دون كيخوطي يصارع طواحين رياح الشرقي .
يقف دون كيخوطي وقفته الطللية أمام بناية مسرح تحمل اسم من شكله من كلمات وصور خلقته الورقية وأطلقه في المخيال الانساني رمزا لمحارب مهزوم في معارك وهمية . أمام البناية الآيلة للسقوط ، يقف دون كيخوطي مشمولا بعواصف رياح الشرقي وقد صارت أعنف في الظهيرة كعادتها كلما حلت ضيفا غير مرغوب فيه على طنجة . الحروف اللاتينية المشكلة للعبارة الاسبانيةGran Teatro rvantes Ce «مسرح ثرفانتس الكبير" مرفقة بسنة التدشين 1913، تتراءى له في زوابع الشرقي كما لو كانت طواحين هوائية تنذر بمعركة جديدة من حربه الوهمية الطويلة التي لا ولن تضع أوزارها.
التماثيل وقد عبثت بها الكسور والشقوق ، منصوبة في أعلى الهرم القرميدي لواجهة المسرح الأمامية لا تزال . في هذه الأثناء وقد فعلت رياح الشرقي بمزاجه ما فعلت ، تبدو له وكأنها أصنام عدوانية لخادمة سانشو الذي اختار هذا الزمن الرديء لإعلان عصيانه وتمرده على سيده .
واجهة "مسرح ثرفانتس الكبير" ذاتها، بفسيفسائها الآخذة في التشوه وربما الاندثار، تدفع دون كيخوطي الواقف أمامها في ذهول ، لتجاوز وضعه السلبي، والاستنجاد بشخصيته المستبسلة دوما في قتال طواحين لامانتشا الهوائية "المعركة لا محالة قائمة " يصرخ دون كيخوطي صرخته العسكرية متوسطا ساحة حاصرتها بشاعة عمارات مستحدثة وقيسارية من براريك سوق الملابس المستعملة أو" قلب شقلب " بالتعبير الطنجاوي، يمسح قائد لامانتشا الساحة عساه يتلقى جوابا. صمت . الوقت ظهيرة . لا جواب . الأهالي ربما هم بسبات القيلولة «لاسييسطا "، المتوسطية ينعمون .
وحيدا يتوسط دون كيخوطي "معركته ". أعزل إلا من هواجسه وتكهناته وأحلامه المريضة بالانتصار . جيشه الوهمي ربما أبتلي هو الأخر بعادة قيلولة تبقى أهم من أي نداء للمعركة .
" فلما هذا الاصرار يا دون كيخوطي على إقلاق هدوء مدينة لا تتنازل عن قيلولتها بسهولة ، وان كانت جيوش تيمورلنك الغاشمة على الأبواب ؟ " يسأل سانشو سيده بسخرية خبيثة ، ويضيف بخبث ألطف : " فلينعم الأهالي بسبات قيلولتهم وعلى ثرفانتس ألف سلام ".
يصله صوته . والصورة ؟ سانشو خادمه وهو أدري بملامحه مهما تعاقبت ما تعاقبت من حقب وتغيرت ما تغيرت من أزمان وأجيال . لا ليست ملامحه تلك التقاطعات المرمرية المحفورة بدقة على وجوه التماثيل الرومانية المتربعة قمة الهرم القرميدي لواجهة مسرح ثرفانتس الأمامية . مهما عاثت فيها ظروف التعرية وسنوات الاهمال الرسمي فسادا، فلن تخدعه ، ملامح سانشو يعرفها وتعرفه . هي ملامح خادمه منذ أن وعي بوجوده الذي أهدأه إياه العظيم ميغيل ديث رفانتس . ما هذه إلا ملامح تماثيل تقضي ما قدر لها من أيام الانحطاط بعد امجاد ليالي عصرها الذهبي.
شياطين أضحت التماثيل ، في انغراس لا يقل شيطنة من شبح سانشو الساخر من سيده . سخرية أحالت الاستعدادات الدون كيخوطية للمعركة الى هزلية من هزليات كوميديا دي اللارتي، والقائد العسكري "العظيم " الى مهرج يبكي ولا يضحك ، في مجابهته الملحمية للفراغ ، في مقاومته لرياح الشرقي المز مجرة . متروك لحاله كنبتة في خضم هذه الهجمة التتارية العاصفة بالمدينة وذاكرتها. متروك لعزلته هو دون كيخوطي. لقدره لقدر يتقاطع وقدر هذا المسرح اليتيم المتخلي عنه بقرار بلدي قاس عام1974 حتى سانشو الخادم الوفي . ها هو ذاك يتنكر لسيده متحايلا على هويته الثرفانتسية ، وقد وصل الصراع المشمول بغضبة الشرقي العنيفة ، ذررته فلا داعي للبحث عن سانشو، فهو لا محالة روح تتناسخ في هذه الأصنام الشيطانية الساخرة من دون كيخوطي/ منا جميعا/ من زمننا الرديء المحكوم بالجشع الجاهلي لأولي الأمر وذوي النفوذ من محدثي النعمة وأغنياء الصدفة الجدد.
من يكون التنين في نظرك ؟:
أيقدم أم يتراجع ؟ التردد سوسة تنخر عزيمته . المعركة لا محالة قائمة . لكن الزاد والعتاد. وذاك اللعين سانشو المتبختر بسذاجة الاتباع الذين صاروا أسياد هذا الزمن اللقيط ؟ فهل يندب دون كيخوطي حظه التعس ؟ يفوض أمره لثرفانتس صانعه وهذا المصير المأساوي المرتبط بعبثية تصديه لعدوان المجهول .
يخرج دون كيخوطي درعه ، إيذانا بدخول المعركة . مهما يكن من أمر، فهو للقتال منذور. وتمرد سانشو وتفضيل جيشه الوهمي الاستمتاع بالقيلولة على المعركة ، لن ينالا من عزيمته ، كيف لا وغضبة رياح الشرقي تنذر بانبعاث التنين المنكمش على بعضه ، متحينا الفرصة للانقضاض .
– "ومن يكون التنين في نظرك ؟" يسأل سانشو بخبثه المعهود.
– "التنين : تناسل وتكاثر" يجيب قائد لامانتشا وقد انشغل بارتداء درعه اللامعة تحت أشعة شمس ما بعد الظهيرة .
– "تناسل وتكاثر؟! تلك حال الانسان الذي أصله تراب واليه يعود قائدنا المغوار" .
"لا يا خادمي المتمرد. الذي أصله تراب بالفعل هو الياجور. وبالياجور يصنعون العمارات . وبالعمارات يبيضون الأموال المدنسة ، وبالأموال المبيضة تنتعش
البنوك . وبالبنوك يتفاقم الفقر. وبالفقر يتناسل الجهل . وبالجهل يتكاثر الجهلة . والجهلة يتربصون بالمدينة ، بذاكرتها، بكل جميل فيها. بمسرح ثرفانتس هم متربصون . هل فهمت الآن من يكون التنين ؟ ".
سؤال أطلقه دون كيخوطي وترك وراء ظهره صداه يتلاحم ورياح الشرقي العنيفة المتنفذة بصفيرها في هذه الساحة المقفرة . ترجل مقتربا من البناية الموصودة بوابتها القضبانية . "هل الأمر يتعلق بسجن ؟ أتراهم حكموا على ثرفانتس بالموت التدريجي؟ أم هو إعدام بالتقسيط ، في انتظار أن يستجمع التنين ما لديه من همجية ؟"
متسائلا حائرا، وقف وقفة مبتهل كما لو كان في تأهب لولوج معبد. فكر قليلا : " للتدمير أكثر من صفة . وللتنين اسم واحد. إنه ميدوزا Medusa المعروف في الميثولوجيا الاغريقية بمنظر مميت . برأس تكسوه بدل الشعر الثعابين . وكل ما ومن وقع عليه نظره ينقلب الى حجارة ". نظر الى البنايات المستحدثة مؤخرا والتي تجثم على صدر طنجة خانقة أنفاسها ، كما لو أنها تنين له ألف رأس بملايين الثعابين المتدلية من شعره في نهشها الوحشي لذاكرة المدينة .
سحب البوابة القضبانية الخضراء وتقدم بخطوات متصوف زاهد، الى أن توسط الفناء. رفع عينيه الى أعلى حيث اللوحة الرخامية الصفراء المؤطرة بموزاييك الأزهار الخرافية ، ذات الأحرف الاسبانية الزرقاء، والتي اعتلت جدارية ناتئة لكهنة الاغريق وهم في رقصاتهم يصلون لإله الخمر ديونيزوس . فهل يشاركهم طقسهم الديني من أجل ثرفانتس حتى يحفظه الاله من نظرات التنين الخبيثة المتربصة بالمدينة ؟ أم يستنهض ذلك البطل المطل رأسه من أعلى اللوحة الرخامية .
قناع إغريقي أم رأس بطل ؟ لا يهم . بتأمله له ، يستحضر دون كيخوطي البطل الأسطوري بيرسيوس Perseus , لم لا ؟ إن لفي بريق عيني هذا القناع شرارة امجاد بيرسيوس وهو يقطع رأس التنين الخواف ميدوزا مخلصا محبوبته من بطشه قبل أن تؤثر فيها نظرات التنين فتنقلب الى حجارة .
فمن يتصدى للوحش ويخلص طنجة من تنين الحجارة ؟
الزبير بن بوشتي (قاص من المغرب)