يعلق (جان دو لاروك ) أهمية كبيرة على تجارة القهوة بوصفها مأثرة، على صفحات كتابه (رحلة الى الجزيرة العربية السعيدة ) الذي صدر في عام 1796. تجري في مدينة (تلفاجي) عمليات شراء القهوة من جميع انحاء تركيا، حيث يؤمها التجار من مصر وتركيا لهذا الغرض، ثم يحملون كميات كبيرة من هذه المادة على ظهور الجمال، يحمل كل جمل من هذه الجمال حزما تبلغ قيمة كل واحدة منها ما يقرب من 270 ليرة، وتمضي بها الى الموانئ الصغيرة على البحر الأحمر، ومن هناك يتم شحنها عل مراكب صغيرة تنقلها الى مسافة 60 فرسخا في عمق الخليج، الى ميناء آخر أكثر أهمية، أي الى (جدة) او الى مكة، ومن هذا الميناء يعاد شحنها على سفن تركية تحملها الى السويس، وهو آخر ميناء يقع في نهاية البحر الأحمر، حيث تشحن مرة أخرى على الجمال التي تشكل القوافل المختلفة الى مصر والى باقي اقاليم الامبراطورية التركية، او عن طريق البحر المتوسط. وتدل هذه الحكاية على ما بلغته تجارة القهوة من أهمية، وكذلك على تلاشي الريبة التي كانت – بأمر تغلغلها في المنطقة، فلم تصبح القهوة جزءا من العادات فحصب، انما تم الاحتفاء بها بوصفها هبة من العناية إلهية. يشيد الشاعر العربي (عبدالقادر) بالقهوة بهذه العبارات الحماسية: "آه أيتها القهوة، أنت تفرقين نعمك، أنت يا مشروب الأصدقاء، تهبين الصحة الى الذين يجاهدون لاكتساب الحكمة، وحده رجل الخير الذي يشرب القهوة يعلم الحقيقة ". ويتخذ الكاتب التركي (البليغي) لهجة غنائية شبيهة بلهجة سابقه، وهو يشيد بالقهوة ويثني عليها:
"كنا هناك نجتمع في دمشق وحلب وفي العاصمة القاهرة، نجتمع حلقة يغمرنا الفرح:
باطية القهوة، نفحات الرحيق: قبل الدخول الى السراي وعلى ضفة البسفور: قد سحرت القهوة العلماء والقضاة وكان لها اتباع وشهداء، ولكنها ولحسن الحظ انتصرت، ومنذ تلك اللحظة السعيدة، طردت النبيذ من امبراطورية الاسلام التي كانت آنذاك ممتدة في كل الرجاء". كان الرحالة الايطالي (فيليس فايري) الذي زار مصر، في غروب القرن الخامس عشر، قد لاحظ وجود الباعة المتنقلين لاعداد القهوة، وهم يعرضونها على المارة، ومن المحتمل جدا أن القهوة كانت تقدم أول الأمر في الأسواق الكبيرة، فكان يكفي لاعدادها موقد صغير، وكما هو الحال في أيامنا هذه، فقد كانت تقدم محمولة على طبق الى الزبائن الذين لم يكن بامكانهم ترك حوانيتهم او متاجرهم، ومع مرور الزمن أصبح الموقد يوضع في محرز لا يتغير، وكان يخصص مكان للشاربين الذين كانوا يجلسون على المصطبة أمام مدخل المحرز أو يجلسون على مقعد في الداخل، ان كان المكان يتسع لذلك. وفي غضون القرن السادس عشر، كانت ثمة فئات عديدة من الأماكن العامة والمحددة، وقد احتفظت الفئة الأولى بالطابع البدائي جدا للموضع المخصص لاعداد المشرب، او لمركز الأعمال، أما الفئة الثانية فقد تحولت الى منازل لها طابع مثالي، وقد كتب (جون تيفون) في ملحق رحلته الى بلاد المشرق: "ان كل المقاهي في دمشق رائعة، ثمة عدد كثير من النافورات، تقع على مقربة من الأنهار والاماكن الظليلة والورود والأزهار، وثمة أماكن تبعث على الانتعاش، وهي جد جميلة وجذابة ". كان المغامر البرتغالي (بيدرو تكسيرا) الذي قطن في بغداد في مستهل القرن السادس عشر يكثر الحديث عن المقاهي، ويقول: "كانت القهوة تباع سلفا في أماكن عامة مخصصة لها، وكان المنزل يقع بالقرب من النهر ويشتمل على عدد كبير من النوافذ، وهنالك رواقان يشكلان مكانا جذابا". شاهد "جون شاردان" خلال رحلته الطويلة، هذا النوع من الأماكن بعينها في القرن السابع عشر، خلال وجوده في بلاد فارس: "ربما لم أتحدث لكم بعد عن المنازل التي كنا نذهب اليها لشرب القهوة في بلاد فارس، موف أتحدث عن الكيفية التي بنيت طبقا اليها، هنالك مصالات فسيحة وعالية بأشكال متنوعة، هي في العادة أجمل ما في المدينة من أماكن، لأنها أماكن لقاء وتسلية لقاطنيها، ويتوسط العديد منها أحواض مياه، لا سيما تلك التي تقع في المدن الكبيرة، وتحيط الصالات دكات لها ارتفاع ثلاثة أقدام، وعرض أربعة أقدام، وتختلف ساحتها طبقا لاتساع المكان، ومبنية أو مصنوعة من الخشب مخصصة للجلوس على الطريقة الشرقية، تفتح هذه المقاهي منذ الفجر، ولا تكتظ بالرواد الا في المساء، حيث يحتسون القهوة المقدمة على نحو لائق ومريح جدا وباحترام جم ". بطبيعة الحال، لا تتمتع غالبية المقاهي على ضفاف المتوسط بهذه الأبهة، الا فيما ندر، حيث بقيت محلات متواضعة تمت تهيئتها على نحو ريفي للغاية، كتلك التي يستحضرها لنا (الكسندر هب) في كتابه "دقائق الشرق":
"لا ذهب هناك ولا قطيفة حمراء، بل هناك وعند كل خطوة تقريبا حانوت منخفض ذو جدران مبيضة، وحصيرة على الأرض، وهنالك موقد وكنبة دائرية مبرقشة محفورة بالركب المتصالبة للمقرفصين، هذا هو كل ما هناك، لكننا نجد أحيانا ثمة قطعة مربعة من الكتان الاصفر تنطلق من العتبة، معلقة على شجرة، أو بين البيوت المتقابلة في الأزقة الضيقة لتشكل خيمة، ثم ترصف الكراسي على البلاط الأسود السميك او على الأرصفة تحت الخيمة ". يؤكد لنا (اندريه ريمو) هذا الوصف في معرض مشاهداته للقاهرة: "ان معظم المقاهي هي مبان متواضعة جدا، تقتصر محتوياتها على بعض الحسران والبسط الموضوعة على دكة من الألواح الخشبية، وهناك من الطبيعي أقداح من البورسلين او الخزف، وكل الأدوات اللازمة لصنع القهوة ان لمقاهي الامبراطورية العثمانية الممتدة من ضفاف البسفور حتى قرطاجة القديمة، ملاح مشتركة عديدة، فعندما نقرا نصا كالنص الذي كتبا (تاميزيه) حول مقاهي جدة، فان المشاهد التي يصفها يمكن التعرف عليها على امتداد أميال وأميال من أراضي الامبراطورية، مع بضعة فروق طفيفة:"نلاحظ على امتداد البازار عددا كبيرا من المقاهي التي يتجمع فيها أناس البلد الغرباء، هذه الأماكن العامة مشيدة تحت منابر كبيرة لها شكل حشية، وفي القاع منها، وعلى موقد كبير من الطين ثمة نار تشتعل بلا توقف، يوقدها فحم الخشب الذي يستخدم في اعداد القهوة واضرام السيجار او النارجيلة بأنابيبها الموضوعة بانتظام بالقرب من الموقد. ثمة تخوت مصنوعة بابتذال من أغصان الأشجار ومجهزة بالحلفاء، ومزروعة بالداخل أثناء النهار، أما في المساء فتنقل الى الخارج، وعندئذ يأتي العاطلون للجلوس عليها، وتندم القهوة دون سكر وهي معطرة بالترفة
واقرنفل والزنجبيل ". برز مع مرور الزمن، ويفعل التقاليد، ما يسمى بالقهوة الشرقية، وقد وسمت بطابعها الثقافة الاسلامية باشكالها الأكثر تنوعا، ان هذه الوثيقة التي تعود الى القرن التاسع عشر تتموضع تقريبا خارج الزمان، واللوحة التي ترممها لنا، كان بامكان كل من (شاردان) و(بيير لوتي) ان يتأملاها مليا، هذا اذا ما تجردنا من بعض التفاعيل الدقيقة التي لا تغير شيئا من الأثر العام.
ثرثرة حول فنجان القهوة
اصبح اعتماد مشروب القهوة عاما مع مستهل القرن السابع عشر في بلاد الشرق، فلم تبق طبقة اجتماعية إلا واقتنته ولا مدينة الا وعرفته. في ذلك العصر ايضا، بدأت القهوة تتأمل جديا في مدن أوروبا، رغم المقاومات الشرسة للاكاديميات الطبية التي قدمت اعتراضاتها على هذا المشروب الدخيل، الذي لم يكن ينتمي الى أي دستور صيدلاني معروف، وتطلب مرور عقود من السنين لكي يحل حس الالتفات اليها محل عداء العطارين والأطباء لها، تطب الأمر ان تأتي عظمة سفارة (أغا مصطفى ريكا)، المبعوث الخاص للسلطان محمد الرابع لدى لويس الرابع عشر في. عام 1669، كي يحظر ما كان يدعى (لموكا Moka ) بالعطف من لدن البلاط، وبالتالي من لدن فرنسا بأكملها، كما أصبحت القهوة جائزة لدى معظم الممالك والامارات ودوقيات الغرب. ومنذ ذلك الزمان صارت متعة الكافائين طقوسا كاملة عند أعلى مستويات السلطة، وبطبيعة الحال في قصر (تو بكالي) حيث كان يقيم ذلك الذي يحكم (الباب العالي). وتقدم ليلى هانم في دفتر ذكرياتها، وصفا دقيقا جدا للمراسم التي تصاحب تقديم القهوة: "ها هي الطريقة التي كانت تقدم بها القهوة الى السلطان، فهي تصل معدة في ابريق قهوة مصنوع من ذهب خالص، وبغطاء موضوع علي رماد حار، داخل آنية صغيرة مصنوعة من ذهب أيضا، ومعلقة بثلاث سلاسل مجتمعة في الأعلى لتمسك الخادمة بها. تسمى هذه الطريقة بالـ"سيتيل"، ثمة خادمتان أخريان تمسكان بطبق من ذهب عليه أكواب صغيرة لشرب القهوة مصنوعة من البورسلين الناعم من ساكس أو الصين، وزارف zarfمن ذهب مرصع ومطعم بالأحجار الكريمة، تمسك هاتان الفتاتان مع الطبق، بساطا من الحرير أو المخمل، ومحاط من جانبيه بسجف من ذهب، يطوى البساط قليلا نحو إحدى زواياه، وتمسك الفتاتان – كل منهما- بطرف منه براحة اليد، وفي الوقت ذاته بالطبق المحاط بهذا البساط الذي طوي من الأمام، مكونا زاوية نحو الأسفل، وتأخذ المحظية الأولى لـzarf من الطبق، لتضع بعناية كوبا عليه، تمسك بوساطة قطعة من القماش الأبيض القطني موجودة عادة على الطبق، بعروة الابريق وتصب القهوة، وتكون حينذاك قد أخذت برفق أطراف اصابعها، الطرف المفلي من العروة، في حين تستريح قدم zarf على طرف السبابة وتقوم بتثبيته بالابهام، ثم تحمله الى السلطان بحركة رشيقة ماهرة للغاية ". على الرغم من هذا الترف والتنميق، وعلى الرغم من هذا العرض الباذخ، وهذه الطقوس الملهمة، فان التركي لا يختلف كثيرا الى الأماكن العامة التي تباع فيها القهوة، لأنها لم تكن تحظر دوما بسمعة جيدة، ويلمع (رالف هاتوكس) الى ان تشبيهها بالحانات التي عبقتها، والتي كانت مخصصة الى غير المؤمنين، جعلت منها أماكن مشبوهة، ذلك لان للحانات سمعة سيئة، ولا يمكن أن تكون إلا فاسقة، و السبب هو تعاطيها تجارة الخمرة المحرمة على المسلمين الصالحين، ولعل السبب يعود الى انها تعتبر ملاجئ للبغي والإباحية غير المحدودة، بيد ان هذا التخمير لم يكن كافيا، والصحيح هو ثمة اشاعة تنص على ان بعض المقاهي كانت هي أيضا أماكن للفجور، ففي مستهل القرن السابع عشر في بغداد، ثمة فتيان وسيمون يقومون على خدمة الزبائن، يرتدون الملابس الباذخة، وكان (جورج سانديز) مصعوقا بما صادفه من ممارسات شاذة في اسطنبول، حيث يستخدم عدد كبير من أصحاب المقاهي فتيانا وسيمين كطعم لاصطياد الزبائن، ومع ذلك لا يبدو ان هذه السلوكيات المنحلة كانت هي القاعدة، وعندما كتب (جيان فراسيسكو موروزيني) من مدينة البندقية، ذكريات رحلته في عام 1589، لم يكن يحمل فكرة جيدة عن المقاهي التي زارها، ولا حتى عن الرجال الذين يرتادونها: "كل هؤلاء الناس هم منحطون بدرجة ما، ولهم سلوكيات دنيئة، فهم لا يملكون الا القليل جدا من الصنعة، انهم يمضون الجزء الأكبر من وقتهم غارقين في عطالتهم، فتراهم جالسين بشكل أبدي لكي يسلوا أنفسهم، لقد اعتادوا على احتساء سائل أسود ساخن الى أقصى ما يتحملونه ستخلص من حبة تدعىCavee) ) علنا، في الشوارع والمحلات العامة ". ويلاحظ (دوفور) في كتابه "مقالات جديدة " الصادر في القرن الثامن عشر: "ليس ثمة أمر رفيع يمكن أن يحدث في أماكن لها مثل هذا النوع السيئ من الرواد" لـ( مراد أجا اوهسون) الاحساس نفسه تماما، في كتابه "لوحة شاملة عن الامبراطورية العثمانية "، على الرغم من انه ذكر في كتابه هذا: "ان هذه المقاهي كانت عامرة قبل قرنين مضيا، بالبكرات والضباط النبلاء والقضاة ورجال آخرين من رجال القانون ". في الواقع، لم يكن (كاتب جلبي) أكثر استحسانا من سابقه للمقاهي، لقد كان ينظر الى رواد المقاهي على انهم أناس بعيدون كل البعد عن التهذيب ويضيف: "إن الافراد الذين يرتادونها من الأمير حتى المتسول، يتسلون بطعن بعضهم البعض ". من المؤكد ان المقامي هي بوتقات يجلس روادها جنبا الى جنب، في حين انهم أشخاص من فئات اجتماعية مختلفة، لا يختلطون في العادة ببعضهم، ويخضعون الى قواعد التراتبية الصارمة، ويعلن (تيفنو) ان: "كل النار على اختلاف أنواعهم يأتون الى هذه الأماكن، على اختلاف أديانهم وموقعهم الاجتماعي، الكل يأتي للترفيه عن نفسه، وكثير منهم يأتي للثرثرة فحسب ". ان ما يجري في اسطنبول يجري كذلك في بغداد، وهذا ما يعرضه لنا أيضا (بيدرو تكسيرا) بشكل واضح: "هناك يمكن لكل شخص أن يأتي لشرب القهوة متى يشاء، سواء أكان ذو شأن عظيم، أم ذا شأن متواضع ". تبرهن لنا حكاية ذات عبرة، رواها لنا المؤرخ المصري (اشاكل ) في عام 1623، على ان المقاهي لم تكن على الدوام تتمتع بسمعة سيئة، وهي حكاية تستحضر لنا شخصية (احمد باشا) حاكم مصر، عند نهاية القرن السادس عشر، والكيفية التي استطاع من خلالها ان يزيد من هيبته في أوساط رجال الدين والشعب، عندما شيد من بين أشياء كثيرة، المقاهي في بولاق وفي حي رشيد، بيد ان مثل هذا النوع من اعمال الاحسان لم يكن سوى استثناء غريب بشكل عام، وان ما يجري في المقاهي من أنشطة متنوعة لم يكن يرفع من شأنها، "لقد كان اللعب أمرا شائعا بها، فهنالك الشطرنج والنرد والمنقلة، وهي لعبة قديمة تسمى كذلك بـ"كوانوروز"، كل هذه الألعاب كانت قد شهدت إقبالا كبيرا، في حين ان لعب الورق والزار كانا غير معروفين ". ان الأمر الذي لم يساعد على تحسين سعة المقاهي، هو ما يحصل فيها أحيانا، ذلك لانها كانت ملاذا للمدمنين على المخدرات، ويحدثنا (ريموند) عن شراب مكون من العسل والحشيش، يتعاطاه بعض المدمنين في بعض الأماكن في القاهرة، فألفه أولئك الذين يحبون الكيف بدورهم، ليجلسوا في المقاهي، ويحيكوا متلذذين الى ما لا نهاية خيوط أحلامهم السعيدة. من حسن الحظ ان رواد المقهى العاديين يكتفون بالهتهم السودا،، وبالتبغ الذي يدخنونه بالاستعانة سيجار طويل او بنرجيلة ضخمة، وتكمن لذتهم الأكثر شيوعا في المحادثة، ان الثرثرة هي الخطيئة الكبرى التي يتعلمونها في المقاهي، ولكن لم يكن من شأن هذا الامر ان يمنح الثقة بالمقاهي، يقول (الجزيري) شاكيا: "ان الممارسة الرسمية للمتصوفة قد استبدلت بمزح مريبة، وبمشاركة متواصلة للقصص الهزلية " تمر السنوات و(دوفور) تهزأ "بهؤلاء الرجال المتجمعين المكتفين بأحاديث غامضة حول أمور غير محددة، أو قصص مازحة مجنونة " ويعبر(وليام بيدو لف) وهو رجل دين من عصر الملكة (اليزابيث) عن أسفه لانه "لم يسمع سوى الأحاديث العابثة الخاصة بالمشارب، وذلك في مقاهي حلب "، أما (دو هسون) فقد اضطربت أحواله لرؤية "هؤلاء الشباب العاطلين عن العمل وهم يقضون في المقاهي ساعات وساعات، يدخنون ويلعبون الدامة والشطرنج، ويتناقشون في الأمور اليومية "، وأخيرا، هناك من الكتاب، من فضل سلوكيات رواد المقاهي، الذين يكيلون القول المشين والمسيء للسمعة، ويلقون بالشك على النساء الفاضلات، ان ما يروونه هو في الغالب اختلاقات مخيفة، تخلو من ذرة من الحقيقة ". ولا يغيب الدين هو الآخر عن المقاهي، فقد لاحظ (كارستن نيبور) الملالي ورجال الدين المعوزين يروحون عن رواد المقاهي بمواعظ وحكايات للتقوى، وكان قد صادف في يوم من الأيام، في حلب، رجلا ثريا يخطب بجمع من المقهى حول اشتداد إيمانه، وفي واقع الأمر أن هؤلاء المهتدين والوعاظ المتقين، لا ينظر اليهم الا بوصفهم محرضين، ينبغي الحذر منهم، مثلما ينظر الى المتآمرين والمتمردين الذين يجتمعون هناك، ويقلقون السعلة، ويعزو (دو هسون) على سيبل المثال، الاغلاق الحازم للمقاهي في اسطنبول الى دواع سياسية، ففي عهد السلطان المعتوه (مراد الرابع) صار من المؤكد ان المقاهي اصبحت "أماكن للقاء الأفراد والجنود العصاة " ولم ينكر أحد سمة المقاهي هذه على الاطلاق، على مر الزمن، حتى ان حكومة (محمد علي) ارسلت في منتصف القرن التاسع عشر جواسيس في المقاهي، لشدة قلقها مما كان يدور من أحاديث متآمرة في مقاهي القاهرة. هكذا أصبح حال المقاهي فيما بعد في باريس وروما ولندن والبندقية، لقد كانت مقاهي الشرق تمثل مراكز تسرد فيها حرية التعبير، وكان يمكن للحرية فيها ان تصبح اباحية رخيصة، أو تطلع الى المطلق، أو الى الحق.
القهوجي ورواد المقهى
علي الرغم من ان المقاهي أصبحت تنتمي الى قواعد الضيافة لدى الكثير من الشعوب الخاضعة لتعاليم القرآن، الا انها لم تحذ حقيقة بمكانتها النبيلة.
اذا ما تصفحنا كتاب "وصف القاهرة"، الذي كتبه الرحالة التركي (تيتز) والذي كان يقيم في مصر، مند غروب القرن السابع عشر، لشعرنا ان الاستخفاف العميق يسيطر علي عباراته، لقد كان مفتونا بكثرة المباني، وباكتشافا لتجمع المقاهي عند كل خطوة، وكذلك لأماكن الغناء المثالية: "يستيتظ العباد مبكرين، فيذهب الاتقياء منهم لاحتساء كوب قهوة، فيضيفوا حياة الى حياتهم، فهم يشعرون على نحو ما بإثارتها الخفيفة لهم، فهي تعينهم على واجباتهم الدينية وعباداتهم" وسرعان ما يتحول هذا الثناء علي ورعهم، والذي تحمسه هذه المادة السوداء المثيرة، الى استياء من واقعهم الاجتماعي الحزين: "بيد اننا لو تأملنا الشعب الجاهل الذي يجتمع في المقاهي، لتساءلنا ان كان يستحق منا الثناء أم لا.. باختصار ان المقاهي في مصر مليئة، في الغالب، بأناس منحلين، ملتهمين للأفيون، وان عددا من هذه المقاهي مشغول بالمحاربين القدماء وبالضباط كبيري السن، عندما يصلون مبكرين، في الصباح الى المقهى، تكون البسط والحصران مفروشة، فيبتون فيها حتى المساء، وان بعضا من الزبائن هم من الحشاشين من طبقة العبيد.. انهم لملمة من الطفيليين.. الذين يشتمل عملهم علي ترؤس المقهي، وشرب القهوة بالدين، والتحدث من الزهد في المأكل عندما يدور الكلام من هذا الموضوع ". سيكون من الخطر مع ذلك ان نطلق الأحكام اعتمادا على روايات الرحالة، التي لها مضمون تثقيفي مبالغ به، والتي توحي بان ارتياد المقاهي كان يعد مملا مذموما، وان الذين يكرمون لها الساعات الساكنة هم بالضرورة أناس محاطون وطفيليون، وان وحدها الطبقات الحقيرة من المجتمع تلجأ اليها.
في عام 1870، زار (الفرنس دوديه الجزائر)، ونقل بدقة في (حكايات الاثنين) معني هذه الأماكن التي ترمز الى أحد فنون الحياة والى عقلية حضارية بعينها: "ان ما نطلق عليه بـ(المقهى العربي) يشبه الى حد كبير صالات استقبال أصحاب القصور العربية، الذي يشكل بيتا داخل البيت، وهو مخصص للرواد العابرين، حيث يجد فيه المسلمون الصالحون المهذبون البشوشون للغاية وسيلة لممارسة فضائل الضيافة، مع محافظتهم على الحميمية العائلية التي يمليها القانون كان مقهي (الأغا سليمان) مفتوحا وهادئا، وكذلك كانت إسطبلاته، هنالك الجدران العالية المدهونة بالكلس، والاسلحة التذكارية وريش النعام والأريكة العريضة التي تحيط بالصالة، كل هذا كان يرشح بفعل المطر الذي تدفعه الزوابع عبر الباب.. مع ذلك فقد كان هنالك اناس في المقهى.. قام القهوجي وأشعل موقده ووضع عليه ابريقين مجهريين…". من الواضح ان أمسيات عيد الفطر في مدن المغرب وفلسطين وسوريا والجزيرة العربية وتركيا العظمي ابان انحطاطها، كانت أمسيات من السمر واللذة والتسلية والأحلام، فقد قامت المقاهي مقام الصورة المقلوبة عن بلاط السلاطين الباذخ، آو بالأحرى كانت انعكاسا محرفا للثقافة الرفيعة المتيمة هي الأخرى في السراي، ومع أن الفنانين الذين كانوا يقدمون عروضهم في مناسبات العيد لم يتركوا أسماءهم ليذكرها التاريخ، بيد انهم نقلوا علامات حية عن ثقافة لم تنفك تغتني من جيل الى آخر. ويكفي في هذا الصدد ان نعلم أن الاحداث التي كانت تجري في عدد كبير من المقاهي هي صدى بعيد لما كان يجري في التصور، وعلى أية حال كان المقهي علامة على الضيافة دائما وهذا ما يلاحظا (ادموند آبو) عندما زار تركيا في مستهل عام 1880: "انتهى بنا الأمر الى الشعور بالتعب، وقد لاحظ (أحمد باشا) ذلك واجلسنا في (كشك عبدالمجيد) الذي لم يكن جميلا بحد ذاته، بيد انه كان يتمتع بمنظر على البحر لا يضاهى. فقدموا لنا القهوة اللذيذة الطعم، مسبوقة بملعقة من شراب ماء الزهر، مع كأس من ماء الحياة، وسيجارة (جيلي) التي كانت تعوض دون شك عن الشبوق الذي يقدم في مراهم الضيافة". انتثر هذا النوع من الطقوس في كل الحياة المدنية، وفي الدوائر العامة كما في الدوائر الخاصة. ان هذه الحركات المصاحبة لاحتفالية السلام هذه، دخلت خلسة الى الحياة الخاصة في المنازل، وهذا في الواقع ما تفصح منه هذه الفقرة المعبرة من رواية (بين القصرين ) حيث يدعونا نجيب محفوظ للدخول في الحياة اليومية لمنزل تاجر ثري في القاهرة، في مستهل القرن العشرين: "اجتمعت الأسرة – ما عدا الأب – قبل المغيب فيما يعرف بينها بمجلس القهوة. وكانت الصالة بالدور الأول، مكانه المختار حيث تحيط بها حجرات نوم الاخوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدت للدرس، وقد فرشت الصالة بالحصر الملونة، وقامت في أركانها الكنبات ذوات المساند والوسائد، وتدلى من سقفها فانوس كبير يشعله مصباح غازي مثل حجمه، وكانت الأم تجلس على كنبة وسيطة، وبين يديها مدفأة كبيرة دفنت كفجة القهوة حتى النصف في جمرتها، التي يعلوها الرماد، والى يمينها خوان وضعت عليه صينية صفراء وضعت عليها الفناجين، يجلو الابناء حيالها سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي، ومن لا يؤذن له بحكم التقاليد والآداب فيقنع بالسمر كالشقيقتين وكمال. تلك ساعة محببة الى النفوس يستأنسون فيها الى رابطتهم العائلية وينعمون بلذة السمر وينضوون جميعا تحت جناح الأمومة في حب صادق ومودة شاملة، وبدت في جلساتهم راحة الفراغ وتحررا، فكانوا بين متربع ومضطجع بينما جعت خديجة وعائشة تستحثان الشاربين على الفراغ من شربهم لتقرأ لهم الطالع في فناجينهم، راح ياسين يتحدث حينا وحينا يقرأ في قصة اليتيمين من مجموعة مسامرات الشعب حينا آخر، كان من عادة الشباب أن يهب بعض فراغه لمطالعة القصص والأشعار". من الواضح ان ساعة شرب القهوة نسبة الى الروائي المصري العظيم هي الساعة التي يلتم فيها شمل العائلة، وتستعيد فيها وحدتها، فتعلق على الأحداث العادية وغير العادية، وتنجح في الاستعلاء على ما هو يومي لتعطي مظاهر الطقوس. أما (جيرار دو نرفال) فقد حصل اثناء رحلته الى مصر على فرصة لتذوق المتع التي تمنحها المقاهي في القاهرة، فعمد الى رسم نفسه، لينقل لنا المناخ السائد هناك: "بعد أن تناولت غدائي في الفندق، ذهبت للجلوس في احد اجمل مقاهي (الموسكي)، فرأيت فيها وللمرة الاولي الراقصات وهن يرقصن امام الجمهور، كان بودي ان اغفل المشهد قليلا، ولكن في الحقيقة كان الديكور لا يشتمل على زخرف وريقات النفل Treles الثلاث (زخرف على شكل وريقات ثلاث للنفل) ولا على الاعمدة، ولا على الجدران المكسوة بالخزف، ولا على بيوض النعام المعلقة، فلا يمكن ان نلتقي هذا النوع من المقاهي الشرقية في باريس، وبدلا من هذا عليك أن تدخل حانوتا مربعا متواضعا مكسوا بالكلس، وكل ما فيه من زخرف هو صورة مرسومة ومكررة عدة مرات لرقاص ساعة موضوع على المرج بين شجرتي سرو، ويتألف ما تبقى من الزينة من مرايا طليت على نحو متساو، والتي يفترض منها ان تعكس البريق الصادر من جذع نخلة محمل بزجاجات زيت تسبح فيها المصابيح الصغيرة، وتنتشر الآرائك المصنوعة من الخشب الصلب حوالي الغرفة وهي محفوفة بأقفاص من الجريد تستخدم كمناضد لأقدام المدخنين، الذين توزع عليهم من حين الى آخر أكواب صغيرة انيقة يطلق عليها (الفناجين).
في هذا المكان يأخذ كل من الفلاح في صديريته الزرقاء، والقبطي بعمامته السوداء، والبدوي بمعطفه المخطط، مكانا له على امتداد الحائط، وهم ينظرون دون دهشة او استياء الى الافرنجي الجالس الى جوارهم. أما القهوجي فهو يعلم جيدا ان عليه ان يضيف السكر الى قهوة هذا الاخير مما يجعل الحضور يبتسم لهذا المشروب الغريب. ويحتل الموقد أحد أركان الحانوت، ويعد أثمن ما فيه من حاجيات، اذ يطوه خزان مطعم بالخزف المنقوش، ومقصوص على شكل اكليل او محار، يشبه الى حد ما المواقد الألمانية، وتغطي جمره دائما العديد من أباريق القهوة النخاسية الحمراء الصغيرة، وذلك لانه ينبغي عليه ان يجعل الابريق يغلي لكل فنجان من هذه الفناجين التي لها حجم كأس البيضة"
موسيقى! موسيقى!
تعد المقاهي مراكز تسلية لسكان المدينة أيضا، يروي (جون تفنون):
"ان في المقاهي عادة، عددا من عازفي الكمان والمزمار، وموسيقيين آخرين يستأجرهم صاحب المقهى، لكي يعزفوا ويغنوا خلال جزء طويل من النهار على أمل اجتذاب الزبائن اليه". ان هذا المثل الموسيقي في المقاهي الاسلامية، لهو أمر منتشر بشكل غالب في بلاد الاسلام، ولا يرى (شاتوبريان) في مؤلفه (الطريق من باريس الى اورشليم ) انه قد ارتاد المقاهي في اسطنبول، بيد انه مع ذلك حرص حرصا شديدا على وصف ما أثار انتباها فيها: "تخرج الاصوات الحزينة للماندولين من قاع احد المقاهي، فنلاحظ أحيانا اطفالا سفلة وهم يؤدون رقصات شائنة امام اصناف من القردة الجالسين، على هيئة حلقة على موائد صغيرة. اذن يجري الرقص في العديد من المقاهي أيضا، وان هذه الجوقات الموسيقية الشعبية، وهذا الرقص الاتباعي المفتعل الى حد ما، لا يسهم في مفر هذه المقاهي شهادة في حس الأخلاق، بل على العكس، اذ ترتبط الموسيقى والغناء والرقص بحياة الفجور، مما يعزز هذه الاحكام غير المجاملة هو هذا الوصف الخارق لـ(تيوفيل جوتييه) لاحد مواخير البحارة في اسطنبول، وما فيه من تعبير مؤثر:
"لاحظت صبيا قويا، اكثر اناقة من الآخرين رغم رثاثة ملابسه التي تشبه ملابس الآخرين، وكانت اذرع الراقصين عارية حتى الكتف، تكثف لنا على خلفية من الديكور العربي عن سترة طويلة زرقاء وطربوش احمر، وهم يسكون بأيديهم آنية من الرياحين وعلى جانبهم الأيسر راقصة مغيرة في تنورة قصيرة عليها مشد من اللؤلؤ، ويبدو انها تتوقف في وثبة راقصة لتقبل تحية المعجب المزهرة".
ويبني (بيبر لوتي) في روايته الاولي (ازيادة Aziyade ) مشهدا غريبا، ان لم نقل غير واقعي بالمرة، حينما يصور بطله وقد عاد الى الظهور في مقهى سليمان: "في تلك الاثناء رتب لي أحمد حفلة وداع، فأمر باحضار جوقة مؤلفة من عازفي المزامير والقربة ذات الاصوات الحادة، ومن عازفي الأرغن والطبلة، قبلت بهذه التحضيرات بعد ان منحني وعدا قاطعا بالا يكسر شيئا، والا أرى الدم وهو يسيل، سوف نلهو هذا المساء وهذا ما كنت أريده: أتوني بالنارجيلة، وبكوب من القهوة التركية التي تكلف صبي صغير باعادة صبها الى كل ربع ساعة، أخذ احمد بيد الحاضرين وشكل معهم حلقة، ودعاهم الى الرقص. بدأت حلقة طويلة من الوجوه الغريبة تتحرك امامي تحت وميض المصابيح المرتجف، اما صوت الموسيقى الأصم فقد جعل العوارض الخشبية للكوخ ترتعش، وامتزت الأدوات النحاسية المعلقة على الجدران العمود وصدرت عنها ارتجافات معدنية، وهذا ما كنا نبحث عنه، فانبعثت من المزامير ألحان حادة، فما كان من الفرح الهائج حتى تفجر بجنون، وفي غضون ساعة، كان الكل منتشيا بحركته وصخبه، وكان الحفل في أوجه. لم أتبين نفسي في هذا الصخب، الا عبر غيمة وامتلأ رأسي بأفكار غريبة وغير متماسكة، كانت المجاميع المنهكة اللاهثة تمر وتمر في الظلمة، وكان الرقص يدور، وأحمد في كل دورة يكسر زجاجا بقفا يده، فسقط زجاج المبنى بكامله الواحد تلوا لآخر، وتناثر تحت أقدام الراقصين فلطخت يدا أحمد، التي أدمتها الجروح العميقة أرض المقهى.
وعلى العكس من (لوتي)، شعر الرسام (هوراس فيرنه ) عند عبوره لمنطقة المتوسط واقترابه من مصر بالراحة وهي تغمره، عندما وقع نظره على دكة (Dikka) مضيافة، حين يشعر المرء فيها بالاحاسيس الاكثر لذة وانتشاء: "كانت الشوارع خالية، والمشربيات السود مقصوصة تضيئها الانوار البرتقالية المنبعثة من الغرف، انها الساعة الأكثر مواءمة لتناول الكيف فوق الأرائك. ها هو المقهى، حيث بامكاننا ان نغني ونرقص، فلندخلها. انها صالة فصيحة مستطيلة، وهي نوع من المنضرة Mandarah (وهو ما تسمى به صالة الاستقبال المخصصة للرجال في الشقق المصرية) ويسمى جزء من الصحن الذي يمتد من الباب حتى المدخل الذي يقابلها بـ(الدوركا) Dourka وهو مبلط بالموزاييك، ويكون في بعض البيوت مجهزا بنافورة في الوسط – وهو ما يخلو منه المكان الذي نحن فيه الآن – حيث تنتشر حوله المنصات والأرائك، وعليها عدد من المدخنين الذين يجلسون تارة متصالبي السيقان وتارة بساق مثنية، ولكنها تتقدم عاموديا الى الامام لكي تستخدم كمسند وموجه لليد التي تمسك بالشبوق، او النرجيلة، ويجلس آخرون على مقاعد من القصب، يرتشفون القهوة بصوت عال، بأكواب صغيرة من الخزف، يضعونها في اوان مطعمة بخيوط من الفضة، او النحاس او العتيق جميلة الصنع، وكان البعض الآخر متفرقا في احتساء المشروبات العذبة والمنعشة وتناول المربيات التي يولع بها الشرقيون ولعا خاصا، بينما كان صبي المقهى منشغلا على الدوام باشعال واضرام غلايين المدخنين، او بحرق بخور العطور مثل العنبر الرمادي والاطياب الخاصة، وبتأدية كل ما يطلبه الزبائن من خدمات".
حكايا الملوك
ليست الموسيقى هي الامر الوحيد الذي بامكانه ان يسحر المسلمين الصالحين، اذ ما ارادوا ان ينسوا عقم الواقع. بل تعد الحكايات التي ينشدها او يرتلها الرواة تسلية قيمة بالنسبة لهم، فهذا الكاتب او ذاك، الذي تجول في الشوارع المهجورة لبيزنطة القديمة ونظر الى انتصاب المنارات فوق الهضاب السبع مثل رماح غائرة في المساء الداكنة، فلابد وان سنح الوقت له بالتمتع داخل المقاهي بالمشاهد التي لم يكن مهيأ لها. لقد افتتن جميع الكتاب تقريبا برواة الملاحم القديمة الذين ما ان يهبط الليل حتى يسحروا الرجال على اختلاف اوضاعهم بالحكايات العجيبة التي تنسيهم ضميرهم وخيبات أملهم. تزداد حظوة هؤلاء الرواة خاصة خلال شهر رمضان، حيث يتدفق الناس الى المقاهي لسماع قصصهم وحكاياتهم، فهم يجلسون على المصطبة اذا ما توافرت، ويجلس المستمعون على المقاعد والمصطبات الاخرى الموجودة في الحوانيت المجاورة، وهؤلاء الرواة هم الطلبة الذين يأتون لكسب بعض المال، او انهم رجال الدين المعوزون، وقد اصبح البعض منهم شخصيات محترمة بشكل حقيقي، ويؤكد (افليا جلبي) بأنهم يتشكلون في نقابات، وانهم يشاركون في مواكبها التظاهرية. اما الشاب (جان بوتوكل ) الذي عبر اليونان وتركيا ومصر فقد بعث في عام 1784 من اسطنبول رسالة الى امه يقول فيها: "بقي لي ان احدثك عن المقاهي، لكي اطلعك على تسليات الشعب التركي، ان معظم هذه المقاهي مشيدة على هيئة أكشاك يدخلها الهواء من جميع الجوانب، وتتمتع بطراوة مثيرة للاعجاب، وهي ملتقى العاطلين على اختلاف أحوالهم.. ثمة راو محترف في المقهى، يروي أحدث المغامرات، ويجملها بكل ما أوتي من قوة من محسنات بديهية شرقية". لقد كان (جان بوتوكل) مفتونا بهؤلاء الحكواتيين الذين لا مثيل لهم، وقد نقل (جيرار دو نرفال) بعد ذلك بعقود، الاحاسيس ذاتها التي شعر بها امام مرتلي الحكايات، والذين كانوا يفتنون المشاهدين المتلهفين لسماع الاساطير وابطالها: "سوف لن نعطي سوى فكرة باهتة عن متع مكان القسطنطينية اثناء شهر رمضان، وعن جاذبية هذه المتع في الليل، ان نحن سكتنا عن الحكايات العجيبة التي كان ينشدها ويخطب بها الرواة المحترفون الموجودون في المقاهي الرئيسية في اسطنبول، ومن المفيد القول ان القهوة التي نرتادها تقع في الاحياء العمالية من اسطنبول، بالجوار من البازارات، وهذا ما جعل من الحضور- نسبة لنا نحن رجال المجتمع الراقي جمهورا مبتذلا، ومع ذلك فقد تميز من بينهم بعض الرجال الذين كانوا يرتدون البذلات الانيقة، الذين كانوا يجلسون هنا وهناك، على المقاعد والمصطبات. كان الحكواتي الذي ينبغي علينا ان نصفي له ذائع الصيت، وفضلا عن رواد المقهى، كان ثمة حشد من المستمعين البسطاء في الخارج، يتزاحمون على الدخول، امرونا بالسكوت، فجاء شاب بوجه شاحب وبملامح مليئة بالذكاء، له عينان تلمعان وشعر طويل يتسرب، على مثال شعر الاولياء، من تحت قبعة لا تشبه الطربوش، وجلى على كرسي منخفض موضوع في فضاء من اربعة او خمسة أقدام ويحتل الوسط من المقاعد، فجلبوا له القهوة، وأصغى الجميع له بخشوع، ذلك لانه كل جزء من الحكاية كان ينبغي أن يدوم نصف ساعة على وفق التقاليد، لم يكن هؤلاء الرواة هم من المحترفين من الشعراء بل كانوا ان صح القول رواة ملاحم قديمة، لأنهم يرتبون ويصورون موضوعا سبق التطرق اليه بوسائلهم المختلفة، او بالاعتماد على الخرافات القديمة، ولذا فقد شهدنا (مغامرات عنترة) و(ابوزيد) و(المجنون) وقد تم تحديثها الآن – بشتى الاضافات او التغيرات ". ان هذا الراوي وعلى غرار مؤلف (المخطوطة التي عثر عليها في ساراجوس) كان يسرد واحدة من القصص الخرافية القديمة المنقولة له. كانت تتخلل حكايات الرواة الطويلة، من وقت لآخر، عروض للأراجوز، وقد شهد (كارسن نيبور) عندما كان في القاهرة واحدا من هذه العروض، وقد حرص على كشف تفاعيلها الدقيقة: "يقدم العرض من فوق منصة ضيقة جدا، تشتمل على نوع من الصناديق التي بامكان شخص واحد ان ينقلها بسهولة، ويقف محرك الدمى داخله، فينقل شخوصه من خلال واحدة من جرارات الصندوق، ويجعلها تؤدي الحركات اللازمة بالاستعانة بالخيوط، ويعطي الى صوته الخشونة التي تتناهب مع حجم الشخوص بفضل أداة يضعها في فمه، وكان يمكن لهذا الامر ان يكون جذابا، لو لم تكن المسرحيات التي تستدعيها اذواق المشاهدين منفرة للغاية، فتبدأ الأراجوزات بتبادل عبارات المدير، وبعد ذلك تقوم تدريجيا بالتخاصم ثم تنتهي أخيرا بتبادل الضرب ". ولم يشهد (نيبور) عروض الدمى المتحركة حسب، انما رأى عروضا هزلية يستخدم فيها المصباح السحري والتي كان الغرض منها دائما السخرية من تصرفات الأوروبيين، وقد أسف كثيرا على هذا الأمر.
ترجمة: مي عبد الكريم(كاتبة من العراق