آدم جايزر- باحث أمريكي
ترجمة: سعيد الطارشي – باحث ومترجم عماني
عمِل تأريخ الفرق (Heresiography) كأسلوب تأليف -ومنذ زمن طويل- على ترسيخ الهويات الدينية على الرغم من تباين باطل المعتقدات والشعائر عن صحيحها. ستركز هذه الورقة على الباب الخمسين وهو الأخير من كتاب أبي عبدالله محمد بن سعيد القلهاتي الكشف والبيان في شرح افتراق الفرق والأديان حيث يبين القلهاتي في كتابه هذا أن الإباضية هي الفرقة المحقة(1). وستلفت الانتباه إلى الطريقة التي سطّر بها القلهاتي ترسيمته لعقائد وشعائر وعبادات الإباضية في/ وبين سلسلتين من الشخصيات الإباضية البارزة الذين رفعوا المذهب الإباضي. وتناقش ما يسميه ولكنسون حملة العلم (teacher lines) التي بقيت مهمة للقلهاتي كما توصيفه للمعتقدات والعبادات الإباضية للدفاع عن الهوية الإباضية القروسطية(2) . بكلمات أخرى لم يكن ببساطة مجرد عقيدة وعبادات الإباضية لكن أيضًا سلسلة نقل متصلة لتلك العقائد والعبادات تتكون من علماء ثقة (لا يتطرق الشك إليهم)؟ جعلوا المذهب الإباضي في مرتبة فوق الفرق الثنتين والسبعين المبتدعة والضالة كفرقة ناجية وقدوة لغيرها. إنّ القلهاتي -قطعًا- العالِم الإباضي الوحيد الذي وظّف سلسلة رفع المذهب في نصه؛ لكن عمله يعكس شيئًا من ذروة/أوج الجهود الإباضية الأبكر.
لقد عاش القلهاتي في عُمان في الفترة المتأخرة من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي إلى بداية القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. يقع كتابه الكشف والبيان في جزئين: يعرض الأول منهما التاريخ الإسلامي المبكر، خاصة نشأة الإباضية من الخوارج، والثاني يوظف صيغة كتب الفرق المبتدعة ليجعل الفرقة الإباضية الفرقة المحقة/الناجية من بين مجموعة الفرق الإسلامية المعروفة(3). إن اختيار القلهاتي لتأريخ الفرق -كأسلوب تأليف- ينبئ عن عصره وظروفه. ومنذ نهاية الإمامة الأولى (التي تعد الإمامة الأهم في تاريخ إباضية عُمان) في الجزء الأخير من القرن الثالث/التاسع، سيطر على عُمان سلسلة من الحكام الأجانب، معظمهم على ساحلها: الصفاريون، والقرامطة، والبويهيون؛ والوجيهيون (الذين ربما من أصل عُماني)(4). أما في الداخل فقد أعيد تأسيس الإمامة لفترة قصيرة بلغت ذروتها في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي تحت حكم الإمام راشد بن سعيد، حتى نشره نسخة متطرفة من [أقوال] المدرسة الرستاقية من الإباضية؛ مما أدى إلى نفور ليس فقط المدرسة النزوانية بل حتى إباضية شمال عُمان وحضرموت؛ مما سبب مزيدًا من التفتت والتشظي للإمامة في النهاية. وفي زمن القلهاتي انتقلت السيطرة على عُمان إلى النباهنة الأزديين المجموعة القبلية التي منعت أي محاولة للحكم باسم الإباضية.
وهذه الفترة الطويلة من التشرذم وعدم وجود حكم إباضي بين الإمامة الإباضية الأولى والإمامة الثانية وبعدها تزايد تأثر علماء الإباضية بالعالم الإسلامي عامة، وخاصة السني بسبب ما يسميه ولكنسون التماهي convergence مع المعايير السنية للعلوم الإسلامية. وهي عملية بدأت -كما يرى- مع ابن بركة وانتهت مع العوتبي والقلهاتي(5). في نفس الوقت جعل هذا التماهي ذاته وجنبًا إلى جنب مع تضاؤل السلطة السياسية للأئمة الإباضية الحاجةَ ملحةً للتعريف بالإباضية والدفاع عنها. بالتأكيد كان تأريخ الفرق هو الأنسب لهذه المهمة. وكما هو متعارف عليه في مؤلفات الملل والنحل والفرق والمذاهب، فإنّ الباب الأخير من كتاب الكشف والبيان مكرس لبيان الفرقة الناجية.
يفتتح القلهاتي الباب الأخير من كتابه بوضع عبدالله بن إباض المؤسس المفترض للفرقة كأول من ميز الإباضية عن بقية الفرق المبتدعة والضالة من دحض عقائدهم وفضحها بالبراهين والآيات القرآنية. يقدم القلهاتي هنا (في بداية الباب الخمسين) السلسلة الأولى من سلسلتي رفع المذهب، تلك التي تتألف من قائمة من العلماء اللامعين الذين نقل عنهم ابن إباض المذهب، وتبدأ بابن عباس (الذي يعرف عند الأجيال التالية للإباضية ببحر العلم)، وجابر بن زيد (المؤسس المزعوم) وأهل النهروان والنخيلة. تنتقل السلسلة إلى التابعين من أهل معركتي صفين والجمل، فالصحابة مثل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ومحمد وعبدالله ابني بديل بن ورقاء الخزاعي(6) وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل وعبدالرحمن بن عوف وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وعائشة وأبي بكر وعمر إضافة إلى المهاجرين والأنصار(7). وإجمالًا تمثل هذه السلسلة مجموعة مثيرة للإعجاب تضم العديد من صحابة النبي محمد المشهورين، وأول خليفتين إضافة إلى العديد من الشخصيات الذين عُرِفوا عادة مع الشيعة الأوائل.
ينتقل القلهاتي بعد ذلك -وبعد أن أكد على صدق شهادة ابن إباض في بداية السلسلة- لبيان المعتقدات والعبادات الإباضية الحقة التي كان من المفترض أن ابن إباض قد دافع عنها. على وجه التحديد فإنه يواصل الباب الخمسين من كتابه مبينًا ما يعنيه الإيمان (الألفاظ والأفعال والنوايا، اتباع السنة وما إلى ذلك)، فضلًا عن سرده معتقدات معينة تجعل من الشخص مؤمنًا (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والوعد والوعيد، وما إلى ذلك). يقدم القلهاتي -بشكل جوهري- بيانًا عقائديًا مقتضبًا (عقيدة) والذي يقدم من خلاله المواقف العمانية الإباضية في القرن السادس/الثاني عشر، ما سيصبح -بعد ذلك- الأسئلة العقائدية الأساسية. بناءً على ذلك أتبع هذا البيان بقسم خصّصه لما يشتمل عليه الإسلام (فعل الخضوع لله) أي شهادة أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، يتبعها على الفور أعمال عديدة محددة، بغيرها لا يكتمل إسلام المرء (الصلاة، الصوم، أداء الزكاة، …إلخ). مع بيان العقيدة الإباضية، ليس هناك ما يفاجئ دارس التاريخ الإسلامي؛ على الرغم من جدارة الإشارة إلى أن هذا الجزء يتضمن بعض العبارات عن الممارسة الإباضية لعقيدة الولاية (association) (المهمة بشكل مميز) وفقرة أطول عن البراءة (8).
فينهي القلهاتي جداله لما يشكل الدين الصحيح والفرقة الناجية بالعودة للرجال الذين نقلوا الدين الحق، قائلًا: “فهذه سنن وفرائض نقلها إلينا صادق عن صادق…”. تَعِد الآيات القرآنية بالمزيد من الجزاء لأولئك الذين يتبعون الجديرين بالثقة. بعد ذلك يؤكد القلهاتي لقرائه موثوقية من رفعوا المذهب: “… فاتبعنا الصادقين الذين عُرف صدقهم وشهرت عدالتهم، بُلّغٌ في العلم والعمل، الأتقياء الأبرار، الفضلاء الأخيار، في الورع والنزاهة، والعقل والنباهة، والإخلاص والديانة والخضوع والاستكانة، المتنافسون في قواعد الدين وحقائقه، والمتغلغلون في غوامضه ودقائقه…”(9)
ونظرًا لما يتمتع به حملة المذهب الإباضي من استقامة أخلاقية؛ يُتبِع القلهاتي هذا الجزء مباشرة بذكر موسع لهم. فتتضمن السلسلة الثانية كل الأشخاص الذين ذكروا في السلسلة الأولى (سلسلة ابن إباض). لكن القلهاتي يضيف مزيدًا من أسماء من رفعوا المذهب رجوعًا إلى طبقتين قبل القلهاتي ذاته، ثم إلى طبقة النبي محمد. وعلى وجه التحديد تتضمن القائمة ابن بركة والبسياني وهما من علماء المدرسة الرستاقية، لكنها تتضمن أيضًا الإمام سعيد بن عبدالله بن محمد بن محبوب والفقيهين أبا المنذر بشير وعبدالله ابني محمد بن محبوب اللذين عاشا في القرن الثالث/التاسع، وكذلك سعيد بن محرز والوضاح بن عقبة (شاركا في اجتماع دما الذي انعقد في فترة حكم الإمام المهنا بن جيفر (226-237/841-851) حول مسألة هل القرآن مخلوق أم قديم) وموسى بن علي وهاشم بن غيلان، ومحمد بن محبوب (علماء أواخر القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي) وموسى بن أبي جابر (181 هجري/797 ميلادي) ومنير بن النير (الذي عاش في فترة الإمام غسان بن عبدالله) وسليمان بن عثمان ومحبوب بن الرحيل البصري (آخر إمام من أئمة الإباضية في البصرة) وخلف بن زياد البحراني وشبيب بن عطية العُماني والجلندى بن مسعود العُماني وعبدالرحمن بن رستم الفارسي (أول إمام في شمال أفريقيا) وجعفر بن السمان (أحد شيوخ أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة) والمختار بن عوف (أحد مؤيدي طالب الحق) وعبدالله بن يحيى الحضرمي (طالب الحق 130 هجري/747 ميلادي) وعلي بن الحصين وهلال بن عطية الخراساني (قتل مع الإمام الجلندى بن مسعود) وأبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة (الفقيه والقائد البصري المهم في الفترة الأموية) وفروة بن نوفل (من المشاركين في صفين ومن أوائل الخوارج) وعروة بن حوثرة (ربما تصحيف لوداع بن حوثرة من أوائل المحكمة والذي انسحب من معركة النهروان فقط ليقاتل معاوية بعد ذلك في النخيلة) وعبدالله بن إباض وعروة والمرداس ابني حدير (أبو بلال وأخوه كلاهما من المحكمة) جابر بن زيد (مرة أخرى) وعبدالله بن وهب الراسبي (أول إمام للمحكمة) وزيد بن صوحان العبدي. بعد ذلك يقوم القلهاتي بعرض السلسلة مرة أخرى، لكنه يضيف سالم مولى أبي حذيفة وعبدالله بن مسعود وأبا عبيدة بن الجراح وأبا ذر. فينهي القلهاتي السلسلة الثانية لحملة المذهب بوصل هؤلاء الأشخاص جميعًا بالنبي محمد (نحن نحفظ ذلك) الذي تلقى رسالته من جبريل الذي نقلها عن الله. هكذا؛ وبعرض هذه السلسلة يقرر القلهاتي أنْ لا أحد يمكن أنْ يشكّك في حقانية الإباضية (فليس في ديننا مطعن؛ كما يقول).
في تحليل السلسلتين ووظائفهما من المهم الإشارة إلى أنهما: [أولًا] ترسمان سلسلة تبدأ من الله والنبي، وتستمران (على الأقل ضمنيًا) نزولًا إلى القلهاتي ذاته. فتختار سلسلة النقل أهم العلماء والرجال في كل طبقة؛ مما يلمح بانتقال الدين الحق بغير انقطاع. لكن في الحقيقة وجود انقطاع في السلسلة أبرزها بين طبقة ابن بركة والقلهاتي نفسه. لكن الفهم الدقيق لهذه المسألة يكمن داخل النقطة التالية: لم يحتج القلهاتي إلا لإعطاء أمثلة من كل طبقة لتأسيس استمرارية [سلسلة رفع المذهب الإباضيٍ]. لذلك تعمل السلسلة بشكل مختلف عن الإسناد؛ فبدل رواية سند نقل لخبر ما من خلال إيجاد سلسلة رواة يفترض التقاء كل راوي بمن روى عنه؛ فإن سلسلة رفع المذهب تعنى بالانتقال العام لكتلة من الأخبار من خلال أخذ عينات ممثلة من الرجال الرافعين للمذهب في كل طبقة.
ثانيًا: إنّ الرجال رافعي المذهب والذين اختيروا من كل طبقة -على الأقل في نظر الإباضية- يظلون ممثلين لأعلى درجة من القيم الأخلاقية. فسلسلة رفع المذهب الإباضي كلهم أتقياء، من أوائل علماء الإباضية وثوارها إلى من اتبعهم في القرون الوسطى. تضم السلسلة -أيضًا- مجموعة مهمة من أوائل الخوارج وجماعة مشهورة من الصحابة تختتم بعائشة وأبي بكر وعمر. إن الجدير بالذكر هو إدراج العديد من الصحابة الذين يصنفون عادة ضمن أوائل شيعة علي؛ لكن يدعي الإباضية أنهم منهم. تتأكد أهمية الصحابة من خلال المقطع قبل الأخير من نص القلهاتي الذي أورد أحاديث نبوية حول الصحابة. يقتبس القلهاتي -على سبيل المثال- الرواية النبوية (بغير إسناد كما هو شائع في المصنفات الإباضية في ذلك العصر) التي تنص على: “من أراد أن ينظر إلى رجل يحبه الله؛ فلينظر إلى سالم مولى أبي حذيفة”(10). وبالنسبة لعمار بن ياسر ينقل القلهاتي قول النبي لعمار: “تقتلك الفئة الباغية”، إشارة إلى الآية التاسعة من سورة الحجرات التي تشير إلى قتال: “التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” وهناك -أيضا- إشارة في تفسير الخوارج لرفض علي قتال معاوية في معركة صفين التي قُتل فيها عمار. بهذه الطريقة؛ فإنّ الصفات الأخلاقية العالية للرجال الذين رفعوا المذهب الإباضي تؤكد على صحة المعرفة الدينية الإباضية (التي رفعت منذ أقدم العصور)، ومن ثم تؤكد على أن الإباضية هي المذهب الحق.
إن تحديد سلسلة رفع المذهب الإباضي في نص القلهاتي يؤكد كذلك أهمية رجالها. ويُختتم النقاش الرئيس للقلهاتي حول المعتقدات والشعائر الإباضية بتأطيرها وفق موثوقية سلسلة الرفع؛ أي أولئك الرجال. فهذا الترتيب الخاص لسلسلة رفع المذهب الإباضي لا نظير له بالنسبة للقلهاتي؛ فالعوتبي -مثلًا- يضع ترتيبه للسلسلة بطريقة تبدو عشوائية، ووسط جدال حول الفرق الضالة (المبتدعة)(11). أما سلسلة منير بن النير فتأتي وسط جدال تاريخي حول شخصيات مهمة مبكرة(12). يبدو أنّ ترتيب القلهاتي نُسج لتوثيق الآثار الاعتقادية التي تؤطره. يوحي هذا البناء الخاص للقلهاتي بأهمية سلسلة الرفع بواسطة علماء كبار لمشروع القلهاتي الخاص بتأريخ الفرق، مثل أهمية العقائد والشعائر الإباضية الحقة التي تشكل جسد نصه. يتضمن بناء نص القلهاتي مدى استيعابه معايير علم مصطلح الحديث السني، وإن يكن لغرضه الخاص، والذي سبق الإشارة إليه. وفيما يتعلق بالعلاقة بين الإسناد السني وسلسلة رفع المذهب الإباضية؛ فما يقوله ولكنسون عن العوتبي ينطبق -أيضًا- على القلهاتي: “إن الآثار التي خلفتها الأجيال المتعاقبة تشكل أصالة ما يدافع عنه القلهاتي كمذهب”. وسلسلة رفع المذهب عند القلهاتي ليست سوى محاولة “لتطبيق معايير تخريج الحديث السنية، والتثبت من صحتها؛ لكن بسلسلة نقل إباضية”(13). مع ذلك أود أن أقول إنّ سلسلة القلهاتي تمثل استيعابًا أكبر للمعايير السنية من مثيلتها عند العوتبي؛ فبناء نص القلهاتي يعكس درجة عميقة وإضافية من بناء الحديث السني حيث الإسناد يؤطر ويوثق متن الحديث. سلسلة القلهاتي تقوم بنفس الوظيفة وبأسلوب مشابه وبشكل لافت. وتمثل شيئًا من تتويج لسلسلة إباضية أبكر، ومؤشر لمدى تقارب إباضية القرن السادس/الثاني عشر مع الفترة المبكرة من القرن السابع/الثالث عشر الهجري في المخططات المفاهيمية للشرعية التي استخدمها -أيضًا- جيرانهم السنة.
يعكس استعمال القلهاتي (في الباب الخمسين من كتابه الكشف والبيان) نهج الإباضية الفريد من نوعه في تأريخ الفرق. ويجب أن يفهم بالنظر إلى كيفية رؤية إباضية عصر القلهاتي مذهبهم ليس كجامع من المعتقدات والشعائر المحددة؛ لكن -أيضًا- كسلسلة من الرجال الأتقياء والمشهورين الذين يُوثَق في معتقداتهم وشعائرهم. فتتضمن سيرة سالم بن ذكوان على سبيل المثال مثل هذا النهج، والذي به تتبع سلسلة الدين الحقيقي/الفرقة الناجية من خلال النبي وأبي بكر وعمر وأوائل الخوارج، مدعيًا أن: “رأينا اليوم يتبع رأيهم حينها؛ وتفسيرنا للقرآن اليوم يتبع تفسيرهم .”(14)
تمثل سلسلة القلهاتي المتأخرة والمتطورة كثيرًا مرحلة متقدمة من نمط التفكير هذا لكن ترينا -أيضًا- مدى التماهي مع المعايير السنية للشرعنة جيدًا. وإذا أظهر نص القلهاتي مدى توغل أبنية الشرعنة الخاصة بعلم الحديث في العلم الإباضي لذلك الوقت؛ يذكرنا في الوقت ذاته بأن مثل تلك العمليات كانت بعيدة عن البساطة والاكتمال. مما يجب أن يذكر أنّ الوارجلاني معاصر القلهاتي من شمال أفريقيا (ت 570هـ/1174م) أولُ من جمع الحديث الإباضي في كتابه الترتيب. أخذ هذا المجموع وقتًا -وليس لدينا فكرة واضحة عنه- ليصنع طريقه إلى عُمان، ويتحول إلى جزء أساسي من مرجعية الاستدلال عند الإباضية. فاستدل إباضية عصر الوارجلاني/القلهاتي بالحديث النبوي في كتاباتهم (كما فعل القلهاتي في نصه هذا بالذات) لكن من غير إسناد عادة ولا يوجد دليل على أخذهم من مجموع حديثي مسلم بصحته. بل إن الحديث (الذي كان جزءًا من الآثار الإباضية المتراكمة التي انتقلت عبر أجيال سابقة) مثل ثقل ما أجمع عليه زمن القلهاتي والعوتبي، وشكل المذهب مع الأجيال كضامن لهم.
أخيرًا، تبقى سلسلة رفع المذهب مثيرة عند التفكير في كيفية نظر الإباضية لأنفسهم كفرقة في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. وعلى حد علمي؛ لا يوجد فرقة أو مدرسة إسلامية تعطي مثل هذه الأهمية لسلسلة علمائها عبر الأجيال المتتالية (علم الأنساب genealogy) وسلسلة رفع المذهب مختلفة عن المعرفة المعصومة لأحد المختارين من أسرة النبي أو غيرها (الأئمة). بالمثل لم ينجذبوا لتبرير أجزاء معينة من آثارهم بتوظيف الإسناد. وعلى أية حال ما تأمل هذه الورقة أن قامت به هو أنها بيّنت بوضوح أن سلسلة رفع المذهب الإباضي لم تكن اعتباطية في مشروع القلهاتي؛ فقد شكلت تلك السلسلة جانبًا مهما من التكوين الذاتي للإباضية في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، ومواصلة القيام بذلك حتى بعد أن أصبح الحديث وعلم مصطلحه جزءًا من المدرسة الإباضية في القرون الوسطى المتأخرة والبداية المبكرة للعصر الحديث.
الهوامش
* آدم جايزر: أستاذ دراسات الأديان. حاصل على الدكتوراه عام 2005 من جامعة فيرجينيا. تركز أبحاثه -من بين ما تركز عليه- على نشأة وتطور الخوارج والإباضية الأوائل، وعلى الفرق الإسلامية في العصور الوسطى بشكل عام. وهو أبرز دارسي الإباضية في الوقت الحالي. وله في هذا المجال مجموعة من المؤلفات والدراسات نذكر منها:
-Sectarianism in Islam: The Umma Divided )Cambridge University Press, 2022).
-Shurāt Legends, Ibādī Identities: Martyrdom, Asceticism, and the Making of an Early Islamic Community (University of South Carolina Press, 2016).
-Muslims, Scholars, Soldiers: The Origin and Elaboration of the Ibāḍī Imamate Traditions (New York: Oxford University Press, 2010).
ومن الدراسات نمثل بالتالي:
-“Ballaghanā ‹an an-Nabī: Early Ibāḍī understandings of Sunna and Siyar, Āthār and Nasab.” Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 83 (2020): 437-448.
-“What do we Learn about the Early Khārijites and Ibāḍiyya from their Coins?” in Journal of the American Oriental Society 103/2 (2011): 167-187.
-“The Ibāḍī ‘Stages of Religion’ Re-examined: Tracing the History of the Masālik al-Dīn,” in Bulletin of the School of Oriental and African Studies 73/2 (2010): 207-22.
1- القلهاتي، أبو عبدالله محمد بن سعيد، الكشف والبيان؛ تحقيق: سيدة إسماعيل كاشف، مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، 1980، 2:471-480.
– الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان؛ تحقيق: محمد بن عبد الخليل، تونس: مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1984، 294-305.
– في المصطلحات التي يستخدمها القلهاتي لتحديد «الفرقة المحقة/الناجية» انظر:
Josef van Ess, Der Eine und Das Andere: Beobachtungen an Islamischen Historiographischen Texten (Berlin: De Gruyter, 2011), 2:966.
2 – جون ولكنسون، الإباضية أصولها وتطورها المبكر في عمان، أكسفورد: منشورات جامعة أكسفورد، 2010، ص419.
3- حول القلهاتي وكتابه انظر:
Van Ess, Der Eine und Das Andere, 2:960-70; Martin H. Custers, Al-Ibadiyya: A Bibliography (Maastricht: Maastricht, 2006), 1:298-300.
4 – حول بني وجيه انظر عبدالرحمن السالمي، «بنو وجيه عُمان»،
Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 39 (2009): 1-9.
5 – ولكنسون، الإباضية، 374.
6 – كان عبدالله من شيعة علي الأوائل قتل في معركة الجمل. انظر: محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق جويه (ليدن: بريل، 1879).
7 – القلهاتي، الكشف والبيان، 2:471.
8 – عن الولاية والبراءة انظر فاليري هوفمان، أساسيات الإسلام الإباضي: (سيراكيوز: مطبعة جامعة سيراكيوز، 2012)، 28-30.
9 – القلهاتي، الكشف والبيان، 2: 477.
10 – القلهاتي، المرجع السابق، 2: 379.
11 – سلامة بن مسلم بن إبراهيم العوتبي، كتاب الضياء، مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، 1990، ج3؛ ص 15-149.
12 – سيرة منير بن النير الجعلاني: ضمن السير والجوابات؛ تح: سيدة كاشف إسماعيل، مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، 1989، ج1ص234-235.
13 – ولكنسون، الإباضية، ص 419.
14 – باتريشيا كرونه وفريتز زيمرمان، سيرة سالم بن زكوان (أكسفورد: منشورات جامعة أكسفورد، 2001)، ص132-133.
مصدر الدراسة
The Muslim World
Volume105, Issue2
Special Issue: Ibāḍī Islam. Edited by Douglas R. Leonard, Director of Al Amana Centre, Sultanate of Oman April 2015
Teacher Lines in al-Qalhātī›s al-Kashf wa›l-Bayān: the Accumulation of a Medieval Ibāḍī Identity
Adam Gaiser
Pages 157-162
https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/muwo.12086