جان بابتيست بارونيان
ترجمة: محمد حجي محمد-كاتب ومترجم مغربي
لا يخفى على أحد أن جورج سيمنون، ظل طيلة فترة حياته تقريبا، على هامش الأوساط الأدبية، وبشكل عام، خارج الأوساط الثقافية، على الرغم من أن بعض أصدقائه كانوا من مشاهير الأدب والفن مثل مارسيل أشار، ومارسيل بانيول، وجان رينوار، وفرانسيس كاركو، وموريس جارسون، وهنري ميلر، أو حتى فيديريكو فيلليني بعد الدورة الثالثة عشرة لمهرجان كان السينمائي الذي ترأس لجنة تحكيمه سنة 1960. ولا يخفى على أحد أيضا أنه بسبب هذا الموقف، الذي قد تم اتخاذه على مضض، ولكن عن طيب خاطر، استغرقت المؤسسة الأدبية سنوات طويلة قبل أن تنكب بجدية على دراسة الأعمال الضخمة لكاتب لييج.
لقد أدى انعقاد الفعاليات المتعددة التي احتفلت سنة 2003 بالذكرى المئوية لولادته، ونشر العديد من الكتب النقدية والسير الذاتية، بالإضافة إلى نشر إحدى وعشرين رواية له في مجلدين ضخمين من قبل ‹‹مكتبة لابلياد››، أدى كل ذلك إلى تحول في نظرة النقاد إلى سيمنون الذي أصبح يُنْظَر إليه الآن كأحد الكتاب الكلاسيكيين والأساسيين للأدب في القرن العشرين. وفي هذا الصدد، كشف الإجماع الذي يحظى به جورج سيمنون حاليًا في وسائل الإعلام عن تحول إيجابي في رأي النقاد حوله، وهو اعتراف كان يبدو غير وارد، قبل سنوات قليلة مضت.
بعد أن أشرت للتو إلى أكثر معارف سيمنون شهرة كمارسيل أشار، مارسيل بانيول، جان رينوار، فرانسيس كاركو، موريس جارسون، هنري ميلر وفيديريكو فيلليني، عليَّ أن أضيف إليهم جان كوكتو. لقد التقى الرجلان في أوائل العشرينيات، بعدما استقر سيمنون في فرنسا مع زوجته الشابة ريجين رانشون، وهي الفترة التي كرس فيها الكاتب بعض الصفحات، من كتابه ‹‹رياح الشمال، رياح الجنوب» (1976)، للحديث عن الحياة الباريسية آنذاك، وبخاصة في حي مونبارناس الذي كان في طور تحوله إلى «مركز العالم» بـ«فنانيه القادمين من كل أنحاء أوروبا وحتى الولايات المتحدة››. يتحدث الكتاب بعجالة شديدة عن مواضيع مختلفة مثل الموضة الغُلامية المستوحاة من أكثر الكتب مبيًعا1 لفيكتور مارغريت، وعن رقصات تشارل ستون، والبلاك بوتوم، والفوكس تروت، وكذا عن محترفي الرقص والجنس مع النساء بالمقابل، كما يتحدث عن مقهى الدوم، وكابريه لا بول بلانش، ومطعم لاكوبول الذي لم تكن أجواؤه آنذاك برجوازية إلى حد كبير2، يتحدث الكاتب أيضا عن مطعم لو جوكي؛ حيث «كان المرء يجد فيه صعوبة في تحريك ساقيه من فرط الازدحام». ولا يفوت سيمنون أن يشير كذلك إلى «لو بوف دو لاتيراس» أحدث الكباريهات، التي كان يتردد عليها كوكتو رفقة صديقه راديجيه3 الذي كان يلازمه كظله …»
من المؤكد أن الكاتب الذي سيصبح لاحقا مؤلفًا لسلسلة روايات ميغري قد التقى بالمخرج الذي سيصبح صانعًا لفيلم «دم الشاعر» في مدينة باريس الهادئة خلال فترة العشرينيات، ولعله صادفه في ذلك الكباريه الشهير، الذي خلدته الموسيقى المبهجة لداريوس ميلهود بشارع بواسي دانغلاس. ومع ذلك، يبدو من المستبعد تماما أن يكون سيمنون قد التقى بكوكتو برفقة راديجيه نظرا لكون هذا الأخير قد توفي في ديسمبر عام 1923، وأن سيمنون في عام 1923 بالذات، كان يقضي معظم وقته في باراي لو فريزيل في إقليم أليي؛ حيث كان يشغل وقتذاك منصب سكرتير للماركيز ريمون دي تراسي، الرجل الثري الذي كان يمتلك العديد من المنازل والقصور ومزارع الكروم وصحيفة باريس-سونتر في نيفر. في الواقع، لم يبدأ آل سيمنون الاندماج الفعلي في الحياة الباريسية إلا ابتداءً من مارس 1924، حيث بدأ جورج سيمنون، الملقب بسيمنون الصغير، يكتب بكثافة قصصا خفيفة وروايات شعبية تحت خمسة عشر اسما مستعارا، بينما لم تتوقف ريجين -التي كان يلقبها الجميع بـ»تيجي»- عن الرسم والتلوين والتردد على أوساط الفنانين في مونمارتر ومونبارناس، بما في ذلك كيسلينغ، فوجيتا، سوتين، فلامينك، كولان، ديران، فيرتيز، فان دونجين، والدادائيين والسرياليين الأوائل.
لم يكن جورج سيمنون في تلك الفترة يشبه كثيرا الرجل المحظوظ والثري الذي انتشرت صورته بشكل واسع بين الجمهور بعد الحرب العالمية الثانية (والتي ساهم سيمنون بنفسه، بلا شك، في نشرها). لم تكن له أي صلة على الإطلاق بالمزارع النبيل الذي يعيش في ريف كونيتيكت، صاحب قصر إيشاندان على مرتفعات لوزان، وسيد القلعة في إبالينج، أكثر روائي باللغة الفرنسية تُرجِمت أعماله في القارات الخمس، وأكثر من حظي بأكبر قدر من اهتمام صناع الأفلام4.
إنه شاب وسيم يبلغ بالكاد عشرين سنة، معتز بنفسه إلى حد ما، جريء، وخفيف الظل، يعيش حياة اجتماعية وترفيهية في مقهى دوم أو لا بول بلانش، أو على الضفة اليمنى في بوف سور لو توا، لكن الناس لا يعرفون حقًا كيف يقضي أيامه ولا كيف يوفر لقمة عيشه. يرون فيه فقط الفارس الجميل الذي يخدم مدام تيجي، الفنانة التشكيلية….5 يكفي ببساطة أن نلقي نظرة على الصور المُلْتَقَطَة في تلك الفترة لنتأكد من ذلك: يبدو سيمنون في معظمها بوجه يشع بابتسامة، كأنه لا يعاني من أي هموم أو كما لو كان يخطط لِمَقْلَبٍ بريء بمعنى آخر، يمكن القول إن سيمنون هو نموذج الشخص المقبل على الحياة الدنيوية بامتياز. أو بعبارة أوضح، فإنه نموذج الشخص السعيد والمحب للمرح. ولأن تيجي كانت على دراية تامة بهذا الأمر، فإنها اضطرت ويا للأسف إلى أن تسلم بأمر الواقع عندما أدركت تورط زوجها في علاقة مع جوزيفين بيكر، العاشقة النشيطة والمتهورة، في أكتوبر أو نوفمبر 1925.
هكذا إذن تكونت علاقة ود بينه وبين كوكتو، وهي علاقة مفعمة بالصراحة بحيث كان كوكتو بدوره يعشق حياة الملذات، ويتصرف بكل أريحية مثل أميرٍ طائش خلال تلك السنوات العشرين من القرن الماضي. ومن هنا تتسم كتاباته بنفس الطيش… «الطيش هو السمة التي تميز كل أعماله»، كما يلاحظ باسكال بيا، الذي يظل دائمًا حاد البصيرة، في مقاله حول بدايات الشاعر. حتى عندما يحاول الظهور بمظهر جدي، وحتى عندما يدّعي أنه يتألم، تظل كلماته مثل كلمات طفل مدلل، يثير الاستياء أكثر مما يثير الشفقة. ولا يمكن أن نتصوَّره فريسة حزن تجاهل إخراجه»6.
في كتبه السيرذاتية –وهي متن ضخم مؤلّف من خمسة وعشرين مجلدًا– يذكر سيمنون اسم كوكتو حوالي خمس عشرة مرة. وهذا أمر له أكثر من دلالة، رغم أن أندريه جيد، الكاتب الفرنسي الذي كان سيمنون يتبادل الرسائل معه لفترة طويلة، هو الذي يستحوذ على أكبر عدد من الإشارات المباشرة، علما أنه لم يكن أبدا أحد أصدقائه بالمعنى الذي نعنيه عادة بهذا المصطلح7. وعدا بعض الاستثناءات، فإن كل استحضارات كوكتو عبارة عن حكايات قصيرة وعادة ما تكون مألوفة وودودة للغاية، خاصة عندما يقول إنهما كانا يلتقيان بانتظام في كان، سواء في حانة كارلتون أو في أماكن أخرى، خلال فترة المهرجانات، عندما كانا يقضيان وقتهما معًا في ساحل كوت دازور، جورج سيمنون بعد عودته من الولايات المتحدة سنة 1955 وكوكتو بعد إقامته عند فرانسين وأليك فيزفيلر في (فيلا سانتو سوسبير في سان جان كاب فيرات8). إنه مثل ‹‹صديقي منذ زمن طويل›› -صيغة غالبًا ما تأتي على لسانه يلجأ إليها تقريبًا في كل مرة يتحدث فيها عن فيلليني مثلا أو بانيول أو شابلن. أو حتى أي شخصية مشهورة أخرى.
ومع ذلك، تبرز من حين لآخر عبارات لا تخلو من أهمية. في رواية «اليد في اليد» (1978)، يلاحظ سيمنون أن بعض الرجال المشهورين يحكون دائمًا نفس القصص بـ»نبرة الصوت ذاتها» كما يقول، و»الحركات نفسها». وبعد أن ألمّح إلى ساشا جيتري الذي يكرر إلى «ما لا نهاية» لمحادثيه نكاتا متقاربة، يتابع سيمنون هذا البوح، في إطار الملاحظة اللاذعة التي قدمها باسكال بيا. « هناك شخص آخر، أعتقد أن بوسعي التحدث عنه أيضًا، وقد عرفته منذ سنوات طويلة. كان يبدو كطفل مشاغب يطلق الألعاب النارية. إنه جان كوكتو. وقد اعترف لي بأنه قبل أن يخرج إلى العالم، كما كان يقال في تلك الأيام، وهو العالم الذي كان يتشوق إليه كثيرًا، كان يقضي ساعات طويلة مستلقيا على سريره يكرر العرض الذي سيقدمه خلال الأمسية9».
على عكس الانتقادات السلبية الموجَّهة لجان كوكتو، لا يتردد سيمنون في وصف ‹‹صديقه القديم››، بمثابة ملاك، أو مخلوق غير مادي، في نص قصير نُشرِ بمجلة «بوان كونتر بوان»، في أكتوبر 1961، بمناسبة تكريم جماعي لكوكتو. يقول سيمنون: ««حدث لي، أثناء المراهقة، في سن الرعونة والتوهج، أن تساءلت كيف تصرفت بعض الشخصيات التي أصبحت أسطورية خلال حياتها، وكنت أجد صعوبة في تصديق أن معاصريهم قد شاهدوهم بأم أعينهم في مواقف مألوفة لدى عامة البشر. هل أدرك هؤلاء المعاصرون امتيازهم، وهل كانوا قادرين على التعرف على العلامة التي تميز جبين الشخص الذي كانوا يتعاملون معه؟ لقد تلقيت الإجابة على هذا السؤال منذ فترة طويلة عندما التقيت بجان كوكتو. لقد رأيته بين الطلاب ووسط سيدات المجتمع الراقي، رأيته في زحمة حفلات افتتاح المعارض الفنية، والمهرجانات، في مجامع الأصدقاء وعلى انفراد. هل أجرؤ على الادعاء أنني لم أشعر أبدًا بحضوره الملموس هنا أوهناك؟ لا يختلف مظهره اليوم عما كان عليه في سن الخامسة والعشرين، لم يكن يكبر أبدا، وكان يشعر بذلك جيدا لدرجة أنه كان يزين توقيعه دائما، وهو اسمه الشخصي، بنجمة. ثم بعد بضعة أسطر: ‹‹لماذا نريد منه أن يكون فانيا مثلنا؟ ألم يضحِّ بنفسه للهروب من عبء الحياة ويكون، وهو حي، مجرد قصة جميلة؟ أليست هذه هي الرسالة التي يكررها لنا بأشكال جديدة باستمرار ولا نفهمها بشكل جيد، وسوف تفهمها الأجيال القادمة بشكل أفضل بعدنا؟10 ».
‹‹قصة جميلة››، عبارة أُحِبُّهاَ كثيرا، وأسمح لنفسي بالقول إن كوكتو قد اندهش من كلمتيها يوم وقعت عيناه عليهما. من جانبه، تحدث كوكتو عن سيمنون مرارًا وتكرارًا في بعض صفحات سيرته الذاتية، وخاصة في المجلد الثاني من الماضي المُعَرَّف، يومياته المتعلقة بسنة 1953.
وكتب في يومياته، يوم الأحد 29 نوفمبر ‹‹أكره عدم الدقة وأسعى دائمًا إلى أن أكون دقيقًا. سافر بانيول يوم أمس مع أوريجون. وحكى له، بلهجة مارسيليا، قصة سيمنون الذي كان على وشك الموت وقال له الطبيب إنه يتمتع بصحة جيدة. وقد تحولت هذه القصة من خلال مارسيل إلى مأساة من خمسة فصول، تنتهي بالتهاب في القصبة الهوائية، تعرضت له بسبب ليلة سهر قضيتها مع سيمنون الذي كان يعتقد أنه سيموت/ الحقيقة هي أننا ضحكنا جميعا من هذه النهاية السعيدة والتي دعانا سيمنون خلالها إلى العشاء في كيرينال11››.
ولعل أهم ما كتبه كوكتو عن سيمنون يوجد في كتابه «وحوشي المقدسة»، وهي مجموعة نصوص ومستندات جمعها إدوارد ديرميت وبرتراند ماير ونشرت سنة 1979. يقول كوكتو: «نحن نبحث عمومًا عن شركاء أو أتباع لنجعلهم أصدقاء لنا، أي أفراد يتمتعون بنفس الخصال، والعيوب التي لدينا، والذين يصبح التواصل معهم فوريًا وسهلًا بسبب هذا التشابه. والحال، لا أستطيع أن أتصور أن علاقتي بسيمنون أو علاقته بي ستتطور إلى أكثر مما هي عليه، إلا أننا في بعض الأحيان كنا نجتمع معًا في الأكاديمية الملكية في بلجيكا، ورغم أننا كنا نعمل كل في مجاله أو حتى في عالمه من دون تطابق ظاهر بين تلك المجالات غير المشتركة فإن علاقتنا ظلت مستمرة قائمة على الصداقة والتعاون (رغم ادعائه أن روايته «الأطفال الرهيبون» هي رواية بوليسية). إذن من أين تأتي هذه الصداقة الأخوية التي تربطنا؟ سأخبركم عنها. إنها صداقة نقية ومنزهة عن أي اتفاق سري، لأنها نابعة من عضو معاد للتفكير، عضو لا يفكر، أو على الأقل، يفكر من خلاله بعض الأشخاص النادرين جدًا: إنه القلب. نحن نحب بعضنا البعض (نتحاب) جسدا وروحا، ومن القلب الى القلب.، وذلك دون دافع آخر سوى هذا اللغز الذي تطرحه الصداقة ولا تجد صعوبة في حله. سأفعل كل ما في وسعي لمساعدة سيمنون، وأنا واثق من أنه سيفعل أي شيء لمساعدتي. ثم إني رأيت زوجته الشابة12 تخرج بعد عرض فيلمي «وصية أورفيوس» وهي تبكي لأنني كنت ضحية لتمثيل الموت فيه. إن روائي القضايا المعقدة، والمضايقات، والألغاز والنفوس اللزجة والمشؤومة، هو أمير للصداقة التي لا تشوبها شائبة»13.
رغم أن جان كوكتو يصرح بأنه يكره عدم الدقة في مقتطف قصير من كتابه الماضي المُعَرَّف الذي ذكرته أعلاه، فإن تصريحه هذا يبدو هنا غير دقيق عندما يدعي أنه شارك سيمنون في جلسات بالأكاديمية الملكية. في الواقع، لم يحضر سيمنون سوى جلسة واحدة بالأكاديمية طوال في حياته: في 10 مايو 1952، وهو اليوم الذي استُقْبِلَ فيه من طرف كارلو بروني، أمام «قاعة ممتلئة عن آخرها» و«حرارة شديدة»، كما يذكر الروائي في يومياته الشخصية، حتى أن الأكاديميين الفرنسيين، الذين تمت دعوتهم استثنائيًا لهذه المناسبة اضطروا إلى «التعرق في زيهم الرسمي السميك»14. وعكس حرارة استقبال سيمنون، لم يتم استقبال كوكتو، الذي انتخب في الأكاديمية خلفا لكوليت، من طرف فيرنان ديسوناي إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات ونصف، في فاتح أكتوبر 1955..15
وفيما يتعلق بالأكاديمية، يوجد لغز صغير وغريب في العلاقات المتبادلة بين سيمنون وكوكتو. يكمن هذا اللغز في البرقية التي كتبها سيمنون في كان، بتاريخ 1 أبريل 1955، ثم أرسلها إلى كوكتو: ‹‹نحن في فندق ميرامار في مدينة كان نهنئك ونحتضنك من أعماق القلب ونأمل أن نراك لحما ودما، قف، هل تعرف عنوان أكاديمية باريس. عَلِمْتُ اليومَ أني عُيِّنْتُ فيها خلفا لك، قف، نحن في غاية الحماس›› (يلاحظ في المقطع أن سيمنون يفضل استخدام عبارة «لحما ودما» عندما يتحدث عن كوكتو…)
أي أكاديمية هذه؟ وفي أي أكاديمية كان سيتم تعيين سيمنون خلفا لكوكتو، فور عودته من الولايات المتحدة؟ وما هو هذا التجمع الغامض الذي سيخلف فيه الأكاديميُّ الأصغر سنا الأكاديمي الأكبر سنا؟
ليس لدي إجابة على هذه الأسئلة- والقليل من أبرز أتباع سيمنون الذين استفسرت منهم حول هذا الموضوع لم يدلوني على أي مسار… باستثناء أحدهم وكان أكثرهم طرافة، همس في أذني: قد يكون ذلك التجمع هو أكاديمية للبلياردو، اللهم إن كان الأمر يتعلق برسالة مشفرة وبالتالي لا بد أن تكون غير قابلة للفهم…
توجد هذه البرقية اليوم محفوظة في مؤسسة سيمنون في جامعة لييج، إلى جانب عشرين رسالة أخرى تبادلها الكاتبان بين عامي 1944 و1961. وتعتبر الرسائل التي كتبها كوكتو بخط يده الأكثر عددا، وتتميز جميعها بنفس النبرة تقريبا: تشمل هذه النبرة تدفق عبارات المودة، وحيوية التعبيرات العاطفية والمجاملات، والتهاني، والثناءات الحارة التي يتخللها أحيانا شعور من عدم القدرة على رؤية بعضهما البعض لفترة أطول وقضاء المزيد من الأوقات الجميلة معًا….
‹‹ […] عندما كان سيمنون يقيم في سان ميمان لو فيو فاندي، كتب له كوكتو من باريس، في 16 مايو 1944: ‹‹لن أرفض لك أي طلب أبدًا››. وفي رسالة مؤرخة في 20 ديسمبر 1950، أخبره بالنجاح الكبير الذي حققته مسرحية «الثلج كان قذرا» في باريس16›، ثم أضاف– ويبدو لي أنها ذات طابع تعليمي قوي: «لا يمر يوم دون أن تخطر ببالي، وأنا أحلم بالانضمام إليك والهروب مرة واحدة وإلى الأبد من جان كوكتو هذا الذي يبدع هنا والذي يزعجني››17.
وفي 3 غشت 1955، أثناء إجازته في ليج في جيروند، اعترف قائلا: «أنا أعيش في كوخ مليء بكتبك. لقد أعدت قراءتها الآن وأنا منبهر18». وفي يوم 28 أكتوبر 1952، أكد له أنه سيرسم له صورته الشخصية دون تأخير، متشككًا في أن يفعل بيكاسو ذلك- وسيفي بوعده بالفعل في العام التالي19. . في 31 أكتوبر 1961، أعرب عن أسفه لعدم إتاحة فرصة لمقابلته في معظم الأحيان، قائلا: «شكرًا يا صديق العمر– متى سنتوقف عن لعب لعبة الاختباء؟».
صداقة تلعب لعبة الاختفاء والبحث: أعتقد، أننا نستطيع أن نسمي هذا النوع من الصداقة، التي جمعت الرجلين منذ فترة طويلة من حياتهما، بصداقة «لا عيب فيها ولا شائبة» وكل ما يشير إليها يدل أيضا على أنها كانت دائمًا علاقة منزهة عن أي مصلحة ذاتية، وعن أي حسابات أو نوايا خفية أو نفاق أو مكيدة، سواء تعلق الأمر بسيمنون أم كوكتو. وهذا لا يستبعد بالطبع، المناسبات أو الفرص التي أتيحت لهما لتبادل الخدمات بينهما. في رسالة مؤرخة في 1956 (أو ربما 1957)، أخبر كوكتو «صديق عمره» أن مشروع نشر «الأعمال الكاملة» لسيمنون لدى دار أروشي في موناكو، يسير على ما يرام. ونعلم أنه لم يحدث شيء من ذلك، وأن هذا المشروع لم ير النور إلا ابتداء من شهر مارس سنة 1967 عندما شرعت دار رونكونتر في لوزان بنشر الأعمال الكاملة» لسيمنون20.
فضلا عن الصداقة، يلتقي سيمنون وكوكتو أيضًا في العديد من النقاط الأخرى الملموسة: لقد قام كلاهما بجولة حول العالم، في الفترة نفسها تقريبًا، سيمنون برفقة تيجي، من 12 ديسمبر 1934 إلى 15 مايو 1935، وكوكتو، برفقة مارسيل كيل، من 29 مارس إلى 17 يونيو 1936، وكلاهما قام بنشر المغامرات التي عاشها خلال تلك الجولة21. كما تعرض كلاهما للمضايقات أثناء فترة التحرر، سيمنون لقبوله بتحويل بعض رواياته مثل «الغرباء في المنزل» و»سيسيل ماتت» و»توقيع بيكبوس» إلى أفلام بفضل شركة كونتيننتال، وكوكتو بسبب كتابته لمقال يشيد فيه بـ‹‹آرنو بريكر›› في كوموديا، عام 1942، النحات المفضل للنظام النازي22؛ لقد نشر كل منهما عددًا كبيرًا من الكتب لدى نفس الناشر، غاليمار، حوالي خمسين كتابًا بالنسبة لسيمنون وحوالي عشرين كتابًا بالنسبة لكوكتو (على الأقل أثناء حياته). أولها كان «توماس المحتال» في عام 1923… ناهيك عن جميع المنشورات الجماعية التي يظهر فيها اسمهما معًا: «مشاكل الرواية» تحت إشراف جان بريفوست23، «ربع الساعة الأخير»، نصوص جمعها بيير لوست24، «المرآة ذات الوجهين «لميشيل كوت وبيير ماك أورلان25، «عن قرب» لموريس هنري26 أو «اعترافات عفوية» لروبرت بوليت27 …
لكن أكثر ما يجمع بينهما، في نظري ، هو مكانتهما الأدبية. لقد بدأت عرضي بهذا الموضوع وسأعود إليه لإتمامه. إن ما يشترك فيه سيمنون وكوكتو ليس الإهمال النقدي الذي طالهما لفترة طويلة فحسب، وإنما الاحتقار الذي تعرضا له معا من طرف حراس الهيكل و‹‹النقاد الصفائيين›› في المجال الأدبي. لا شك أن سيمنون قد وقع ضحية هذا الإهمال لأنه كان يكتب بغزارة –غزارة شديدة، وسرعة فائقة– ولأن كل كتبه كانت ناجحة تجاريا تقريبا. أما كوكتو فمن المؤكد أنه تعرض لذلك، بسبب النقاد الذين جعلوه يبدو كفنان ماهر متعدد المواهب في الفنون والآداب. كثيرًا ما تم تصنيفه كفنان متعدد المواهب. تعبير غبي إلى حد ما، والذي عانى منه كوكتو بالتأكيد ولا يزال يتردد صوته حتى اليوم، يحدث هذا، بينما يعاد نشر أعمالهما باستمرار وتتم مناقشتها بشكل واسع، بل لقد أصبح بعضها متاحًا الآن في مكتبة لا بليياد28».
‹‹لحسن الحظ لا أنتمي للنزعة التطهرية›› صرح سيمنون في ‹‹ما الفائدة من الشتائم؟››، وهو كتاب في السيرة الذاتية نشر عام 1979. ثم واصل قائلًا: ‹‹أكتب منذ خمسين عامًا، ولم أفتح قاموسًا واحدًا أثناء المراجعة. أنا لا أفتخر بهذا. ولا يمكنني سوى أن آسف له. ولكنه يتعارض مع طبعي ومزاجي.لقد أشرت سابقا إلى أن بعض النقاد ادعوا أنني أكتب مثل الخنزير. فليكن الخنزير، إنه الخنزير الذي يضحي بالعبارات الجميلة من أجل الحقيقة والحماس بدلًا من البحث عن الكمال الذي لا ينتمي إلى فصيلته./ ربما أكون خنزيرًا، ولكنني خنزير من غير قصد، صادق [في أسلوب كتابتي]، وأودّ أن أظل كذلك29.
أجل، دعونا ننضم بكل إخلاص للخنزير!
الهوامش
فيكتور مارجريت، لا جارسون، باريس، فلاماريون، 1912
وفي الواقع فإن المؤسسة لن تفتح أبوابها حتى عام 1997.انظر حول هذا الموضوع جاك تشاستينت، عندما صعد لحم البقر إلى السطح، باريس، فيارد، 1958.
جورج سيمنون، كل سيمنون 26، باريس، أومنيبوس، 1993، ص. 917 في بيبليوغرافيته عن رايموند راديجيه مونيك نمر، أنه في حفل الافتتاح ”الفخم“ لـ «ثور على السطح « في عام 1990.في 10 يناير 1922 كان سيمنون من بين “مشا هير آخرين ذوي المكانة الكبيرة أو الأقل” مكانة (باريس، فيارد، 2012، ص 25). فمن الخطأ. في ذلك التاريخ، لم يكن سيمنون قد غادر لييج بعد.
انظر حول هذا الموضوع، كلود جوتور، وفقًا لسيمنون، باريس، أومنيبوس، 2001 -1901، وميشيل شيبينز وسيرج توبيانا، سيمنون سينما، باريس، تيكستيل، 2002.
تحظى الروايات البوليسية أيضا بشعبية كبيرة، لكن الكاتب الذي سيكون سيد هذا النوع، من الروايات، باللغة الفرنسية، جورج سيمنون، لا يزال يقتصر على المهام الصحفية الغامضة» (جاك تشاستينيت، عندما كان الثور يصعد على السطح، مرجع سابق، ص. 140
باسكال بيا،” بدايات جان كوكتو“، ماغازين ليتيرير، العدد 38 مارس 1978 ص
انظر مراسلات سيمنون مع جيد، من عام 1938 إلى عام 1950: … دون الكثير من الحشمة، باريس، أومنيبوس، 1999
في مذكراتها، كنت أدعوه بالسيد كوكتو، كارول ويزويلر، ابنة فرانسين ويزويلر تستشهد بمجموعة من المشاهير ولكنها لم تستشهد قط بسيمون ا (موناكو، منشورات دو روشيه، 1996)
جميع سيمنون، 26، مرجع سابق. المرجع السابق، ص. 1383
جورج سيمون، “حدث ذات مرة …”، نقاط ونقاط مضادة، رقم 58، أكتوبر 1961، ص 70 و71.
نص سيمنون مؤرخ في 23 مارس 1961، من إشاندينز. وفي هذا العدد نفسه، هناك أيضًا احتفاءات من طرف جان أنويله، وبول موراند، وبيير همبورج، وبيير بينوا، ويانيت ديليتانج تارتيف، وحتى جان لويزي، رئيس تحرير المجلة.
جورج سيمنون، الماضي المحدد، المجلد الثاني، باريس، جاليمارد، 1985 ص 343 و344 هذا هو تشارلز أورينغو (1974-1913))، مؤسس دار نشر دو روشيه في موناكو، حيث نشر كوكتو من ضمن أمور أخرى أبوجياتوراس(1953)،مسرح الجيب(1955) و(الجميلة و الوحش) ( 1958).
يتعلق الأمر بـ «دينيس أويميه»، التي تزوجها سيمنون للمرة الثانية في رينو (نيفادا)، في 22 يونيو 1950.
جان كوكتو، وحوشى المقدسة، نصوص ووثائق جمعها إدوارد ديرمي وبرتراند ماير، باريس، حبر، 1979. ص .53 الكتاب عبارة عن دليل اجتماعي لنخبة من المشاهير يلتقي فيه بروست، جيرودو، رافيل، باردو، بيكاسو، راديجيه، سترافينسكي، ميستينجيت، ليفار، كليو دي ميرود، ميلود، لاربو، بياف، جاكلين كينيدي، أوتريلو، جوفيه، ديور، ويلز، أبولينير. مارلين ديتريش وغيرها الكثير من النجوم.
مذكرات حميمة، في كل أعمال سيمنون 27، باريس، أومنيبوس، 1993، ص. 1956. أعضاء الأكاديمية الفرنسية الذين جاؤوا خصيصًا إلى بروكسل في ذلك اليوم هم بيير بينوا، موريس جارسون ، أندريه موروا، جورج دوهاميل، إميل هنريو، الكاردينال جورج جرونت، جاك دي لا كريتيل، مارسيل بانيول، وجورج لوكونت، الذي تم انتخابه في عام 1944، وكان عميدها الذي كان قد انتخب قيدوما والذي ظل منذ عام 1946 السكرتير الدائم.
انظر رولاند مورتييه، «كوكتو في الأكاديمية»، جان كوكتو، بروكسل، مجلة جامعة بروكسل، 1989-19، العدد 1-2 ، ص. من 111 إلى 118
المسرحية مقتبسة من رواية متجانسة اللفظ في ثلاثة فصول أنجزها سيمنون وفريديريك.وقد رأت هذه المسرحية النور في 19 ديسمبر 1950 في مسرح اللوفر في باريس، في عرض مسرحي لـريمون رولو. انظر حول هذا الموضوع أضواء المسرح(دائرة الضوء)، دفاتر سيمنون i6، بروكسل، أصدقاء جورج سيمنون، 2002
وفي رسالة مؤرخة في 19 أغسطس من نفس العام، أخبر كوكتو سيمنون بأنه يود السفر إلى نيويورك قريبا.
كوكتو يعين مكان «كابان دو فو».
وسوف يتبرع سيمنون بهذا الرسم لجامعة لييج في يونيو 1976، مع صورتين أخريين له. أحدهما أعدمه برنارد بوفيه والآخر أعدمه موريس فلامينك. انظر حول هذا طالما أنا على قيد الحياة، في توت سيمنون 26، مرجع سابق. المرجع السابق، ص. 1282.
هذا الإصدار يجمع بين 72 مجلدًا، نُشرت من عام 1967 إلى عام 1937، تحت إشراف جيلبرت سيجو
يتم ذكر تلك التابعة لكوكتو في كتاب «رحلتي الأولى»، باريس، غاليمار، 1937؛ ويتم ذكر تلك التابعة لسيمنون جزئيًا في كتاب «النجمة السيئة»، باريس، غاليمار، 1938.
انظر في هذا الصدد باتريك مارنهام، سيمنون، الرجل الذي لم يكن ميجري، باريس، بريس دي لاسيتي، 2003، ص. 244 إلى 271.
ليون، كونفلوانس، ١٩٤٣ وبروكسل، لو كارفور، ١٩٤٤. في نصه المعنون «عصر الرواية»، يكتب سيمنون: «من العبث والخطر على روائي أن يتحدث عن الرواية كما هو الحال بالنسبة لرسام كتابة عن الرسم». كما يقول أيضًا أنه لم يتحمل أبدًا أن يُعامَل بصفة «رجل أدب» (ص. 309).
24 باريس، لا تابل روند، 1955.
غرونوبل، آرتو، 1958. يُزيَّن غلاف هذا العمل الجميل برسم لكوكتو.
باريس، غاليمار، 1958. مقدمة هذه المجموعة من «85 صورة كاريكاتورية أدبية» من تأليف ريمون كونو.
باريس، بلون، 1963.
على الرغم من أن كوكتو لم يُدرج فيها مع أعماله الشعرية الكاملة إلا في عام 1999، أي بعد وفاته بـ 36 عامًا.
كل سيمنون 27، المرجع السابق، الصفحة 43. تم تاريخ هذه الكلمات من قبل سيمنون يوم الخميس 7 يوليو 1977.