
يبدو جليا اذن، اننا نؤول حضور الصوت السخري في «حياة صغيرة" باعتباره رد فعل نفسيا على سطوة «هاجس الموت " وبالتالي أداة قوية لنسيانه. ويحضر هذا الصوت في الديوان، من خلال صيغتين:
أ- المدح الخارجي للسخرية: يتحقق هذا البعد نصيا، في قصيدة «الضاحك" التي تتخذ من عمل الفنان السافر أحمد السنوسي (بزيز) حافزا لمدح الضحك، وتعميده بكل معاني الحياة. نمثل لهذه الصيغة، بهذه النماذج المأخوذة من القصيدة:
– حافرا يرتجل دفئا للحياة.
– ضحك يد تنضج القمح.
– يضحك السماء كأنما لا حاجة للزرقة.
– ضحك يعيد الوجه لطفولته.
– ضحك ماء. (الديوان.ص.83- 98)
ب – التوظيف الداخلي للسخرية: ويتحقق هذا البعد داخل النصوص ذاتها، خاصة تلك التي تبدو منشغلة صراحة بهاجس الموت، اذ في عمق انشغالها بذلك، يرتفع صوت السخرية لافراغ الموت من كل جديته، وبالتالي لتعميد الذات الشاعرة بكل أسباب المقاومة التي تجعل تسميتها للموت ممكنة، وعبورها للخطر متيسرا. ويبدو هذا التوظيف جليا في قصيدة «الطين ». التي سبق الاستشهاد بها في غير هذا الموقع، والتي تقول في جزء من مقطعها الاول:
– تركت دفق الغاز يلتهم هواء الغرفة. استلقيت لانام كما يليق بموت آسر. أضحك اذ اتذكر كيف سيتغذى دود العتمة بآخر أوهام نفخت جسدي. (الديوان.ص: 20)
إن هذا الانتقال الفجائي من تسمية تجربة الموت الى استيهامات الضحك يجسد الانتقال من الجدي الى السخري، وهو الانتقال ذاته، الذي جعل فعل التسمية ممكنا.
3-2-2الصوت الشبقي.
يتجاوب الصوت الشبقي مع الصوت السخري، في تشكيل حركة «نسيان الموت " ويتشخص هذا الصوت بشكل خاص في باب «مثنويات " وهو الباب الذي يمظهر احتفاء الذات الشاعرة بالمرأة باعتبارها المخلص من وطأة الموت. والمساعد على نسيانه. ويتخذ حضور المرأة في الديوان صيغتين: فهي تارة جسد وتارة طيف، وانتقال الذات الشاعرة عبر هذين الصيغتين يتم عبر أشكال من التواطؤ الذي تتحفز معه اشياء المكان فتخرج من ليلها النثري، وتحتفي بزمن الشاعر، وتضفي على علاقته بمعشوقته بعدا حلميا وحنينيا.
أ- البعد الحلمي: وله صفة التنامي والاسترسال، ونمثل له بهذا الجزء من المقطع الثاني من قصيدة «شبق ".
– انظري لملامح حنيني. ستصعد اليك كل أصوات النواعير من صمتي. انظري لألواني لماعة مثل براق من نوم ومن سماء. (الديوان.ص: 1 4)
ب- البعد الحنيني: وله سمة الفجاءة والانفلات، اذ في عمق احتضان الذات الشاعرة للمرأة الجسد والطيف، يومض صوت الأمومة، آتيا من أغوار بعيدة في اللاوعي، راسما بذلك حنين الشاعر، ورغبتا العميقة، في العودة الى رحم الام بكل ما يرمز اليه من توحد ودفء وأمان. ونمثل لهذا البعد، بجزء ثان، من المقطع الثاني من القصيدة ذاتها «شبق ":
– من أين لك بهذا العطر؟ أشمك وتعود أحزان أمي. كم علي.. لانسي.
– سأمر بكم ذبول ليتقد في وجهي وجه أمي. من أين لك بهذا الطست لأولد ثانية على كفيك:!
هذه الرغبة في الولادة الثانية، على يد المعشوقة، تستبطن نزوعا لا واعيا الى تكرار تجربة الرحم الامومي، لما توفره للذات الشاعرة من فرصة تنفس دماء الامومة، دماء الحياة.
ان تضافر هذين البعدين، هو ما ينسج في النهاية، الصوت الشبقي في المجموعة، هو الصوت الذي نؤول حضوره في الديوان، باعتباره أيضا رد فعل نفسيا قادرا على تعميد الذات الشاعرة، بأسباب "نسيان الموت " وبالتالي مواجهته عبر التسمية. وفعل الكتابة الشعرية التي تتخلق عبرها كل الاصوات الشعرية السابقة، وتتفاعل لتمنح الديوان، في آخر المطاف، رؤيته المميزة للموت القائمة على التراجيدي المتواشج مع السخري، والشبقي المتناغم مع الامومي.
مراجع وهوامش
(1) حسن نجمي حياة صغيرة (شعر). دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى1995.
(2) نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر. دار العلم للملايين / بيروت. الطبعة السادسة 1981.ص307.
(3) محمد بنيس. الشعر العربي الحديث. 3. الشعر المعاصر. دار توبقال للنشر. الطبعة 1990 ص 212.
(4) قال أبوا لقاسم الشابي.
جف سحر الحياة يا قلبي الباكي فهيا نجرب الموت هيا
(5) دريني خشبة: أساطير الحب والجمال عند اليونان – الجزء الأول – دار التنوير للطباعة والنشر. الطبعة الأولى 1983.ص249/255.
نبيل منصر(شاعر وناقد من المغرب)