نحاول في هذا البحث تحليل أهم الأبعاد الدلالية لتمثيلات الآخر «العربي- المسلم» في أعمال كاتبين فرنسيين لهما مكانة متميزة في السياق الأدبي- الثقافي الفرنسي، وربما في سياق الأدب والفكر الغربي الحديث في مجمله(١). الكاتب الأول هو ألبير كامو A.Camus الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1995، وسيتركز التحليل على قصتي «الضيف» و«المرأة الزانية» الواردتين في مجموعته القصصية «المنفي والمملكة L` Exil et le royaume»(٢) أما الكاتب الثاني فهو ميشيل تورنييه M.Tournier الذي أصبح أحد أبرز الأسماء المرشحة لذات الجائزة العالمية في السنوات الأخيرة، وقد اخترنا له روايته الشهيرة «قطرة الذهب- La goutted or » ولابد أن نعرض لروايته الأسبق، والأشهر ربما، «جمعه او تخوم المحيط الهادي» التي يؤسس فيها لرؤية جديدة للآخر المختلف تعارض وتنقض رؤى فكرية وايديولوجية عريقة في مجمل الثقافة الغربية كما سنرى لاحقاً.(٣)
ولبيان اطار البحث وفرضيته المركزية نبدأ بإيضاح مسألتين تتعلقان بطبيعة هذه المقاربة وأهدافها. المسألة الأولى أن قراءة تمثيلات الآخر المختلف تنتمي في سياق الدراسات المقارنة الحديثة الى ما يعرف اليوم بـ«الصورية – Imagol;ogic» كفرع يهتم بالتصورات التي تقدمها وتبثها الكتابات الأدبية عن المجتمعات والثقافات الأخرى في لحظة اتصالية ما. (٤) من هنا تحديدا تنفتح «الصورية» بالضرورة على «فكر الاختلاف» الذي ساهم ويسهم نقاد متميزون كادوارد سعيد وت. توردوروف وعبدالكبير الخطيبي، تمثيلا لا حصرا، في بلورة اطروحاته وأدواته النظرية والاجرائية الاساسية.(٥) فالأدب المقارن تأسس منذ بداياته «الرسمية» في القرن الماضي على تقصي أشكال حضور وتأثيرات الآخر المختلف أو «الاجنبي» في نص أو أدب قومي ما(٦). ورغم انه تورط كغيره من الدراسات «الانسانية» في بعض التصورات الضيقة غير المعرفية وغير الانسانية في نفس الوقت، إلا أن المشتغلين في هذا المجال سريعا ما وعوا أزمته وعملوا على تجاوزها ليعاد طرح قضايا الاختلاف والتفاعل بين اللغات والآداب والفنون بعيداً عن أشكال التمركز الاثني والثقافي.(٧)
من هذا المنظور، وهذه هي المسألة الثانية، فان قراءة تمثيلات الآخر التي نتبناها لا تكتسب مشروعيتها المعرفية وفعاليتها التداولية إلا بقدر ما تكون «حوارية». فالهدف من تحليل الصور والأحداث وعلامات الفضاء الزمني والمكاني التي تعين الفروقات وتسمي الاختلافات بين الشخوص والنماذج ليس مجرد تبرير مواقف القبول أو الرفض لوجهات النظر والأفكار والمواقف التي يعبر عنها هذا النص أو ذاك. فهذا الهدف، الوجيه تماماً في لحظة ما من القراءة، ينبغي ألا يحجب الهدف الأعم والأهم وهو تعميق الوعي بالنص والعالم والذات والآخر من منظور الفكر النقدي الحواري الذي يبدو لنا الأكثر ملاءمة لشروط الكتابة والفكر في عالم تتداخل وتتفاعل ثقافاته بوتيره لا سابق لها اليوم كما يبينه ويلح عليه تودوروف في كتاباته الأخيرة(٨).
هكذا يتضح أن طبيعة الموضوع ومجاله النظري الخاص والعام يقتضي مثل هذه المقاربة «الفكرية»، وخصوصاَ إذا سلمنا مع عبدالله العروي وغيره بأنه لم يعد يوجد «فكر» في جهة وفي جهة أخرى وانما «فكر نقدي» واحد في العمق وإن تنوعت أشكاله وأهدافه بتنوع مجالات تطبيقه واختباره(٩)، ثم ان المتن الذي يشكل مجال البحث الراهن يتكون من نصوص أدبية ذات مضامين وابعاد فكرية فلسفية لعلها تمثل احدى السمات الأظهر والأعمق في النص كما سيتضح في الفقرات التالية من البحث.
ألبير كامو وأزمة التمثيلات
التقليدية للآخر العربي المسلم
لا نريد، ولا نستطيع، في مقام كهذا أن نخوض في أبعاد ذلك الفكر الوجودي، الماسوي والعبثي، الذي يشكل الناظم الدلالي المركزي في جل كتابات أ. كامو التي جمعت في مجلد واحد صدر منذ الستينات عن دار غاليمار كما نعلم.( ١٠) ففضلاً عن كون هذا الجانب قد بحث بتوسع وتعمق من قبل ولابد، فانه لن يعنينا هنا إلا باعتباره الاطار العام للقضية الجزئية التي اخترنا التركيز عليها في البحث الراهن. اكثر من ذلك نعتقد أن تحليل قضية العلاقات بين الذات الفرنسية- الغربية والذات العربية الاسلامية في أعمال هذا الكاتب يتطلب ارجاء وتعليق ذات البعد الفكري الفلسفي الذي قد يغطيها ويهمشها فلا تعود لافتة للانتباه.(١١) فكتابات كامو، وحياته ذاتها، لابد أن تفقد بعداً أساسياً من أبعادها الدلالية بمجرد اخراجها من سياق العلاقات الاتصالية المتوترة و«المأسوية» بين الذاتين الحضاريتين كما ألمح إليه أ.سعيد في «الاستشراق» وحلله بشكل أكثر توسعاً وعمقاً في «الثقافة الامبريالية».(١٢) فكتاباته، جلها، جزء مما يعرف اليوم بـ«السرديات الاستعمارية» التي شكلت جزءا أساسياً من الخطاب الثقافي الأوروبي الغربي منذ بدايات عصر النهضة، وان اكتسبت ابعاداً خاصة فيما يتعلق بالشرق العربي الاسلامي كما بينه أ.سعيد وغيره من النقاد والباحثين في هذا المجال.( ١٣)
سنعود لاحقا للحوار مع أبرز الأفكار والمواقف والتصورات التي ينبغي تحليلها في كتابات ألبير كامو عن الآخر العربي المسلم تحديداً. أما الآن فلابد أن نوضح أن مقاربتنا الراهنة تنطلق من «الخاص النصي» الى «العام الثقافي» أو من «الأدبي الجمالي» الى «التاريخي و الايديولوجي» لنرى الى أي مدى اعلنت كتابات كامو ذاتها ذروة الأزمة ونهايتها فيما يخص تمثيلات هذا الآخر العربي المسلم بعكس ما يذهب إليه أ.سعيد في كتابه السابق. فالناقد محق تماماً في قوله «إن اسلوبه الصافي والمعضلات الاخلاقية المبرحة التي يعريها، والمصائر الفردية المعذبة لشخصياته، التي عالجها بقدر عال من الرهافة والمفارقة اللاذعة المقننة، هذه الخصائص كلها تمتاح من تاريخ السيطرة الفرنسية على الجزائر، بل تعيد في الواقع احياءه بدقة صارمة وبغياب لافت للندامة والرأفة والتعاطف الشعوري».(١٤) لكن قراءة معمقة للتفاصيل، وكما يلح عليه أ.سعيد كجزء من منهجية القراءة الطباقية الجديدة التي يدعو إليها ويباشرها في كتابه السابق، تكشف عن بعد لم يلح عليه الناقد رغم أهميته القصوى من هذا المنظور. فغياب الندامة والرأفة والتعاطف الشعوري المشار اليه أعلاه قد يعبر عن رؤية دونية، وعدائية بمعنى ما، للآخر العربي المسلم، لكنه يعبر أيضاً وفي نفس اللحظة عن أزمة الذات الحضارية الغربية وهي تعيش توترات التحول العنيف من وضعية تاريخية الى أخرى كما شاع في كتابات غربية كثيرة ومختلفة الأشكال، ولعل توفيق الحكيم من اوائل الكتاب العرب الذين عبروا عنها في كتاباتهم الروائية(١٥). فالبير كامو كما هو معروف لنا جميعاً هو أحد الكتاب الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر وكبروا وتعلموا وعملوا فيها وهم يعتقدون انها «وطنهم» ومن هنا تتكرر في جل كتاباته مقولة «الوطن – المنفى»، تعبيرا عن الاحساس، وربما الوعي، بعدم سوية العلاقة بين الانسان الفرد والمجال الطبيعي والثقافي الذي يشعره بأجنبيته وغربته المأسوية فيه وفي العالم من حوله(١٦). من هذا المنظور لا تعود تمثيلات الآخر العربي- المسلم منفصلة عن تمثل الذات لذاتها وعالمها بما ان طرفي العملية الاتصالية المتوترة المأسوية هنا مشتركان بالضرورة في ذات الموقف الاتصالي المتأزم والقاسي عليهما معاً. ونلح من جهتنا على هذا الجانب كيما نتفهم بشكل أعمق وأنسب تلك الأزمة المأسوية العميقة التي تعبر عنها القصتان موضوع القراءة، وبصيغة تنبئ عن استحالة الحوار والتفاعل الانساني الخلاق التي يحتاجها الطرفان فالشروط الاتصالية حينما يتجاوزها الزمني والوعي تتحول هي ذاتها الى عائق لكل تواصل، ومن هنا يتولد العنف الواقعي والرمزي ويهيمن على العلاقات.
تمثيل الآخر بقصد تشويهه وتبرير النفور منه
الحكاية المركزية في قصة «الضيف» تدور حول وضعية المعلم الفرنسي «دارو» الذي يعيش وحيداً في مدرسة تقع على هضبة جافة بعيدة عن «المدن» التي يهيمن عليها الفرنسيون «المستعمرون» وعن الواحات الصحراوية التي يهيمن عليها السكان الجزائريون «الأصليون». وتزداد معاني العزلة والغربة كثافة من منظور زمن الحدث الذي يتحدد هنا بزمهرير الشتاء القارس حيث أدى تساقط الثلوج بكثافة الى انقطاع الطلاب عن المدرسة التي يقيم فيها دارو ولا يكاد يغادرها. ومع ان هذا المعلم «المثقف»، بمعنى ما، يحب حياة العزلة هذه إلا أنه يعيشها كمعاناة تختزل خصوصية علاقاته بالفضاء والناس يقول عنه الراوي: «هكذا هو هذا البلد، قاس تماماً على الحياة، حتى مع البعدعن الناس، وهم لا جدوى منهم على اية حال. لكن دارو ولد هنا ولن يستطيع العيش في أي مكان آخر إلا كمنفي».(١٧) إننا أمام الاطار العام لتلك الاشكالية الفكرية، الوجودية، الاجتماعية، التي تتكرر في كتاباته كامو وتستعاد هنا لتأخذ مظهراً خاصاً خصوصية بناء القصة وأحداثها. فهذا المعلم المنعزل سريعاً ما يتأكد من أن أي عملية اتصال بالآخر، أياً كان، لن تتحقق إلا لتزداد علامات ومعاني مأساته. لقد لاحظ شخصين يصعدان الهضبة باتجاه المدرسة وما ان اقتربا حتى رأى شرطياً فرنسياً راكباً على حصان وفي يده حبل يقود به شخصاً عربياً يبدو منهكا وهو يمشي وراء الحصان منكس الرأس. ومن خلال الحوار بين المعلم والشرطي الكورسيكي العجوز «بالدوتشي» نعرف ان هذا العربي قتل أحد اقربائه اثر نزاع على المحصول وكان لابد من تسليمه الى مركز الشرطة في واحة اخرى خشية أن يحاول أقرباؤها في قرية «العمور» انقاذه من حكم «العدالة الفرنسية».(١٨) هكذا تبدأ تتضح من مجرد لعبة تمثيل الشخوص، الفوارق بين مجتمع العلم والقوة والقانون الذي ينتمي اليه المعلم والشرطي، ومجتمع الجهل والضعف والفوضى الذي ينتمي اليه هذا «الضيف المجرم» ويمثله!. وما ان تضاف هذه الفوارق الى اخرى، كالغنى «هناك» والفقر «هنا» الصحراء الجافة من جهة وأرض الأنهار الكبرى التي تبدو على خارطة فرنسا المرسومة على لوحة احد الفصول الدراسية من جهة ثانية، حتى نكون أمام عالمين بينهما من الاختلافات اكثر مما بينهما من التشاكلات هما عالم الشمال الاوروبي «المتقدم» وعالم الجنوب العربي الافريقي «المتخلف»! طبعاً لا يحاول الكاتب التركيز على اختلاف علاقات الانتماء الوطني بين الشخوص الفرنسية وشخصية العربي بما ان الجميع ينتمون الى ذات المكان الذي الحقته فرنسا بممتلكاتها او «بفضائها الوطني» الأصلي، منذ اكثر من قرن. فليس لدى الكاتب وامثاله أي شك في مشروعية هذا الالحاق او الاستتباع الذي اكتسب مشروعيته بفضل التاريخ ولم يعد التراجع عنه ممكناً أو مبرراً كما كان يلح عليه كامو الفرنسي- الجزائري هو ذاته(١٩). انها ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية التي نجدها في السرديات الكولونيالية بمختلف أشكالها، لكن الكاتب يعمل على تلوين الموقف هنا بشكل ماهر وماكر في نفس الوقت بحيث يبدو انسانياً ومبرراً في المستوى الأدبي. هذا ما يتحقق مرة عبر صوت الراوي العالم بكل شيء والحاضر في كل زمن، ومرة اخرى عبر صوت شخصية المعلم دارو التي هي الشخصية المركزية في القصة وكلا الصوتين ينطق باسم الكاتب ويمثله كما نعلم.( ٢٠)
فالمعلم يعتبر ان هذا العربي الاسير «ضيف» عنده، ورغم انه ارتكب جريمة حقيرة ومقززة بالنسبة لمثقف مرهف مثله إلا انه يرفض فكرة تسليمه لهذا السبب ولأنه صاحب مبدأ وموقف يجعل من مجرد التفكير في المهمة القذرة هذه «اهانة لا تطاق» كما يقول عنه الراوي. اما الشرطي فيكتفي بالتنبيه الى ان الأمر يتعلق «بأوامر رسمية» نفذ منها ما يخصه «أداء للواجب» وعلى المعلم ان يتحمل تبعة ما تبقى من المهمة، واعداً اياه بأنه لن يشي به لدى السلطات ذلك حفاظاً على مبدأ «الصداقة» التي تربطه بهذا المعلم النبيل(٢١). أما شخصية العربي فتتمثل فيها كل السلبيات، خصوصاً إذ تعاين في مرايا هذه النماذج الفرنسية التي تبدي كل الحرص على القيم والمبادئ الانسانية، حتى وان انطوى موقفها على تضحية ما بمصالحها. العبارة الوحيدة التي تتجه فيها لعبة التمثيل الى الدلالة الايجابية فيما يخص شخصية العربي، الضيف القاتل هي تلك التي ينقل فيها الراوي صورة مختزلة لهذه الشخصية: «شفتان غليظتان تميلان الى السواد، انف مستقيم، عينان غائرتان ثاقبتان ووجه تبدو عليه ملامح القلق والتمرد التي صعقت دارو بمجرد ان التفت اليه العربي وحدق فيه مباشرة».(٢٢) لكن هذه السمات الايجابية والجذابة بمعنى ما لا تعفي هذه الشخصية من «التوحش»، خصوصا وان جريمة القتل تتجه الى «القريب» ولسبب تافه كما تصرح به حكاية هذا العربي ولذا يصفه الشرطي بأنه «حمار وحشي».(٢٣)
وتتصل لعبة التمثيلات المتحيزة في مقاطع الرواية لانها محكومة بذات الاستراتيجية وموجهة نحو الغاية ذاتها: الاعلاء من شأن الذات والحط من شأن الآخر. فالمعلم الواعي بذاته والمتمرد على سلطة مؤسساته يختار موقفا يعفيه من تحمل مسؤولية لا اخلاقية، وليست من اختصاصه كما يقول وفي نفس الوقت قد يجنبه مجابهة سلطة رسمية لا يريد مجابهتها في سياق علاقات توتر وعنف كهذه. ففي الليل يترك لضيفه الثقيل فرصة الهرب إذ لا يبالي حينما سمعه يفتح الباب ويخرج رغم انه كان مسلحاً ويمكن ان «يقسمه نصفين» فيما لو اعتدى عليه كما يقول الراوي على لسانه(٢٤)!. وحينما يدرك صباح اليوم الثاني، ان ضيفه لم يستغل تلك الفرصة يزوده بطعام يكفي ليومين وبمبلغ جيد من المال ويرافقه الى أول الطريق ليتركه بعد ان طلب منه التوجه بمفرده الى مركز الشرطة! هنا تنتهي حكاية هذا «الضيف المجرم» وهو في أول طريق الاختيار بين حريته وسجنه، ولابد أن يكون قراره في موقف كهذا منسجماً مع سلوكياته السابقة. أما آثار جريمته فستتابعه في كل الأحوال. المشهد الاخير من القصة يعيدنا الى اشكالية وضع وموقف المعلم دارو الذي يمثل الشخصية المركزية في الحكاية كلها. فحينما عاد الى غرفة السكن والدراسة فوجئ بعبارة مكتوبة بالفرنسية تحت خارطة فرنسا وانهارها وتتضمن ادانته لتسليمه «ضيفه» وتهدده بالانتقام او الثأر».(٢٥)! فهذه النهاية لا شك انها تنسجم مع وجهة النظر المعهودة التي طالما عبرت عنها كتابات كامو وهي تساؤل وجود ومصير الانسان من هذا المنظور المأسوي والعبثي تحديداً. لكن الذي لاشك فيه أيضا ان هذه النهاية ذاتها تنطوي على ذات البعد الدلالي الموجه بمقصديه مسبقة نحو تشويه الآخر والحط من قدره ذاتاً فردية وثقافة جماعية فالفعل الحسن لهذا المعلم «الطيب النبيل» يقابل بالتهديد والوعيد من طرف الآخر العربي الذي لابد ان تدفعه العصبية القرابية الى «الثأر» من شخص بريء مثله. وهكذا يمكن للجريمة ان تتصل وكأنها جزء من طبيعة وثقافة هذا الآخر الشاذ الذي نراه مرة ولا تكاد نسمعه يتكلم ابداً، ولا نراه ولا نسمعه مرة أخرى لانه محتال ماكر يحضر عبر اثره تجنبا لمجابهة لا يجرؤ عليها! ورغم ما في لعبة الكتابة من مهارة إلا انها هي ذاتها تترك آثارها التي تخلخل في العمق ما تريد التعبير عنه وتبريره في الظاهر. فتلك العبارة التهديدية يمكن ان تبدو مفتعلة فيتلاشى مدلولها ضمن منطق القص ذاته، وذلك ببساطة لأن أولئك الأقرباء الذي نجحوا في الوصول الى غرفة المعلم الفرنسي لكتابة هذا التهديد لن تعجزهم الوسيلة والحيلة للالتقاء بقريبهم الذي ترك حرا مكرما في الطريق القريب من المدرسة ذاتها!، بل لا شيء يمنع، ضمن هذا المنطق ذاته، من ان يعودوا الى المعلم الطيب النبيل يشكرونه على حسن ضيافته وكرمه ويعتذرون عن سوء ظنهم فيه.( ٢٦)
إننا هنا أمام مفارقة تنطوي عليها لعبة التمثيلات اذ تكون موجهة بمواقف وأحكام وتصورات مسبقة كلما حاول الكاتب اخفاءها «بعنف ما» كلما عملت الكتابة على اظهارها، وبعنف أشد ربما!. قد تبدو هذه الاستنتاجات مجرد تأويلات «متحيزة» لكنها لا تلبث ان تتعزز اذ ننتقل من تحليل المتن الى تحليل علاقاته بهوامشه النصية الملحقة بمجلد «الاعمال الكاملة».
يشير الناقد ركيليو في هامش توثيقي عن هذه القصة بالتحديد الى وقائع ووثائق تبرر ما نذهب اليه هنا. فشخصية المعلم «دارو» تحيل الى بعض المعلمين الذين اعجب بهم كامو اثناء دراسته وأهدى الى بعضهم بعض اهم اعماله، وكان يتمنى ان يكون معلماً مثلهم خصوصاً وانه عانى كثيراً مرارة الفقر والحرمان قبل أن يصبح كاتباً مرموقاً، أما شخصية العربي فلها علاقة أكيدة، كما وضحه الناقد بناء على كتابات كامو ذاته، بشخصية أحد «أصدقائه العرب، واسمه «العزيز قيصوص» الذي كان مناضلاً نقابياً نشطاً اعتقلته السلطات الاستعمارية وعومل بوحشية استنكرتها وادانتها بعض المجلات الفرنسية والمؤسسات الحزبية والانسانية في حينها.( ٢٧)
فالشخوص إّذن ليست هنا «كائنات من ورق» من اختلاق الكاتب وانما هي نماذج لشخوص واقعية خضعت للعبة التمثيل والتخييل لتظهر في النص على ما رأينا. هنا تحديداً تتكشف الرؤى والمواقف المتحيزة للكاتب. فالصديق والمناضل القديم يتحول الى ضيف ثقيل، بل والى «مجرم» يمثل ذلك الآخر الذي قد يكون جذاباً في مظهره لكنه متخلف ووحشي الى درجة تثير القلق والاحتقار!. وحكاية عدم هروبه وحيرته وهو يرى المعلم «الفرنسي المتحضر» يمنحه الزاد والنفوذ وفرصة الحرية تعزز هذه الرؤية التي تقدم الآخر وكأنه اقرب الى عالم الطبيعة والحيوان منه الى عالم الوعي والانسان. أي أن الكاتب حوله الى موضوع لاسقاطاته الايديولوجية والنفسية التي تحاول الكتابة رفعها الى مقام الفكر الفلسفي دون جدوى.( ٢٨)
فتلك المفارقة التي تختم المشهد القصصي لا معنى لها او فيها إلا باعتبارها زلة قلم اقتحمت المشهد السردي لتعبر عن ذلك الوعي المأسوي الممزق الذي هيمن على جيل ما بين الحربين الذي عايش لحظة الانهيار العنيف لمنظومات القيم والافكار والتصورات التي كانت تحكم العلاقات بين المجتمعات الاوروبية من جهة وبينها وبين المستعمرات من جهة اخرى، واذا كانت أعمال كامو من أجمل وأعمق ما عبر عن الشق الاول من الازمة الحضارية العامة في السياق الأدبي الفرنسي خاصة فانها تجاهلت، كليا تقريبا، الشق الثاني منها مما يبرر لادوارد سعيد، وغيره، اعتبارها محاولة يائسة لتكريس الوضعية الاستعمارية فيما هي تعيش ذروتها ونهايتها كما قلنا من قبل. ولكي نتفهم بصورة أعمق وأكثر حوارية، هذا الموقف «الأخلاقي في وضعية غير اخلاقية» كما يقول أ. سعيد(٢٩)، لابد ان نضع أنفسنا قريبا من منظور الذات الكاتبة وهي تعبر عن تلك الازمة العميقة من وجهة نظر مختلفة تنقلب فيها لعبة التمثيل ضد الذات الجماعية التي ينتمي اليها الكاتب وكتابته.
تمثيل الآخر الجذاب
بهدف الحد من جاذبيته الخطرة
نعتقد ان القراءة النقدية الفاحصة لقصة «المرأة الزانية تكشف عن أبعاد أخرى لهذه الأزمة اذ تتجلى من منظور امرأة تعاني الفقد والغربة جسداً وروحاً وتبحث، دون جدوى، عن خلاص ما. فجانين زوجة تاجر أقمشة من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر يقترح عليها السفر معه لبيع بضاعته في الواحات والقرى العربية. خلال هذه الرحلة تكتشف سمات التشابه والاختلاف بين «عرب المدن» و«عرب القرى والبوادي» فالجميع معتزون بذاتهم و«يعتبرون انفسهم آلهة لكنهم يبيعون ويشترون لأن الحياة قاسية على الجميع» وإذا كان هذا الاعتزاز بالذات قاسماً مشتركاً بين هؤلاء العرب فانه يصل ذروته لدى الأخيرين. فجانين تجد لدى عرب الواحة، حتى وهم متدثرون بملابسهم التقليدية الرثة، مظهر اعتزاز بالذات لا يوجد لدى عرب المدينة. ويتضح السبب لهذه الفروق بين «العربين» في فقرة لاحقة تأخذ سمة العبارة الشعرية المترعة بآثار التصورات الرومانسية التي طالما مجدت الطبيعة والبشر الذين لم تستلبهم المدن الحديثة. ها هو الراوي يقول على لسانها «منذ القدم، في هذه الأرض القاحلة حتى العظم، في هذا البلد الفسيح بلا حدود، يعيش بعض البشر الذين يترحلون باستمرار، انهم لا يمتلكون شيئا بذكر لكنهم لا يخدمون أحداً، سادة فقراء واحرار في مملكة غريبة.. هذه هي الفكرة التي ملأت جانين دونما سبب واضح».(٣٠)
وتتحدد الدلالات الايجابية لهذه العبارة ومثيلاتها عندما نقرأ لعبة التمثيلات التي تضع «الفرنسيين» في جهة و«العرب» في جهة أخرى مقابلة ومعارضة فجانين ذاتها بدأت تعي انها كانت تمتلك أحلاماً أجمل وأكبر عندما كانت طالبة، لكن حياتها الواقعية بدأت تخيب أحلامها وتوقعاتها بعد أن تزوجت من هذا التاجر الشاب الذي لم تكن تحبه وان كانت معجبة بجرأته «ككل المستوطنين الفرنسيين» في الجزائر.( ٣١) أما الزوج ذاته فيبدو بارد العواطف لا هم له سوى تحقيق الربح حتى وان اضطر للتنقل المرهق من قرية الى اخرى في عز البرد او الى التضحية بجزء من اخلاقيات الاعتزاز بالذات لاغراء زبائنه الذين يضعون قيمة الاعتزاز بالذات فوق كل قيمة أخرى كما رأينا الى جانب هذين النموذجين هناك نموذج ثالث يتمثل في شخصية ذلك الجندي الفرنسي الذي يبدي اعجابه بجانين لكن تصرفه هذا لا يلبث ان يكشف عن نزق صبياني تجاه امرأة لم تفقد بعد جاذبيتها وبالتالي سريعاً ما يختفي من المشهد بعد هذا الحضور السلبي العابر الذي يكرس مشاعر الخيبة والحرمان لدى هذه المرأة الشقية بمعنى ما!.
مقابل هذه النماذج «الفردية» تتخذ تمثيلات الآخر العربي بعداً جماعياً جذاباً و«ايجابياً) وتزداد جاذبية وايجابية من خلال توحد هذه الذات الجماعية بالفضاء الطبيعي حولها. من هنا تحديداً فان صمت هذا الآخر الذي لا نسمع صوته طوال القصة هو جزء من هذا المشهد الطبيعي الصامت المشبع بالرؤى الرومانسية التي غمرت جانين، وبالتالي فهو صمت قد يعزز البعد الايجابي للتمثيلات، لا العكس بما انه يدل على التوحد والانسجام بين هذه الطبيعة وسكانها الاصليين.( ٣٢)
فالرحلة الصدفية تتحول الى رحلة اكتشاف للذات لان جانين تتجاوز خيبتها برؤية «مملكة الحجارة التي لا أثر للحياة فيها» فتشعر ان «هناك في الأفق البعيد، حيث تنتصب خيام البدو في الصحراء الرملية «دعوة غامضة تنتظرها» وكان لابد ان تلبي دعوة هي في أمس الحاجة اليها. وكما في جل كتابات كامو الجزائرية يلعب «الضوء» دوراً أساسياً في ايقاظ شهوة الفعل الاتصالي، التعبيري.(٣٣) يقول الراوي على لسانها: «في فترة ما بعد الظهر كان الضوء يشع كالكريستال لينساب بهدوء حتى ليبدو سائلا، وفي نفس اللحظة كانت في قلب امرأة جاءت بها الصدف وحدها الى هنا عقدة ما، عقدة شكلها الزمن العادة والسأم، هذه العقد. ذاتها كانت قد بدأت تنحل رويداً رويدا».(٣٤)
ويتحول الفعل اعلاه الى «فعل حب» في مقطع لاحق لأن ما كانت تفتقد إليه هذه المرأة الجذابة هو الحب تحديداً ومن الطبيعي ألا تفوت هذه الفرصة «هذه إذن أرضها الموعودة التي لن تمتلكها إلا في لحظة عابرة كهذه اللحظة التي تفتح فيها عيونها على السماء وعلى امواج الضوء الهادئة إذ تتوقف فجأة الاصوات القادمة من المدينة العربية فتشعر أن لا أحد يمكن ان يشيخ أو يموت في لحظة كهذه لأن نهر الزمن يبدو وقد توقف عن الجريان».(٣٥) أما كيفية تحقق فعل الحب هنا فلا أقل دلالة وشفافية إذ انه يتحقق ويُعلن بصيغة تمتزج فيها الشعرية الرومانسية بالفكر الانساني ذي البعد الصوفي العميق. فجانين تنام الى جانب زوجها الذي تركها للمعاناة والسهر وحيدة و«مريضة». وعندما تعجز عن النوم تتذكر تلك الدعوة الغامضة فتتسلل بهدوء الى الخارج حيث تركض مضطربة نحو القلعة لتستلقي على أرضيتها مانحة جسدها للفضاء من حولها، من تحتها وفوقها، وكان فعل الحب يتم مع كل عناصره الأرضية والسماوية بما ان الجسد ذاته قد تحرر من قيوده وأصبح حراً وجزءاً من الطبيعة «أمامها كانت النجوم تتساقط، واحدة واحدة، ثم تنطفئ بين حجارة الصحراء، كانت تتنفس بعمق نسيت البرد وثقل الكائنات والحياة المجنونة او الجامدة، نسيت قلق العيش والموت. بعد كثير من السنوات التي كانت طوالها هاربة من الموت، راكضة بجنون ودونما هدف، ها هي تتوقف أخيراً. في نفس الوقت بدا لها انها تستعيد الآن جذورها، وها هو نسخ الحياة يصعد من جديد في جسدها الذي لم يعد يرجف، وفيما كانت ملتصقة ببطنها على الحاجر المتجه الى السماء المترعة بالحركة. كان عليها ان تنتظر قلبها المضطرب كيما يهدا بدوره وان يغمرها الصمت. عندئذ، وبلذة لا تحتمل، راح ماء الليل يملأ جانين غامراً برودتها، مخترقا، رويداً رويدا، مركز كينونتها المعتم ليفيض دفاقاً دافئاً متصلا الى فمها المترع بالتأوهات؛ وفي اللحظة التالية كان الفضاء كله يتمدد فوقها وهي منطرحة على الأرض الباردة».(٣٦)
واذا كان هذا المشهد ينفتح على دلالات رمزية غنية كما أشرنا اليه، واشار اليه أ.سعيد من قبل، فانه ما ان يربط بعنوان المجموعة حتى يبدو ضحية ذات المفارقة الاسقاطية التي عايناها في نهاية القصة السابقة فالعنوان لا يجد له تبريراً مقنعاً في المتن كما رأينا وبالتالي فانه يقبل التأويل باعتباره أثراً للتدخل القصدي المسبق من قبل كاتب تعمد تحويل «فعل الحب» الى «فعل زنا» مثلما حول حكاية المناضل العربي الى حكاية اجرام. أما الغاية، الواعية او غير الواعية، لهذا التحويل فهي تبخيس «الفضاء الآخر» الذي قد يبدو جذاباً وايجابياً لكن التواصل العميق معه والتعلق الذهني او العاطفي به لا يمكن إلا أن يكون شاذاً وغير محمود أخلاقياً أو فكرياً منذ البدء!. إن الكاتب يعبر هنا عن رؤية مأساوية يمكن جذرها في تمزق الوعي الذاتي لا في الفضاء الآخر بالضرورة، ذلك أن المتن القصصي يبرر علاقة الحب ويحث اليها فيما يدينها العنوان إذ «يسميها علاقة زنا».(٣٧) بصيغة أخرى الذي لا يكاد يصدق زوجته البائسة وهي تصيح باكية في نهاية القصة «انه لا شيء، لا شيء» عاجزة عن دفع تهمة العلاقة المحرمة والمجرمة في نفس الوقت التي وصلتها عبر نظرات الزوج الحانق على تصرفها المشبوه!. لقد اعتدنا في السرديات الكولونيالية، وبييرلوتي خير من يمثلها في السياق الفرنسي، على تجنيس العلاقات بين المستعمر الغربي والآخرين «المستعمرين» في الاتجاه المعاكس لما يحدث هنا. ولعل هذا العكس للمواقع والأدوار ينبئ بذاته عن امكانية تحول العلاقات لصالح الطرف الثاني، خصوصاً وان تمثيلاته تجعله يبدو الأكثر اعتزازا بالذات وجاذبيته حتى مع صمته المهيب وفقره النبيل! فرغم حرص الكاتب على تحريم «وتجريم» التواصل العاطفي الفعال بين جانين والآخر العربي إلا أنه لم يتمكن من اخفاء ابعاد الازمة العاطفية الوجودية التي تعاني منها هذه المرأة وتدفعها الى «السقوط» في فعل الحب الذي تبرره وتمجده الكتابة في مستوى وتدينه في مستوى آخر كما رأينا!. أما اذا ما قرأنا هذا الموقف المزدوج في ضوء ذلك الوعي المأساوي الممزق الذي يهيمن على جل كتابات أ. كامو فإننا سنجد ما يكفي من المبررات للقول بأن كتابة كامو تمثل ارهاصاً قويا بتحول «أزمة الاتصال» بين المجتمعين و«العالمين» الى «واقعة انفصال» سيجد تعبيره ومشروعيته في تحقق استقلال الجزائر بعد سنوات قليلة من وفاة الكاتب من هذا المنظور الذي لم يلح عليه احد من نقاد كامو ومعهم أ. سعيد ذاته، نكتشف بعداً دلالياً جديداً لتلك الغربة القاتلة التي تميز شخوصه السردية المتمردة على شروطها واليائسة من خلاصها في نفس الوقت، فلهذه الغربة جذر بعيد في الشرط الوجودي العام والعميق للانسان السيزيفي، لكن جذرها التاريخي الاقرب، والأقوى ربما، يتجلى في الوضعية الاستعمارية وهي تعيش نهايتها ومعها منطوق كامل من القيم والفكر، والاجتماعية والاخلاقية والجمالية أيضا. فالكاتب وشخوصه ينتمون الى ذلك الجيل الذي سيكتشف انه ولد وعاش في «وطن- منفى» واقعياً ورمزيا، وذلك ببساطة لأن السكان المواطنين الاصليين لم يتقبلوا، منذ البداية، مشروعية المغامرة الاستعمارية التي فرضت على الطرفين علاقة عنف غير سوية لم يضمن استمرارها على مدى اكثر من قرن من الزمن سوى اختلال موازين القوة بين المعتدي والضحية. لقد كان كامو شخصاً وكاتباً ذا توجه فكري انسانوي النزعة هو الذي دفعه للانضمام الى الحزب الشيوعي فترة من الزمن ثم الاستمرار في النضال الاجتماعي والثقافي ضد الفقر والظلم. ثم انه من المعروف انه عانى في حياته المعيشية بسبب مواقفه وكتاباته المعارضة للسلطات الاستعمارية التي كان يشبه بعض ممارساتها بممارسات السلطة النازية الغاشمة التي عانى منها الناس في بلده الاصلي.( ٣٨) لكن هذا النزوع الى التمرد لم يتحول عن الكاتب الى موقف جذري ضد الظاهرة الاستعمارية وذلك ببساطة لأنه كان جزءاً منها ذاتاً وكتابة. من هنا لم يكن من السهل على مثله تفهم مشروعية استقلال وانفصال الجزائر عن فرنسا فيما هو ينتمي إليها ويعتبرها وطنه الأكثر ألفة وحميمية بالرغم من جفاف الفضاء وبؤس الحياة وتوتر العلاقات بين ناس ينتمون «لمجتمعين وثقافتين في حالة صراع عنيف».(٣٩)
سنعود لاحقاً الى هذه القضية «الاشكالية» بمعنى ما، ولذا نكتفي في ختام هذه القراءة بالتأكيد مجددا على ان القراءة الحوارية لنماذج من قصصه «الجزائرية» تقتضي منا اليوم تفهم- لا قبول- هذا الموقف فيما وراء أي ادانة. فلعل هذا التفهم هو ذاته ما يسمح لنا باعتبار تمثيلاته للآخر العربي- المسلم اعلاناً أدبياً لاستحالة الاتصال الحواري الخلاق بين ذاتين وثقافتين وهويتين بينهما من الاختلافات ما يحتم انفصالهما، خصوصاً في سياق شروط العنف التي حايثت علاقاتهما غير السوية منذ البداية!
نحو التمثيلات الحوارية للآخر المختلف عموماً
بدأ فكر الاختلاف الحواري يتحول الى موضوع للكتابة الروائية الحديثة في السياق الفرنسي مع الرواية الشهيرة لاندريه جيد بعنوان «الغواية الغربية».(٤٠) وإذا كان هذا الفكر يضرب بجذوره في فكر عصور الأنوار، وخاصة في فكر «مونتسكيو» كما يقول تودوروف، فانه لم يؤثر كثيراً في كتابات كامو مع انه ممن قرأ هذه الرواية واعجب بها وهو في بدايات مشروعه الابداعي.( ٤١) لكن هذا الفكر يتجلى بشكل واضح في رواية «قطرة الذهب» التي تستعيد اشكالية العلاقات الاتصالية بين ذات الطرفين اللذين كتب عنهما كامو جل قصصه. ورغم ان زمن الحدث هنا يتحدد بأواخر الستينيات التي راجت في بدايتها اعمال كامو وتم تكريسها جزءاً من الانجاز الأدبي «العالمي» بمعنى ما، إلا أن زمن الكتابة يحيل الى فترة لاحقة تحولت فيها لعبة التمثيل للذات والآخر تحولاً عميقاً وسريعاً في نفس اللحظة. فلقد اصبح التواصل محكوماً بتقنيات الاتصال الحديثة ذاتها، لأن العصر اصبح عصر «حضارة الصورة» التي تفرض سلطتها الاغوائية على الجميع إذ تستبدل بالعالم الواقعي عالماً متخيلاً كثيراً ما يبدو أكثر واقعية وحضوراً وأثراً من الواقع ذاته!(42) فتقنيات انتاج وبث الصور هي التي ستلعب دور العامل المركزي في كشف الاختلافات وتعيين الفروقات بين الثقافات. وستلعب هذا الدور الحاسم لا من أجل تعميق الوعي بالذات والآخر والعالم دائماً بل من أجل دفع الجميع الى الانخراط في لعبة اغوائية استهلاكية مسطحة تورط مختلف الاطراف في مطاردة أحلام وأوهام لن تتحقق بما انها نتاج لعبة ايهامية باهرة وفتانة أولا وبعد كل شيء من هنا تمثل «حضارة الصورة» تحدياً خطيراً على الذات والآخر معاً، خصوصاً وان المسافات بينهما تتقلص والحدود التقليدية تنهار باستمرار بفعل هذه الحضارة التقنية ذاتها.
هذا هو الموضوع الاساسي لرواية ميشيل تورنييه التي تحكي مغامرة الشاب الراعي البدوي ادريس الذي تغويه صورته فيذهب في رحلة تيهانية الى باريس واجه خلالها مختلف أشكال المعاناة قبل ان يصل لحظة الخلاص المتمثلة في امكانية مقاومة سحر «الصور» بسحر «الكلمات».
ولكي نحلل هذه الحكاية وما تنطوي عليه من تمثيلات بشكل مختصر ومتماسك لابد ان نقتصر على المقاطع المفصلية لهذه الحكاية الطويلة والمعقدة التي تطرح فيها اشكالات وضعية «ما بعد الحداثة» في اطار حكاية اسطورية المبنى كما سنلاحظ.
صدمة الاكتشاف الأول للذات عبر الآخر
تبدأ حكاية ادريس بحدث صدفي يبدو عادياً لكنه لا يلبث ان يغير مسار حياة انسان يجسد كل الاختلافات بين المجتمعات الرعوية التقليدية ومجتمعات التقنية ما بعد الحديثة.
فبينما كان الراعي الشاب مع غنمه في قلب الصحراء الجزائرية تقترب منه سيارة لاندروفر تنزل منها امرأة شقراء لتلتقط له صورة هي «الأولى» في حياته.( ٤٣) وعندما يطلب منها «صورته» هذه تقول له بلغة مرحة وعابثة انها لا يمكن أن تظهر الآن وتعده بأن ترسلها إليها فور عودتها إلى «باريس». وحينما يقول الزوج بنفس اللغة المداعبة أن عليها ألا تغتر بجمالها فتتوهم الكثير لأن الشاب الذي أمامها منجذب الى السيارة والكاميرا أكثر من انجذابه إليها ترد عليه بلغة جادة: «لست واهمة، أعتقد أن لا فرق عنده بيننا، فالسيارة ونحن نمثل نفس العالم الغريب».(٤٤) من هنا يدرك القارئ أن تلك الصورة الفتانة «الغائبة» أصبحت جزءاً من المشهد الفتان «الحاضر» حضور هذه المرأة الشقراء الفتانة وتلك الآلات الأكثر فتنة وغرابة.
هكذا تتحول «الصورة» الى حافز المغامرة لأنها أيقظت في ذهن وجسد هذا الشاب الراعي الكثير من الأحلام والتصورات، خصوصاً وأنه سبق وأن فتن بصورة خاله الذي رحل الى ايطاليا وعمل فيها فترة من الزمن وأصبح منتمياً بمعنى ما إلى ذلك العالم البعيد الغامض والجذاب. لاحقاً يقول ادريس لأحد رفاق الرحلة المهاجرين إلى فرنسا أنه لا يرحل «بحثاً عن صورته وإنما للالتقاء بها، لأنها تجذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، خصوصاً وأنه ينتمي الى سلالة تترحل باستمرار».(45)
في هذه المرحلة من الرحلة يظهر نمط آخر من الصور التي تفتن ادريس وجماعة المهاجرين البسطاء مثله. فلقد بدأ البث التلفازي يصل الى السفينة وهي على مقربة من فرنسا ولذا «تدافع حشد من المهاجرين المتحفزين بوجوههم الشاحبة وعيونهم الغائرة ينتظرون الرسالة الأولى من أرض الميعاد» كما يقول الراوي الكلي الحضور هنا أيضاً.( ٤٦) ماذا يرون؟ … مزيجا من الصور المتعاقبة التي تحمل رسائل غامضة لا يتمكن ادريس ورفاقه من تفكيك رموزها ولذا يتولى الراوي ايضاحها للقارئ. فالمشهد الأول دعاية لاحدى شركات التأمين على الحياة ينتهي بقبلة سعيدة بين طفلين جميلين، والثاني دعاية لمعجون اسنان لا تخلو من بعد اغوائي «جنسي» كما في معظم الدعايات، أما المشهد الثالث فينقل صورة حية لمشهد المواجهة العنيفة بين الطلاب ورجال الشرطة في الحي اللاتيني خلال تمرد ٨٦ الشهير. طبعاً لا يفقه ادريس ورفاقه كنه هذه الصور لكنها تؤثر فيهم أيما تأثير بفضل غموضها ذاته اذ كيف لا يحلمون ببعض هذه المشاهد ولا يصابون بالرعب من مشاهد أخرى؟!
في لحظة لاحقة تبدأ عملية الوعي بالاختلافات تأخذ أولى تشكلاتها في ذهن ادريس لأن الصور التالية تظهر على ملصق دعاية كبير يقدم الفضاء الصحراوي، الذي جاء منه للتو على انه جنة السائح الفرنسي الموعودة كما تؤكد عليه عبارة تقول ان بامكانه الذهاب مع سيارته الى تلك الواحة حيث تنتظره الرمال والقوافل والنخيل والغزلان.(47) هنا يشعر ادريس ان الصور كلها قد تكون كاذبة خداعة فتبدأ المعاناة، خصوصاً بعد أن استيقظ من نوم ليلته الاولى في فندق بائس «ليجد نفسه غريباً في غرفة غريبة، في مدينة غريبة في بلد غريب» فتغلب عليه نوبة من البكاء المؤلم.(48)
معاناة التحول
في أول جولة لهذا الشاب البريء المغترب في «مرسيليا» تزداد معاناته حدة وألماً إذ تغرر به امرأة شقراء من بائعات الهوى لتستحوذ على ذلك «الحرز الجميل» الذي وضعته أمه حول رقبته وهو عبارة عن قطعة ذهبية أو «قطرة ذهب» تحيل الى تقليد عتيق كما سبق وان عرفه ادريس من مهاجر آخر خبير بصياغة هذا «المعدن النفيس والمشؤوم» في نفس الوقت كما يقول.( ٤٩) هكذا سيدرك ادريس، ولكن بعد فوات الأوان،انه في «مجتمع الجنس الاشقر الذي يسرق الصورة وقطرة الذهب».(٥٠) وهذه العبارة التي ترد على لسان الراوي تكشف عن طريق الايحاءات و«الصور البلاغية» بعدين دلاليين جديرين بمعاناة بطل المغامرة و«ضحيتها». البعد الأول يتمثل في المماهاة التي يقيمها ادريس بين الصور والواقع لأنه لا يمتلك لا الوعي ولا التجربة التي تؤهله للتمييز بينهما وكأنه صورة جديدة لذلك «البدائي الطيب» الذي كثيراً ما عبرت عنه الكتابات الرومانسية.(51) أما البعد الثاني فيتمثل في الحاح الكتابة على التلازم بين ألم المعاناة ولذة اكتشاف الذات، جسداً ووعياً وروحاً، كان الكاتب يعي جيداً ضرورة التضحية ببعض عناصر الهوية التقليدية «العتيقة»- الحرز هنا- لاكتساب عناصر جديدة تغنيها وتطورها، خصوصاً إذ يضطر الانسان الفرد الى التواصل والتفاعل مع الآخر المختلف كما هي حال ادريس هنا.
هذا البعد الدلالي المزدوج أو «المضّعف» هو ما نجده بصيغة أخرى في كلام أحد اقربائه ممن خبر الحياة في باريس فأصبح لديه وعي جديد «متقدم»: «نعم الحرية طيبة، ولكن انتبه، الحرية رهيبة أيضا هنا لم يعد لك عائلة او قرية أو أم طيبة انك وحيد في حشد من البشر الذين يهرولون ولا يرون. يمكن ان تسقط على الرصيف ويستمر الحشد يسير دون أن يساعدك احد لتنهض. هذه هي الحرية. انه أمر قاس.. قاس تماما». (٥٢) ما الذي يمكن أن يفعله ادريس في وضعية كهذه؟ لا شيء محدد تقريباً. فهو غير مؤهل لأداء أي عمل مهني او وظيفي، لذا قد يكون جسده أو صورة هذا الجسد هي مؤهله الوحيد كما يوحي به كلام قريبه عاشور اذ يقول له: «أنت شاب وسيم وفي مقتبل العمر. لذا فلا تتردد حين يبتسم لك أحد.. لا تتصرف كبنت خجولة».(53) ثم يضيف محددا أكثر فأكثر وجهة نظره التي لا يفقه ادريس منها الكثير: «في الحقيقة كما ترى.. لقد كانت امرأتك الشقراء وآلة التصوير «الكوداك» مجرد فخ، فخ كبير، وقد سقطت فيه على رأسك يا أخي.. كم أنت بائس! وهل ستخرج ذات يوم من هذا الفخ».(٥٤)؟! ولكي يعيد الكاتب للصورة دورها المركزي في الحكاية يصادف ادريس مخرجاً سينمائيا لا يلبث ان يدخله في المشهد فيما هو يكنس الشارع ومن ثم يعطيه مئتي فرنك «ثمناً لصورته» الفلمية هذه وحينما يقول له قريبه لاحقاً انه أصبح «ممثلا» و«نجما» سينمائيا دون ان يدري لا يدرك ادريس شيئاً كبيراً من كلامه وان ظل يحتفظ ببطاقة المخرج التي يوجد بها اسمه وعنوانه ورقم هاتفه لأنها قد تنفعه مستقبلاً كما يلح عليه قريبه. الاهم من هذا انه سيبدأ يعي بصورة افضل اختلافه وان كان شكل الوعي لا يزال أولياً إذ يذكرنا بوعي شخصية الباشا «أحمد المنيكلي» في «حديث عيسى بن هشام» حين لم ير من باريس سوى الاضواء ولم يسمع فيها غير الضوضاء.(٥٥) ها هو يعبر بذاته عن وعيه الاولي هذا (الفرنسيون يحبون تفسير كل شيء، لكني لا أفقه شيئاً من تفسيراتهم. ذات يوم مرت بديارنا فرنسية شقراء صورتني، قالت لي: «سأرسل اليك صورتك» لم يصلني شيء من بعد. والآن ها أنذا قد جئت للعمل في باريس. أما الصور فأراها في كل مكان. صور لأفريقيا أيضا للصحراء. للواحات. لا أعرف شيئاً من هذا كله يقال لي: «هذا بلدك وهذا أنت». أنا؟! هذا؟! لا أعرف شيئاً لا افقه شيئاً من هذا كله».(٥٦) في لقاء آخر مع ذات المخرج يزداد الالتباس والقلق. فالمخرج مفتون به ولذا يسميه «أمير الرمل الصغير» وهو لا يدري ما سبب الافتتان وما الغاية وراءه وأن أحسن بأن هذا الشخص الثري «منحرف» بمعنى ما! ومع احساسه المقلق هذا يشارك معه في فيلم دعائي لمرطب يلعب على الخيال الجماعي الرومانسي ذاته لأن الشراب الجديد هو المنقذ الوحيد من عطش الصحراء الفتانة والقاتلة معاً.
وحينما ييأس المخرج من لعبة الاغواء الاخرى يرسله في آخر الليل هو وجمل الدعاية، الذي اشتراه من السيرك لهذا الغرض فقط، فيتيه الاثنان بقية الليل ولا ينجوان إلا بالصدفة التي قادتهما الى «حديقة النباتات» حيث وجد ادريس هناك اطفالاً يستقبلونه وجمله بمرح ليترك الجمل لاحقاً فيها ويعود الى منزله البائس الذي يتكدس فيه العمال المهاجرون أمثاله.( ٥٧)
تحول المعاناة
تصل المعاناة ذروتها في مقطع لاحق تلعب فيه صورة جديدة للجسد نفس الدور المركزي انها «الصورة المجسمة» التي تطابق الأصل وقد تنفيه وتحل محله في المكان والزمان.. ففيما هو يتنقل من واجهة- فترينه- الى أخرى ليتفرج مأخوذاً على ما بداخلها من أشياء قريبة وبعيدة في نفس الوقت يصادف أحد المختصين في انتاج الموديلات البشرية البلاستيكية التي تنتشر في محلات الملابس. هكذا يعرض عليه الذهاب معه الى المصنع ليأخذ عنه نماذج مطابقة يمكن توزيعها على المحلات، خاصة تلك التي يرتادها ابناء الشمال الافريقي أمثاله. طبعاً يقبل الشاب المعدم هذا العرض وهو قلق من عواقب هذه المغامرة: «لقد تخيل نفسه وقد تضاعف عشر مرات، مائة مرة، بل والى اللانهاية، عبر هذه الدمى الجامدة التي ستظهر في وضعيات مضحكة تحت انظار الجماهير المتكدسة أمام فترينات ((Tati)) كيف سيحدث هذا النحور؟ انه لا يفقه شيئا بعد».(٥٨) والأدهى من ذلك ان هذه الصور المجسمة في الفضاء المكاني ستكون موزعة في اكثر من مكان في ذات اللحظة! وهذا ما يرعب ادريس الذي لا يفقه كيف سيتحول الى سلسلة شخوص تتواجد في أكثر من مكان وزمان دون ان يكون هو ذاته! بعد خوض التجربة الغريبة والمخيفة خرج ادريس بدون شعر الرموش والحواجب الذي التصق بالعجينة البلاستيكية الساخنة.( ٥٩) ولابد انه رأى نفسه وقد اصبح أشبه بالدمية منه بالكائن الآدمي. ومن هنا يصاب بالرعب من العالم الخارجي فيظل رهين غرفته التي اصبحت سجنه وملجأه الوحيد في هذا الفضاء القاسي الذي يحوِّر الانسان جسداً وروحاً ليتحول الى شبح أو مسخ مضحك وفي نفس الوقت مرعب! وكما يحدث في رحلة العبور الطقوسي من حال الى حال تصبح هذه العزلة مرحلة الذروة والنهاية في الحكاية المغامرة إذ سيتعرف ادريس خلالها على البعد الغائب من هويته القومية والحضارية التي لم يكن يعي انتماءه إليها في مجتمعه القرابي المنعزل في صحراء الجغرافيا وصحراء التاريخ. فاللقاءات والأحاديث مع بعض المهاجرين الآخرين، وخاصة مع المصري محمد المؤذن ذي الأصول الحضارية العريقة، تجعله يكتشف قوة «حضارة الكلمة»، حضارته الأصلية، المضادة بمعنى ما لقوة «حضارة الصورة» وذلك دائماً بفضل «المذياع» أحد التقنيات الاتصالية الحديثة.( ٦٠) يقول الراوي عن هذا التحول: «التلفزيون هو الصورة، الحياة الحديثة، اللغة الفرنسية، أما المذياع، الذي لا يسمع إلا بعض الساعات، فكان صوت القاهرة، طرابلس، الجزائر، اللغة العربية، الخطب السياسية، وبخاصة القرآن الكريم والموسيقى العربية التقليدية».(٦١) لقد بدأ يدرك أن «الطاقة الشيطانية للصورة التي تغوي العين يمكن الاستعانة عليها بالعلامات الصوتية التي توقظ السمع». ولقد كان لصوت أم كلثوم الجميل الجليل أثره في ايقاظ روحه من جديد: «انه يعيش بجسده في باريس فعلياً لكنه سيتمكن بفضل هذا الاكتشاف من العيش بروحه مع الملايين الذين ما ان تغني «السيدة» حتى تخلو منهم شوارع القاهرة والدار البيضاء وتونس وبيروت ودمشق والخرطوم والرياض لأنها أصبحت روح مصر والعالم العربي معاً.( ٦٢)
ثم تأخذ سيرورة اكتشاف الذات الحضارية بعداً أرقى وأجمل اذ يتصل ادريس، بفضل صديقه المصري ذاته، بالشيخ عبدالغفار الذي سيعلمه «فن الخط» فتعلم هذا الفن يعني بلوغ تفاعله مع حضارته مرتبة سامية واقعياً ورمزياً لأن فن الخط يمثل اسمى الفنون العربية الاسلامية لارتباطه بالنص المقدس كما يدركه جيداً هذا الكاتب الذي يكتب عنه بدراية العارف ومحبة المتصوف العاشق.(63) لا شك أننا هنا أمام لحظة تفهم وتعاطف مع هذه الشخصية البريئة الطيبة ولكن أيضا مع حضارة كاملة يقدمها ميشيل تورنييه من منظور حواري معمق ليحتفل بأجمل تعبيراتها ورمزها بعيد كل البعد عن تلك الرؤى الرومانسية او الغرائبية او الدعائية السياحية المسطحة غالباً. ويتضح مدى عمق هذا الموقف الذهني- الابداعي و«الحواري» في كلا المستويين من تلك المقارنة بين «الصورة» و«العلامة اللغوية المكتوبة»: «في الحقيقة ان الصورة هي أفيون الغرب فالعلامة هي الروح والصورة هي المادة، أما فن الخط فهو علم جبر الروح الذي يرسمه العضو الأكثر روحانية في الجسد، أي اليد اليمنى. انه الاحتفال اللامرئي عبر المرئي».(٦٤) لا غرابة إذن أن يكون خلاص ادريس مرتبط باتقانه هذا الفن الذي يحرره من فتنة الصور وهيمنة الآخر خصوصاً إذ يتحول فضاء الكتابة الى فضاء حميم يشبه فضاءه الصحراوي الاصلي: «ها هو يمتلك الصحراء ويملأها بالعلامات فيتخلص من بؤس الماضي وقلق المستقبل والسلطة الغاشمة للآخرين، انه الآن يتحاور مع المطلق في جو أبدي».(٦٥)
ولكي لا تنزلق هذه الرؤية الشعرية الفلسفية الى الخرافي الاسطوري الذي يلغي حضور الانسان وفاعليته في الزمان والمكان والعلاقات الواقعية تنتهي حكاية ادريس وهو في موقف «العمل» الذي تتوازى دلالته الواقعية مع دلالاته الرمزية. فقد بدأ يتدرب على الحفار الآلي كعامل بسيط يعمل ليعيش كجسد مثلما يكتب ليعيش كذات انسانية واعية باختلافها ومتمسكة بهويتها الحضارية المختلفة والعريقة. وفيما هو يحفر أمام احد محلات المجوهرات يلاحظ أن «حرزه الذهبي» الذي فقده في بدايات الرحلة معلق وراء زجاج الواجهة ومع ان هذه الملاحظة أثارت شجونه ولابد إلا أنه لا يتوقف عن عمله بل يظل يحفر باستغراق الى أن يتهاوى المبنى على ما فيه من حلي ثمينة ومشؤومة».(٦٦) فهذا الحادث الصدفي يكتسب في سياق الحكاية بعدا دلاليا رمزياً يمثل ذروة المغامرة إذ يعلن انتصار ادريس على شروطه بمعنى ما. فالحادث فعل من انجازه وهو من هذا المنظور «فعل تحرر وخلاص». ولعل ما يعزز هذا التأويل ان الكاتب يحرص على أن يبعده عن معنى «التخريب» او «الانتقام» اذ يقول بلسان الراوي أن ادريس «إنما كان يعمل باستغراق ويرقص بنشوة».(67)
الاحتفال بالآخر
ان ميشيل تورينيه يحول الحكاية، حكاية ادريس وحكايته هو ذاته، الى عمل ابداعي فلسفي يطرح اشكالية الذات والآخر بابعادها الفردية والاجتماعية والحضارية من منظور الراهن وتحدياته، ودونما ارتهان للأحكام المسبقة والتصورات النمطية الجامدة والعدائية. وحتى اذ تستحضر في بعض المقاطع أحكام وتصورات كهذه لا يكون ذلك تبريراً لها او دفاعاً عنها وانما لتفكيكها ونقضها، مرة عبر الخطاب المعرفي الجاد ومرة عبر الخطاب النقدي الساخر. فالفرنسيون الذين يعتبرون المهاجرين العرب تهديداً لهم ويعاملونهم بدونية واضحة لا يختلفون عن مواطنيهم الذين يحقدون على «أثرياء الخليج» لأنهم لا يتقبلون فكرة ان يكون العربي ثرياً أصلاً، كما يقول الراوي في أحد المقاطع.( ٦٨)
أما أولئك الذين ينظرون الى الصحراء وأهلها نظرة سياحية غرائبية حالمة ومسطحة فلا يختلفون عن أولئك الذين ينظرون الى المهاجرين أمثال ادريس نظرة تعاطف واشفاق لا لشيء إلا لإشباع نزواتهم المنحرفة. فالجميع محكومون بتصورات ومواقف مسبقة دشنها الخطاب الاستشراقي وعززها وعمل على تكريسها و«استثمارها» الخطاب الاستعماري، وكلاهما مما ينبغي تجاوزه كما توحي به وتلح عليه هذه الكتابة «المتجاوزة» هي أيضا. فالكاتب يعي جيداً ان حضارة التقنية ووسائل الاتصال تفرض تحدياتها على الجميع وان بصيغ مختلفة. فهي تهدد البشر في الغرب بالتحول الى متفرجين سلبيين مستلبين يركضون كالقطيع وراء حاجات الجسد ونزواته، هذا ان لم تدفع بعضهم الى البحث المحموم عن أشكال المتع الوهمية التي تروج لها الصور الدعائية مما يفضي بهم الى الانحراف الذي يأخذ هنا شكل التعهر والسرقة والعنف والشذوذ الجنسي كما لاحظنا.( ٦٩) أما المنتمون الى المجتمعات التقليدية أو «ما قبل الحديثة» بمعنى ما، فان التقنية ذاتها تخترق وتتخلل حياتهم وأفكارهم وخيالاتهم فيتعلقون بها دون أن يفقهوا الكثير من ألاعيبها الباهرة والمدمرة.( ٧٠) هكذا يحاول بعضهم الالتحاق بعالمها والتخلي عن اختلافاتهم المحددة لهوياتهم الاصلية كما هي حال عاشور الذي ينصح «ادريس» بعدم تفويت أي فرصة للكسب ولو على حساب كرامة هذه الذات الانسانية التي لا شيء تمتلكه أثمن واسمى من كرامتها، مع هذا النموذج والى جانبه يوجد نموذج آخر يختار، أو يضطر للهجرة بحثاً عن لقمة العيش لكنه يحاول، بفضل التقنية الاتصالية الحديثة ذاتها، الحفاظ على التواصل الفعال مع لغته ومجتمعه وحضارته العريقة كي لا يفقد هويته واختلافه كمال هي حال ذلك المهاجر المصري الذي دل ادريس الى طريق الخلاص. أما النموذج الذي يمثله ادريس ذاته فيصاب بالصدمة تلو الأخرى لكنه لا يفقد تلك البراءة التي تكاد تذكر بالبراءة الاولى للانسان المفطور على الخير والصدق والجمال، ولا غرابة بالتالي أن تدفع به المعاناة ذاتها الى أرقى درجات التسامي الروحي دون أن يفقد النموذج الرمزي واقعيته كما لاحظنا.( ٧١)
وباختصار فان ميشيل تورنييه لا يضع «حضارة الكلمة» مقابل «حضارة الصورة» إلا لتمجيد العودة الاحتفالية الى الحضارة الأولى، لأن الكلمة، الشعرية الفكرية، تبدو له، وهو الأديب المبدع، رمز وسبيل الخلاص من هيمنة حضارة الصور وتقنياتها التي قد تحول الكائن الى «دمية» أو «مسخ» بلا روح سامية ولا عواطف نبيلة. هل يريد الكاتب أن يقنع قارئه وهو فرنسي في الأصل، ان طريق الخلاص يتمثل، في جزء اساسي منه، في اعادة القيمة والاعتبار لرموز ومنظومات قيم الحضارات التقليدية العريقة ومنها بالطبع الحضارة العربية الاسلامية؟!
لا شك أن الاجابة على السؤال أعلاه بـ«نعم» هي نتاج القراءة التأويلية لكنها اجابة مبررة تماماً بمعطيات النص ذاتها كما بيناه في الفقرات السابقة من البحث.
أما حين نعود الى رواية «جمعة او تخوم المحيط الهادئ» فان هذا التأويل يتعزز وان من منظور آخر.( ٧٢) . فالرواية هي محاكاة نقدية ساخرة (Parodie) لرواية دانييل ديفو الشهيرة «روبنسون كروزو» التي تمثل احد الأشكال الأولى لتلك «السردية الامبريالية» بلغة أ. سعيد. فالكاتب لا يؤمن باطروحة سلفه الذي حاول أن يثبت عبر الخطاب الروائي، أن الانسان الغربي متفوق على «آخرين» وبالتالي فهو قادر على اعادة انتاج عالمه الاوروبي المسيحي الأصلي حتى وان كان قد اضطر للعيش في جزيرة منعزلة ومع «آخر بدائي» لابد أن يظهر في «وضعية دونية» من منظور المركزية الغربية التي يمثلها روبنسون كروزو بالطبع. فالآخر المختلف «جمعة»، يبدو عند تورنييه بمثابة الشرط البنائي والعضوي الذي لا غنى عنه من اجل تشكل واشتغال وعي الذات بذاتها وعالمها إذ أن حضوره هو ما يعطي للأشياء قيمتها وللحياة معناها. إنه لا يعود مجرد «موضوع» للرؤية بل عنصراً جوهرياً في مجال الرؤية والتصور والوعي. انه تلك الذات المختلفة التي لا يستعيد روبنسون معاني حياته ووجوده إلا بفضلها، خصوصاً وان العزلة أوشكت أن تفضي به الى الاعتلال الذهني والجسدي.( ٧٣) فإذا كان «روبنسون» لا يستطيع اكثر من اعادة انتاج صورة عالمه التقليدي الاصلي. ناقصة ومشوهة بالضرورة في مثل هذا السياق، فان «جمعة» يبدو ممتلكاً لطاقة حيوية خلاقة ومتجددة باستمرار كالحياة ذاتها. ففي لحظة من لحظات الصراع العنيف مع الوعل الجبلي المتوحش يبدو جمعة وكأنه على وشك الاستسلام للهزيمة والموت لكن الموقف سريعاً ما يتحول لصالحه فينجح في التغلب على الوعل فيقتله- ربما ان الأمر لا يتعلق بصراع عدائي مجاني فان جمعة يصر على تحويل جسد الوعل من جثة قابلة للتعفن والزوال الى آلة «تغني» وأخرى «تطير» ومن خلال هذا الفعل اللعبي يعيد بفضل خياله المبدع وفعله الخلاق، الحياة الى الوعل بل والى الجزيرة المنعزلة الموحشة!. فالكاتب يحاول تقديم نظرية جديدة للآخرين والاختلاف تعارض وتنقض النظرة الضيقة التي يعبر عنها ديفو وهو يكتب من منظور تلك المركزية التي يرفضها ويتجاوزها ميشيل تورنييه هذا تحديداً ما لاحظه وحلله بتوسع المفكر المعروف جيل ديلوز الذي انجز دراسة فلسفية معمقة لهذه الرؤية من ذات المنظور النقدي الحواري.( ٧٤) ونشير الى ابرز خطوط هذه الرؤية لأنها بالتأكيد حاضرة بصيغة أخرى في التمثيلات التي تقدمها «قطرة الذهب» عن الآخر العربي المسلم كما رأينا. فالرواية الاولى تؤسس للرواية الثانية نظراً لوحدة الرؤية الجمالية الفلسفية التي تصل ما بين الروايتين. الاولى تكشف خلل الرؤى والتصورات التي هيمنت على الحضارة الغربية الحديثة في بداياتها، بينما تكشف الثانية عن المصير البائس والخطير الذي آلت اليه حضارة التقنية أو ما بعد الحداثة وهي تحول أهلها وآخريها الى كائنات فارغة روحياً وعاطفياً حتى أصبح الانحراف والشذوذ جزءاً من المشهد المعتاد! في احدى أعرق وأجمل الحواضر الغربية الحديثة باريس، التي ينتمي اليها ويبت فيه الكاتب.
خاتمة
لا شك ان قراءتنا لهذه النماذج السردية ركزت فحسب على لعبة التمثيلات ومرجعياتها ودلالاتها المظهرة او المضمرة في النص، ووفق تلك المنطلقات النظرية المنهاجية التي حددت في بداية البحث من هذا المنظور لاحظنا ان فكر الاختلاف الي يعاين التعدد والتنوع بين اللغات والمجتمعات والثقافات بعيدا عن أوهام المركزية وما ينبثق عنها ويعززها من تراتبيات، هذا الفكر هو الذي يحضر بقوة وفاعلية في كتابة م. تورنييه عن اشكالية الذات والآخر. فهذه الاشكالية هي واحدة في العمق وان اختلفت تجلياتها من لحظة تاريخية الى أخرى ومن موقف الى آخر. فليس هناك حضارة «مكتملة» ولا إنسان «كامل» لأن مقولات الاكتمال والكمال هنا تعني الانغلاق واليأس من امكانية الخلاص الذي يشكل الآخر المختلف، فرداً او مجتمعاً او حضارة، أفقاً محتملا له أو اليه. وإذا كانت شخوص البير كامو تعاني تحديداً من هذه الازمة بكل تجلياتها الفكرية والنفسية والجسدية فما ذلك، في اعتقادنا، إلا لأنها لم تعاين الفروقات ولم تسمها او تتفهمها من هذا المنظور الحواري. فالآخر يتمثل فيها غيرية مطلقة وعدائية مثيرة للقلق والريبة وسوء الظن، بل وتهديداً ينبغي البعد عنه، وربما القضاء عليه قبل ان يفتك بالذات كما حدث في رواية «الغريب» لذات الكاتب. ان كامو ينتمي لجيل عانى كل مآسي الحربين العالميتين التي اعلنت لحظة الانهيار العنيف لمنظومات الأفكار والقيم والمعارف التي ولدها واستثمرها وحاول تكريسها النظام «العالمي القديم» وهو نظام غربي استعماري امبريالي في جوهره كما نعلم. اضافة الى هذا الانتماء العام فان الكاتب ينتمي الى الجيل الأخير من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، ذلك الجيل الذي عانى مرارة الانفصال عن الفضاء الذي ولد فيه وتعلم وعمل فيه فترة من حياته ولم يكن من السهل عليه ان يتقبل فكرة ان علاقاته بهذا الفضاء وسكانه الاصليين غير شرعية وغير سوية بما انها مؤسسة على مشروعية القوة والعنف منذ البداية. لا غرابة اذن ان يولد هذا الانتماء المأساوي المزدوج لدى الكاتب، وأمثاله، وعياً ممزقاً يتحول فيه الآخر الى «جحيم»، وسواء كان الآخر هنا اوروبيا او عربيا، أن تصور الذات لعالمها ووجودها ومصيرها جحيمي لا مهرب منه إلا إليه. حتى تلك العزلة والغربة التي تبحث عنها شخوصه، وتبررها الكتابة أدبياً وفكرياً، لا تمثل إلا خلاصاً مؤقتاً ووهمياً من هذا الشرط المأسوي، وذلك لأنها غير ممكنة ببساطة شديدة، نعم، لا شك ان العزلة ممكنة وضرورية لحظة الكتابة، لكن امكانيتها في الحياة الواقعية وعلاقاتها التي تغمر كل كاتب وكل كتابة مجرد توهم لا يلبث ان ينكشف بشكل صادم وفاجع كما تعبر عنه كتابات كامو أجل وأعمق تعبير!
أما ما يصل بين هذه الكتابة وكتابة م. تورنييه من منظور قراءتنا الراهنة فهو حضور هذه الذات العربية- الاسلامية التي تشكل الآخر التقليدي للغرب بما انها ذات حضارية عريقة طالما نافسته على مواقع وأدوار الهيمنة والريادة على ضفاف المتوسط كما هو معروف، فهذه الذات تحضر عبر نماذج وأحداث وفضاءات وعلامات ورموز تثير من دواعي القلق والرفض بقدر ما تثيره من دواعي التفهم والحوار. فهي طرف اساسي في «إشكالية الاختلاف» التي يطرحها «التاريخ» مرة في الفضاء العربي الاسلامي الذي هيمن عليه «الأجنبي الغربي» ومرة يطرحها «مكر التاريخ» في الفضاء الغربي ذاته حيث يتحول المهاجرون الى «مستوطنين أجانب» من نوع آخر!
لا شك أن تلك الذات المقلقة والجذابة تعاني في كلتا الحالتين هيمنة الآخر وحضارته المقلقة والجذابة هي أيضا، هذه المعاناة التي تدفع بها للبحث عن خلاص ما. مرة وهي «تناضل» من اجل التحرر الوطني والقومي ومرة ثانية وهي «تناضل» لكسب لقمة العيش خارج وطن يضطرها فقره وقهره الى الهجرة والمقام في غرب الغربة والغرابة.. والاغتراب ربما!. فالمهاجر كما يقول تورنييه لا يفكر مطلقاً في البقاء في الغرب «لأنه الجحيم»، لكنه، وفي نفس اللحظة، لا يفكر أبداً في العودة الى الوطن الأصلي «لأنه الموت» هكذا تظل هذه الذوات معلقة بين وجودين ومصيرين قد يبدوان في أقصى حالات الاختلاف وقد يبدوان متشاكلين حد التماثل والتطابق.. تماماً مثل «الذات» و«الآخر» إذ ينظر إليها عبر فكر الاختلاف وجماليات الاختلاف كما تعبر عنه و«تمثله تلك الكتابة الخلاقة التي باشرها «ادريس/ ميشيل تورنييه».
هوامش وملاحظات
١ – نعني بمفهوم التمثيلات Represeutation مجمل أشكال حضور الآخر المختلف في النص الأدبي، سواء في مستوى الشخوص او علاقات الازمنة والأمكنة ورموز الثقافة، وهو مفهوم شائع في الدراسات المقارنة المعاصرة ويرادف مفهوم «صورة الآخر».
٢ – صدرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة عام 1957 عن دار نشر Gallimard ونحيل هنا الى طبعة 1984 عن نفس الدار.
٣ – Lacotte d`or Michel Tournier Gallimard paris 1985.
– Vendredi ou les Limbes du Pacifique M. Tournier Galliniard 1972.
٤ – انظر : Precis de Litterature Comparee puf paris 1989. وخاصة الدراسة النظرية المتميزة ل_ د.هـ. باجو عن «الصورية» ص١٣٣- 160 انظر كذلك ترجمتنا لهذه الدراسة في العدد الثاني من مجلة «نوافذ» الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي (جدة1997).
٥ – اشك ان دراسات مثل «الاستشراق» و«الثقافة الامبريالية» لادوار سعيد، و«فتح امريكا» و«نحن والآخرون» لثودوروف هي نماذج دالة على المساهمة الفعالة للنظرية النقدية الحديثة في «فكر الاختلاف» أما «النقد الحواري» كما تمثل في أعمال ميخائيل باختين فنزعم انه مساهمة أصيلة حقاً في هذا الاتجاه، ونحن نحاورها في هذه القراءة وقراءات أخرى سابقة.
٦ – عرف الأدب المقارن بأنه دراسة «حصة الأجنبي» في نص أو أدب ما. وذلك لأنه يختص بنقصي التأثيرات والتفاعلات بين الآداب والفنون والثقافات كما هو شائع اليوم.
٧ – كان مفهوم «الآداب العالمية» في الدراسات المقارنة الاولى يقتصر على «الآداب الاوروبية» لكن أزمة الأدب المقارن التي أثارها «رينيه ويليك» من جهةو و«رنييه ايتامبل» من جهة اخرى في الخمسينات كانت ايذانا بضرورة تحول الباحثين في هذا المجال عن الرؤى الضيقة والانفتاح على «الشعريات المقارنة»، «الأدب العام» و«علاقات الأدب بالفنون الأخرى».
٨ – «نقد النقد» ت. ثودوروف، ترجمة، سمى سويدان، مركز الانماء القومي، بيروت 1986م كذلك أنسر له: باختين، المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ٦٩٩١م.
٩ – وردت هذه العبارة في مقدمة كتاب العروي «مفهوم العقل» الذي صدر منذ سنتين عن «المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ولعلها تحيل الى كتابات نيتشه وهيدجر وفوكوودريدا وديلوز التي تكشف كلها عن مدى التعالق بين «الفكر الفلسفي» و«النقد الأدبي» الحديثين كما هو شائع ومعروف.
١٠ – A. Camus. Theatre Recit Nouvelles nrf Gallimard 1962 ولا يشمل هذا المجلد سوى الاعمال الابداعية لالبين كامو.
١١ – من الغريب حقاً ألا يشير النقاد الفرنسيون الى ان هذا البعد الدلالي الطاغي في أعمال كامو القصصية والمسرحية يرتبط أساساً بالصراع العنيف الذي عاشه وعاناه في الجزائر لا بالفكر الفلسفي الاغريقي الذي تمثله الكاتب فحسب. انظر «الثقافة والامبريالية» دار الآداب، بيروت 1997م، (ط١) ترجمة: كمال أبوديب: T.Todorov Nous et les autres seuil paris 1989. خاصة القسم الرابع بعنوان «الغرائبي» ص٥٩٢ وما بعدها. ولعله من المهم الاشارة هنا الى ان تودوروف لا يتوقف طويلا عند كامو وكتاباته «الغرائبية الاستعمارية» ربما تجنباً لهذا الموضوع الذي لا يزال يثير حساسية شديدة في فرنسا الى اليوم وكأن جراح الماضي القريب لم تندمل بعد.
١٢ – الاستشراق مؤسسة الابحاث العربية، بيروت، ١٩٨١، ترجمة كمال أبوديب ص٣١٠ والثقافة والامبريالية، ص٢٣ وما بعدها.
١٣ – هذه الخصوصية مردها ان الشرق العربي الاسلامي هو الجار والخصم الحضاري لاوروبا عبر التاريخ.
١٤ – الثقافة والامبريالية م.س، ص240.
١٥ – في «عصفور من الشرق» استطاع توفيق الحكيم «نقل» الكثير من الخطابات المعبرة عن «انهيار الغرب التقليدي» خاصة عبر صوت شخصية المثقف الروسي المهاجر الى باريس «ايفانوف».
١٦ – نعتقد ان قوة وجاذبية أعمال كامو تعود في جزء جوهري منها الى تعبيرها الشفاف عن تطابق أزمة الانسان الغربي في أوروبا وفي المستعمرات التي بدأت ذاتها القومية والحضارية تناضل بشكل فعال في فترة ما بين الحربين وهي الفترة التي انهار فيها النظام العالمي القديم بشكل فاجع ذهب ضحيته ملايين البشر كما نعلم.
١٧ – الضيف، ص٨٥.
١٨ – الضيف ص٨٠.
١٩ – كتب كامو بهذا الصدد: «فيما يتعلق بالجزائر فان الاستقلال القومي صيغة من العاطفية المشبوبة.. ان فرنسيي الجزائر هم أيضا، وبأشد معاني الكلمة قوة، سكان اصليون، انظر «الثقافة والامبريالية» ص238- 239.
٢٠ – من المسلم به نقديا ان الشخصية المركزية والراوي هما الاكثر تمثيلاً لحضور الكاتب في النص ولذا يعتبرها بعض النقاد «أصوات ناطقة باسم الكاتب».
٢١ – الضيف، ص٨.
٢٢ – الضيف، ص٨٧.
٢٣ – يصف الشرطي العربي بهذا الوصف ص٨٨ لكن الراوي ذاته يقول في مقطع لاحق (ص٩٤) بأن له «فما حيوانيا» مما يعني تطابق وجهات النظر «الاحتقارية» وإحالتها الى الكاتب ذاته!.
٢٤ – الضيف، ص95 لا شك أن «المعلم» هنا يمتلك السلاح والقوة البدنية والاهم من هذا انه يمتلك «مشروعية العنف» التي يفتقد إليها خصمه بما ان العلاقة بين المستعمر والمستعمر هي النافذة هنا!
٢٥ – يلعب الكاتب هنا على علبة «مبدأ الثأر» عند العربي على مبدأ النظام والقانون وكأن هؤلاء العرب «كلهم» لا يزالون في مرحلة الجاهلية، ومن هنا مقصدية التشويه المتعمد للآخر.
٢٦ – كل هذه التأويلات مبررة بمنطق النص ذاته لأن من ينجح في مراقبة مدرسة على هضبة مرتفعة ومعزولة ثم الدخول الى احد فصولها وكتابة هذه العبارة لن يجد صعوبة في مراقبة الطريق العام الى مركز الشرطة البعيد جداً عن مركز كل سلطة كما يقول الراوي ذاته!
٢٧ – في الهامش 1906 من الصفحة 2048 يشير الناقد- المحرر الى ان هذا المقطع النهائي «الملتبس تماما» ليس في الخطاطة الأولى للقصة ومن هنا يمكن قراءته على انه ملحق مقحم على الحكاية بنفس مقصدية التشويه!
٢٨ – قد لا يكون في كتابات كامو بعد فلسفي اصيل يعتد به لأنه انما يسقط حكايات اسطورية عتيقة على مواقف واشكاليات معاصرة ليغطي أبعادها التاريخية والايديولوجية المرتبطة بأزمة المجتمعات الرأسمالية من جهة وبأزمة الخطابات الاستعمارية من جهة أخرى كما لاحظنا.
٢٩ – الثقافة والامبريالية (م.س) ص234.
٣٠ – المرأة.. ص٢٧.
٣١ – المرأة.. ص١٣.
٣٢ – دلالة الصمت ايجابية من هذا المنظور الخاص بجانين فحسب أما على مستوى النص في مجمله فهذا الصمت دليل على القطيعة الاتصالية بين الطرفين من جهة وعلى ان الكاتب لا يحب ولا يحسن الانصات لصوت الآخر المختلف الذي يصبح جامداً كجزء من الطبيعة من جهة ثانية!
٣٣ – المرأة ص٢٦.
٣٤ – يلعب «الضوء» في قصص كامو وفي أعمال أدبية وتشكيلية كثيرة لغيره مثل هذا الدور المحفز على الرؤية الجديدة التي تسمح بتمايز الأشكال والألوان نظراً لانه يفتقد في أوروبا حيث يهيمن الجو المعتم معظم أيام السنة كما نعلم.
٣٥ – المرأة .. ص٢٦.
٣٦ – المرأة .. ص٢٩.
٣٧ – المرأة.. ص٢٩.
٣٨ – هذا الموقف المزدوج يعبر هو أيضا عن تمزق الوعي لدى الكاتب بل وعن نزعه لتزييف وعي القارئ الذي تتجه الكتابة إليه محاولة اقناعه بوجهة نظر الكاتب ورؤيته للآخر والعالم.
٣٩ – انظر الموجز السيري لحياة كامو في مجلد الأعمال الكاملة حيث ترد معلومات كثيرة عن تضحية الكاتب النضالية في سبيل تحقيق هذه النزعة الانسانية التي يبدو انها لم تكن تصل مداها المشروع فيما يتعلق الأمر بالعرب وبقية المواطنين الجزائريين، كما يتضح من كتابات كامو ذاتها.
٤٠ – الثقافة والامبريالية (م.س)، ص239 (الناقد هنا ينقل عن عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بييربورديو المتخصص في الجزائر المغرب العربي.
٤١ – تطرح رواية مالرو اشكالية الاغواء او الفتنة الغربية من منظور مزدوج إذ أن «المثقف الصيني» يبدو متعلقاً بالحضارة الغربية فيما المثقف الغربي متعلق بالثقافات الشرقية وكأن كلاً منهما يبحث عما يفتقده لدى الآخر المختلف ومن هنا حوارية هذه الرواية لوعيها بمشروعيته وحق الاختلاف.
٤٢ – انظر ما يشير الى تأثر كامو بكتابات مالرو في الهوامش السيرية الخاصة بالأعوام 1926، 1930، 1935، 1937.
٤٣ يبدو أن الكاتب متاثر بما كتبه صديقه الفيلسوف جيل ديلوز عن «الصورة- الزمن»، وكذلك بما كتبه هيجل من قبله (الرواية ص175) أما عن حضارة الصورة فانظر بالفرنسية:
La Civilisation de C`image enrico Fulchignoni payot Paris 1972.
(ترجمة عن الايطالية: G.crescehnzi et E. Darmoune.).
٤٤ – يبدو الكاتب يلعب هنا على علاقة اكتشاف الذات عبر المرأة كاحدى مراحل التحول الحاسم في حياة الانسان حسب فرويد وجان بياجيه وغيرهما، فصورة الذات هنا تكتشف عبر الآخر طوال الرواية وكأن ادريس ينتمي الى مجتمع رعوي قرابي لم يستقل وعيه عن طبيعته إلا عبر هذه المغامرة.
٤٥ – قطرة الذهب .. ص16، رأي المرأة هذا هو الأكثر وجاهة لأن الرواية ستدعمه باستمرار في المقاطع اللاحقة.
٤٦ – قطرة الذهب.. ص١١٤.
٤٧ – تذكرنا عبارة «أرض الميعاد» بمقاطع مماثلة وردت في قصة «المرأة الزانية» مما يدل على ان الغواية المزدوجة حاضرة هنا أيضا وان من منظورين مختلفين.
٤٨ – قطرة الذهب ص١٢٢.
٤٩ – قطرة الذهب ص١٢٢.
٥٠ – لا شك ان «المعادن النفيسة» ورأس المال الذي تمثله وترمز اليه احد الحوافز المحركة للفعل الانساني عبر التاريخ ولعل ما نقرأه في «ألف ليلة وليلة» أو في قصة «اللؤلؤة» لشتاينبك يدل على «عالمية» هذه التيمة وعراقتها.
٥١ – هذا نقد ساخر وساذج لكنه يكتسب أهمية دلالية خاصة لأنه يصدر عن شخص بريء وصادق مثل ادريس الذي يشبه في بعض الوجوه شخصية «كانديد» عند فولتير.
٥٢ – كثيرة هي الكتابات عن «المتوحش الطيب» في الآداب الغربية، انظر على سبيل المثال كتاب تودوروف «نحن والآخرون» (م.س) ص351 وما بعدها.
٥٣ – هذا الخطاب العميق حول «الحرية»لا يفقهه ادريس لكنه يعيش أثره كل يوم كما نلاحظ في احداث القصة ومن هنا امكانية تفهمه من قبل هذه الشخصية البسيطة الوعي.
٥٤ – تكشف وجهة نظر عاشور هذه عن تأثره بقيم النفعية المجردة من البعد الاخلاقي وكأنه نموذج آخر لم يعد هو ذاته بعد اتصاله في الغرب وثقافته العملية النفعية.
٥٥ – قطرة الذهب.. 143.
٥٦ – حللنا قصة المويلحي هذه في اطروحتنا للدكتوراة عن «صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة» وهي مكتوبة بالفرنسية وغير منشورة وقد نوقشت عام ١٩٨٩، في قسم الأدب العام والمقارن بجامعة السوربون الجديدة، باريس الثالثة.
٥٧ – قطرة الذهب، ص١٥١.
٥٨ – يربط الكاتب هنا بين «ادريس» و«الجمل» دون محاولة للتنميط والتشويه لأن الادانة تتجه الى الذات الفرنسية التي تستغلهما عند الحاجة وتسعى للخلاص منهما كعبء ثقيل بعد ذلك الرواية، ص176.
٥٩ – قطرة الذهب، ص٢١٢.
٦٠ – تدل حكاية سقوط الشعر هذه على رهافة وعمق الكاتب وهو يتقصى تحولات هذه الشخصية بكل تفاصيلها، ومن ذات المنظور المتعاطف باستمرار.
٦١ – استحضار «المذياع» في هذا السياق الايجابي دال بحد ذاته على ان الكاتب لا يدين التقنية الحديثة بقدر ما يدين بعض استعمالاتها ضد الانسان، ذاتاً أو آخراً، ومن هنا تميز موقفه عن المواقف الرجعية التي تدين كل ما يتعلق بالحضارة الحديثة.
٦٢ – قطرة الذهب، ص٢٢٢.
٦٣ – قطرة الذهب، ص٢٢٤، ٢٢٥.
٦٤ – يبدو الكاتب مطلعاً جيداً على فن الخط العربي، تقنياته وجمالياته ودلالاته، ومع هذا ينقل مقطعاً كاملاً من كتاب للخطاط الشهير حسن مسعودي مما يدل على احترامه للمرجعيات الاساسية لهذا الفن.. وهذا ما ينبه اليه في فقرة خاصة ملحقة بالرواية (ص261-٢٦٢).
٥٦ – قطرة الذهب، ص235.
٦٦ – قطرة الذهب، ص256- 257.
٦٧ – قطرة الذهب، ص257.
٦٨ – قطرة الذهب، ص٧٥٢- ٨٥٢.
٦٩ – يوجه الكاتب عبر هذا المقطع المختصر نقداً لاذعاً لمنظومة من الصورة والكتابات التي تشوه الشخصية الخليجية، وقد تأثرت بها للاسف الشديد بعض الخطابات العربية أيضاً كما نعلم جميعاً.
٧٠ – قد لا تكون هذه الانحرافات خاصة بالمجتمع الغربي الحديث، لكنها تحولت فيها الى ظواهر شائعة وأحياناً «معترف بها» ومن هنا وجاهة الربط بينهما!
٧١ – القضية المطروحة هنا تحتاج الى بحث أعمق لا يتسع له المقام هنا، وقد نعود اليها في بحث لاحق لأهميتها.
٧٢ – لعل اقوى ما يدل على رفض تورنييه لمركزية سلفه القديم انه جعل اسم «جمعة» عنوانا للرواية مما يدل على انه هو، وليس روبنسون كروزو، البطل الحقيقي للحكاية، القلب او «العكس» اعادة اعتبار ادبية فكرية للآخر دونما شك.
٧٣ – روبنسون كروزو يعاني من علل كثيرة أهمها رمزياً، فقده للرغبة الجنسية التي هي رمز الحياة الممتعة والمتجددة بمعنى ما.
٧٤ – الدراسة ملحقة بطبعة الرواية المشار اليها سلفاً (ص357 وما بعدها) وهي بعنوان «ميشيل تورنييه والعالم بدون الآخر» ولعله من المفيد ان نشير الى ان الكاتبين صديقان، وهما من ابرز ممثلي «فكر الاختلاف» او «كتابة الاختلاف» في فرنسا وان مثله كل منهما في المجال ومن المنظور الذي يخصه ويميزه.