إستيل لينارتوفيتش*
ترجمة : محمد ياسر منصور -مترجم سوري
كَم من الفرنسيين يَدين للشاعر بريفير بِتذوُّقه للكلمات والفِعل الجميل؟ إنه إلى جانب الشاعر “لافونتين” يَظلَّان ذكرى خالدة لدى كل من جَلَس على مقاعد الدراسة طوال حياتهم. إنه مُفكِّر، وحُرّ، وروحه المتمرِّدة دَليله وبُوصلَته. ومع ذلك فإن بريفير ليس سوى صَبيّ عاقِل لم يُعانِق مِهنة الشِّعر إلاَّ متأخِّرًا، يقول برأسه (لا)، لكنه يقول بِقَلبه (نعم)…
عيد نوي – نوي
رأى (جاك بريفير) النُّور يوم 4 فبراير عام (1900) في (نويلِّي) على نهر السين، وفي ذلك الحين لم تكن نويلِّي، وهي المدينة الهادئة في ضواحي باريس، قد اكتسبت بَعدُ الشُّهرةَ التي تتمتَّع بها اليوم، بسبب عيدها الشَّعبي الكبير المسمَّى (عيد نوي – نوي)، وهو عيد يقدّره الباريسيون. كان أبوه آندريه غريبا عجيبًا حالِمًا، ويعشق المسرح والرياضة والسياسة، وكان يعمل في مكتب وكان يتبرَّم من الموت. وهذا المُتيَّم بنابليون بونابرت كان مُقاوِمًا للإكليروس كَردَّةِ فِعل على والده. وكان يصطحب أولاده إلى المسرح عندما يُتاح له المَجال. أمَّا الأم سوزان أُم جاك فكانت امرأة جميلة من (أوفرنات)، وكانت تعمل بائعة في سوق الخضار، وكانت تصطحب أولادها للنزهة في غابة بولونيا وتُغنِّي لهم بعض الأغاني وتُعلِّمهم القراءة. وفي سِنّ خمس سنوات تعلَّم جاك القراءة بسهولة ويُسر، وبَدا لديه بوضوح التذوُّق الأدبي. وأبوه الذي كان يُعاني جرَّاء قَضائه سنوات في البنسيون رأى من الأفضل عدم إرسال ابنه إلى المدرسة.
في العام (1906) وُلِدَ للأسرة مولود جديد سُمِّي بيير، وتَلقّاه أخواه بكل حَنان، وفي العام نفسه، فَقَد الأب آندريه وظيفته بشكل مفاجئ. واضطرَّت الأسرة المُفلسة إلى تدبير أَمرها والانتقال إلى شقَّة أكثر تواضعًا، حامِلةً رَضيعها بين يديها. وتَرَك آندريه المقهى الكبير الذي كان يتردَّد إليه واستعاضَ عنه بِمَقهى على رصيف النهر رخيص الثَّمن. وكانت سوزان تركض وراء القُروض. لقد حافَظَت الأسرة على المَظاهر، لكن الفَقر كان يقرضها. وسرعان ما رَحلَت الأسرة إلى (تولون). ورَاوَدت آندريه أفكار سوداء، فَباحَ لابنه في مساء شتوي عَقب نُزهة حزينة قائلًا:”سَأقذفُ بنفسي في الماء”. فأجابه ابنه آخذًا بِيَد أبيه وكأنه طفل صغير ليُبعِدَه عن النهر(1). “هيَّا بِنا يا أبي، لا تَفعل هذه الحَماقة”. بعد ذلك ببضعة أيام أَخرجَ الجَدّ (أوغست) القاسي -والد آندريه- الأسرة من مِحنتها ساعِيًا لابنه بوظيفة في المكتب المركزي للأعمال الخيرية في باريس، ليعمل زائرًا للفقراء. ومهمَّته الحُكم على هؤلاء إن كانوا يستحقُّون مُساعدة ويستخدمونها خَير استخدام. حَطَّت الأسرة رِحالها وحقائبها شِبه الفارِغة في شارع فوجيرار، على بُعد خطوتين من حديقة لوكسمبرغ، وفي تلك الحديقة أصبح أطفال بريفير يقضون وقت فراغهم كلّه وعُطَلهم، لِعَدم وجود الأفضل.
قاع المدينة:
غالبًا ما كان جاك يُصاحِب أَباه في زياراته إلى قاع المدينة. وذُهِلَ الصَّبيّ مِمَّا رأى، واختزنَ في ذاكرته الصور التي وجدناها فيما بَعد مُتجسِّدة في أفلامه. يقول جاك “ذَهَبنا إلى كل الأمكنة ودَخَلنا جميع البيوت كما كنَّا نَصنع أثناء العيد… كانت دائمًا الشوارع الأكثر فَقرًا والأحياء التي تحمل أجمل الأسماء: شارع الصين، شارع القطّ الذي يصطاد، شارع الدببة… وكان الفقراء طَبعًا هُم الذين أَوجدوا هذه الأسماء لإضفاء الجَماليِّة على الأماكن البائسة”(2). وكانت الأسرة تذهب كل أسبوع إلى السينما في البانتيون. “كان وراء الشاشة يقبع رجل صغير الحَجم يصنع بأداة صغيرة كل الأصوات التي لا تدلّ على شيء”(3). وفي العام (1907) دخل جاك أخيرًا إلى المدرسة الابتدائية، لكنه كان يملّ ويتسلَّى باختبار مَوهبته على الرَّد السريع. “كنتُ أَضجَر من المعلِّم ولمَّا كنتُ أتكلَّم كان يبدأ بالصراخ: بريفير.. أتريد أن تَسكُت؟!، وكنتُ أُجيب (كلَّا)، وكان ذلك في أثناء دَرس القواعد، وكأنه كان من حَقِّي الرَّد على سؤاله. فما كان منه إلاَّ أن يقول لي اخرس، وكنتُ أَسكُت رَغمًا عنِّي لأن ذلك كان أمرًا. وكل ذلك من أجل إشارة استفهام! كما يقول أبي”(4). وبينما كان جاك يُحرِز علامات جيِّدة جدًا في دروسه، كان يشتكي لأبيه من الحماقات التي كانت تُلقى عليه أثناء الدروس الدينية، فكان أبوه يُسارِع إلى عَرض خرافة صغيرة له قائِلًا: هذا سيُغيِّر أفكارك، وأخيرًا أفكارهم”(5). وبَدأ جاك بالتسكُّع والنُّزهة بَدلًا من الذهاب إلى المدرسة، وأكملَ دراسته على بلاط أرصفة المدينة المزدحم بالناس. ولتسويغ غيابه المتكرِّر عن المدرسة شارَكه أبوه هذا التصرُّف الخاطئ إلى درجة أنه كَتَب لمدير المدرسة يُخبره أن زوجته مريضة جدًا، وبدأ جاك الصغير يتغيَّب كثيرًا عن الصَّف… والشجاعة الوَقِحة التي كانت تُميِّز جاذبيّة الأم استغلَّتها أيضًا لِسَبْر الطبقة الدنيا في باريس والذهاب إلى السينما ومتحف لوكسمبورغ، والذهاب إلى المسبح.
أَيَّة بَلاهة هي الحرب
صيف (1914)، لَفَّ إعلان الحرب المدينة بغطاء من الرصاص كما لَفَّ الحياة البوهيمية للشاعر، إنه شديد الحساسية تجاه كل من يرتدي الزَّيّ العسكري. لقد ظلَّ جاك غامضًا تجاه الحماسة العسكرية التي استولت على الشبيبة. لقد كَتَب فيما بَعد في إحدى قصائده الشهيرة “أَيَّة بَلاهة هي الحرب” في قصيد باربارا (في ديوانه كلمات). وفي العام (1915)، قَطَع دراسته وعَملَ كاتبًا في بازار في شارع رين. والفلوس القليلة التي كان يُعطيها لأُمِّه لم تكن كافية أبدًا. وفي ذلك الحين حَلَّت مَأساة بالعائلة: فقد أُصيب جان الأخ البِكر بِحمَّى التيفوئيد المُرعبة التي قَضَت عليه. وفي العام (1916)، عَمِلَ جاك في تجارة البضاعة الرخيصة، حيث يُقدِم بِمَكر ودَهَاء على نَقل الأغراض والأشياء وتحويلها عن وُجهتها: “أي أنَّ غَرَضًا أو بضاعة ليست لَنا، يعمل على أن تُصبِحَ لَنا، بحيث تَرِدُنا عن طريق البريد بعد أن يُغيِّر بِبَساطة شيئين أو ثلاثة أشياء، فَيُغيِّر اللُّصاقة التي عليها العنوان(6). صُنِّفَ جاك بأنه حَالِم ويحمل (روحًا شِرِّيرة)، وهكذا انحرفَ عن (الطريق القويم) بسبب عَامِلة في المتجر. لقد بدأ إذًا حياة على هامش المجتمع الباريسي: فاختلطَ بالسوقيِّين والصِّبيَان المَشبوهين، وارتكبَ بعض أعمال النَّشل وأنشأَ علاقات جنسية مع فَتَيات غير عَفيفات… لكنه كان حريصًا على البَقاء بَعيدًا عن رادارات البوليس. يقول بريفير عن تلك السنوات غير المعروفة كثيرًا في سيرته الذاتية: “لكن طَهارة سِجلِّي العَدلي مازالت باقية لغزًا لي”(7).
في مارس(1920)، وَجَد جاك نفسه مُرغَمًا بِدَوره على أداء الخدمة العسكرية.
وفي إدارة لينفيل في اللُّورين عثر على شخص أَرعَن مَمسُوس غَريب يُدعى (إيف تانغوي): فَفِي الثَّكنة ظنَّ أن ذلك الشخص مَعتوه. كان يأكل العَناكِب على أنها لحم خنزير مَفروم. أَكانَ يتصنَّع الجُنون لكي يُسَرَّح من الجيش؟وكان بريفير يشمّ رائحة خدعَة في تَصرُّفه، ثم ارتبطَ الزميلان برباط صداقة. وبعد بضعة أسابيع حصلت تغييرات في التنقُّلات أَرسَلَت بريفير إلى القسطنطينية، حيث تَعرَّف على (مارسيل دوهاميل) الذي كان يعمل ترجمانًا لدى هيئة الأركان والذي أصبح في المستقبل ناشِرًا لدى دار (غاليمار). فأَحبَّ الشابان بعضهما حالًا وأصبحا كالأخوين.
بعد خدمة سنتين في الجيش، عادَ بريفير إلى باريس، حيث تنتظره حبيبته سيمون وشِلَّة من أصحابه، القُدامى والجُدد. ومُرغَمًا على تأمين لقمة عَيشه، لم يكن لديه من مَوارِد أخرى سوى آخر راتب تَقاضَاه، حَصَل مع ايف تانغوي (آكِل العناكِب الذي أصبح رسَّامًا) على وظيفة في بَريد الصحافة، في شارع مونمارتر. وتقوم مهمَّتهما على انتقاء المَواد التي أَرسَلها الزُّبُن المحدَّدة أسماؤهم ومُراسَلتهم. لكن هذان المَاكِران لا يُفكِّران إلاَّ في المزاح، فكانا يُرسِلان قُصاصات مُلصَقة تُشكِّل رَسمًا ما أو قُصاصات من الصحف فيها بعض الطُّرَف الغريبة جدًا. لذا لم يَطُل بهما الوقت حتى طُرِدا من الوظيفة. يا لِلسُّوء! لَدى كلٍ منهما سَقف، أمَّا الغِطاء فيمكنهما الاعتماد على (مارسل دوهاميل)، الذي كان يدعوهما إلى الوَلائِم في فندق (واغرام) حيث يعمل رئيسًا للاستقبال.
في هذه الفترة التي سادَتها الحياة البوهيمية السعيدة، اكتشفَ كلٌّ من (بريفير) و(تانغوي) في شارع أوديون، دار أصدقاء الكتب. وكانت سيِّدة الدار سيِّدة أديبة تُدعى (آدرين مونييه)، وقد جَعلَت من الدار مكانًا لاستقطاب نوى الحياة الأدبية فيما بين الحربين العالميتين. وهذه الشَّابَّة الثلاثينية ذات الشعر القصير والسترة المخمليِّة طَوَّعَت من هَذين الهَزَلين وجَعَلَتهما يَنكبَّان على قراءة (لوتريامون) و(فاليري) و(ليون – بول فارغ) و(فاليري لاربو)… وبِفَضلِها دَخلَ بريفير بِقَدَم راسخة عالَم الثقافة، والتقى بِصَديقيّ آدرين وَهُما (آندريه بريتون) و(لويس أراغون)، والاثنان طالِبا طبّ ويُديران آنذاك مجلة (أَدَب). ولم يكن بريفير قد أَمسَكَ الريشة للكتابة بَعد.
حياة شاتو
صَيف (1924)، أَقامَت جماعة بريفير في منزل جديد رقم (54) في شارع شاتو، في الدائرة (14). وأصبحَ (مارسيل دوهاميل) منذ ذلك الحين مدير فندق صغير، ويدفع الأجرة للمجموعة، التي يَعدُّها مِثلَ أُسرته وهم: بريفير، تانغوي، وصاحباتهم الخصوصيات، والممثِّل الشَّاب (موريس توزه)… كان شاتو ضد الاعتراف والامتثال، وأصبح البيت الصغير مكانًا تَلجأ إليه الشِّلَّة. وأحيانًا يلجأ إليه المُشرَّدون ليلًا. أَمَّا في النهار، فكان بريفير يقرأ، أو يلصق بعض الصور أو يذهب إلى السينما. كان يقول: “لم أَكُن أُريد العمل لدى أيَّة جِهَة. ويُقال إن الكَسَل أُمّ جميع الخَبائِث … وأنا رأيت أن العمل هو أبوها”(8). في المساء كانت المجموعة تَطُوف على مقاهي (مونبارناس) مُتغلغِلةً بين الجمهور، وكان بريفير هنا كالسمكة في الماء خَفيف الظِّل دائمًا في بِزَّته المُؤلَّفة من ثلاث قِطَع. ويَشِي (جورج باتاي) بذلك وهو صديق ذلك الزمان: «ما من شخص يُعطي عُمقًا أكثر جُنونًا لِمُحادثة طريفة تقوم على بَدهيات من دَهاء سَاخِر وتَلاعُب بالألفاظ الحانِقَة»(9). لقد حَدَث تَقارُب مُباشَر جَمَع بين جماعة بريفير وجماعة بريتون. يتذكَّر ذلك أبو السرياليين فيقول: “كانوا يضحكون مَعًا وكأنَّهم أُناسٌ مُتحابُّون”(10).
في بداية العام (1928)، غادَرَ بريفير سِرًَّا شارع شاتو وأَقامَ مع (سيمون) التي أصبحت زوجته منذ ثلاث سنوات، عند أسفل هضبة مونمارتر. وهذا الرَّحيل تَرافَق مع بداياته في الكتابة. والتَحَق أصحابه بِه في الحَيّ. وأَقامَ بعضهم معه في المَبنى نفسه. وفي فبراير أَلَّفَ أوَّل قصيدة له (للحيوانات هُمومها)، التي وُجِدَت بعد18عامًا في ديوانه (كلمات). كانت الأيام قاسية، وعاشَ الثنائي بريفير في التَقتير. بعض الأصدقاء قَدَّموا له (بيير باتشف)، وهو مُمثِّل شاب ناجح يُريد زَجّ نَفسه في الإخراج ويبحث يائسًا عن سيناريست لأجل فيلمه. تتذكَّر ذلك زوجته دنيز فتقول: “كان ذلك ضَربة حَظّ حقيقية، ومنذ ذلك الحين لم يُغادِرَنا”. وعندما عَلِمَ آل باتشِف بظروف الثنائي بريفير الحياتية الصعبة استضافوهما عندهم وأصبحوا يحمونَهما. وبَعد حِصَص العمل، كان بريفير الثرثار العَبقري يُواصِل الاحتفاء بأصدقائه فَيَمضي في ألعاب خَطِرة: فَمَثَلًا كان يمشي مُشبِكًا يديه على دَرابزين الطابق الخامس أمام الأنظار المنقطعة النَّفَس لِشلَّتِه. إنه يتجاوَز الخَيَال في الحياة كما في الكلمات. أصبحَ بريفير في تلك السنوات كاتِبًا بكل مَعنى الكلمة. وفي العام (1929) ظَهَر الكثير من قصائده في مُختلف المجلاَّت، بذلك الأسلوب وتلك القَدَم الراسخة التي تُميِّزه. وفي صَيف العام (1931)، كانت “مُحاوَلته وَصف عَشاء رؤوس في باريس- فرنسا” قد خَلَّفَت انطباعًا قويًا لدى الوسط الأدبي الصغير. وهي تحمل جَماليّة بريفير كلّها وتفتح في الوقت نفسه عالَمًا للرؤية «طريًَّا وقاسِيًا/ حقيقيًا وسرياليًَّا/ مُرعِبًا ومُمتِعًا/ مُظلِمًا ومُنيرًا/ حقيقيًَّا ومُستهجنًا/ جَميلًا كَكلّ شيء»(11). وما أَذهَل مُعاصريه، هو أولًا قُدرته التعبيرية، وقُدرته على إيجاد شيء من لا شيء. يقول (موريس نادو): “شِعره هو شِعر الشَّعب فَهو: ساذَج وساحِر ومُثير وشَكَّاك طَبعًا أمام مَشهد العَظَمات الزَّائِفة”(12). وعلى الرغم من اعتراف أنداده به، فإن بريفير لم يشعر مع ذلك بأنه كاتِب أو شَاعِر. إنه رَجُل عَمَل لا رَجُل قَلم، والسيناريست المُتمرِّن يُفضِّل الالتفات إلى مشاريع الأفلام، ولاسيَّما إلى جَانِب أَخيه بيير.
على خشبة المَسرح
بريفير المُقيم منذ ذلك الحين في شارع دوفين على بُعد خُطوتين من كاتدرائية نوترادم، أَصبَحَ نَجم شلَّته التي أَطلقَت على نفسها اسم (لاكودم). وهذه المجموعة يربطها ببريفير رباط صداقة وَثيق، تُرسِّخه مجموعة طقوس. وفي العام (1932)، انتقلت القُدرة الكلامية الخَلاَّقة لَدى جاك الشَّاب من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة. فَبِنَاءً على مُبادرة الشيوعي (بول فايان – كوتيرييه)، اقترحَ مناضلون في المسرح العمَّالي على هذا الصَّبيّ اللَّطيف ذِي الطَّلعة البَهيَّة، أن يكتب لِمَسرحهم. ولِكَونه مُثقَّفًا على كل المستويات، دَامَ تعاونه مع مجموعة اكتوبر أربع سنوات. وبِدَفعٍ منه أصبحت المجموعة شركة حقيقية للمسرح الملتزم. الذي يُقدِّم إنتاجه أمام العمال والمُضرِبين عن العمل. والعُروض من الهَزَل الثقيل العِيار وتَمَّ تأليفها وِفقًا لِلنَّار التي أَوشَكَت أن تَشِبّ آنذاك. يومَ أن أصبحَ (هتلر) مستشار ألمانيا. وكان بريفير يلعب الدَّور الأوَّل على المسرح، وخصلة شَعره على جَبينه. “إنه أقَلّ خَطرًا من جنرال -رسَّام قديم في بناية– والآن، الأحياء العماليَّة مَصبوغة بِلَون الدَّم”(13). وفي الصَّيف، دُعيت المجموعة إلى موسكو. ومن هذا السَّفر إلى الأراضي السوفييتية، عادَ بريفير أَقَلّ شيوعيَّة عَن ذِي قَبل.
انتهت مُغامرة مجموعة أكتوبر في العام (1936)، بَعد فَوز الجبهة الشعبية. وبريفير الذي لم يترك كتابة السيناريو، كَرَّس جُهده للسينما، أَمَلًا بتحسين وَضعه المادِّي. ومنذ أوَّل تعاون له مع مارسيل كارنيه (جنِّي، 1936) بَدا أنه قد وَجدَ طريقه الصحيح، الذي لا يمكن لأحد أن يسلكه غيره وهو طريق مُنير: إنه قاع باريس، جَوّ الأحلام وإزالة الأوهام والسخرية التي تُصيب هَدَفها “عندما تَرحَل الأخلاق يَهرُب المال خَلفها”. وخلال عَشر سنوات أصبح بريفير أكبر كاتب حوار في جِيله وصورة عظمى للواقعية الشعريِّة: صَوَّرَ مع رينوار الأفلام التالية (جريمة السيد لانج)، ومع كريستيان– جاك (أرنست المتمرِّد)، ومع (مارسيل كارنيه) طبعًا (رصيف الضَّباب، وزُوَّار المساء، وأطفال الجنَّة)… وأصبح من الآن فَصاعِدًا يكسب الكثير، ولم يكن يومًا في مِثل هذا الثَّراء.
“النَّشر؟ أنا، أبدًا!”
لَجأَ بريفير أثناء الحرب إلى (نيس)، ونَشأَ وُدٌّ بَينه وبَين (رينيه برتليه)، أستاذ الآداب، الذي أَنشأ في العام (1946) دارًا للطباعة خاصَّة به. وفي أوَّل النَّهار أراد الرجل جَمع القصائد المتفرقة لصديقه بريفير، والتي كانت آنذاك حسب نادو: “يتم تَداولها على نطاق واسع. فَيُعاد نَسخها ويُعاد إخراجها، وكان الناس يجتمعون تحت الاحتلال، ويقرأ عليهم شِعر بريفير، وكان ذلك يُفرِحُنا”(14). وعندما باعَ المشروع، دَعا بريفير برتليه: “أَنشُر؟ أنا، أبدًا! “. وفي مايو (1946) ظهر رسميًا أول ديوان له “كلمات” وقد حَمَل على غِلافه توقيع صديقه (براساي). وكان النجاح مباشرًا من حيث النَّقد والعموم. وفي أسبوع صدوره، بِيعَ منه خمسة آلاف نسخة. وفي دار أصدقاء الكتب، لم يبق لديها أي نسخة، واشترى إحدى آخر النسخ (آندريه جيد). ومن بين المُعجَبين بآثار الشاعر نذكر أيضًا (رينيه شار)، (هنري ميشو)، (شارلي شابلن).
غَداة التحرير، بَرزَت (كلمات) وكأنها تركيز لكل ما عاناه الناس طوال أربع سنوات من القهر، فَركَّزَت على (العمل، والأسرة والوطن)… وعلى الفَرد، والثورة، والحلم، والحبّ، والدّعابة. ومن يوم لِآخَر، أصبح (عشاء رأس) أو (الاستسلام) من الكلاسيكيَّات التي تُرافِق الجيل الشَّاب في اكتشافه الجاز والحرية. والخَبَر الذي ذاعَ صيته في (سان – جرمان ديبريه)، وأثار الانتباه ذلك العام يبقى مع ذلك ولِادة ابنته ميشيل. ومَجيء هذه (القطَّة الصغيرة) دَفَع الشاعر إلى محاولة إنتاج سِجلّ جديد “حكايات” (1946) و”قصص لأطفال غير عاقلين “ (1947)، ويدلاَّن على دُخوله من الباب الواسع إلى ثقافة الطفل الجَماعيِّة. ومنذ ذلك الحين، أخذ بريفير أبعاده في السينما وكَرَّس نفسه للكتابة الشعرية ولملصقاته التي كان يُؤلِّفها من قصاصات الصحافة والرسوم.
تورية وأغلاط لفظية
في العام (1948)، لدى مرور بريفير ببناية في شارع الشانزليزيه لإجراء لقاء صحفي انحنى من النافذة فسقط من ارتفاع أربعة أمتار. وظلَّ في غيبوبة بضعة أيام، وعندما خرج من المشفى خرج بإصابات عصبيِّة لا شِفاء لها. وهذا أَضعَفَ قِواه إلى درجة أنه تَخاصَم مع (بول غريمول) في شأن مشروع طَموح للرسوم المتحركة يسمَّى (الراعية ومُنظِّف المَداخِن) الذي تَنَصَّل منه عند ظهوره في العام (1953). وفي العام (1955)، إنَّ مَن غَيَرَّ عنوانه مائة مرَّة ها هو ذا يستقرّ نهائيًا في حَيّ (بيغال)، مبنى (فيرون)، على تراس فوق ملهى الطاحونة الحمراء، في بيت صغير بَناه عمَّال ديكور لِدُور السينما. وأحد جيرانه لم يكن سوى (بوريس فيان). وهناك أَلَّفَ ديوانه (ركام)، وهو ديوان ضَمَّنه (57) مُلصَقًا من مُلصَقاته التي أخذها من مُلخَّصات الصحف ومقاطع اللقاءات والحوارات ومُقدِّمات المَعارِض. وفي كل كتاب كان ينشره سنة بعد سنة، يستمرّ هذا الحَالِم الرقيق الكلام في سحرِ العَامَّة والتأثير في انفعالاتهم من خلال قريحته الفُكاهيِّة وضَراوَته الشِّعرية، وفَنّ بَساطَته المُدمّر بِحَنان ولُطف.كان يُورِد التورية وتَبديل مَواقِع الحروف والأغلاط اللفظية، وكان يعرف حَقَّ المَعرفة أنه لا يمكن لأحد إِضحاك المُستَغَلِّين إلاَّ على حِساب مَن يضطهدونهم.
كان صديق الكثير من الفنانين، فكان يُوقِّع على كاتالوجات العروض ومُقدِّمات كُتب المُصوِّرين، ويَخطُّ بِيَده على اللوحات المُفَضَّلَة ومنها لوحات ميرو، وبيكاسو، وإرنست، وبراك أيضًا الذي تُعَدّ بَساطته التعبيرية قريبة من جَماليَّة الشاعر. وحتى نهاية حياته، ظَلَّ بريفير رَاصِدًا نَبيهًا لِعَصره، يلتزم بكل مكان يُمليه عَليه قلبه، هناك من أجل البيئة، وهنا من أجل الحيوانات، وهناك أيضًا للدفاع عن الأطفال والنساء ضد الشعور بِالفَوقيَّة لدى الرجال الذين يَودُّ أن يكونوا (إنسانيين): “هُوَ/ دائمًا هُوَ، دائمًا هُوَ الذي يُمطِر والذي يُثلِج/ دائمًا هو الذي يُخرِج الشمس/ دائمًا هو/ لِمَ لا يكون هِيَ /أَبَدًا هي”(15).
قَبل مَوته بِسَنة، رأى لأوَّل مرَّة اسمه يُطلَق على إحدى المدارس في (فيينَّا). وانطفأَ قِنديل عُمره في العام (1977) في (أومونفيل) الصغيرة، حينما كان يعمل على قصيدة جديدة عنوانها (مَلِك والعُصفور). وخَلَّفَ وراءه خَمسةً وخَمسينَ فيلمًا، وثلاثينَ كتابًا، ومِئات المُلصَقات و(543) أُغنية(16). ويقول إنَّه وَجَد نَفسه كَسولًا.
الهوامش
(1) سَرد السيرة الذاتية “طفولة” وأشياء أخرى.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) رواية إيف كوريير في “جاك بريفير: في الحقيقة”.
(5) أسبوعيات.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) رواية برنارد شاردير في “جاك بريفير: جَرد حياة”.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر السابق.
(11) “الفانوس السحري لبيكاسو”. “كلمات”.
(12) موريس نادو “جاك بريفير أو مَجيء الشِّعر المادِّي” خادم!.
(13) “ مَجيء هتلر” أكتوبر.
(14) رواية إيف كوريير، المصدر السابق أعلاه.
(15) “أدوار طفولية”، مَشهَد.
(16) إيف كوريير، المصدر السابق.
** إستيل لينارتوفيتش : صحفية وناقدة أدبية. ولدت عام (1989) في باريس. درست الأدب وعلم الاجتماع في جامعة باريس (ديدرو)، وجامعة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عاشت لمدة ثلاث سنوات. تعمل الآن في مجلة L Express الفرنسية.