عبدالرزاق القلسي
كاتب وباحث تونسي
كان الشعر وسيظل إلى أبد الآبدين لغة النفس الباحثة عن الأقاصي وعن تخوم التجارب من أجل الظفر بشيء ما لعل الشعر هو أول من لا يستطيع أن يسميه أو يصفه. إنه الذي يجل عن التسمية. إنه اللامسمى الذي يتجه الشعر صوبه وفي اتجاهه ومع ذلك يعجز عن تسميته. لعله بريق يأتي من عتمة الوجود. لعله هاتف ينبعث من تلافيف العدم. لعله صورة خاطفة تتشكل في لحظة هاربة من لحظات الزمن. لعله شيء مسكوت عنه يستمد سحره وفتنته من القوى الغامضة التي تسكن النفس والوجود والحياة والتي يسميها علماء الرياضة قديما بـ”الشيء” أو “الإكس” والتي يجتهد الشعر إلى أن ينفذ إليها عساه أن يدركها أو يفصح عن ماهيتها.
ماهي بدائل الشاعر لكي ينصت إلى نداء الوجود الأزلي؟ الحلم؟ العودة إلى الزمن السلبي: زمن الماضي السحيق بحثا عن مدينة فاضلة أو وجود مثالي يركن إليه حتى لا تخنقه إلزامات الواقع ولا إكراهات الحياة؟ الاستشراف والرؤيا إلى زمن مستقبلي تمحى فيه كل مظاهر النشاز بين الفكر والواقع من أجل أن ينشأ الشعر فضاء فردوسيا قلما يتنزل في الواقع؟.
في البحث عن ثنائية
المعنى والمرأة
إن الشاعر السعودي عبدالله ثابت يجترح مدخلا إلى الشعر ينفذ به إلى العوالم الظاهرة والباطنة التي يمكن أن يهتدي إليها الإنسان ويتكلم عنها بدون أن يكون محاطا بأي نوع من الرقابة. وهذا المدخل هو ما كشف عنه في ديوانه “جلبة لتحريك الوقت” الصادر منذ سنوات قليلة في تونس في دار مسكيلياني(1)، وهو أن يتشرّب الإنسان برياضة اليوغا بما تهبه له من قدرة على التأمل والنظر إلى الوجود والحياة نظرة المتأمل الفيلسوف الذي يبحث عن المعنى خلف الكم الرهيب من المواد والأشياء التي تحجب البصر والإبصار والتي تسجن الإنسان في “مضمار العمى” ص.19، بحيث تغيب ذاتيته وتنطمس فرادته وتغيب بصمته في “هذا الكم المهول من البشريين” ص.19 الذين لا هم لهم سوى طمس كل أشكال ووجوه الاختلاف حتى يكون الإنسان صورة للإنسان في فكره وفي ملبسه وفي طعامه وفي مشيته وفي خطابه. فالشاعر ومنذ مفتتح هذا الديوان الذي أثنى عليه أدونيس بقوله: “إنه في طليعة كوكبة من الكتاب والشعراء يعملون على اكتشاف طرق جديدة للعلاقات الناشئة المعقدة في عالمنا الحديث بين الإنسان والكون بين اللغة وأشياء العالم “(2) يجترح دربا من دروب الوجود وطريقا من طريق الشعر بعيدا عن ما وصم به التاريخ البشري من “السلالات الملطخة بالدم والفضلات”. إنه في هذه اللحظة يترفع عن بؤس العالم وعن مآسي التاريخ وعن قسوة الإنسان لكي ينظر إلى الهناك، إلى مدى زمني لم يتعفر بعد بالدم أو لم ترسم عليه بعد خدوش الصراع ولا ندوب الواقع. ففي هذه اللحظة التي هي لحظة مشبعة باليوغا يمكن للشاعر أن ينصت إلى نداء النفس الغائر في الوعى وفي العقل الباطن على حد سواء ليتلمس طريقا أو دربا أو مخرجا يسلكه حتى ينفرد بذاته عن الآخرين الذين ومنذ البدء ومنذ السطر الأول من الديوان ليس وراءهم إلا الجحيم وإلا “انقضاضهم الهمجي” ص.20 على الشاعر سواء إذا كان هذا الشاعر كائنا إنسانيا يروم الانفراد والتفرد أو قصيدة شعرية تروم التعبير الحر عن الهواجس التي تسكن وعي الشاعر.
منذ الصفحات الأولى من الديوان ينهض الشعر لدى الشاعر عبدالله ثابت على حركة رئيسة وهي حركة التباعد بين الـ«أنا» الشاعرة وبين «هم» الآخرين، فليس ثمة تناغم وانسجام بين الطرفين وإنما صراع ونشاز وانفصال ليس لأن الشاعر كائن ديكارتي ينظر إلى العالم من علٍ ومن بعيد، وإنما لأن البحث عن الذات في زمن الآخرين يعد بحثا مستحيلا دونه الخسران والضياع. ولكن لكي يكون عالم الشاعر عالما مأهولا وعالما تقيم فيه الكائنات والأشياء وتأتلف فيه بحسب عدد لا يحصى من العلاقات فإن الشاعر اصطفى في وحدته تلك المرأة التي يستحضرها بضمير المؤنث ولكن من دون أن يكون هذا الاستحضار صنوا للحضور الجسدي والعياني الماثل أمامه.
إنه يخاطبها ويصفها ويهب لها ما يشاء من الأوصاف والنعوت والحركات ولكننا لا ندري إن كانت أمامه جسدا وروحا أم هي خيال ليس إلا. فالمرأة موجودة ولكن لم تملأ الفضاء وهي –في هذا المستوى– تختلف عن المرأة في شعر نزار قباني وهي التي تستوعب العالم الشعري كله حتى لكأننا لا نرى سواها. أما بالنسبة للشاعر عبدالله ثابت فهو يرسي علاقة من نمط آخر أقرب ما تكون إلى تلك العلاقة التي يستدعيها من متون النصوص الدينية المقدسة عبر العلاقة القديمة بين آدم وحواء. إنه يستدعي هذه العلاقة ولكن بإشارية بليغة وبرمزية شفيفة لا لكي يجعل من الخلفية الدينية هي الخلفية الإبستمولوجية التي تحكم الديوان، وإنما لكي يبدأ بدءا جديدا مختلفا في علاقته هو بالمرأة التي تنهض علاقته بها على علاقة أشبه ما يكون بعلاقة الاستنساخ البوذية أو علاقة وافدة من متون الثقافات الشرق الآسيوية التي لا تعتبر الحياة بدءا وإنما ما قبل الحياة وما بعدها أيضا.
المرأة هي موضوع الشاعر في القصيدة/الديوان فحيثما يممنا وجهنا شطر الأبيات والصور والتعابير فإنها تبدو هاجسا من هواجس الشاعر ومشكلة تؤرق فكره ومعضلة تسكن خياله. إنه –بلغة الفلاسفة– يؤشكل المرأة لكي تكون موضوعا للنظر وللتفكير ففيما يعتبر المجتمع المرأة موضوعا محسوما على نحو نهائي نرى الشاعر يفكر بالوجه المعكوس والمختلف فهو ينزل وجودها ضمن وجوده الخاص ويستضيفها ضمن الكائنات والأشياء التي تعمر وجوده وكيانه وينشئ معها علاقة إنصات متبادل، فقد “صدقت أنك ستأتين يوما/ في تلك الانعطافة القادمة من بعيد في قلبي/ وقلت للأقدار/ سنطير معا… (ص.24). ولكن الشاعر في ذات اللحظة لا يرسي هذه العلاقة على خلفية رومنطيقية كما لو أن الزمن لم يعد يأبه لهكذا علاقات وإنما يبحث مع هذه المرأة عن المشترك معها وعن مناطق وسطى تمس الفكر والعاطفة والجسد وكل ما يمكن أن يخلق الفضاء الواحد الذي يلتقي في ظلاله الرجل والمرأة وإن كان هذا اللقاء لقاءً عابرا غير مقيم، لقاءً محكومًا باشتراطات اللحظة ولهيب الحواس وانفجار الرغبة.
في لغة الشعر لدى الشاعر السعودي عبدالله ثابت ما يؤشر فعلا إلى أنّ العلاقة مع المرأة هي تلك العلاقة العابرة، أي إن ذات المرأة تدخل عالم القصيدة وتخرج منها تماما مثلما تدخل واقع الرجل وحياته وتخرج منها. فهذه المرأة “أنشبت نابيها في آخر عناق” ص.26 وهي تسترق “القبلة تلو الأخرى” ص.26، إنها كائن معبر عن نزواته، وحسبه فضلا على عالم الشاعر أنه يشيع في كونه روائح الأنثى وعرق النسوة حتى وإن كان ذلك على نحو خاطف وعابر، فهذه المرأة تتهيأ للخروج من القصيدة ومع ذلك فإن لها بصمات تخلفها على القصيدة ذاتها وتترك آثارا لا تنمحي بسهولة في وعي الشاعر وفي خياله تماما كما لوكان حضورها الخاطف شبيها بالنقوش الفرعونية الخالدة. إنه حضور يحتفي بالجسد في كل عنفوانه وهذا الجسد يبدو صامتا أخرس ولكنه ينبض بالحياة ويندفع وراء نداء اللقاء الوجداني الذي هو وجه من نداء الوجود. والشاعر عبدالله ثابت لا يطلب منها الصمت ولا يقمع رغباتها ولا يسلط عليها وعيه الذكوري وإنما ينشئ معها علاقة تآلف تتكون تضاريسها أو رسمها الطوبوغرافي على “الكلام الشعري تحت الضوء الخافت” ص.29، و”على الاندفاع بحرقة” ص.29، و”على الظلال الطافحة ” ص.29، وعلى كل ما يحتفي بالاستحضار الجسدي للجسد الذي لم يكن في قصائد الشاعر عبدالله ثابت موصوفا يوصف بقدر ما كان ذاتا تفكر، فالشاعر يتكلم عن الأنثى وعن المرأة وعن الأنوثة ولكنه يمسك عن أية إشارات شبقية مباشرة أو عن أي وصف جسدي “نزاري”، وفي مقابل ذلك يجترح أسلوبية أخرى تنهض على تتابع الحركات وعلى منطق التفاهم والتجانس الجسدي بين الشاعر وبين المرأة، وهذا ما يسمح باستيحاء البنية الثابتة المستحكمة في الديوان وهي في تقديرنا تقوم على ثلاث قواعد: التآلف مع المرأة والعلاقة الجسدية العابرة التي لا تدوم لا في الزمن ولا في المكان/ العلاقة المتوترة مع الآخر ومع الجماعة والتي يتمدد حضورها على حساب حرية الشاعر/ محورية ذات الشاعر الذي لا يبدو ذا وعي ذكوري مستبد وإنما يبدو ذاتا تفكر بالجسد وبالوعي من أجل أن يسمو بهذه العلاقة العابرة مع هذه المرأة الصامتة إلى مرتبة سامية.
يصعب علينا نحن القراء أن نرسم من وحي قراءتنا لهذا الديوان صورة فوتوغرافية أو تشكيلية لهذه المرأة على عكس تلك الصورة الفوتوغرافية التي نرسمها للمرأة النزارية والتي تكون عامرة بالاستدارات والانحناءات والتضاريس الأنثوية والشعر المنسدل وبضاضة الأرداف، فالوصف في هذا الديوان وفي الكتابة الشعرية لدى الشاعر السعودي وصف مقتصد لا يتخطى “مشاركاتها بالجسد المرح” ص.32، إلا أن الشاعر يشتغل على حضور هذه المرأة بالتكوينات الصورية التي تمتد على أبيات متعددة وعلى حيز لساني/ شعري متمدد يغيب فيه التشبيه الكلاسيكي وتحضر بالمقابل الحركات المنسوبة لهذه المرأة أو العبارات التي تقولها على نحو خاطف، وفي كل الأحوال فإن الشاعر السعودي يكسر مألوفية الصورة الشعرية بما يجعلنا عاجزين عن تبين الملامح الجسدية والأنثوية لهذه المرأة الحاضرة في متن قصائده.
إنها الحاضرة حضورا جسديا والغائبة غيابا وصفيا وهذه الطريقة في نظم الشعر الحديث يطلق عليها كمال أبو ديب بوصفه قارئا لأدونيس “لغة الغياب “(3)، بحيث إننا لا نستطيع أن نحصر حضور المرأة في نقطة واحدة كما هو الأمر لدى نزار قباني على سبيل المثال، بل إنها عبارة عن نقاط متوزعة على امتداد الكتابة الشعرية ما يثير فينا نحن القراء عمن تكون هذه المرأة، ونحن فعلا لا نظفر بصورتها ولكننا ومع تتابع عملية القراءة يتشكل حضورها من خارج مفاهيم التشبيه والاستعارة ومن داخل المدى القصصي والأفق السردي الذي تهبه قصيدة النثر للشاعر، وهذا يعد في حد ذاته تباينا عن وصف المرأة في الشعرية القديمة وإلى حد ما في الشعرية الحديثة التي لم تسترفد بعد بالمقولات النظرية لقصيدة النثر بعد.
ولكن في كل الأحوال فإن هذه العلاقة لا تخلو من توتر بين الشاعر والمرأة إذ إنها غير قادرة على أن تلتحق بوعي الشاعر الذي أفصح “أنّ أيّا من لهجتينا لم تكن كالأخرى” ص.32، وهذا في ذاته يعد مؤشرا في أن العلاقة مشرعة على الزوال والصمت والغياب، ليس لأن الشاعر عديم الشعور أو ضئيل الرومانسية أو صامت العواطف، وإنما لأنه يبحث عن حكمة ثاوية مندسة من وراء علاقة صامتة تتعالى عن الزحام والازدحام والجموع.
ذوات مقيمة في فضاء القصيدة
في ظل هذه العلاقة العابرة اصطفى الشاعر البنية الفنية المناسبة وهي قصيدة النثر والنثر الشعري الذي يعمد الشاعر فيه إلى التكثيف والاختصار والاختزال، وهي شروط قصيدة النثر، ولكن هناك بنية ثانية متوارية ولعلها هي التي تحكم المدى الزمني واللساني لهذا الديوان مثلما تحكم الكتابة الشعرية برمتها، وهي كتابة الحميمي والسير ذاتي الأوتوبيوغرافي، فالشاعر يتكلم عن ذاته بوصفها موضوعا للسرد وعقدة للقص، فزمن الشعر لديه يمتد على سنوات متعاقبة يستحضر فيها الذكريات والوقائع كما لوكانت ومضات وإشراقات سواء أكانت قديمة أو متجددة، فهو يكتب سيرته على النهج الذي كان يكتب فيه الشاعر محمود درويش فيه سيرته ولكنه مع ذلك يجعل بينه وبين حياته وسيطا هو الصور والاستعارات والرموز وغير ذلك من أدوات الشعر ومن أدوات قصيدة النثر بوجه خاص، وذلك لكي يكون النص لديه جامحا نحو الشعر والشعرية ويدفع بالعبارة وبالكلمة إلى ضرب من الغموض الشفيف الذي لا يعطل المعانى بقدر ما يضاعف من فتنتها ودلائليتها. فهذا الديوان مسكون بهاجس الزمن وبالزمن الكرونولوجي بوجه خاص لأن الشاعر يذكر أزمنة محددة بعينها. إنه يشير إلى زمن الولادة وإلى الطفولة وإلى الصبا لما كان في السابعة وإلى الشباب وإلى الرابعة والأربعين وهو العمر الذي استوى فيه هذا الديوان استواء على جميع الأصعدة: الأجناسية (انتخابه لقصيدة النثر) والأيديولوجية: الشاعر يبحث عن المعنى الذي يهبه سواء لوجوده الاجتماعي والسياسي في علاقته بالآخر، والمعرفية: نظرته غير النزارية لجسد المرأة ولحضورها في القصيدة، تشكل رؤيته إلى العالم على أساس كناية الخروج من عالم يقيم فيه إلى عالم يصبو إليه ويحلم به.
يكتب الشاعر القصيدة كما لو أنه يكتب بدءا. ويكتب عن هذه المرأة كما لو كانت المرأة الوحيدة على وجه الأرض. ولأجل ذلك يبدو مهووسا بهاجس البدايات وبالأشياء الأصيلة والأصلية حتى ينحت هذه العلاقة على الشكل الذي يرتضيه فالشاعر مسكون “بفكرة الحياة السابقة ” ص.40 مثلما أنه يرى نفسه سليلا لـ”غيب قديم” ص.40، وفي اللحظة ذاتها ينكفئ على عالم بكر “لم يسمع غير الرياح وجلال الأمطار والرعود” ص.40، تغريه الأناشيد الغامضة المتعالية من الكهوف والوديان وتضمخ خياله صورة تلك المرأة الفريدة التي انشقت عن “فتيات المنزل” ص.41، وعن “الخيالات التعيسة ” ص.41 حتى تجلت على هيئة من يبحث عن كيانه في وسط الجموع وعن فرادته في خضم الجيوش المتماثلة من النساء والفتيات وعن حريته في عمق لحظة التبعية التي لا تنتج الا المتماثل والشبيه والصنو وتحاصر الغريب والمنفرد والمتفرد وهذا ينسحب على المرأة والرجل في الآن ذاته.
في قراءتنا لهذا الديوان يتولد أمام القراءة السؤال الإشكالي الآتي: من هي الكائنات التي يستضيفها الشاعر في القصيدة؟ فمع حضور ذات المرأة نقف على ضمير الـ”هم” الذين يملكون القوة والعنف والسبل المسطورة التي يتوجب على الجميع وعلى المرأة بوجه خاص السير فيها. إنهم “الراغبون في تأجيج المواساة” ص.44، وهم “رهبان الندم والذكريات” ص.44، وهم “الذين يلطخون مساحتك المتاحة على هذا الكوكب” ص.44، إنهم يرمزون في فضاء القصيدة إلى قوة فاعلة وسلطة مسيطرة داخل النص وخارجه، ولكن الشاعر لا يهبهم سلطة الكلام أو الخطاب، ليس لأن الشعر لا يسع كثيرا منطق البوليفونية وتعدد الأصوات كما يذهب إلى ذلك الناقد الروسي الكبير ميخائيل باختين، وإنما لأن الشاعر يقابل حضورهم بضمير الـ”نحن”… “أمّا نحن الذين عانينا تلف الأعصاب وسوء الطالع/ فلم يكن أمامنا سوى حفظ النشائد ص.45، وهذا الـ”نحن” الذي يتمدد في أعطاف هذا الديوان يشي بأن العلاقة مع الـ”هم” هي علاقة سياسية أو مسيّسة أو هي خاضعة لمبدأ التسييس، لأننا لسنا فحسب إزاء كائنين أو جماعتين وإنما إزاء جهتين متعارضتين خطابا ووجودا وفكرا وأيديولوجيا، فإذا ما كان وجود الشاعر مع المرأة وجودا قديما تحفظه الذكريات المحفوظة والمنسية فإن وجود الآخرين قد ترافق مع “تلك الأيام الذابلة/ الأيام التي لم يكبر فيها إلا خسيسو الطبع/ يمكن للذين سلبونا أعز ما علينا/ أن يحالفهم النمو في خمس دقائق ص.45. إنه وجود يفتقر إلى أصالة التاريخ وإلى مشروعية الجغرافيا لأن هؤلاء الآخرين الذين يستحضرهم الشاعر قد طمسوا وجود الشاعر وعكفوا على توطين بدائل في المجتمع جعلت الشاعر وأشباهه يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم وهامشيون في قصائدهم ومضطهدون في عواطفهم إزاء المرأة بوجه خاص وفي ظل هذا الوضع الشعري/ السياسي الذي لا يطاق. لم يبق للشاعر إلا سلاح واحد وهو أن يضحك من هكذا وضع وأن يلجأ إلى ضرب من الكوميديا السوداء التي تتحرك بين ظاهر الخطاب وباطنه ذهابا وإيابا، فصديق الشاعر “كتب قصيدة طويلة عن الضحك الوطني” ص.48، ليس لأن الجنون قد عم الجميع، وإنما لأن الشاعر قد أحس بالغربة وبانحسار البدائل أمامه في مواجهة الآخرين فلم يبق أمامه سوى الضحك الذي يعد في ذاته آلية من آليات المقاومة والصمود أمام الأوضاع التي لا تناسب لا الشاعر ولا الشعر.
هاجس الشاعر في هذا الديوان وفي نظام التفكير الذي يتشكل في القصيدة ألا يكون من “اليوميين” أي ممن كانت حياتهم مرسومة بعناية فائقة ومسطورة بأسطر هندسية لا تبرحها. إنه لا يطمح في أن يكون “من البشر الذين يحجزون أماكنهم” ص.49، أو من تلك الجموع التي “تكبس الرقم السفلي في مصاعد البنايات” ص.49. إنه يبحث عن الفرادة وعن الذاتية وعن التفرد في التفكير وفي التخييل وفي الإحساسية على حد سواء متصاديا مع بيت شهير من أبيات الشاعر الكبير أدونيس في قوله: “ماحيا كل حكمة/ هذه ناري/ لم تبق آية/ دمي الآية/ هذا بدئي”(4)، ومن خلال هذا الوعي الشعري “الأدونيسي” تشهد أنا الشاعر تطورات كبرى من الأنا التاريخية التي تحيل إليه بوصفه كائنا تاريخيا إلى الأنا المرآتية (بلغة كمال أبو ديب) التي نشأت في هذا الديوان بفضل تدريبات اليوغا التي اشتغل عليها الوعي الشعري، إلى الأنا (أو الذات) المتكاثرة التي تحيل إلى فئة أو طبقة أو جماعة من المثقفين السعوديين.
أمام أوضاع لا شعرية ما الذي يمكن أن يصنعه الشعر؟ يمكن للشاعر أن يلوذ بالذاكرة أو أن يستبطن الحلم أو أن يحرك الأشياء في مدارات جديدة لعل أبرزها في القصيدة هي الكوميديا السوداء أو السخرية الصفراء. وبالنسبة للشاعر عبدالله ثابت فإن منحى القصيدة والديوان برمته يتجه نحو وضع تعريفات متعددة لذاته لعل تعريفا واحدا منها يجد صدى لدى هذه المرأة العابرة. فهو يعرف قلبه “كذئب مباغت” ص.52، وهو “كمخمور في غابة” ص.52، وهو “كنمر يحك رأسه في جذع شجرة” ص.53. وفي ظل هذه التعريفات يغيب التعريف الكلاسيكي، أي بوصفه كائنا عاشقا لامرأة وطّن وجودها في القصيدة على امتداد صفحات وفي حياته على امتداد سنوات، وهو في أثناء ذلك يعمد إلى ما يسميه كمال أبو ديب بـ”إعادة التسمية “(5)، ويبرز فيها ما في ذاته من احتمالية الوجود وتعدد في التشكل. ولكن الشاعر لم يكن في كل الأحوال ذاتا متعالية بل إنه أوجد مناخات للحوار مع المرأة التي ما انفك يتواصل معها بكل الصيغ الممكنة وخاصة بالحوار بينها والذي يضفي على الديوان بنية جديدة، فهذه المقاطع الحوارية بينه وبينه لا هي بالمقاطع المسرحية ولا هي بالقصائد الوجيزة الشكل كأن تكون رباعية أو خماسية أو قصيدة من قصائد الهايكو، فالشاعر يبدع أشكالا هجينة واقعة على تخوم الأنواع الأدبية والشعرية وسمتها الكبرى البارزة هي الرمزية الفائقة والإشارية اللطيفة، فهو يقول لها “هكذا تشاكلنا على نحو مفرط” ص.60، والتشاكل هو –في نظريات الحب والوصال– هو منطلق كل تجربة ومبدأ كل علاقة. فالبحث عن الند والمثيل والشبيه في عالم العشق بحث مضن شاق يستهلك الوقت والأعصاب، وإذا ما كانت العلاقة في مطلع الديوان صامتة فإنها في وسطه أصبحت قائمة على التحاور والتبادل، بل إن وجود هذه المرأة أخذ في التمدد في نص القصيدة ضد الآخرين، ومع الأشياء التي يحرص الشاعر على تعدادها وتسميتها فنحن نقرأ عن تجربة مختلفة في الحب لأن الشاعر قد وهب المرأة وجودا لسانيا وزمنيا قلّما يوهب إليها في بعض المجتمعات المحافظة أو المجتمعات الدينية أو الرافضة لأي شكل من أشكال التحديث، بل إن هذا الحب قد استوى على بنية غير مألوفة وعلى شكل يعسر تعريفه أو الوقوف على أبعاده المرئية لأن الشاعر عبدالله ثابت لا يتعاطى مفهوميا مع الحب بالتعريفات الكلاسيكية التي نجدها لدى ابن حزم في طوق الحمامة أو لدى نزار قباني في مجمل قصائده. إنه تجربة لسانية وشعورية ونفسية باطنية لا تكاد تعترف بالمعجم الغزلي القديم وفي المقابل تجترح لذاتها معجما بديلا عن معجم قديم. فالحب هو “أن نطير في الجو” ص.67، وهو “ماء ومضمضة وضحكتان” ص.67، وهو “البروق التي تقادحت على كتفينا” ص.67، وهو ألف صورة وصورة مما لم يسبق لأحد من الشعراء العرب القدامى أن عبر عنها أو صنعها. المهم ألا ينحدر الحب إلى منزلة الأشياء المعهودة والعلاقات المألوفة والموجودات التي تؤثث حياتنا ومعيشتنا فيفقد بريقه ويخفت وميضه. فالحب يهدي الشاعر والمرأة إلى الأعلى والأسمى ولأجل ذلك لم نقف في هذا الديوان على أية مفردة من مفردات الرغبة، حتى وإن كانت هذه الرغبة مشتعلة ولكنها تبدو دوما تحت السيطرة.
الكتابة الشعرية
وثنائية الواحد والمتعدد
في قصائد هذا الديوان ذات البنية النثرية يستمد الشاعر منطق توالد النصوص من سيرته الذاتية التي تبدو لنا موضوعا للتخييل الشعري مثلما تبدو لنا موضوعا للتفكير العقلي. فهو مطرود من الأسرة وقد يكون ملعونا منها إن نحن وقفنا على المعنى الحرفي والإحالة الدينية لعبارة “اخرج فورا” ص.72، وهي عبارة قد وردت على لسان أبيه ولكن هذا الخروج وهذا الطرد هو ميلاد جديد لذات الشاعر الذي لا يهوى المشي في الدروب المسطورة ولا الارتهان إلى الوصاية الأبوية مهما كانت منزلتها ورفعة القيم التي تدعو إليها، فالشاعر في هذا الديوان يقول “هاذا أنا” وهو يقولها في وجه الأب وفي وجه الشيوخ الذين يفرد لهم صورة تغني عن أية تأويل وذلك بقوله: “كرغاء شيوخ ذميمي الوجوه بين آيات الوعيد” ص.73، وهو في أثناء ذلك يكشف لنا عن البنية الأيديولوجية التي تحكم الديوان برمته، فالشاعر منشق عن الأبوية وعن السلطة الاجتماعية والدينية لطبقة الشيوخ، وهو فيما يبدو لنا يبحث عن لحظة الهروب التي هي لحظة التحرر من قيد ما، وسيجدها في البدء في الشعر ثم فيما بعد في صميم الواقع الذي يتنزل فيه ويخرج عنه خروج من يبحث عن ذاته المتفردة ضمن الجموع المتشابهة.
في هذا السياق تشيع في الديوان –أو في مواضع عدة منه- ما يطلق عليه كمال أبو ديب “لغة المفارقة الضدية”(6)، أي تلك العبارات والصور التي تزدحم بتناقض جوهري بين مكوناتها كان يقول الشاعر “الرحيل إلى قاع الجحيم” ص.48، أو “سماء طاحت من السماء” ص.79، وغيرها من هذه الأمثلة والنماذج التي تؤشر إلى توتر أوسع وقلق أعمق من وضع تاريخي واجتماعي لم يعد يطيقه الشاعر، أو هو يبحث عن نقضه أو محاصرته بالأساليب المتاحة لديه: بالسخرية وبالكوميديا السوداء وبالمفارقة الضدية وبالخطاب الوصفي غير التقليدي.
يلاحظ في شعر عبدالله ثابت في هذا الديوان وفي غيره خاصية يختلف بها عن موجة الشعراء التموزيين (السياب، البياتي، أدونيس…) وهي غياب التماهي مع الشخصيات أو الكائنات التاريخية والأسطورية التي كان الشاعر الحداثي يتوارى خلفها لينطقها بخطابه إزاء الواقع وإزاء اللحظة الراهنة وإزاء المنزلة الوجودية التي يصبو إليها. إنه يخاطب العالم بالأنا، بضمير المتكلم سواء أحال إلى الكائن التاريخي الذي هو أو الكائن الجمعي الذي ينتمي إليه. وفي كل الأحوال لا وجود لتقنية تقمص الشخصيات التراثية أو التاريخية وفي ذلك –في تقديرنا– من آيات تمايز شعر عبدالله ثابت عن الشعراء التموزيين على سبيل المثال.
هذه الذات تواجه العالم وتنخرط فيه وتنشق عليه وتتمدد فيه وتخرج عنه وهي لا تكون أبدا في الديوان المسيح (كما هو الأمر لدى السياب) أو بروميثيوس (كما هو الأمر لدى البياتي) أو تموز أو السندباد (كما هو الأمر لدى خليل حاوي). هي ذاتها في كل الفضاءات التي عبر بها الشاعر وفي كل الأمكنة والأزمنة التي ستشهدها تجربته الشعرية على امتداد نص الديوان بل على امتداد الخطاب الكامن فيه.
في قراءتنا لديوان الشاعر عبدالله ثابت “جلبة لتحريك الوقت” ما يشير إلى أنّ الشاعر ينصت إلى تجارب الآخرين من كبار الشعراء العرب ويتحاور معهم في تيمة أو موضوع السفر والارتحال ومبارحة المكان الأصلي، من ذلك تصادي شعره مع الشاعر العراقي حميد سعيد الذي يكتب “في آخر المحطات… حل القطار/ وجثة المسافر غائبة في الفراغ/ شوارع مغلقة/ بيوت مهجورة/ وجثة المسافر تمشي/ لا موعد ولا ذاكرة(7) وموضوع السفر والارتحال موضوع أصيل في هذا الديوان مشبع بالمعنى وغني بالانفعالات، فيضيق المكان أمام الشاعر وبه وتنحصر حدود الجغرافيا ولم يبق أمامه سوى المنفى أو الرحيل ولكن على أي وعي؟ وعي محمود درويش، الوعي الإدواردي الذي أضحى لديه المنفى مصدرا للتفكير والتخييل، ولكن وفي الأغلب فإن الشاعر عبدالله ثابت سيخلف وراءه أسئلة وتساؤلات بعضها بلا أجوبة وبعضها الآخر يفتح مصيره ووجوده على الزمن الآتي والمستقبلي “فهناك شيء آخر يعبر الطريق” ص.76، مثلما أنّ الشاعر يصرخ “لا أحب شمس هذه الديار” ص.77، ويستخدم الشاعر ضمير المتكلم الذي نرى أنه يتطابق من جهة مع الضمير التاريخي للشاعر مثلما أنّ ضمير الأنا في ديوان “حصار لمدائح البحر” على سبيل المثال يتطابق مع الضمير التاريخي لمحمود درويش، ولكن الشاعر عبدالله ثابت يخرج الأنا من واحديتها إلى تعدديتها وإلى “أنا” عليا جماعية تؤشر إلى طائفة من المثقفين ومن أصحاب الرأي الجديد في المملكة السعودية، ولكن بم سيهتدي هذا الشاعر؟ يجيبنا بلا تردد وبوثوق الشاعر وإيمان الواثق “هذا قلبي” ص.78، ولم يقل “هذا عقلي”، ففي القلب لا حدود ولا جغرافيا وإنما اندفاع المحب وتوثب العاشق إلى الهدف الذي يراه قريبا ويراه غيره من باب الضلال والتيه والوهم. وفي هذه اللحظة تصل اليوغا إلى الذروة حيث تحتشد القوى العرفانية المعروفة والمجهولة في نقطة واحدة لتخترق بها الموجود وصولا إلى الوجود. والموجود هو الفضاء البدوي الذي نشأ فيه الشاعر بكل الأشياء الذي تميزه وتتصف به، أما الوجود فهو البحر الذي التقى به الشاعر صغيرا لأول مرة واستمد منه نداء الأقاصي كبيرا وانتبه إلى العلاقة بين خاصية البحر التي هي الملوحة وبين جلافة “الملتحين السمان/ يشبهون زواحف سامة” ص.82، وهم الذين توقف الزمن لديهم في نقطة ما ويتعسفون على الآخرين لكي يردوهم إلى تلك النقطة الثابتة والنهائية من الزمن. فالشاعر يبحث عن زمنه الخاص في خضم هذا الزمن الثابت، وهو في هذه اللحظة يتماثل مع نخبة من المثقفين السعوديين ممن كان لديهم النظر إلى الأمور مختلفا ومتباينا عن النظرة السائدة. وفي هذا المقام يمكن أن نذكر بإيجاز شديد المثقف السعودي البارز غازي القصيبي وعالم الاجتماع تركي الحمد وهما من صناع الحداثة الفكرية في الخليج العربي ممن كان الارتحال إلى آفاق أخرى في المكان والتجارب عنصرا تكوينيا في سيرتهم وفي منهجهم، ولأجل ذلك يحتفي الشاعر في هذا الديوان بلحظة الخروج من المكان الأصلي الذي نشأ فيه، وتغتني القصيدة بتفاصيل صغيرة عن السفر الأول ويذكر الشاعر الأشياء التالية بوعي طفولي أو يكاد قوامه البهجة: الحقائب، أجنحة الطائرة، قبعة الكابتن، الملاحون… ص.86، ليؤرخ إلى حدث جلل وسم سيرته وطبع كيانه، وقد اعتمد في ذلك على ما في السرد من طاقة الحكي ومن تأمين لفعالية القص بحيث يدرك القارئ التطابق بين أنا الشاعر داخل النص وبين أناه خارج النص، بين المرجعي والتخييلي إن نحن استعرنا مفهومات علماء السرد.
الشعر مخلوق لكي يمدد من مساحة الحرية ولكي يكون لسان من يبحث عن ذاته في زمنه الذاتي الذي ينشئه إنشاء ولا يستعيره من الآخرين، وهذا ما يميز هذا الديوان الذي لا ينطق بأيديولوجيا الشاعر من أول نص أو من أول قصيدة، وإنما يبوح بها الشاعر مع تراكم الأدوات الشعرية الصانعة لهذا الديوان والخالقة لرؤيته هو إلى العالم. ومن بين هذه الأدوات التي وقفنا على بعضها يمكن أن نذكر: شعرنة السيرة الذاتية، التفاصيل والخبرة اليومية بالحياة، استحضار الأشياء الدالة على نمط من التفكير أو شكل من الوجود، القص السردي الذي تهبه قصيدة النثر إلى الشاعر وإلى القارئ على حد سواء… ففي ظل هذه الأدوات المتنوعة بدأت أيديولوجيا الكتابة الشعرية تنجلى بالتدرج وحسب إيقاع الخطاب الشعري سواء أكان إيقاعا مسترسلا سرديا أو إيقاعا حواريا متقطعا بحيث نرى أنّ التعارض مع الآخر لم يكن فحسب سببا من بين أسباب اختيار الشاعر للارتحال، وإنما كان أيضا وراء تشكل العناصر النظرية للأيديولوجيا التي بات ينطق بها والتي تنهض على أنّ الحرية هي البديل الأوحد لما استشعر الشاعر ضيق المكان وانحسار الجغرافيا عليه وتمدد السلطة الأبوية أو من ينوبها من سلطات دينية وعرفية واجتماعية يرى الشاعر أنها لم تعد مناسبة لبناء الذات أو تشكل الشخصية أو خوض أية تجربة كانت.
في الديوان ما يشير إلى انحسار دور الأب في الكون الشعري وفي الواقع الاجتماعي للشاعر، ولكن في مقابل ذلك ينمو الديوان لسانيا وزمنيا عبر استحضار دور الأم التي تبدو كما لو كانت ملاذ الشاعر من الغربة التي استشعرها صغيرا ويافعا وشابا، ففي القصيدة قوتان، قوة الأب الآيلة إلى الاندثار، وقوة الأم التي حافظ الشاعر على وجودها فاستحضرها الاستحضار الشعري العذب من خلال الصور والرموز ومن خلال منح الأم اللسان والخطاب حتى تكون لها مساحة أكبر في عالم القصيدة، فهي تخاطبه “تعال أيها الأشيب الصغير.. سأريك طعم أيامك” ص.92. ففي حديثه عن الأم يتكلم الشاعر عن لحظة الولادة ويعيد خلق الزمن الأول حتى يعلمنا أنه خُلق منشقا متمردا “عالقا في لحظة انبهاري الكامل” ص.91. إنه كان ينتظر لحظة الولادة حتى يبوح بخطابه الذي هو خطاب المنشقين والمتمردين، وهو خطاب ورثه عن أمه فيما كان أبوه عنوان المحافظة والتزمت، وكان على الشاعر أن يختار طريقه في الحياة بين عالم غارق في المحافظة ويعيد إنتاج زمن الأجداد إلى ما لا نهاية وبين عالم متوثب إلى الأعلى وإلى الخارج، وهذا البديل هو في تقديرنا بديل أجيال من المثقفين السعوديين ممن نظروا إلى الثقافة وإلى التاريخ نظرة جديدة مخالفة لما يُتداول ويُقرأ في المقررات الرسمية.
وتحظى الأم بمنزلة رفيعة في الكون الشعري للشاعر عبدالله ثابت في ديوانه “جلبة لتحريك الوقت”، فيما كانت منزلة الأب منزلة لا تكاد تذكر وهو يصفه بصفات دالة على أنّ التوتر كان سائدا بينهما “ولمحت عينيه الحادتين كخنجر” ص.99. وغالبا ما كان الأبناء يدعون إلى الصمت لأنه ليس من المعهود في الأدب العربي أن يتكلم الابن عن أبيه بغير عبارات الود لكيلا تنقلب العلاقات أو ترتج المعايير، فالأصل أن يورّث الأب ابنه القيم والمفاهيم والفضائل. ويمكن أن نستدل على ذلك برواية حنا مينه “حكاية بحار” وكيف يفهم الأب الابن العلاقة مع البحر من جهة رجولته وعطائه وأمانه، ومن جهة خطره ومكره وشحه… ولكن بالنسبة للشاعر عبدالله ثابت فإن التوتر مع الأب متولد من افتراق رؤيتين إلى العالم لا يمكن أن تتآلفا.
الإعلاء من منزلة الأم يقابله صمت عن منزلة الأب الذي يتضاءل الكلام حوله، ليس لأن الشاعر لا يقدر للأبوة مقدارها وإنما لأنه لم يعد يطيق الأبوية بكل أنواعها وصورها والتي أمست تمنع التطور الطبيعي للأشياء وللأفكار، ويرمز الشاعر إلى الأبوية بـ”الجد الحجري” ص.102، الذي يخاطبه لأنه يمثل منحوتة تتطاول على الزمن وتتشبث بتلابيب البقاء والأبدية على الهيئة ذاتها، مثلما أن الأب أضحى يمارس قهره على ذات الشاعر الذي تتعالى في ديوانه، وخاصة في الصفحات الأخيرة، نداء الهجرة والرحيل إلى الأقاصي وإلى المكان الذي يمكن أن يسع تجربته في الحياة مع الكائنات ومع الأفكار بحثا عما يسميه كمال أبو ديب “بالمدى المتعدد وبحقل من الإمكانيات”(8)، ويشتغل الوعي الشعري لعبدالله ثابت على كناية الخروج من موطنه ومن بيئته الأولى وهي كناية تؤشر إلى أنّ الخارج أوسع من الداخل والمائي أكثر جاذبية من الترابي، وهو في أثناء هذا الوعي يوحي لنا بأن شعره يفكر في لحظته الراهنة وفي لحظته المستقبلية المشرعة على المجهول “فتقول هذه حقائبي وغدا أهاجر” ص.106. إنه يفكر في المنزلة التي سيؤول إليها وسيتنزل فيها، ويكتب فيما يفكر فيه بحلم الرجل المتعقل للأمور “الذي لم يكن أليفا ليصفح/ لكنه لم ينتقم ص.108، وسماحة من لم يجعل نصوصه فضاء لتصفية الحساب “لم أكن شاهد زور/ لترويج خرافات حياة قادمة/ ولا آفاق على خشب المنابر/ كي أحظى بالحشود” ص.108، وبجموح من يتوق إلى الأقاصي وإلى تجارب التخوم والحدود القصوى من دون أن يلتفت إلى الماضي أو إلى أشيائه، لأن الشاعر مسكون بلحظة الصفاء المطلق التي تهبه فعالية التفكير والتأمل فيما يرى وفيما يفكر دون وصاية أحد عدا ما تسمح له اليوغا من النفاذ إلى أبعد من اللحظة الراهنة بحيث يتسرب الوعي عبر “النوافذ المفتوحة” ص.114، وتبدو “روحه كبروق” ص.115، ويجبّ الشاعر الذكريات القديمة والوقائع الماضية ويفتح لذاته دربا في “سباق النشوة” ص.120، ويمتلك القدرة “في أن يتبصر بالمزيد من عذوق الكلمات” ص.120، وأن يترفع “عن خوض الأوقات السمجة دون حذف ولا تعديلات” ص.121، فيما يعد ذلك انضواء في الزمن الذاتي للشاعر واندحارا للزمن الجماعى للآخرين. ولأجل ذلك يستحيل الخطاب الشعري في آخر الديوان وخاصة في قصيدة “متوالية الإنهاك” إلى مخاطبة للذات الجماعية التي “تترادف الأيام لديها كمتوالية رياضية” ص.121، تتكرر تفاصيلها إلى ما لا نهاية، وتسرد القصص ذاتها بدون أدنى تحوير أو تغيير، ويتجمد العقل والوعي في نقطة ما وتتولد في القصيدة رؤية الشاعر السياسية والأيديولوجية التي كانت غامضة أو خفية ومندسة في الصور والعبارات الغامضة ولكنها أضحت الآن على درجة من الوضوح والإبانة لأن الشاعر استنفد ممكنات قصيدة النثر في شحن العبارة بالطاقة اللازمة من الفكر دون قيود وحواجز، فهو يخاطب الآخر الذي يصف الشاعر وجوده بـ”الجنازة الحزينة” ص.124، وبـ”خفافيش حبيسة من إنفاق أعمارها” ص.124، كما يشير أيضا إلى تمدد هذا الآخر في الفضاء العام الذي يقيم فيه الشاعر وإلى انحسار فضاء الحرية والحركة أمام الذات والخطاب، ولأجل ذلك انغلق هذا الديوان على حركة الخروج وعلى حركة البحث عن فضاء آخر يستوعب خطاب الشاعر ويعترف به.
بدأ الديوان بحركة التأمل بواسطة اليوغا واستكمل بحركة الخروج الذي هو من الآن فصاعدا فضاء الإقامة لدى الشاعر، فالوجود مشرع أمام كيانه والدروب متعددة. ففي أي درب سينخرط؟ فالقصيدة لديه تتشكل من القوى المتنفذة ممن تحصي أنفاسه وتترصد حركاته، كما أنّ سياسة الآخرين تمددت على حساب سياسة الشعر لدى الشاعر لأن القوى التي تتلاقى في الديوان غير متوازية أو متعادلة، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن دواوينه القادمة تنهض على تنزيل للذات منزلتها الكبرى في القصيدة، وفي الواقع باعتبارها صورة من ذوات أخرى تنتسب إلى الخطاب ذاته وإلى الرؤية ذاتها للمجتمع وللوجود مهما كانت حدة التعارض والمفارقة مع الآخر.
الهوامش
(1) كل الشواهد من هذا الديوان تحيل إلى الطبعة الآتية، جلبة لتحريك الزمن، تونس، دار مسكيلياني، 2019.
(2) الديوان، مقدمة الشاعر والمفكر الكبير أدونيس، ص.11.
(3) مجلة فصول القاهرية، بحث كمال أبو ديب، الواحد/ المتعدد، صيف 1996، ص.55،
ومن هذا البحث المهم استمددنا العديد من المصطلحات والمفاهيم في دراسة الشعر ونقده.
(4) ديوان الشاعر أدونيس، هذا هو اسمي، بيروت، دار العودة، 1985، ص.18.
(5) بحث كمال أبو ديب، الواحد والمتعدد، ص.64.
(6) نستعير هذا المصطلح من بحث كمال أبو ديب المهم «الواحد والمتعدد»، وهو الذي يعج بالمصطلحات المهمة في دراسة الشعرية العربية القديمة والحديثة على حد سواء.
(7) الشاعر حميد سعيد، ديوان «باتجاه أفق أوسع»، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1992، ص.181.
(8) كمال أبو ديب، الواحد والمتعدد ص.55.