صباح مفاجىء.. تدخن شمسه ما تبقى من غليون الليل وتنفث أشعتها دخانا يتقطر في حنايا المقبرة التي اتخذها وطنا. تحسس بيده علبة سجائره لحي يستفيق ، وخزته أحدى الاشواك ، بطرف عينه لمح الورود المكدسة _ميت جديد، تنهد.. الزهور للموتى ، والمقبرة لك (ليحتفظ باحداها لصديقته التي قد تقرع ضحك في سخرية ، غمغم.. يحتاج سكان المقابر كأصوات الخارج – للخبز لا للزهور _ ترجل من ذاكرة الموت ، قطع الشارع الفقير من الخبز الى شارع فقير من الزهور.. دلف الى المطعم العتيق بألوان حوائطه الكاهية ، وموائده المهترئة ، انعشته ابتسامة خجل للعجوز الذي يدور بأكواب المياه ، يتقدمه الى أحدى الموائد هاشا، (بحنان يكبت الشوق ). ومن خصر زميله الجرسون انتزع الفوطة التي تشرب لونها بالسواد من كثرة عراكها بالموائد، في هما المحب نظف المائدة ، ترك ابتسامة ، وسحب جسمه تاركا المكان للجرسون ، بين الفينة والاخري ، يهرع لتبديل أكواب المياه.
نحيل إلا من وهج حضوره ، وحياء متوثب البقشيش للجرسون والدعاء والسؤال عن الصحة له _ وابتسامة تطل على حافة الكوب.
في غمرة انهماكا بالفول ، أخذ يرقبه يزوغ منه دائما قبيل قيامه بدفع الحساب كيلا ينقده ربع الجنيه محبة لا بقشيشا.
مازال هناك من يستطيع أن يختبيء رغم العوز – يبتسم وهو يخرج ، ستزعم صديقته بابتسامة مصطنعة بين الوله والحزن أنه يذكرها بأبيها.
وسيكمل دورته الى المقهى العتيق الفقير أيضا، سوى من شموخ ماسح الأحذية الذي فيف على السبقين بقوام يأبي أن ينهال وكبرياء تظلل سمرة وجهه الراسخة بلمعة الرضا، وجلبا به المشرب بلون الكركديه ، وصوته المجلجل الذي يدخل شارع الحنان فقط حين يلقاه ، ويعرف أنه سيسلم له حذاءه وقلبه في انصياع واسترخاء تام.
نقل عينيه من السحنة المطمئنة الى سباطة الموز المعلقة على مدخل المقهى، والى حبة الأناناس التي هجنها من يزعمون أنهم أبناء عمه ، مصمص شفتيه ترحما على زمن الشهد والحرش ، بدل رجليه في انتظام حسب الأوامر وتحاشيا للشموخ المنتصب أمامه أناخ سمعه الى شجار حول الهدف الملغى ، وزواج النجم المسبسب من المغنية الحسناء وجوه على المعاش _ ثلة الموظفين المتجمعة حول طاولة الدومينو والتي لا تبارح أما كنها الا عندما يرش النادل المياه.
وجوه بائسة تنتفض فقط (للاش ) وتلقي بجلبتها الى أطراف الطاولات البعيدة ونظرة ماسح الأحذية الحادة تخترق صفوف الدومينو.
توزعت همهمات المشجعين حول جشع زوجة الابن ، وغنج الخادمة ، سحر الحناء وبركة العكاوي (دش ).
في غمرة الصياح دفع اليه بنصف الجنيه ، لم ينتأ أن ينظر اليه كثيرا. وهو يناديه مع السلامة يا دكتور باشا. خشية أن تكون المرة الأخيرة التي يرده فيها، إحساسه يلكزه بالغياب ، كلما فكر أن يأتي لرؤيته والسلام أمانة للمدام (يقصد صديقه أول الشهر).
للحنين مواعيد.. عاودته الحوافز، صديقته تقرع باب المقبرة ، ليعودا الى المطعم ستدور عيناه متلصصة على الرجل دافق الابتسامة والمياه ، وعندما يرقب الجرسون حيرته سيتردد في صفعا بألوان المطعم الرمادية ، وجلطة المخ التي فاجأته ساعتها سيعرف أن المياه التي حملها ومقاها لم تشفع له.
تسحبه قدماه خطوته تنهياه تقوده لا يعرف الى أين.
فقط يعرف أنه لن يكمل دورته الى المقهى، لحي تظل ذاكر ته معبقة بكبرياء ماسح الأحذية (ويعرف أن السماء تخبي، أقمارها في قميصه )، وأنه لن يرمي الزهور من بعد، ولن يحتفظ بواحدة منها لصديقته.
وحيد الطويلة(كاتب من مصر)