تعكس الزخارف الفنية في قصور الحمراء حضور الرياضيات على نحو واضح فيها، لاسيما في التنويعات الهندسية المتعددة بلا حدود ونجد أنفسنا أمام عالم قائم على فكرة الوحدة والتوحيد من خلال هذه التعددية. ونقف على «اللامتناهي من خلال المتناهي، والمجرد من خلال المحسوس ، والمحسوس ، والمثالي من خلال المادي، والنور من خلال الألوان ، والنوراني من خلال الانساني" كما يقول سيفيرنو رويز غاريديو، رئيس قسم الهندسة والطوبولوجيا في جامعة غرناطة.
ويقول رافائيل بيريز غوميز: " كانت الرياضيات عنصرا أساسيا في هذه الحضارة. لقد درس هذا الشعب (يقصد العربي) الرياضيات وبرع فيها، أكثر من أية حضارة أخرى".
من أهم خصائص الزخرفة الهندسية استعمال وحدة شكل هندسية أساسية تمكر الوحدة العامة للتكوين الهندسي في القاشانيات الأندلسية ، وذلك من خلال مضاعفاتها وتكرارها. وبفضل ذلك يمكنك ان تملا أو تزخرف سطحا كاملا بمجرد اتباع سلسلة من القواعد الثابتة. وبذلك يتم تحقيق الوحدانية من خلال المجموع ، التي تعبر عن الفلسفة الإسلامية. وحتى اللون في قصور الحمراء يمنحك انطباعا بأنه لا يحمل وظيفة فنية قائمة على عنصر الزخرفة فحسب ، بل إن له بعدا فلسفيا أيضا. فاللون له علاقا بالضوء. انه أحد مكونات الطيف الشمسي. الضوء في الفلسفة الاسلامية رمز للنورانية. وهذا انما يؤكد على أن حضور اللون هو بمثابة تعبير عن الوجود الإلهي، لأن اللون لا وجود له بدون الضوء.
وكان العرب مولعين بالتصاميم التي تظهر فيها الأجزاء الغأمقة والفاتحة في الزخرفة متماثلة متناظرة. على سبيل المثال إننا نجد في صالة الحريم أو الأسرة ، وكما يطلق عليها بالاسبانية -Sala de las Camas مثلثات ملونة بالأخضر والأصفر،والأسود، والأزرق الملكي (الضارب الى الارجواني) فاذا أهملنا لوهلة الجانب اللوني في الزخرفة ،سيكون بوسعنا ان ندير الورقة الغامقة بمقدار زاوية قائمة الى وضع الورقة الفاتحة. واذا استمرت هذه العملية من الدوران أربع مرات فإننا نحصل على المربع الفيثاغورسي. ومرة أخرى اذا الغينا الفوارق ´بين هذه الألوان ، كما يقترح جاكوب برونوفسكي، العالم البريطاني من أصل بولندي ، وفكرنا فقط في المثلثات الغامقة والفاتحة ، في قاعة الاستقبال والاستراحة في حمام قصر الحمراء، سنجد أن هناك تعاقبا في التناظر. واذا ثبتنا بصرنا على نقط الربط ، سنرى أن هناك ستة أمثلثات تلتقي فيها، وهي غامقة وفاتحة عل التوالي ، أي أن هناك ثلاثة تناظرات تنتظم التشكيلة. لكننا إذا أهملنا الألوان سنحصل عل ستة تناظرات فضائية.هذا التناظر السداسي هو في واقع الحال تناظر بلورة الثلج. ان البني التي اتخذتها الأنساق المنتظمة في الطبيعة مي البلورات ، ان البلورات في الطبيعة لها وجوه مسطحة ، منتظمة متناظرة ، وهذا يذكرنا أيضا بالأنساق الفنية العربية المسطحة والمنتظمة والمتناظرة ، ان ذرات البلورة مرتبة في الاتجاهات كافة… وبذلك ننتقل من اللعبة الى علم البلورات ، على حد تعبير برونز فسكي في كتابه (الانسان في معارج الرقي،: (The Ascent of Man ان التفكير في الانماط التي تعبر عن سائر إمكانات التناظر في الفضاء (في إطار بعدين على الأقل ) كان الإنجاز الكبير للرياضيات العربية التي جاء مردودها بعد الف عام أي في عصرنا الحاضر.
والآن اذا انتقلنا الى التصإميم التي يمكن استنباطها من الأشكال الأساسية ، كالمثلثات والمربعات ، لرأينا ان سطحا مؤلفا من المثلثات والمربعات المتجاورة يمكن أن يعطينا مئات التصاميم المختلفة اذا شئنا، بعد أن نعين الوحدة أو الخلية الأساسية للزخرفة. وهنا كعب المسطرة والفرجال دورا أساسيا في التخطيط. فاذا أردنا ان نملا أو نفطي سطحا معينا (جدارا، سقفا، أرضية غرفة ) بزخرفة دون أن نترك فراغا، فان الخامة الهندسية الأساسية لذلك هي الملث المتساوي الأضلاع أو المربع.ومن أي من هذين الشكلين بوسعنا ان نجترح أشكالا شتى بما في ذلك شكل على هيئة عظم ، أو سمكة أو سمكة طيارة أو طائر، أو طاحونة ، أو فراشة ، الغ. ولا شك اننا باستخدام الفرجال عند رسم الدوائر أو انصافها أو أرباعها، داخل الانساق المربعة أو المثلثة سنحصل على أشكال منحنية. بل إننا نحصل على انطباعات منحنية حتى بدون هذه الأقواس الدائرية.
ومن المتعارف عليه في الغرب ان فن الزخرفة، (الأرابيسك ) ، مستمد من أعمال الحرفيين الفنيين الاغريق في آسيا الوسطى ، وكان في بدايته يشتمل على الطيور في أشكالها الطبيعية. ولئن صح تحديد هذا التاريخ لفن الزخرفة، بالمعنى الضيق للكلمة، فإن جذورا أقدم لها يمكن تلمسها في العديد من النقوش و الاعمال الفنية القديمة، بما في ذلك مدخل وبوابة عشتار في بابل الكلدانية (في عهد نبوخذ نصر: منتصف الألف الأول ق.م ) ولعل هذه الانطباعات. الزخرفية ترقى الى تاريخ أبعد من ذلك بكثير، ربما الى العصور الحجرية القديمة (المتاخرة)، على نحو ما تجده على صخور وجدران الكهوف من أشكال هندسية، كالمصبعات (القضبان المتعامدة) ، والخطوط المتعرجة ZIGAG ، والنقط ، والأشكال الحلزونية ، والمنحنيات..
وقد ظهر الاهتمام بفن الزخرفة في العالم الاسلامي في حدود 1000 م ، حيث أصبح طاغيا في جميع التزيينات الفنية، لاسيما في العمارة، والكتب. ويزعم أن الزخرفة الاسلامية استبعدت عن كل ما هو غير هندسي ، غير أن هذا غير صحيح.
وتستند الزخرفة على مبداء التكرار المتماثل والعكسي ، وعلى قاعدتين جماليتين أساسيتين: التغير الايقاعي للحركة مع ما يتركه من انطباع هارموفي ، وضرورة ملء الفراغ أو السطح بكامله بالزخرفة ولا تقتصر الزخرفة على الأشكال الهندسية البحتة، بل على الخط (الكتابة) أحيانا ، والزهور والأشكال الورد ية ، والأشجار ( لا سيما النخلة ) ، والحيوانا ت ، والأشكال الآدمية أيضا. وقد اتخذ هذا الفن طابعه النموذجي في العصر العباسي ، وبلغ أوج تطوره في العهد السلجوقي ، والفاطمي ، والاندلسي. ومن أسبانيا الاسلامية وجد طريقه الى أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، وعرف هناك باسم الموريسك Mo- RESQUE, وقد أدخله الى إيطاليا FRANCESCO BEL LEGRINO, والى فرنسا فنان مجهول يدعى G.J ، والى ألمانيا هانس هولباين وبيتر فليتنر (من الموسوعة الاسلامية).
وفي أوروبا استعملت الزخرفة منذ عصر النهضة حتى بدايات القرن التاسع عشر في تزيين المخطوطات ، والجدرا ن ، والأثاث ، والمصنوعا ت المعدنية ، والفخار. وغالبا ما تشتمل الزخارف الأوروبية على أشكال غير هندسية: أغصان ملتوية أو متعانقة ، أو أوراق شجر، أو خطوط مزخرفة مشتقة من أشكال طبيعية. وكان للأشكال الادمية حضور واضح في الزخرفة الغربية. وبدأت زخارف قصور الحمراء في غرناطة تجتذب انظار واهتمام العالم بصورة خاصة منذ كتب عنها الدبلوماسي الامريكي واشنطون ايرفنغ في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أما على الصعيد الفني التشكيلي فربما كان موريس كورنيليوس أيشر.الفنان الهولندي ،أول من حاول تطوير فن الزخرفة ، بعد زيارته قصور الحمراء في العام 1936 . وقد اتسم أسلوبه منذ تلك الزيارة بالجمع بين الواقعية المفرطة في دقتها والانطباعات البصرية الخداعة. فجاءت أعماله تصويرالامساخ غير متوقعة لأشكال عجيبة متطورة عن أشكال هندسية.
كانت لدى أيشر رغبة لتوسيع الآفاق المحدودة في الأشياء المسطحة.فمنذ الفنان الايطالي جيوتو في القرن الرابع عشر بدأ الفنانون بخلق انطباع من العمق على الشيء المسطح (كالورقة، أو الجنفاصة، أو اللوحة) لكن المباديء الفنية هذه التي ترقى الى أيام عصر النهضة الايطالية لم تذهب بعيدا بما فيه الكفاية، بالنسبة لهذا الخيميائي. كان ايشر مسكونا بهاجس الوقوف على طاقة التناظرات العمودية، التي من شأنها أن تحقق عمقا أكبر ونظرات متعددة في الصورة الواحدة، وفي بعض الحالات يمكن استعمال أكثر من نقطة تلاش واحدة في الصورة. كان يريد أن يبرهن على أن السطح ذا البعدين مؤهل لأن يترك انطباعا بأبعاد وايحاءات أكثر مما كان عليه الحال في الماضي.
ان التأمل في أي من أعمال ايشر أشبه بولوج عالم آخر ،حيث تتزعزع جميع أساساتنا الصلبة ويحل محلها أبعاد فضائية جديدة. وهذا ينعكس في عالمه الذي يشتمل على السمك ، والعظايا، والطيور ،والبحر، والمناظر الطبيعية، منعكسة على الماء أو في المرايا. ولطالما يبدأ بأشكال هندسية صلبة ، ثم يتدرج بها في الصورة نفسها – لتستحيل الى كائنات حيوانية، وقد تستحيل هذه الكائنات من صنف الى آخر: من سمك الى طيور ، على سبيل المثال. وهذا كله جاء بعد زيارته قصور الحمراء في العام 1936 التي كانت بمثابة نقطة تحول في رؤيته الفنية ، كما سبقت الاشار ة الى ذلك.
ويتساءل دوغلاس هوفستاتر في كتابه (ماجيكال ثيماس: البحث عن جوهر العقل والشكل ). ما الفرق بين الموسيقى والفنون البصرية ؟ ويرى أن الفرق يكمن فيما يدعوه بعامل الزمنية. فالموسيقى تستند بالأساس الي عامل الزمن ة أما الفن فلا. وبكلمة أدق ، أن الموسيقى تتألف من أصوات ينبني أن تؤدى وتسمع في تسلسل محدد وبسرعة محددة، من هنا فان الموسيقى ذات بعد واحدة انها مرتبطة بإيقاعات وجودنا. أما الفن فعلى العموم ذو بعدين أو ثلاثة. ونادرا ما نجد أعمالا فنيةوفق نظام تقطيعي أو تعاقبي. لكن هناك استثناءات لهذا التعميم. فالفن الاوروبي له طابعه النسيجي السابع وسيكلوراميته التأريخية (مناظره المتعاقبة) أما الفن الشرقي فله لفائفه التصويرية التي تبلغ مئات الأقدام في طولها. انه عمل امتدادي. وهذه النماذج من الفن البصري أو التشكيلي تفرض نظاما زمنيا متعاقبا على العين المتفحصة أو المتابعة فهناك نقطة بدء ونقطة نهاية كالموسيقى.
وفي حديثه عن" التنويعات الزخرفية " أو "تنويعات الباركية" يعرف المصطلح بقوله: تقليديا ، ان الباركيه Parquet عبارة عن مزائيك منتظم معد من قطع أخشاب مطعمة على أرضية غرفة أنيقة ؛ اما التنويع فهو شيء بين التشويه والتغيير. ويصف ترصيعات الباركيه عند وليم هف HUFf بأنها تجريدية ؛ انها ترصيعات فسينسائية (أوقاشانية) لسطح ما، ترسم بخطوط ومنحنيات تقارب الصغر في سمكها. ويتوخى في تنويعاتها الفسيفسائية شيئان.
1 – هناك تغير في بعد واحد فقط ، لكي يرى المرء تدرجا زمنيا أو تسلسليا يتحول فيه ترصيع ما من شكل الى آخر بالتدريح.
2 – في كل مرحلة يجب أن يتألف المخطط من ترصيع منتظم في السطح (أي ينبغي وجود خلية – وحدة – يمكن أن يضم اليها عدد لانهائي من – الخلايا لملء سطح بكامله ).
ويعترف وليم هف بأنه تأثر في العام. 1960 بالترصيعات الخشبية لمرويس كورنيليوس ايشر، تحت عنوان " نهار وليل ". في هذا النموذج تتحول أشكال من الطيور القاشانية أوالفسيفسائية تدريجيا (اذا نظرنا اليها نحو الاسفل ) الى أن تصبح على شاكلة البقلاوة. لكن واقع الحال هو العكس ، إن الاشكال المستطيلة في أسفل الصورة، تتحول الى أشكال ذات بعد ثلاثي. وتتحول الحقول الى طيور بيضاء وسوداء تظهر على مستوى جديد ، وهي تطير فوق خليط من الحقول في السماء فنحن نرى هنا طيورا سودا تطير باتجاه الضوء، ضوء النهار في حين تطير الطيور البيض باتجاه سواد الليل. وكل شيء يبدوا كأنه يخرج من المربعات الرمادية، ثم أن هناك تناظرا عموديا في الصورة بين الأبيض والأسود. والفرق بين ترصيعات ايشر وهف ، ان الأولى تشتمل على أشكال حيوانية بصورة عامة، في حين يصر هف على ان يبقى في إطار الاشكال الهندسية البحتة. ان الزخرفة الكلاسيكية ، بما فيها من تناظر تام ، عربية كانت أم سواها، تعكس الامتثال للنظام والوحدة المطلقة والكلمة الواحدة أما التمرد على النمطية في الزخرفة ، كما حاول موريس كورنيليوس ايشر منذ الثلاثينات من قرننا ، وتبعه أخرون في عصر الكومبيوتر فيعكس تململا على النظام والتماثل والامتثال ، ونزعة ذاتية حرة، مستقلة. لكن هذا التمرد على نحو ما نشاهده في بعض النماذج ، لا يبدوا فوضويا بقدر ما ينطوي على شيء من التنويع على الجوهر.
علي الشوك (كاتب وباحث عراقي يقيم في لندن)