يبدو لى أن الصديق الشاعر والاعلامي أحمد فرحات , هو الوحيد الذي مرق من حصار الغربة وسوق تراتبية الجنسيات المعلن عنها صراحة أو بالخفاء, بين أوساط الانتلجنسيا العربية وغير العربية، فالجميع هنا يرفع بيارقه الوطنية ويعيش في جزر قلقة ومنعزلة , تتعامل مع بعضها بالحد الادني المطلوب , فلا تقارب بينها ولا صداقات اجتماعية , على الرغم من الاشتراك في العمل ساعات طوالا في اليوم , ومما يؤسف له حقا أن جميع هذه الجزر تنخذ من أشكال الثقافة الأروبية السائدة , إطارا مرجعيا لها, وغير معنية بالجوار مهما كان غنيا وحيويا ..
أحمد فرحات الشاعر الصامت، هو الوحيد الذي ضرب بقوانين الجزر هذه عرض الحائط، ومضى ساعيا إلى تجاوز الكائن نحو ما ينبغي أن يكون ؛ إذ أدرك مبكرا أن هذا التجمع الأممي الاستثنائي من شتى جنسيات الأرض، إنما هو فرصة ذهبية للالتقاء والتحاور، بل حتى إمكانية عقد برلمان مصغر لمثقفي آسيا تنطرح فيه قضايا كروية الأرض من جديد، أو قضية شروق الشمس من الشرق وغروبها في الغرب .. والأمراض التي نابت البشرية من جراء الترحال الثقافي نحو الغرب ,على حد تعبير عبد الله الغذامي، ومعالجتها بالحكمة الهندية والتسامح الإسلامي.. ربما كان البرلمان سيطرح قضايا كثيرة في الحقيقة، لولا أن الشركات الشرهة، ولوبي التسية، وحاجز اللغة، وأشياء كثيرة أخرى منعت ومتمنع دائما من إقامة هكذا برلمان يقيما شعراء وكتاب حالمون ..
أعتقد أن صديقي أحمد فرحات، لم يكن يحلم بالبرلمانات الأبلوموفية التي كنت أرويها له، بينما كنا ندلي أرجلنا في بركة السباحة لهوليداي بيتش، ونرقب بذخ العولمة الأسطوري عبر ناسه المسترخين تحت الشمس بعيدا عن الدهماء.. كان يفكر صراحة في هؤلاء الناس الذين يشاركوننا حياتنا ولا نعرفهم الأ سطحيا، ويتساءل دائما عما كونوه من صور عنا وعن ثقافتنا في تفكيرهم وكتاباتهم، فمرق من الشبكة المبرمجة باخر مبتكرات بيل جيتس، ثم راح يكون صداقاته مع مثقفين ينتمون إلى جنسيات أسيوية مختلفة، ومع توطد هذه الصداقات، بدأ يعمل بدأب سنوات عديدة، كي بالنهاية يقدم للثقافة العربية سفرا شعريا، سماه " تغذية الشمس " لشعراء يعيشون معنا ولا ندفهم، من الهند والباكستان، ومن ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند والفلبين، وكوريا وتايوان وبنجلاديش وأفغانستان وبورما، نقل الينا المئات من القعائد التي سنفاجأ أنها لن تختلف في قليل أو كثير عن اهتماماتنا وتطلعاتنا، وهي كذلك علي تماس حقيقي بالمكان، بالإضافة إلى جملة القضايا الإنسانية المطروحة من قبل مثقفي العالم، من مثل: عدوانية الذكورة العولمية تجاه الأرض والبشر، وثقافة الهمبرجر واليونايتد كلور، وسينما كوبولا وشر عنة القتل والاضطهاد، وغير ذك من قضايا نفسية ووجودية، طرحتها هذه الأصوات الشعرية الآسيوية ..
وفي هذا الصدد فإنني أعتقد أنه رغم تكاثر أعداد المترجمين، وخصوصا في مجال الدراسات الفكرية والنقدية والقصصية، الأ أن قلة قليلة جدا منهم تهتم بالشعر، وهؤلاء إن ترجموا، فإن ترجماتهم لا تتعدى بضعة مقاطع في أحسن الأحوال، وربما يعود السبب إلى حالة الشعر الخاصة والعابقة بأسرارها أو عبقها الخاص كالوردة تماما؛ نشمها ولا نعرف بالضبط أسرار تراكبيها، والتي لا يمكن الأ لشاعر محترف أن يقترب من نارها ويعمل على استخلاص رحيقها وشذاها فينقلها إلى لغة جديدة ..
في مستهل الكتاب، نقرأ الشاعر الهندي "كومار سينغ كوجرال " متعاطفا إلى أبد حد مع العربي المفترى عليه إعلاميا.. ذلك العربي الذي تصوره الوكالات الاستشراقية الجديدة بأنه إرهابي وهمجي ومتوحش وغير ذلك من نعوت ابتدعتها مخيلات الرحالة قبل قرون، ثم محلت في صميم الثقافة الأوربية الساندة إعلاميا فيقول:
"صديقي العربي / يشبه روحه / يضحك
دوما ولكن / بحزن مهيب / هو بريء من كل
/ فكرة رعناء تلصق به / ومع ذلك أجده لا يتأكد
/ من أنه بريء / صديقي العربي / لا
يعرف كيف يدافع / عن حثه الساطع / في
هذا الوجود..»
وهو إلى ذلك كان من أكثر الشعراء المرتبطين بالمكان وذاكرته المستوفية بين صحراء وبحر، فمدينة دبي التي استأثرت باهتمام الشرق والغرب، لها صداها الكبير في قلب الشاعر، فيصورها لنا كمحطة حلمية لآلاف البشر، وهي إلى ذلك أفاضت على سكانها كل ضروب المحبة، فيقول:
" كل يوم تدربنا / دبي على حب الأخرين /
ومراقبة دبيبهم العجيب /انها مدينة المفارقات الآسيوية
/ والصحراء التي جمعت
/ في غبطتها أناقة العصر/ ومزارع الشمس
الخضراء / ومسرات البحر / حيث البشر
يلحقون / بأحلامهم المتفاوتة / ويقطفون فواكه آمالهم /
التي ينفردون برؤيتها. .
كل يوم أمخر / عباب هذه المدينة / مكتشفا
كم إن رأسي / بات يألف التنافر البشري /
وينتصر لجنونه في يوم قائظ..»
أما الشارقة كمكان له خصوصيته الأثيرة لدى الشعراء والمثقفين، فإنها تشكل الإطار المرجعي لقصدته، فهو يتنفس من هوائها، ويسبح في بحر خضرتها، وأنى توجهت دروب قصائده فإننا نلتمس معالمها، بدءا من سوق السمك إلى البحيرة فميناء الصيادين حيث يلتقي الصياد خليفة وهو يعد شباكه ربما للمرة المليون، وقد اصفرت لحيته وجف ألق عينيه، لكن الحكمة في قلبه ظلت يقظة، وقادرة على تقديم إجابات شافية، لشاعر دخل متاهة ولم يعرف سبيلا للخروج منها..
«جاري العجوز خليفة / مطرقا يذهب إلى البحر. .
كل يوم / يقف مستنكرا ما فات من أيام ومظاهر
/ فيرى أن البحر هو البحر / بينما
الصحراء / هي التي تغيرت..»
ويدخل الشاعر مع العجوز خليفة ,في حوار شبه فلسفي، فيقول له:
«إن عدوا واحدا يتربص بنا / اسمه الزمن..
تطلع الي وقال:
ولكنك شاب تستطيع / اغتيال الزمن بالرحيل
/ إلى أزمنة أخرى ترتاح فيها. .
قلت له:
هذا المكان وزمانه / أرتاح فيهما لأنني /
ولدت هنا / وهنا على ما يبدو سأموت..»
أعتقد أن "كومار سينغ " لو انه أصغى جيدا لحكمة الصياد: لو أنه توقف عند كلماته وهو يقول،"هذه أرض الله الواسعة، وهي لجميع " لما كان انتحر ذات يوم في الشارقة، لكنه كان شاعرا ورومانسيا أيضا، ألمه إلى حد الفجيعة تلوث البيئة البحرية:
"البترول المرعب / المتسرب من الحروب /
ومن كوارث الناقلات العملاقة.. الطيور في
الدبق الأسود / باتت أشباحا مخلعة /
وموتها بات اصطفافا قويا / فوق رؤوس
جنرالات الحروب / وقباطنة الناقلات الثملين. ."
وكذلك آلمه الاصطراع على كشمير، آلمته الحبيبة الغائبة في بومباي، والمهراجات الشرهون، وبلاد نصفها حقيقة ونصفها الأخر خرافة:
«في الهند / الأغنياء أكثر فقرأ من الفقراء /
لأنهم يرضون بهذا المشهد العام / الذي يزوق
المدينة ببؤسه المرعب../ الأغنياء وحوش فقر
/ باسم الحرية الاقتصادية والجهد
الفردي / ولكن ما نفع ذلك كله / وهم مكللون
برائحة الموتى وأنين العظام / وارتعاش
الأجساد الكالحة ؟! "
ولكل ما آلمه من أشياء اضافية في هذا العالم الذي سماه بلاستيكيا، فإنه ترك لصديقه ومترجمه رسالة ثم انتحر ذات فجر في الشارقة:
"ولماذا أنتحر
أيها الصديق ؟
ولماذا تنتحر أنت أيضا؟
ما أجمله من انتحار
موصول هذا !
نتحرك ببهاء
في قاماته الموصولة."
ومن المؤسف له أن الشاعر جمل لانتحار ثم مارسه عمليا لعدم قدرته على التواصل، واستلهام الخير والخيرات من المكان، كما فعي الشاعر الكوري ايل سدنغ ننه الذي استلهم من المكان صيرورة التحدي والنماء والتطور، ومن النخلة رمزا للخير العام والعطاء الدائم، وهو أمر يعكس وعيا منفتحا وقابلا للاتعاظ مما تفيض به رموز المكان:
"قرب منزلي في دبي / ثمة نخلة قديمة /
جذعها أغبر جدا / ونحيف جدا..
نحيف من كثرة ما غذى / ويغذي "فراخه "
الخضر بماء الحياة..
تطلع "الفراخ " الخضر / للميراث / لتأدية
الرسالة النبيلة / بنبل مضاعف يعرف / كيف
ينقذ البشرية / ماذا أقول لكم ؟ / النخلة
معلمتي / نبات حظي المفتوح / في الصحراء
الرملية / وفي صحراء العالم اجمع.."
وهاهي النخلة تبوح بأسراره، فيندفع في حنين مباغت إلى تلك الشجرة التي كانت تعتني بها امه قبل عقدين من مغادرته مسقط رأسه، فيكتب عنها مؤكدا استمرارية تدفق الحياة عبر أغصانها الخضراء المورقة، رغم غياب أمه ..
الشاعر الباكستاني عبد الله أكبر فان كتلة من الصراخ الذهبي، وجسد مقذوف بوابل من فضة، يرسم خضرة بلاده بالماء والبشائر، ولا ينسى بالطبع قيامته الصغيرة في الإمارات، كي تتحد الخضرة بين هنا وهناك، وكي يظل قلبه نابضا بنزق الطفولة:
"رسمت خضرتك لاهور على الرمل / زودتها
بالماء والبشائر الطالعة منها / وقلت إن حبي
العلني / لخضرة الامارات / والجهر
بأفراحها ليل نهار. ..
قصائده قطرات ندى صباحية اشعلتها شمس بازغة للتو، فراحت تضيء بسائر طيوف اللون، وهي إلى ذلك لا تدعي فلسفة بمقدار ما تسعي إلى فهم سلوكات البشر الطيبين وغير الطيبين، فكتب من الحياة ولعنة الفقر، والأشجار في غبطتها، والريح الحنون .. الالوان الطبيعة الخلابة أسست عميقا في مخزونه الشعري، فتراكمت الصور الجميلة في نصوصه لتتعاقب كشلال مائي مليء بالحركة الصاخبة:
"الشمس أرجوحة في سفر العتمات / تنأى أحيانا في قميص نارها / ثم تقترب / محيية
ندى الروح / في الانسان والأشياء../ هذه الرحلة اليومية لها
/ هي الشاهد على ظلم الانسان لنفسه / ولأحيه / مذ وحد / وحتى
يوم النشور. .
الشمس بيان إذا / نشور من نوع / لا يتعب
و لا يصدأ / أو يبور…
الشمس تغلب الأسرار / بامتصاصها ثم
بكشفها / في الوقت المناسب / لذلك هي
تحاور العتمات / فتخفق فيها العتمات /
مؤسسة مملكتها / المقبلة..»
إن علاقة عبد الله أكبر خان بالطبيعة مؤسسة على الوعي بخصائصها الجمالية، وكل شيء في هذه الطبيعة الخصبة قابل لأن يكون موضوعا لنصه:
الأشجار والحطابون، ثمرة المانغا، الثلج، الذبابة.. وبالإضافة إلى ذلك فإنه أيضا يدرك التأثير المدثر للساسة الحمقى ودهاقنة الشركات المتعددة الجنسية، فيؤكد على دور الشعر في منح هذا العالم الذاهب إلى جحيم شيئا من التوازن الإنساني:
«سيتعانق سحر العلم
بسحر الشعر من حديد
ولا قيامة لبشرية مغايرة
من دور هذا الاتحاد
المقدس.."
أما زميله رستاق علي شريف المقيم في مدينة العين، فإنه يحصن نفسه بالتأمل، سيما وأن فضاء مدينة العين المتنابض صفرة وخضرة، يحرضه على الدوام لنظم قصائده ذات الطبيعة الاحتجاجية جملة المظاهر السائدة في أوساط المغتربين، ولكن ليس بطريقة خطابية استفزازية مباشرة، وإنما تذهب نصوصه لتبيان العلاقة المتنافرة بين الشاعر الذاهب إلى حساسية إنسانية راقية وجملة السلوكات التي أملتها ظروف معينة، وسنلتمس بعضا مما ذهب اليه في قصيدته جنة الأرض، حيث يقول:
" طفر دمه الأخضر فجأة / فامتلأت الصحراء
بالأشجار / وألوان الورود والأطيار /
والينابع بجولات غير متوقعة.. / طفر دمه
الأخضر / فقام السمك يرقص في البحر /
ويغي ويلوح لليابسة الخضراء / بانتصار
الحياة..
طفر دمه الأخضر / فتوقف البشر عن إيذاء /
الأشجار والورود / وصيد الورود والأسماك
/ وتلويث الينا بع والبحار. .»
إن الشاعر رستاق علي شريف يعرف جيدا أن قصيدته تنتمي لتيار الحداثة، وهو في أكثر من نص له يحاول أن يوضح الارتباط الكائن بين القصيدة والشاعر، في سعي منه إلى إعادة صياغة النفس الإنسانية نحو الأفضل والأجمل بجملة من التشابكات الفلسفية والنفسية .
"هذا هو الشاعر / يعرف بطوفانه
الاستثنائي / كيف يواجه الطوفان العظيم /
وبالتحديد خدما هذا الأخير / يحسم المعركة
/ ويترك على الأرض / أشلاء البشر والحيوان
/ والنبات والعناصر كلها / إذ يهجم طوفان الشعر
/ ليرأف بها / ويردها إلى زمن الدفء
/ والحركة ومعاودة الحياة /
وبث وقود الأحلام التي / تحفظ في الدم..»
ويشارك الشاعرين الباكستانيين في مشاعرهما الودية تجاه المكان، الشاعر الأفغاني عزيز سلطان
أراش الذي نجده يتوق إلى الإمارات وجبالها ووديانها ومدنها الجميلة بعد أن هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربا من ويلات الحرب في بلاده .
«نقية ومحروسة بالغموض / جبالك يا إمارة الفجيرة
/ ترتبني كل صباح / بما لا أقوى عليه / من خفاء بارد / وصمت عظيم /
ومهابة كاسرة / ترهب البحر / وتسحب منه
أشعته لتردها اليه.."
بحرك يا الفجيرة صديقي الشخصي / وكذلك نخلك
المتضرع / وشجر اللوز بأوراقه القرميدية /
يصطف على جانبي الشارع..»
الغربة العكسية
يذكر المترجم أن الشاعر الإندونيسي أبو بكر محمد إكرامي ولد لأبوين عاملين في دبي، ولم يسافر إلى جاكارتا عاصمة بلاده غير مرة واحدة، لم تتعد أيامها الأسبوع، عاد بعدها إلى دبي التي أدمنها حياة وتنفسا في الصميم، وهو إلى ذلك يقول:
«أحسست بغربة خانقة وضيق مضاعف وأنا
في جاكارتا..ما هذا ؟: إنها ليست مدينتي ولا
الأجواء أجوائي، أريد العودة إلى دبي. »
وقد يظن البعض أن هذا الشعور مبالغ فيه، ولكن من يدرك جوانية الشاعر المقيم وعلاقته الحميمة بالمكان، سينتصر له بالتأكيد، إذ إن الأمكنة تضرب عميقا في الروح، فتنتصر على الانتماء الأول، أعتقد إنها حالة إنسانية لها خصوصيتها، على الرغم من المصاعب والحواجز والعراقيل الإدارية التي تصفع وجه المقيم في دنيا الاغتراب، والدراسات كثيرة في هذا المجال، ولكن باختصار نقول: أن المغترب له وطنان، وطن المولد والثقافة الموروثة، والوطن الذي يعيش فيه بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة المعروفة، ولا بد في هذه الحالة إذ أ من إدراك المشاعر العميقة التي يكنها هؤلاء
الشعراء لبلد الاغتراب .
وربما يعبر الشاعر محمد إكرامي عن بعض ذلك في قصيدته الجميلة "قرنفل المهاجرين ":
«قرنفل المهاجرين أغبر / يشتعل بنفسه / من
دون نار / لأن حرائقه أقوى من حرائق النار../
المهاجرون يتحركون في وطنهم
السري دوما / بينما الضحكات الأليمة /
بارزة على وجوههم / وفي قلوبهم التي /
يمكن أن تسقط من ضربة ذكرى واحدة.. "
إن تجربة الشاعر أبو بكر محمد إكرامي تبدو لي ناضجة بشكل واضح، وهي تستمد خطابها من كثافة معرفية تؤسس لروح ملحمية تستشرف المستقبل بإشراقات جميلة، ونلتمس ذلك من خلال نص أهدأه إلى صديقه ومترجمه أحمد فرحات، يقول فيه:
" حزن البشر في قرانا / هو تأمل في المستقبل
/ وليس انشغالا / بخطوط الحاضر شبه
المربك / هذه تعاليم الأجداد / يا صديقي
الشاعر / وقد حفظناها /لنفاجئ المستقبل / ونرتاح على قمته.. "
وللشاعر سوسيند نانادوم من تايلاند قصيدة رائعة عن الغربة، فهو بحساسيته المتقدة، لم ير بدأ من مهادنة الغربة وجعلها كصديق يسافر معه .. إنه بالأحرى يؤنسن هذه الغربة الضاغطة على القلب والأعصاب فيحاول ما أمكنه تحسين صورتها في وجدان المغترب:
«الغربة إبداع يدعو / طيور العقل والقلب /
والأعصاب إلى الشقشقة / وانعتاق الأجنحة
فينا. .
«الغربة .. / قصيدة حية بوعود الصباحات
/ ومدار المساءات / هازجة بكل ما يتسامق
/ عاليا.. وفي العمق / النابض بالأعماق..»
وهذه اللحظة المضمخة بوجدانية عالية، ورغبات مترسبة في متاهات الروح المبللة بخضرة نبيلة، تتفجر لدى الشاعر ذات لحظة في أحد المقاهي، لتشعشع الكأس عصائر الحنين، فتستفيض الذاكرة ويستقيم الشعر عبر جمل إنشائية تذهب في الحدة كي يلتمس منفذا يفضي به إلى عالم البوح الجميل:
«أيها الساقي / احفر في حنيني /ماءك
الخصوصي / احفر.. احفر / إنه أقوى من
أية آلة حفر أخري..
احفر أيها الساقي / احفر.. احفر / فكلما
حفرت / عثرت علي أكثر / وبانت لك
أشعاري / بكل الكهرباء السرية / المنطلقة
منها..»
شمس الشوق..
الشمس كمعطى مادي ورمزي دلالي، تشكل حضورا كثيفا في سائر الأشعار، نلتمسها عند محمد إكرامي، شجرة كونية فرعا، تستوطن الروح والجسد، وهي أيضا ذكاء العالم ونماؤه المتجدد الذي أدركته شعوب آسيا منذ ازمان سحيقة، فارتبطت ثقافتها بالنور ذي الأبعاد الأسطورية المرتبطة بالطقسية الأولى، وأعتقد أن تسمية المجموعة المترجمة "تغذية الشمس " من قبل المترجم تعكس أبعاد هذا الحضور لدى محمد إكرامي، وزملائه الآسيويين الأخرين، وها هو الشاعر الفليبيني ماركوف .ف .ميريدياس، الذي يعيش بمدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، يؤكد ذلك في إحدى قصائده، فيقول:
«صمتك النهم أيها النور/ لا يهمني / ومع
ذلك أحييه بكامل لياقتي / وتطهيري الكامل
للأشياء..
صمتك النهم أيها النور/ لا يهمني / ومع ذلك
يسعدني وأراه ضروريا / لكشح الظلمة عن
الأخرين / وعني..»
أما زميله فرناندو ريباليداس الشاعر الحنيني الإشكالي على حد تعبير المترجم، فإنه يمارس أعراس النور، ويفيض بشموسه لأولئك الذين اكتسحتهم الظلمة، فيقول:
«غذت الشمس حسدي حتى / تحول بدوره
إلى شمس أخري / تغذي أجساد الأخرين هناك
/ بعيدا في عمق الأعماق / حيث كل
شيء يذوب / ويتحول إلى شمس مجهولة /
إلى كنز مبارك يقلب / التوقعات كلها. .
يد الليل مثل أرملة / لابد من ان تزرع شمسك
/ فيها للمرة الثانية أيها الكائن / لا
بد من أن تنشر / فماء ضوئك / وخواتيمه الساكنة
/ والزاحفة بقوة الرخام / غير المرئي..»
إن أشعار الفليبيني ريباليداس تقتضي قراءة خاصة، وذلك لجملة القضايا الإشكالية التي يطرحها، وهو على ما بدا لي يعبر عن موقفه من العالم بمزيد من الأنسنة لكل الأشياء والتفاصيل الضرورية وغير الضرورية، فالشعر لديه حالة إنسانية راقية، دأبها ان تزود الآخرين بقيم الحق والجمال، وهي إلى ذلك منارة للحرية التي لم تقم قيامتها بعد، رغم جهاد المفكرين والشعراء على مر الأزمان، لكنها في الوقت جديرة بأن يناضل من اجلها:
"خذ قطعة من هذه الضبابة التي تعبرك /
فبعد سنوات / سوف تعبر بك إلى حيث
تشتهي وتحب / ستكون خفيفا فوق الوديان
/ وشفيفا كسكين / غير مرئية على صخر
الجبال / سوف تعبر نفسك دونما تعب. .
خذ قطعة من هذه الضبابة التي تعبرك / ولا
تنس أنها مركبتك إلى الحرية / الحرية التي
يجهلها / أولئك المجعجعون عن / الحرية ليل
نهار.»
والمتتبع حضور الشمس في المجموعة المترجمة، فإنه سيلحظ ذلك الارتباط الجدلي بينها وبين السماء والأرض، وكأني بالشعراء جميعا قد اختزنت في مورثاتهم الطبيعية أساطير الخلق الأولى، وميثولوجيا الذكورة والأنوثة المرتبطة أساسا بالطبيعة متغيراتها عبر الفصول، وهذا سوسيند نانادوم من تايلاند يقول:
«تتقدم الشمس منه كل يوم / وكلما تقدمت /
كانت تبرد أكثر / وتستعذب هطولها /
المسبب لفرحه..
الشمس ليست نارا / هي ضوء بوفرة /
اعتدالات مفتوحة / ضوء بجغرافيا كوكبية /
خضراء / وتجمع نقي الأحلام / نمسك
الحياة طرية بها / إلى الأبد.."
وبعد..
إن كتاب " تغذية الشمس ".هو عبارة عن منجم ذهبي يفيض بإمكانية كتابة دراسات كثيرة عنه، وهو إلى ذلك إضافة حقيقية لمكتبتنا العربية، بما احتواه من إبداعات رائعة لجملة من الشعراء الآسيويين الذين مكثوا طويلا في بلادنا، قدمنا لمحة عامة عن علاقتهم بالمكان، وبعضا من توجهاتهم الشعرية
الجديدة، علما أن الكتاب ضم أكثر من 16 مجموعة شعرية، ويقع في 642 صفحة، وهو من منشورات المجمع الثقافي بأبوظبي.
عزت عمر (روائي يقيم في الامارات)