الثوب الواسع
اعترف : بأنني نزيل إحدى مصحات العناية والعلاج، حيث يراقبني ممرضي، وبالكاد يصرف النظر عني، إذ أن ثمة عينا سحرية في الباب، بيد أن عيني ممرضي ذات لون بني غير قادر على رؤيتي، أنا الأزرق العينين. لذلك لا يمكن أن يكون ممرضي عدوا لي. لقد كسبت وده، وكنت أقص على الرقيب المتطلع خلف الباب، حالما يطأ غرفتي، وقائع من حياتي،، لكي يستطيع التعرف علي، على الرغم من العين السحرية التي كانت تعوقه، بدا أن هذا الرجل الطيب كان يحترم ما رويته عليه ويقدره، فكان يخرج لي، عندما أكذب عليه بعض الشيء، تطريزاته الجديدة، لكي يظهر نفسه عارفا. وقد استقبلت الصحافة معرض ابتكاراته استقبالا حسنا، وأغرت كذلك بعض المشترين كان يعقد بابتذال خيوط القنب التي يجمعها من غرف المرضى بعد انتهاء الزيارات ويفككها على هيئة أشباح متعددة الطبقات مرتبطة ببعضها، ثم ينقعها بالجبس ويتركها تجف، ليشكلها في دبابيس مثبتة بقواعد خشبية. وكثيرا ما كانت تراوده فكرة أن يبدع أعماله بالألوان، وكنت أنصحه بالعدول عن تلك الأفكار، مشيرا الى سريري المعدني المطلي بالدهان الأبيض، وأرجوه أن يتخيل هذا السرير المتكامل ملونا. فكان يصفع رأسه بيديه الحانيتين التضميديتين من شدة الهلع، ويحاول في الوقت ذاته أن يعبر من خلال وجهه المنكمش والمتصلب عن مخاوفه كلها، فيكف عن خططه اللونية.
وبهذا المعنى، فإن سريري المعدني ذا اللون الأبيض في هذه المصحة، يعتبر معيارا للقياس، بل إنه يعني أكثر من ذلك : فهو الهدف الذي تحقق أخيرا، وهو عزائي وسلواي، ويمكن أن يصبح عقيدتي وايماني إذا ما سمحت لي إدارة المصحة بإجراء بعض التعديلات عليه. كأن أرفع مثلا قضبان السرير المشبكة الى الأعلى حتى لا يقترب مني أحد. ويحدث أن تقطع الزيارة الأسبوعية سكينتي المنسوجة بين قضبان الحديد البيضاء، ثم يأتي أولئك الذين كانوا يريدون انقاذي، مستمتعين بحبهم لي، والذين رغبوا من خلالي في التعرف على أنفسهم وعلى مقدرتهم وعمق احترامهم، كم كانوا يبدون فاقدي البصيرة، ومتوترين، وبلا تربية، وهم يخدشون بقلامات أظافرهم قضباني المشبكة بيضاء الطلاء، ويخططون بأقلامهم الجافة أو زرقاء الحبر أشكالا وقحة على الشراشف، وكل مرة كان المحامي المكلف بالدفاع عني يقلب قبعته النايلون فوق القائمة اليسرى عند نهاية السرير بعدما يفجر الغرفة بتحيته العاجلة. وبقدر ما تستغرق زيارته من وقت – إن المحامين يتمتعون عادة بقابلية مندهشة على الحديث – فإنه يسلب مني بهذا العمل القاسي مرحي وتوازني.
وبعدما يضع زواري هداياهم فوق المنضدة البيضاء المكسوة بقماش من المشمع والمنتصبة أسفل اللوحة المائية لشقائق النعمان، بعد تمكنهم من استعراض محاولات الإنقاذ الجارية آنذاك، أو المزمع القيام بها، واقناعي، أنا الذي يسعون كلهم بلا كلل الى انقاذه، بذلك المستوى الراقي لحبهم للآخرين وغيرتهم عليهم، فإنهم يجدون لذة ومتعة في وجودهم ذاته.
حينئذ يدخل ممرضي لكي يهوي الغرفة ويجمع شرائط الهدايا، كان كثيرا ما يجد بعد التهوية وقتا للجلوس على حافة السرير ويفك عقد الشرائط، مشيعا جوا من السكينة في الغرفة، حتى أنني أطلقت اسم السكينة على برونو واسم برونو على السكينة.
لقد اشترى برونو مونستربيرغ – أعني ممرضي، لكي أتخلى عن اللعب بالكلمات – خمسمائة ورقة من ورق الكتابة على حسابي الخاص. وسيقصد برونو الأعزب، والذي ليس له أطفال والقادم من ناحية "زاورلاند"، في حالة أن يبدو احتياطي الورق غير كاف، يقصد مرة ثانية دكان اللوازم المدرسية، والذي يبيع لعب الأطفال أيضا، وسيوفي لي مكانا خاليا من الخطوط وضروريا لذاكرتي التي أتمنى أن تكون دقيقة.
إنني لم أكن قادرا على أن أطلب من المحامي. أو من صديقي كليب تقديم هذه الخدمة. وأحضر لي برونو ذلك الشيء الذي كان سيمتنع أصدقائي عن احضاره والتزاما بالحب الموصى به لي، أحضر الشيء الخطير الذي ينطوي عليه الورق الخالي من الكتابة، والذي من شأنه أن يتيح لي فرصة الاستفادة منه ولنفسي التواقة دوما الى إطلاق المقاطع الكلامية.
عندما قلت لبرونو "آه يا برونو، هل بإمكانك أن تشتري لي خمسمائة صفحة من الورق البريء"، أجابني وهو يتطلع الى سقف الغرفة، رافعا سبابته في الاتجاه ذاته، ناشدا المقارنة : "تقصد ورقا أبيض يا سيد أوسكار" لكنني كنت مصرا على كلمة بريء، وتوسلت به أن يلفظها أيضا في دكان القرطاسية. وحين عاد بحزمة الورق في المساء المتأخر أراد أن يظهره باعتباره برونو الذي تحركه الأفكار. كان قد ثبت بصره مرات عديدة في سقف الغرفة الذي كان يستلهم منه تأملاته وخواطره، ثم قال بعد فترة صمت طويلة : "انك نصحتني باستخدام المفردة الصحيحة فطلبت ورقا بريئا، لكن وجه البائعة اصطبغ بالحمرة قبل أن تجلب لي ما طلبت".
فشعرت بالأسف لأنني أطلقت صفة البراءة على الورق، خشية أن يلحق ذلك حديث مستطرد عن البائعات في محل القرطاسية والتزمت الهدوء، منتظرا أن يغادر برونو الغرفة، وفتحت بعد ذلك الحزمة ذات الخمسمائة ورقة. لم يكن كثيرا ذلك الوقت الذي صرفته في رفع الكتلة الورقية المتماسكة ووزنها، وأحصيت عشر أوراق واحتفظت بالكتلة في الخزانة الصغيرة، وعثرت على قلم حبر في القارورة الى جانب ألبوم الصور، كان القلم مليئا تماما بالحبر، لا نقص فيه لكن كيف سأبدأ؟
إن المرء يستطيع أن يبدأ القصة من الوسط، ثم يسير بها متقدما أو متراجعا، بجرأة مخلفا وراءه الحيرة والارتباك. ويمكن أن يبدو المرء معاصرا فيلفي الأزمان والمسافات كلها، ليعلن، أو يدع الآخرين يعلنون أنه قد حل معضلة المكان – الزمان، وكذلك يستطيع المرء أن يدعي منذ البداية بأن من المستحيل كتابة رواية في هذه الأيام، لكن يراعه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال بتسطير عمل لا مثيل له، وبتسجيل سبق أدبي، ثم يتوج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية. وقد قلت في نفسي، أنا أيضا، بأن من المناسب، من ناحية ودية متواضعة التأكيد منذ البداية على أن : لا وجود اليوم لأبطال الروايات، لأن ليس هناك شخصيات فردية، ولأن الفردانية قد اختفت، ولأن الانسان بات معزولا، بحيث أن كل انسان أصبح منفردا بالقدر ذاته، ومحروما من العزلة الفردية، ومشكلا كتلة فردية خالية من الأسماء والأبطال. ويمكن أن تكون الأمور كلها جارية على هذا المنوال ومحتفظة بمصداقية ما، لكن فيما يتعلق بي وبممرضي برونو، فإنني أود التأكيد على أننا بطلان مختلفان تماما، حيث كان برونو يقف وراء عدسة الباب السحرية بينما كنت أنا اضطجع أمامها، واذا ما فتح الباب فإننا لا نتحول بالضرورة الى كتلة بلا بطل ولا أسهم على الرغم من الصداقة والعزلة.
سأبتديء بنفسي من مسافة بعيدة إذ لا يجوز لأحد أن يعرض حياته ويسردها دون أزن يتحلى بالصبر، فيذكر على الأقل نصف أجداده قبل أن يؤرخ لوجوده الشخصي، إنني أقدم اليكم أنتم الذين توجب عليهم أن يعيشوا حياة مضطربة خارج مصحة العناية والعلاج التي أرقد فيها الآن. أنتم أيها الأصدقاء والزوار الأسبوعيين الذين لا علم لهم بمخزون ورقي، اليكم كلكم أقدم جدة أوسكار من ناحية الأم.
كانت جدتي أنا برونسكي تتربع بثيابها الكثيرة ذات أصيل من شهر أكتوبر على حافة حقل للبطاطس. وفي الضحى كان يمكن رؤية الجدة وهي تنضد الأعشاب الذابلة في باقات منتظمة وفي الظهيرة تناولت قطعة خبز محلاة بالدبس الأسود. كانت قد حرثت الحقل للمرة الأخيرة قبل أن تجلس أخيرا فوق طويات ثيابها بين سلتين ممتلئتين. وأمام فردتي حذائها المتخالفتين اللتين وضعتهما بشكل عمودي كانت تتصاعد أحيانا نيران أعشاب البطاطس، متأججة باختناق وتبعث دخانها الى قشرة الأرض الخفيفة الانحدار على نحو هاديء ومرتبك ومتكلف، لقد حدث ذلك في العام التاسع والتسعين، فكانت الجدة تجلس في منتصف "كاشوباي"، بالقرب من "بيساو" بل كانت أكثر قربا الى معمل القرميد، جلست الجدة آنذاك أمام "رامكاو"، خلف ناحية "فيراك"، في اتجاه الشارع المؤدي الى "برنتاو" ما بين "دير شاو" و"كارتهاوس"، جلست مخلفة غابة "غولد كروغ" وراء ظهرها، وتزحزح بطرف عود محترق من خشب البندق حبات البطاطس الى قلب الرماد المتوهج.
واذا ما كنت ذكرت للتو ثياب جدتي بشكل خاص، وأتمنى أنني قلت بوضوح كاف، لقد جلست بثيابها -نعم – إن الفصل يحمل عنوان "الثوب الواسع" فإنني على علم تام بما أدين به الى تلك القطعة من الملابس. لم تكن جدتي ترتدي ثوبا واحدا، بل أربعة فوق بعضها، وذلك ليس بمعنى أنها كانت ترتدي ثوبا واحدا ظاهرا وثلاثة ثياب داخلية مستترة إنما كانت ترتدي أربعة أثواب ظاهرة، أحدها يحمل الآخر تحته، ترتديها وفق نظام يتيح للأثواب التناوب متغيرة يوما بعد آخر. فما كان بالأمس ظاهرا أصبح اليوم مختفيا في الأسفل، وأصبح الثوب الثاني ثالثا. وما كان في الأمس في المرتبة الثانية بات اليوم لصيقة بجلدها. وكان الثوب الذي وقف يوم أمس في المرتبة الثانية يسفر بصورة جلية عن شكله ونقشته، أي أنه كان يسفر في الواقع عن انعدام شكله، لأن أثواب جدتي أنا برونسكي كانت تؤثر كلها لون البطاطس، فلابد أن يكون ذلك اللون يليق بها. وما عدا الطبيعة اللونية، كانت أثواب جدتي تتميز باسراف ملحوظ في استخدام القماش الكثير، وعندما تلامسها الريح فإنها سرعان ما تساير وتنفتح ثم تتراخى بعدما تظهر الريح نوعا من الاكتفاء وتظل ترفرف حين تسكن الريح تماما، وتتطاير أثوابها الأربعة إذا ما هبت عليها الريح من الخلف، وعندما تجلس، فإن الأثواب الأربعة تتحلق حولها.
وبالاضافة الى الأثواب الأربعة المنتفخة دائما، أو المعلقة والمطوية، أو المتصلبة الفارغة والمنتصبة الى جانب فراشها، فإن جدتي كانت تحتفظ بثوب خامس لا يختلف قط عن قطع الملابس الأخرى الرمادية اللون كالبطاطس. وكذلك لم يكن الثوب الخامس في الموضع الخامس دائما. بل إنه كان يخضع للتغيير، شأنه شأن أخوته -إذ أن الأثواب كلها كانت تتمتع بطبيعة رجولية – ويرتبط بالأثواب الأربعة الأخرى التي كانت الجدة ترتديها. وكان عليه أيضا أن ينقع في برميل الغسيل إذا ما حان وقته لينشر في يوم الجمعة الخامسة على حبل الغسيل أمام نافذة المطبخ، وبعد أن يجف تضعه الجدة على لوح المكواة.
واذا ما غطست الجدة قدميها في طشت الاستحمام في يوم كل أحد مخصص للتنظيف والخبز وغسل الملابس وكيها بعد علف البقرة وحلبها، مفضية ببعض من سرها الداخلي الى الماء المليء برغوة الصابون، قبل أن تغادر ماء الاستحمام، لتجلس على حافة السرير، فإن الأثواب الأربعة التي ارتدتها في ذلك اليوم، وكذلك الثوب الخامس المغسول توا تكون مفروشة أمامها على الأرضية الخشبية. حينئذ تسند الجفن الأسفل لعينها اليمنى بسبابتها اليمنى، رافضة أي مشورة تسدى لها حتى لو جاءت من شقيقها فنسنت لذلك فإنها كانت تتوصل الى قرار عاجل، وتقف منتصبة ثم تزيح جانبا بأطراف قدميها الحافية.
ذلك الثوب الذي فقد الكثير من طراوته وبريق لونه الرمادي مثل رماد البطاطس. في تلك اللحظة تحتل القطعة النظيفة المكان الذي فرغ للتو.
واحتفاء بعيسى المسيح الذي كانت جدتي تحمل عنه تصورات ثابتة محددة، فإن الثوب النظيف سيشهد خلال زيارة الكنيسة في "رمكاو" النور من جديد عبر نضارته وطراوته المتناوبة. وفي أي موقع كان جدتي ترتدي الثوب المغسول توا؟ إنها بلا شك لم تكن فقط امرأة مولعة بالنظافة، بل كانت أيضا مصابة بالغرور بعض الشيء، لذلك فإنها كانت ترتدي أجود القطع على نحو مرئي حين يكون الطقس جميلا ومشمسا.
بيد أن ذلك اليوم الذي قبعت فيه جدتي خلف موقد البطاطس كان مساء الاثنين، وقد بدا لها ثوب الأحد قريبا من يوم الاثنين، بينما بدت لها تلك القطعة التي التصقت دافئة فوق جلدها يوم الاحد معتمة وهي تنساب على ردفيها، وباهتة مثل يوم الاثنين نفسه، كانت الجدة تصفر على رسلها دون أن تعني لحنا معينا، ثم نكشت بعود البندق أول حبة بطاطس ناضجة وأزاحت الرماد بعيدا الى جانب كومة الأعشاب الكامنة اللهب، لكي تمسها الريح وتبردها. وبغصن مستدق الطرف شكت حبة البطاطس الباردة المنفلقة والمتيبسة الحواف، وقربتها من فمها الذي توقف عن الصفير وصار ينفخ الرماد والتراب عن القشرة عبر شفتين جافتين ومتشققتين بفعل الريح، وكانت تغمض عينيها أثناء النفخ. وحين تعتقد أنها نفخت بما فيه الكفاية فإنها كانت تفتح عينيها واحدة بعد الأخرى، ثم تقضم البطاطس بقواطعها التي تتيح النظر الى الداخل، والتي كانت سليمة تماما ما عدا الانفراج الخفيف في وسطها، وتحتفظ في فمها المفتوح بنصف حبة البطاطس الساخنة، العجينة الشكل والتي كان البخار يتصاعد منها، وتتطلع بنظرة دائرية عبر منخاريها المنتفخين اللذين كانا يتنسمان الدخان وهواء أكتوبر، تتطلع الى الحقل حتى الأفق القريب الذي توزعت فيه أعمدة التلغراف، وحيث أطل حوالي الثلث العلوي من مدخنة معمل القرميد. كان ثمة شيء ما يتحرك بين أعمدة التلغراف، فأغلقت جدتي فمها وزمت شفتيها الى الداخل وقلصت عينيها، ثم أخذت تلوك البطاطس. كان ثمة شيء يتحرك بين أعمدة التلغراف، شيء ما كان يقفز، وثمة ثلاثة رجال كانوا يتقافزون بين الأعمدة في اتجاه المدخنة، ومن ثم الى الأمام، وفيما بعد تراجع أحدهم، وانطلق من جديد، بدا ذلك المتراجع قصيرا وبدينا وقد وصل الى معمل القرميد، بينما كان الآخران الطويلان والنحيفان قد أوشكا على اللحاق به عند المعمل لكنهما أخذا من جديد يتقافزان بين الأعمدة وكان القصير قد خلفهما مسافة وراءه إذ أنه كان على عجلة من أمره أكثر من النحيفين الطويلين الوثابين اللذين توجب عليهما الرجوع ثانية الى المدخنة، لأن ذلك الثالث يطوف حولها، فاقترب الأخوان منه مسافة فترين، ثم انطلقا يعدوان مرة أخرى حيث اختفيا فجأة إذ لم تعد لهما رغبة في العدو، هكذا بدا الأمر، وكذلك كان الأمر مع القصير الذي سقط أثناء القفز في المدخنة خلف الأفق.
لبث الثلاثة فترة وجيزة على ذلك المنوال، أو أنهم كانوا استبدلوا ثيابهم في تلك الأثناء، أو لعلهم كانوا يضعون اللبن في قوالب القرميد ويتقاضون على ذلك العمل أجرا.
عندما أرادت جدتي استغلال فترة الاستراحة في التقاط حبة بطاطس ثانية أخطأت هدفها. وبعد حين تسلق ذلك الذي بدا قصيرا وبدينا الأفق بثيابه ذاتها، فأصبح الأفق من ورائه وكأنه سياج من خشب وبدا كما لو أنه خلف الرجلين القافزين خلف السياج أو بين القرميد، أو في الطريق العام المؤدي الى "برنتاو"، لكنه على الرغم من ذلك كان يحث الخطىء ويريد أن يكون أكثر سرعة من أعمدة التلغراف فأخذ يقفز قفزات واسعة بطيئة عبر الحقول المحروثة والقذارة تتطاير من نعليه وهو يقفز مبتعدا عن القذارة، وبقدر ما كان يقفز بخفة وسرعة، فإنه بات يخوض في الأوحال زاحفا بدأب وتجلد. وقد بدا في بعض الأحيان وكأنه غرز في الوحل، لكنه اعتدل واقفا في الهواء، حتى أنه وجد متسعا من الوقت ليجفف العرق من جبينه أثناء القفز قبل أن تتشبث قدمه القافزة في الأرض المحروثة حديثا والتي كانت أخاديدها تقود الى الطريق العام الموازي لحقل البطاطس الشاسع. لقد تمكن من الوصول الى الممر الضيق، وحالما اختفى القصير البدين في الممر الضيق تسلق الطويلان النحيفان اللذان يمكن أن يكونا قد قاما حينئذ بزيارة لمعمل القرميد، تسلقا الأفق، وأصبح هذان الطويلان النحيفان اللذان لم يبلغا مرحلة الضعف والهزال بعد، يحرران جزمتيهما من الوحل ويسحبانهما سحبا، فأصبحت جدتي غير قادرة على شك البطاطس واخراجها من الموقد لأن شيئا ما قد حدث في تلك اللحظة، شيء لم يكن يحدث كل يوم، إذ أن ثلاثة من الرجال البالغين المختلفي الحجم والبلوغ كانوا يتقافزون حول أعمدة التلغراف، حتى كادوا يهدمون مدخنة معمل القرميد، قبل أن يختفوا وهم يشبون في الممر الضيق، واحدا تلو الآخر، وكان القصير في المقدمة، وخلفه الطويلان النحيفان، بيد أن الثلاثة جميعهم كانوا قد بذلوا جهدا خارقا وصلابة كبيرة، وهم يجرجرون الأطيان في نعل جزمتيهما عبر الحقل الذي جنى فنسنت ثماره وأعاد ترتيبه قبل يومين.
وبعد ذلك توارى الرجال الثلاثة، فتجرأت الجدة على وخز حبة بطاطس أصبحت باردة الى حد ما، ونفخت عن قشرتها الرماد والتراب عن نحو عابر، ودستها كاملة في جوفها، وفكرت، هذا إذا كانت قد فكرت أصلا في شيء محدد: أن هؤلاء الرجال هم من معمل القرميد، ثم أخذت تلوك لقمتها بشكل دائري، الى أن قفز أحد ما من الممر الضيق فتطلعت بوحشية الى ذلك الرجل ذي الشارب الأسود والذي قطع مسافة الوثبتين التي كانت تفصله عن النار ليقف أمامها وخلفها ومن ثم الى جانب النار في آن واحد وهو يطلق الشتائم معبرا عن خوفه وقلقا ولم يكن يعرف في أي اتجاه عليه أن يمني، إذ أنه لم يعد يستطيع العودة من حيث أتى، ولأن النحيفين الطويلين لاحا في الخلف خارجين للتو من الممر الضيق، فقد قذف بنفسه على الأرض، ثم جثا على ركبتيه. لقد كانت له عينان في الرأس أوشكتا على الانفلات من محجريهما، وكذلك كان العرق يسح من جبينه. وسمح لنفسه أن يزحف مقتربا من الجدة أكثر فأكثر بشاربه المرتعش الى أن وصل أمام النعل، فزحف ملتصقا مباشرة بالجدة، ورمقها بنظرة وكأنه حيوان صغير ممتليء الجسد، حتى أنها قذفت بحسرة، ولم تعد قادرة على مضغ البطاطس، وتركت النعل ينقلب الى الأعلى، بل إنها لم تعد تفكر في معمل القرميد ولا في شواة القرميد، أو عمال القوالب، إنما رفعت ثوبها، كلا، لقد رفعت أثوابها الأربعة دفعة واحدة الى الأعلى بمقدار مناسب، لكي يستطيع القصير البدين الذي لم يكن يشتغل في معمل القرميد التوغل في الأسفل حتى اختفى بشاربه، بحيث أن مرآه لم يعد مثل مرأى حيوان، فضلا عن أنه لم يكن من أهالي "رامكاو"، أو "فيراك". لقد اختفى بهلعه رفوفا تحت الأثواب، غير مضطر الى الزحف على ركبتيه، ولم يعد قصيرا أو بدينا، إلا أنه مع ذلك احتل موقعه المناسب، ونسي اللهاث ورعشة الخوف، ووضع اليد على الركبة، كان هادئا كما لو أنه في يومه الأول، أو يومه الأخير، وثمة شيء من الريح كان يعبث بنيران الأعشاب، وكانت أعمدة التلغراف تحص نفسها بصمت، وظلت مدخنة المعمل منتصبة، فردت جدتي ثوبها الظاهر على الثوب الذي يليه بنعومة وتعقل، بحيث أنها لم تشعر بالرجل المختبيء تحت الثوب الرابع، ولم تفقه أبدا من خلال الثوب الثالث طبية ذلك الشيء الذي أراد أن يكون جديدا ومدهشا بالنسبة لجلدها. ولأن ذلك كان مدهشا، لكنه رقد من الأعلى بترو، وثانيا وثالثا أيضا لأن الجدة لم تفقه بعدما حدث، فقد نبشت حبتي بطاطس أو ثلاثا من الرماد ثم تناولت أربع حبات بطاطس نيئة من السلة المنتصبة تحت مرفقها اليمنى ودستها واحدة بعد الأخرى في الأعشاب المتوهجة، وغطتها بطبقة من الرماد، وصارت تقلبه حتى تصاعد منه الدخان – اذن ما الذي كان عليها أن تفعله سوى ذلك ؟ وحالما هدأت حركة أثواب جدتي، واستقام الدخان السائل المنبعث من نيران البطاطس والذي فقد اتجاهه بفعل خفقات الركبتين والنبش وتغيير المكان وصار يزحف من جديد بلونه الأصفر حسبما اشتهت الريح، متجها عبر الحقول صوب الجنوب الغربي، ظهر الطويلان النحيفان اللذان كانا يطاردان القصير البدين الذي هجع :لآن تحت الأثواب. لقد تكشف الأمر عن أن الطويلين النحيفين كانا من حيث الصنعة ينتسبون الى أولئك الذين يرتدون قيافات الجندرمة الميدانية. فتجاوزا جدتي هرولة، وقد قفز أحدهما فوق النار، إلا أنهما انحرفا فجأة وفي انحرافهما تجلى عقلهما، فتوقفا وأخذا يلتفتان ويدبكان بجزمتيهما، شاخصين وسط الدخان بالقيافة والجزمة العسكريتين، ثم سحبا قيافتهما الحربية وهما يسعلان، فسحبا الدخان معهما من كتلة الدخان نفسها وازدادت حدة سعالهما عندها خاطبا جدتي، لكي يعرفا فيما إذا كانت قد رأت كولياجك، إذ أنها لابد أن تكون لمحته طالما جلست هناك عند الممر الضيق، لأن كولياجك نفسه "فر للتو من الممر الضيق.
إلا أن جدتي لم تكن قد رأت كولياجك، لأنها لم تعرف أحدا بهذا الاسم، وأرادت أن تعرف فيما إذا كان كولياجك من معمل القرميد، لأنها لا تعرف إلا أولئك الذين يشتغلون في المعمل. غير أن صاحبي القيافتين الحربيتين وصفا لها كولياجك باعتباره شخصا قصير القامة بدينا، لا علاقة له بالعمل فتذكرت جدتي أنها رأت رجلا تنطبق عليه تلك الأوصاف كان قد مر على عجل، ثم أشارت بغصن رفيع، شكت فيه حبة بطاطس كانت تبعث بخارا، الى ناحية "بيساو" بما تطابق مع الهدف، وحسبما تقتضي البطاطس فلابد أن يكون الاتجاه يقع بين العمودين السادس والسابع من أعمدة التلغراف، إذا ما عدها المرء من ناحية مدخنة المعمل، نزولا الى ناحية اليمين، وفيما إذا كان ذلك العداء يدعي كولياجك فذلك أمر لا تعرفه الجدة، فاعتذرت لهما عن جهلها وانشغالها بالنار أمام نعلها. لقد كان لديها ما يكفي من المشاغل، إذ أن النار لم تنشب في الموقد الا على نحو خافت، متوسط القوة، لذلك فإنها لم تشغل نفسها بالآخرين الذين يمرقون من هناك، أو يقفون وسط الدخان، وأنها لم تهتم قط بالناس الذين لا تعرفهم، بل تعلم بدل ذلك، بأنها مكتفية بأولئك الناس المتواجدين في "بيساو" و"رامكاو" و"فيراك" ومعمل القرميد.
عندما نطقت جدتي بتلك العبارة أطلقت حسرة لكن بصوت عال لدرجة أن الرجلين المتلفعين بالقيافات الحربية أرادا أن يعرفا سبب تحسرها، فهزت رأسها للنار، بما يعني أنها تحسرت بسبب خفوت النار، وكذلك بسبب الناس الكثيرين المنتصبين وسط الدخان، ثم قضمت نصف حبة بطاطس بقواطعها المنفرجة انفراجا واسعا، وانهمكت تماما في المضغ، وغضت عينيها طرف الشمال.
لم يجد المتلفعان بقيافة الجندرمة في نظرة جدتي الساهمة ما يمكن الاستفادة منه، ولم يعرفا فيما اذا كان عليهما البحث عن "بيساو" خلف أعمدة الكفران، فطعنا بحربتيهما كومة الأعشاب التي لم تلتهمها النار بعد، واثر خاطرة إلهام مفاجئة قلب الرجلان في وقت واحد سلتي البطاطس المليئتين الى حد ما تحت مرفقي جدتي، وصعقا لأنهما لم يبصرا كولياجك يتدحرج من القفتين أمام جزمتيهما، إنما حبات البطاطس وحدها. وطافا بريبة حول أكوام البطاطس كما لو أن كولياجك دخل عليها أجيرا لاجئا لوقت قصير، ثم طعنا بتصويب دقيق، لكنهما على الرغم من ذلك افتقدا صراخ الهدف المطعون. وأخذ شكهما يتجه الى كل حرش مهمل والى كل جحر فأر إضافة الى التلال الصغيرة التي كومها حيوان الخلد، ليعودا مرة أخرى الى جدتي القابعة كالنبت وتقذف بالحسرات وتجذب حدقتيها تحت رموشها لتبصر عبر بياض عينيها، حيث كانت تعد الأسماء الأولى لجميع القديسين بصوت مشبع بالمعاناة، وقد ارتفع قليلا بفعل النار الخافتة الاشتعال وبسبب قفتي البطاطس المقلوبتين.
أمضى صاحبا القيافة الحربية فترة نصف ساعة كاملة، يبتعدان حينا ويقتربان من النار ويرصدان مدخنة معمل القرميد كما لو أنهما أرادا احتلال "بيساو" لكنهما أجلا الهجوم الى وقت آخر، وصارا يقربان أيديهما الزرقاء المحمرة من الموقد، ثم تناول كل واحد منهما حبة بطاطس مفلوقة قدمتها جدتي بعصاها دون أن تنقطع عن قذف الحسرات. وفي منتصف المضغ تذكر الملفوفان بالقيافة العسكرية زيهما الحربي فوثبا في الحقل مسافة مرمى حجر بموازاة نباتات الغنستر الذاوية المحاذية للممر الضيق،فاستنفرا أرنبا من مخبئه لم يكن اسمه كولياجك، ولم يعثرا إلا على حبات البطاطس الطحينية المفطورة والتي كانت تبعث بخارا ساخنا، فعزما بوداعة ودماثة خلق، مصحوبتين بشيء من الارهاق، على أن يجمعا البطاطس النيئة من جديد في القفتين اللتين اضطرا الى قلبهما في باديء الأمر حسبما اقتضى الواجب.
وفي الأخير بعدما عصر المساء سماء أكتوبر وجعلها تذري مطرا ناعما مائلا، وغروبا كان لونه لون الحبر، شن الرجلان بخمول وتكاسل هجوما مباغتا على صخرة بعيدة معتمة، الا أنهما تخليا عنوا حين لاحظها بأنها كانت هامدة أصلا، أجهز عليها بما يكفي وبعدما راوحا قليلا بأقدامهما وشرعا يدفئان أيديهما، متبركين بالنار بالمديدة الممطورة والمستفيضة الدخان سعلا في معمعة الشهب الخضراء حتى دمعت أعينهما بالدخان الأزرق قبل أن يجرجرا أقدامهما منسحبين في اتجاه "بيساو" انسحابا دامعا ساعلا. إن رجال الجندرمة الميدانيين لا يعرفون في الواقع سوى امكانيتين اثنتين لا ثالثة لهما.
لقد لف دخان النار المحتضرة جدتي برداء خامس فضفاض حتى أنها وجدت نفسها بزفراتها الحارة وأدعيتها بأسماء الأولياء الصالحين، تحت الثوب نفسه، حالها حال كولياجك.
وعندما استحال المجندان الى نقطتين متبددتين تتأرجحان ببطء في المساء بين أعمدة التلغراف، نهضت جدتي بصعوبة كما لو انها ضربت جذورها في الأرض، وأرادت الآن أن تقطع النمو النباتي الذي بدأته، ساحبة معها أنسجة الأرض وتربتها.
شعر كولياجك بالبرد بعدما أصبح مكشوفا دفعة واحدة وبلا قلنسوة تحت المطر،هكذا مثلما كان قصيرا وبدينا. وعلى عجل أطبق أزرار سرواله التي جعله فتحها تحت الثوب الأخير خائفا مذعورا، وكان يشعر في الوقت ذاته برغبة عارمة في العثور على هاوى، لقد عاجل الى إطباق أزراره خشية أن يتعرض عرنوصه الى البرد المباغت، إذ أن الطقس كان مشبعا بمخاطر الرشح الخريفي.
عثرت جدتي على أربع حبات من البطاطس تحت الرماد، فأعطت ثلاثا منها الى كولياجك واحتفظت بواحدة لنفسها وقبل أن تتناولها سألته فيما إذا كان من المشتغلين في معمل القرميد، على الرغم من أنها لابد وأن أدركت بأن كولياجك قد قدم من مكان آخر لا علاقة له بالقرميد، لذلك فأنها لم تضف الى اجابته شيئا، إنما حملته القفة الخفيفة وانحنت لتحمل القفة الثقيلة، ومع ذلك مازالت تحتفظ بيد طليقة لحمل المجرفة التي كانت تنكش بها الأعشاب وكذلك الفأس وصارت تتمايل بالقفة والبطاطس والمجرفة والفأس وأثوابها الأربعة، ثم يممت شطر وجهها صوب "بيساو-آباو".
لم يكن ذلك هو الاتجاه الصحيح الى "بيساو" بل أنهما خلفا معمل القرميد الى الشمال، وسارا نحو الغابة السوداء التي تقع فيها "غولكروغ" التي وقعت خلفها "برنتاو". والى ذلك المكان تعقب يوسف كولياجك القصير البدين جدتي ولم يعد قادرا على التخلي عن أثوابها.
في الناقلة الخشبية
ليس من السهل أبدا أن أعيد تصوير سحب الدخان التي كانت تنبعث من نيران أعشاب البطاطس والخطوط المتوازية لمطر أكتوبر وأنا مضطجع هنا في السرير الحديدي المشطوف بالصابون، في سرير مصحة العناية والعلاج وتحت رحمة العين السحرية المزججة والمسلحة بعين برونو. ولو لم يكن معي الطبل الذي كان يتذكر جميع التفاصيل الثانوية والضرورية لتدوين الحدث الرئيسي على الورق، إذا ما استخدمت الطبل بتأن واتقان. ولو لم تسمح لي إدارة المصحة باستنطاق طبلي ثلاث أو أربع ساعات يوميا، لأصبحت إنسانا بائسا مسكينا، ليس له أجداد يمكن البرهنة على وجودهم.
على أية حال إن طبلي قال في مساء ذلك اليوم من أيام أكتوبر من العام التاسع والتسعين، وبينما كان "أوهم كروغر" يمشط بالفرشاة حاجبيه الكثيفتين المناوئتين لبريطانيا في جنوب افريقيا، غرزت بذرة أمي، أغنس، في رحم جدتي من قبل القصير البدين يوسف كولياجك وقد حدث ذلك ما بين "ديرشاو" و"كارتهاوز" بالقرب من معمل "بيساو" للقرميد، تحت أربعة أثواب متماثلة اللون، وفي ظل الدخان والمخاوف والحسرات وأسئلة مجندي الجندرمة المحلية المغفلة والساذجة ونظراتهما المنطفئة التي كدرها الدخان.
لقد قامت آنا برونسكي، جدتي في سواد تلك الليلة العتيدة بتغيير اسمها الى آنا كولياجك بمعونة قسيس كان كريما في توزيع أقراص القربان المقدس، ثم تبعت يوسف، ليس الى مصر، إنما الى العاصمة الاقليمية على نهر "مولتاو" حيث كان يوسف يعمل في النقل النهري وينعم في غضون ذلك بالهدوء من متاعب الجندرمة.
ولكي أرفع من حدة التشويق والاثارة قليلا، فإنني سأحجم الآن عن ذكر اسم تلك المدينة الواقعة على مصب "مولتاو"، مع العلم أنها جديرة بالذكر في هذه المناسبة باعتبارها محل ولادة أمي.
في نهاية يوليو من العام صفر وصفر – تقرر آنذاك مضاعفة ترسانة الأسطول الحربي القيصري – أبصرت أمي نور الدنيا في برج الأسد، حيث الثقة بالنفس والتحليق في عالم الخيال والجود والغرور والغطرسة. كان البرج الأول المسمى أيضا برج الحياة يدور دورة فلكية تركت أثرها على برج الحوت. إن تعارض الشمس مع كوكب نبتون، أي البرج السابع، أو بيت الزوجية، من شأنه أن يجلب الاضطراب، كما أن تعارض كوكب الزهرة مع زحل المعروف بجلبه لأمراض الكبد والطحال والمسمى بالكوكب المر والذي يهيمن عادة على الجدي ويحتفي بأعماله التدميرية في برج الأسد، حيث يقدم الى كوكب نبتون ثعابين الماء ويتقاضى بدلا منها حيوان الخلد، والذي يحب الكرز والبصل والشمندر والذي يقذف حمما ويفسد النبيذ، هذا الكوكب الذي يسكن مع الزهرة في البرج الثامن المميت، نعم إن ذلك التعارض من شأنه أن يجبر المرء على التفكير في الحوادث، بينما كان غرس الجنين في حقل البطاطس ينبيء بسعادة مهددة وجسورة معا تحت حماية عطارد في برج الأهل والأقرباء.
علي أن أضيف هنا احتجاج أمي التي كانت تنفي بأنها غرست في رحم أمها فوق حقل البطاطس، لقد حاول أبوها في حقيقة الحال – اعترفت الأم الى هذا الحد – لكن حالته آنذاك وكذلك الوضع الذي اتخذته آنا برونسكي لم يتم اختيارهما بشكل موفق بما يمهد لكولياجك المقدمات الضرورية للانجاب "لابد أن يكون ذلك قد حدث أثناء عملية الهروب، أو في عربة الخال فنسفت، أو ربما في جزيرة (ترول) حيث مستودع الأخشاب، حيث عثرنا على حجرة وملاذ لدى الملاحين. "كانت أمي تؤرخ لحيثيات وجودها بكلمات كهذه، بينما كانت جدتي التي يفترض أنها على علم بالموضوع تهز رأسها بأناة قبل أن تبلغ العالم المحيط بها: "نعم يا بنيتي، فوق العربة حصل ذلك، أو في (ترول) لكن ليس في الحقل : الريح كانت قوية، ثم مطرت الدنيا بجنون مثلما يقولون".
كان شقيق جدتي يدعي فنسفت، وبعد الوفاة المبكرة لزوجته حج فنسفت هذا الى ناحية "جنستوخاو" حيث تسلم البلاغ من ماتكا جستوخوفسكا، بأنه سيشهد فيها ظهور ملكة بولندا المقبلة. ومنذ ذلك الوقت، فإنه صار ينقب في الكتب العجيبة التي كان يرى في كل عبارة فيها تأكيدا على حق المطالبة بعرش مملكة البولنديين من قبل منجبة الآلهة، وتخلى عن حقوله الصغيرة لشقيقه، كان ابنه يان الضعيف البنية، والذي كان يميل الى البكاء دوما، يربي البط ويجمع الصور الملونة وكذلك الطوابع في زمن مبكر ينذر بالشؤم ويضمر قدرا سيئا للغاية.
الى ذلك المنزل الريفي المنذور لملكة بولندا السماوية جلبت جدتي قفتي البطاطس وكولياجك، فعلم الخال فنسفت بحقيقة الأمر وهرع فورا الى "رامكاو" وصار يطبل في أذن القسيس لكي يتزود بأقراص القربان الرباني ويعاجل الى عقد قران آنا على يوسف، وحالما وزع جناب القسيس المثقل بالنعاس بركاته الممطوطة بفعل التثاؤب وأدار ظهره المقدس الذي زود "بهبرة" ضخمة من شحم الخنزير، ربط فنسفت الحصان أمام العربة وألقى بالعريسين في جوف العربة، ومهد أرضيتها بالتبن والجوالات الفارغة، ثم أردف يان المنتحب بصوت خافت الى جانبه على مقعد القيادة، وأصدر أمرا للحصان بأن يخب باستقامة تامة ليشق عنان الليل : لقد كان العريسان على عجلة من أمرهما. وعبر الليل المتعب المنهك والذي كان يزداد عتمة وظلاما وصلت العربة الى مرفأ العاصمة الاقليمية. فاستضاف أصحاب كولياجك الذين كانوا يشتغلون ملاحين، مثل شغلته، الزوجين الهاربين. وفي الحال انصرف فنسفت متوجها بحصانه صوب "بيساو" إذ كان هناك كلب حراسة ينتظر وثماني بطات لابد من إطعامها وثمة ماعز وبقرة وأنثى خنزير يجب أن تعلف إضافة الى تنويم الابن "يان"، لأنه قد تعرض الى حمى خفيفة.
أمضى يوسف كولياجك ثلاثة أسابيع كاملة متخفيا، استطاع شعره خلالها التآلف مع التسريحة الجديدة، ثم إنه حلق شاربه وزود نفسه بأوراق صحيحة لا غبار على صحتها وعثر على عمل ملاح تحت اسم يوسف فرانك. لكن لماذا حمل كولياجك أوراق الملاح فرانكا الذي قذف به من الناقلة الخشبية أثناء معركة بالأيدي فمات غرقا في نهر "بوغ" بالقرب من "مولدين" ولم يتم ابلاغ السلطات بموته ولماذا لم يقدم نفسه في ورش النجارة وأمام تجار الأخشاب بصفته فرانكا؟
لأنه كان قد اشتغل في ورشة نجارة في "شفيتس" بعد أن تخلى عن عمله في الناقلات، لكنه تورط هناك في مشكلة وخلاف مع رئيس ورشة النجارة الذي صادر سياجا خشبيا كان كولياجك قد دهنه بيده بالنونين الأحمر والأبيض دهانا بديعا. وعلينا أن نمنح في هذا الموضع بالتحديد المثل المعروف حقه كاملا، ذلك المثل القائل بأن المرء يمكن أن يفجر الصراع من السياج، وبهذا المعنى فإن رئيس ورشة النجارة انتزع لوحين أحمر وأبيض من السياج، ثم هوى بهذين اللوحين البولنديين على ظهر كولياجك الكاشوبي، حتى جعل اللوحين حطبا أحمر وأبيض، فتحول ذلك الى دافع للمضروب لاضرام النيران الحمراء في ورشة النجارة المطلية بالجص الأبيض ذات ليلة مرصعة بالنجوم، احتفاء ببولندا المشطورة نصفين، والتي كانت تعتبر موحدة لذلك السبب.
لقد كان كولياجك مضرم نيران متعمدا، بل إنه قام بإشعال نيران عديدة، لأن ورش النجارة ومخازن الأخشاب المكشوفة في غرب بروسيا كلها كانت تعرض نفسها آنذاك لمشعل النيران باعتبارها مشاعر قومية ملتهبة بلونين. وطالما كان الأمر متعلقا بمستقبل بولندا،. فإن مريم العذراء كانت حاضرة في كل خريف باعتبارها جزءا من العملية وكان ثمة شهود عيان – ربما البعض منهم مازال حيا الى يومنا هذا – قد أبصروا أم الرب مكللة بتاج بولندا، وقد أطلت فوق سطوح ورش النجارة المنهارة التي التهمتها النيران. أما الشعب الذي كان حاضرا في كل خريف، فإنه كان يردد أنشودة "بوغوروجسكا"، ويمكننا الاعتقاد بأن حرائق كولياجك قد شهدت احتفالات كبيرة صاخبة : احتفالات كان يؤدي فيها القسم.
ومثلما كان كولياجك مطلوبا ومتهما بجنح مختلفة، فإن الملاح يوسف فرانكا كان شخصا محدود الأفق، يتيم الوالدين، لم يؤذ أحدا قط، ولا أحد يبحث عنه أو يعرف شخصه على الاقل. وبعدما قسم يوسف فرانكا تبغ المضغ على بضع وجبات يومية، ابتلعه نهر "بوغ" فخلف فرانكا ثلاث وجبات من التبغ موزعة على ثلاثة أيام، إضافة الى أوراقه الشخصية، ولأن الفريق فرانكا لم يستطع الاعلان بنفسه عن غرقه، ولأنه لم يكن هناك من كلف نفسه بطرح أسئلة محرجة تتعلق بمصيره،فقد سطا كولياجك الذي كان جسمه شديد الشبه بجسم الفريق وكذلك كان له شكل جمجمته المستديرة، سطا في البدء على فرانكا، ثم توغل زاحفا في جلده النظيف الثابت رسميا ثبوتا ورقيا، ومن بعد أقلع كولياجك عن تدخين الغليون وصار يعلك التبغ بل أنه انتزع من فرانكا أشياءه الأكثر خصوصية، أي تعثره في الكلام، وأخذ يتصرف في الأعوام اللاحقة بصفته ملاحا حريصا على عمله ومهذبا، ومتلعثما الى حد ما بالكلام ويخترق غابات "نيمين" و"بورب" و"بوغ" و"فايكسل" منحدرا في اتجاه السهوب. ومن الواجب أن يشار أيضا الى أنه تدرج الى رتبة عريف في كتيبة الخيالة تحت إمرة ماكنزن، والتي كانت مكلفة بحماية ولي العهد، إذ أن فرانكا لم يكن قد دخل الجندية، إلا أن كولياجك الذي كان يكبر الفريق بأربعة أعوام. ترك وراءه أثرا وسمعة معيبين لدى أفراد كتيبة المدفعية في ناحية "تورن".
كان القسم الأخطر من الغزاة والنهابين والقتلة ومشعلي الحرائق يتحين الفرصة في ذلك الزمن، زمن السلب والنهب والقتل والحرائق، لممارسة مهنة مستقيمة شريفة. وكانت الفرصة تعرض نفسها آنذاك صدفة، أو تقدم نفسها للمعنيين : فأصبح كولياجك الذي انتحل شخصية فرانكا زوجا طيبا وقد برأ من ذنوبه الحمقاء، لدرجة أن مرأى عود الثقاب المشتعل أصبح كفيلا بإلقاء الرعب في نفسه. ولم تكن حتى علب الكبريت الموضوعة أمامه على طاولة المطبخ حرة بزهو وخيلاء تنجو من قبضته أبدا، هذا الرجل الذي لو لم تكن عيدان الثقاب موجودة في زمانه لاخترعها، فصار يقذف بتلك المغريات الموسوسة من نافذة المطبخ. وكانت جدتي تجد صعوبة أحيانا في تحضير طعام الغداء في الوقت المناسب. وكثيرا ما كانت العائلة تقرفص في الظلام، لأن السراج النفطي قد انطفأت فتيلته. ومع ذلك فإن فرانكا لم يكن رجلا مستبدا وطاغية، بل كان يرافق زوجته آنا فرانكا في أيام الآحاد الى الكنيسة في "نيدرشتات" ويسمح لها بارتداء ثيابها الأربعة مجتمعة، مثلما كانت تفعل في حقل البطاطس، بصفته متزوجا منها زواجا شرعيا ورسميا، وعندما كانت الأنهار تتجمد في الشتاء بحيث تمر على الملاحين ظروف صعبة، كان كولياجك يمضي الوقت بكل هدوء وحسن أخلاق في ناحية "ترول" حيث يقطن الملاحون وعمال الشحن والتفريغ وبناة السفن، كان يجلس هناك ويراقب ابنته التي بدت وكأنها حملت سمات الأب وصفاته، إذ أنها إن لم تترو تحت السرير، فإنها كانت تدس نفسها في خزانة الملابس، واذا كان هناك ضيوف، قبعت تحت طاولة الطعام بعرائسها المخيطة من الخرق.
كانت الصبية آغنس تحب الاختفاء، وتجد فيه أمنا وطمأنينة، ومتعة كانت تختلف نوعيا عن المتعة التي حظي بها يوسف تحت ثياب آنا.
لقد كان مشعل الحرائق كولياجك رجلا ملسوعا ملوعا بما فيه الكفاية، أكثر بكثير من قدرته على فهم الدافع الذي جعل ابنته تميل الى الاختباء،. لذلك أقام لها على شرفة الدار ذات الغرفة ونصف الغرفة، تلك الشرفة التي سمرت لتصبح خنا للأرانب، أقام لها قمرة خشبية، صممها حسب قياس البنت، وفي قمرة كتلك أمضت أمي طفولتها تلعب بالدمى وتنمو. وفيما بعد، عندما دخلت المدرسة بدا وكأنها نبذت الدمى وصارت تلعب بالكريات الزجاجية وبالريش الملونة. معبرة للمرة الأولى في حيالها عن ولعلو بالجمال الهش.
وربما يسمح لي المرء هنا أنا المتحرق الى سرد بداية وجودي الشخصي، أن أعرض عن ذكر تفاصيل الى فرانكا الذين مسار مجرى حياتهم بهدوء وانسياب حتى العام الثالث عشر. حين دشنت سفينة "كولومبس" قرب "شيخاو" آنذاك تمكنت الشرطة التي لا يمكن أن تنسى من اقتفاء أثر فرانكا المزيف.
حدث ذلك عندما توجب على كولياجك مثلما كان يفعل في أواخر كل صيف، وكذلك في العام الثالث عشر، توجب عليه أن يقود ناقلة ضخمة من كييف عبر "بريبت" مخترقا القنال، مرورا بنهر "بوغ" حتى "مودلين" ومن هناك كان عليه أن يواصل الانحدار عبر "فايكسل". كان عدد الملاحين أثنى عشر رجلا، تصبحهم سفينة الجر "راداونا" التي وضعت آنذاك في خدمة معمل النجارة الذي كانوا يعملون فيه فقدموا مبحرين من غرب "نويفيهر" صوب ذراع "فايكسل" المطمور حتى "اينلاغه"، ثم تابعوا تجديفهم في نهر فايكسل طلوعا نحو "كيزمارك" ومن ثم "لتسكاو"، و"جتكاو" و"ديرشاو" الى أن اجتازوا "بيكل" فتوقفوا في المساء عند "تورن". هناك صعد رئيس النجارين الجديد على ظهر الناقلة، وكان مسؤولا أيضا عن مراقبة عملية شراء الأخشاب من كييف. لمحه كولياجك للمرة الأولى أثناء الافطار على جناح الناقلة. جلسا آنذاك قبالة بعضهما يلوكان طعاما ويحتسيان قهوة الشعير وعلى الفور عرفه كولياجك.
لقد دعا ذلك الرجل الضخم، الذي شاب مقدم رأسه الصلع، الملاحين على فودكا، وملأ لهم فناجين القهوة. وفي منتصف الشرب والمصغ، وبينما كان رئيس النجارين يسقي الملاحين في طرف جناح الناقلة قدم نفسه قائلا "يجب أن تعلموا بأنني رئيس النجارين الجديد، اسمي دوكرهوف، أحب الالتزام والانضباط".
وبناء على رغبته ذكر الملاحون أسماءهم واحدا تلو الآخر، وهم يفرغون فناجين الفودكا في أفواههم فاهتزت حناجرهم، كان كولياجك أول من احتسى الكأس، فقدم نفسه : "فرانكا"، ثم ثبت بصره في دوكرهوف الذي هز رأسه مثلما كان يهزه من قبل، وكرر المفردة الصغيرة "فرانكا" مثلما كرر من قبلها أسماء الملاحين. ومع ذلك فقد تراءى لكولياجك بأن دوكرهوف قد شدد على اسم الملاح الفريق ليس بحدة، لكن بتأمل واضح.
أخذت "راداونا" تمخر عباب الغرين قاذفة بأكوام الطمي والرمل متفادية بمعونة النوتيين المتناوبين السيل العارم الذي لم يعرف سوى اتجاه واحد، وعلى اليمين والشمال كانت تقع الأراضي نفسها المنبسطة تارة والمتموجة بالتلال تارة أخرى وقد حصدت غلالها. وثمة أسرار من الشجيرات ودروب ضيقة وخسوف انتشرت فيه نباتات الغنستر، خسوف خال من التعرج يقع بين البيوت الفلاحية المنفردة والمتباعدة وقد أعد لهجوم سلاح الفرسان، ولفرقة الرماحين المتموضعة شمالا في حقل رملي وللخيالة الذين كانوا يتطاردون غائرين عبر الأسرار الشجرية، ولاحلام ضباط الفروسية الفتيان وللمعركة التي وقعت والتي ستقع مدن جديد دائما وللوحة الزيتية : حيث السطح المستوى استواء تتريا، والفرسان المسلحين سلاحا خفيفا على الخيول المتهيجة والخيالة السيافين الذين أسقطتهم خيولهم، والقائد بمعطفه المحلى بالنياشين والذي اصطبغ بالدهاء، وحيث الدرع لا ينقصه إلا زر واحد، ذاك الذي قطعه النبيل مازوفين، والخيول البيضاء التي لم يشهد لها السيرك مثيلا، تلك الخيول المستشارة المتوترة المشرشبة الأعنة، بأوردتها وشرايينها المرسومة بعناية فائقة، وبمناخيرها القانية الاحمرار والتي انبعثت منها سحب مطعونة بالرماح والحراب ورفرفت فوقها البيارق، وثمة خيول مطأطئة الرؤوس وسيوف رفيعة شطرت السماء والشفق نصفين، وهناك في الخلف – إذ أن لكل لوحة خلفية ما – ثمة قرية ملتصقة تماما بالأفق وانبعث منها الدخان قرية كانت مستسلمة وسط السيقان الخلفية للأحصنة السود، وأكواخ منحنية ذليلة علاها الطحلب ومسقفة بالقش، وفي الأكواخ نفسها ثمة مصفحات جميلة، كانت محافظة على وشاقتها، حالمة بالغد، وراغبة أيضا في الخروج من اللوحة الى السهل الواقع خلف سدود نهر فايكسل كالمهر النحيفة التي انصبت بين كتائب الفرسان الثقيلة السلاح. وبالقرب من "فلو كلافغ" نقر دوكرهوف على ظهر كولياجك : "قل لي، يا فرانكا، ألم تكن قد اشتغلت قبل كذا وكذا من السنوات في مطحنة (شفيتس) ؟ المطحنة التي التهمتها النيران ؟
فهز كولياجك رأسه نافيا بصعوبة وتثاقل كما لو أنه اصطدم بمقاومة ما، واستطاع أن يمنح عينيه تعبيرا حزينا متعبا، لدرجة أن دوكرهوف احتفظ باسئلته الأخرى لنفسه بعد مواجهته لتلك النظرة.
عندما بصق كولياجك ثلاث مرات وهو متكيء على سياج الناقلة في "مودلين" حيث يصب نهر "بوغ" في "فايكسل" أي في الاتجاه الذي انحرفت فيه سفينة الجر "راداونا" كان دوكرهوف يقف الى جانبه ممسكا بسيجار وطلب منه نارا، فاخترقت هذه الكلمة ومعها لفظة "عود الثقاب" جلد كولياجك على الفور، فقال دوكرهوف : "يا رجل ! إنك لست بحاجة للشعور بالخجل عندما أطلب منك النار، لأنك لست فتاة، والا ؟ أثناء ذلك كانوا قد خلفوا "مودلين" وراءهم وهناك سرت في وجه كولياجك حمرة عجيبة لا علاقة لها بحمرة الخجل إنما كانت بمثابة انعكاس متأخر لحريق أنشبه في إحدى ورش النجارة.
ولم يحدث ما بين "مودلين" وكييف حينما طلعوا نهر "بوغ" عبر القنال التي كانت تربط بوغ بنهر "بريبت"، عندما عثرت "راداونا" على نهر الدنيبر، قادمة من "بريبت"، لم يحدث ما يمكن اعتباره حوارا سجالا بين كولياجك – فرانك ودوكرهوف. ومن الطبيعي أن يحدث شيء ما على ظهر سفينة الجر، أو بين الملاحين أنفسهم، أو بين الوقادين والملاحين، أو بين قائد الدفة والوقادين والربان، أو بين الربان والنوتية المتناوبين، مثلما يحدث عادة بين الرجال، أو ربما حدث في الحقيقة شيء ما بينهم إذ يمكنني أن أتخيل مشاجرة قد تحدث بين الملاحين الكوشبيين وقائد الدفة المولود في "شتيتين" أي أتخيل إمارة من إمارات التمرد: كالتجمع مثلا على سطح الناقلة، أو إجراء القرعة، أو رفع الشعارات لكن دعونا نترك هذه التكهنات، إذ لم يحدث أي نزاع ذي طابع سياسي، أو طعان بالسكاكين بين البولنديين والألمان ولا ضجة يستلزمها الجو الذي يسود عادة إثر تمرد مكشوف ناشيء عن وطأة الظروف الاجتماعية.
لقد واصلت "راداونا" طريقها، ملتهمة الفحم بوداعة وكادت تفرز ذات مرة في طين القاع، حدث ذلك حسبما أعتقد بعد ناحية "بلوك" بقليل، إلا أن سفينة الجر حررت نفسها بقواها الذاتية. لم تجر سوى ملاسنة حادة وقصيرة بين الربان باربوش القادم من "نويفيهرفاسر" وأحد النوتيين الأوكرانيين، وكان ذلك كل ما حدث – ولم يدون أي حدث آخر في محضر الناقلة.
واذا ما عن لي أن أدون أفكارا في سجل السفينة أو أحرر صحيفة خاصة بالحياة الداخلية الدوكرهوفية المتعلقة برئاسة ورشة النجارة فيمكن أن أستعرض المغامرات والمنوعات والشبهات وتأكيدها والشكوك التي سرعان ما كانت تتبدد. كان كولياجك ودوكرهوف خائفين كلاهما، متوجسين بل إن دوكرهوف كان أكثر خوفا من كولياجك لأنهما قد دخلا آنذاك الأراضي الروسية، فكان يمكن أن يسقط دوكرهوف من سطح السفينة مثلما سقط فرانكا المسكين من قبله – والآن فإننا قد وصلنا الى كييف – حيث أسواق الأخشاب الضخمة العملاقة والتي لا يمكن أن يحيط بها البصر، وحيث يمكن أن يفقد المرء الملاك المخصص لحمايته في فردوس ذلك الضياع والضلال الخشبيين، أو أن يقع ضحية لوح طويل انهار فجأة، أو أن تنقذ حياته بعد اصابته بلوح، ينقذ من قبل كولياجك الذي انتشل رئيس النجارين في البدء من غرين نهر "بيربت" أو نهر "بوغ" حيث جذب دوكرهوف في اللحظة الأخيرة في تلك العرصة عرصة الأخشاب الواسعة الخالية من ملائكة الحماية، وأنقذه من الانهيار الجارف لتيار الأخشاب المتساقطة فكم سيبدو جميلا لو أنني أستطيع التحدث الآن عن دوكرهوف نصف الفريق، أو نصف المهروس بفعل الألواح الخشبية، والمتنفس بصعوبة والذي حام حول عينيه طيف الموت، فهمس في أذن فرانكا المزعوم "أشكرك شكرا جزيلا يا كولياجك"، ثم يضيف بعد فترة توقف ضرورية "لقد تعادلنا الآن، واحدة بواحدة فهيا أعبر الى الضفة الأخرى!" ولعلهما سينظران الى بعضهما بصداقة فيها مرارة، ثم يبتسمان بارتباك وحيرة حتى يكاد الدمع يترقرق من مآقيهما الرجولية وهما يشدان على أيديهما مودعين بعضهما بتردد لا يخلو من الجفاء.
إننا نعرف تلك المشاهد من خلال الأفلام المصورة ببراعة تخلب الألباب حين يخطر في ذهن المخرج أن يجعل من شقيقين يناصب أحدهما الآخر العداء شريكين في مصير واحد بعد آلاف المغامرات المستمرة الناجحة بيسر وصعوبة، وذلك عبر قدرات تمثيلية بارعة.
بيد أن كولياجك لم يجد آنذاك فرصة مناسبة يدع فيها دوكرهوف يموت غرقا، أو ينقذه من مغبة الألواح الطويلة المتساقطة القاتلة وبكل يقظة وحذر والتزاما بمصلحة شركته رتب دوكرهوف عملية شراء الأخشاب في كييف، وأشرف على تجهيز ناقلات خشب جديدة ووزع كالعادة على الملاحين نقودا روسية صحيحة، وبسخاء تام، بغية تسهيل العودة الميمونة، واستقل قطارا أوصله الى شركته التي نصبت معدات النشارة التابعة لها في مرفأ الخشب بين مصنعي السفن في "كلافيتر" و"شيشاو"، مارا بطريقه بمدينة وارشو و"مودلين" و"ايلاو" الألمانية ثم "مارينبورغ" و"درشاو".
وقبل أن أترك الملاحين يهبطون الأنهار والقنال، ليصلوا أخيرا الى "فايكسل" بعد أسابيع من الجهد الشاق،علي أن أمعن التفكير جيدا فيما إذا كان دوكرهوف قد خمن في فرانكا شخصية كولياجك مشعل الحرائق. وأود أن أقول : طالما جلس رئيس النجارين مع فرانكا الطيع السليم الطوية والمحبوب عموما على الرغم من فحدودية فكره، طالما جالسه على متن ناقلة فإنه تمنى بلا شك الا يتخذ رفيقا لرحلته لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم، على شاكلة كولياجك، وأنه قد تخلى عن تلك الأمنية في المقعد الجلدي لمقصورة القطار. وعندما وصل الى هدفه وتوقفت عجلاته في محطة "دانسغ" – ها أنني قد لفظتها الآن – كان دوكرهوف قد اتخذ قراره الدوكرهوفي، فأودع حقائبه في عربة لتنقلها الى داره، وقصد مديرية الشرطة القريبة من "فيبنفال" بهمة وعزيمة، لأنه تحرر من الحقائب، وصعد الدرجات المؤدية الى البوابة الرئيسية قفزا، وبعد برهة قصيرة من التفتيش المتمعن عثر على غرفة كانت معدة ومنظمة بشكل يوحي بالمنطق والموضوعية، أتاح لدوكرهوف تقديم تقريره المقتضب الذي لم يتناول سوى الوقائع لم يحدث ذلك بمعنى أن رئيس النجارين تقدم بدعوى، إنما ناشد بكل موضوعية أن تفحص قضية كولياجك – فرانكا، فوعدته الشرطة بتنفيذ تلك الرغبة.
وبينما كان الخشب ينزلق منحدرا في النهر ومعه أكواخ البردي والملاحون طوال أسابيع، فقد دون أثناء ذلك الكثير من الورق ( مكاتب عديدة، حتى وصل الأمر الى الملف العسكري ليوسف كولياجك ذلك المدفعي عديم الرتبة والذي خدم في كتيبة المدفعية المرقمة كذا وكذا، والتي كانت متموضعة في غرب بروسيا. كان ذلك المدفعي الخسيس قد أودع الحبس المتوسط الأحكام مرتين لمدة ثلاثة أيام، بسبب ترديده لشعارات فوضوية، بلفة نصفها كان ألمانيا ونصفها الآخر بولنديا، وبصرت عال وفي حالة سكر. ولم يتم العثور على تلك :لأفعال الشنيعة في أوراق العريف فرانكا الذي خدم في كتيبة الحرس الخاص الثانية المعسكرة في "لانغفور" لقد نال فرانكا هذا ميتا حسنا وحظي بانتباه ولي العهد، وحين كان ساعيا للكتيبة ابان مناورة حربية، فأتحفه الأمير ولي العهد بدرهم أميري، كان يحمل في جيبه الكثير من الدراهم الشبيهة، أما الدرهم الآخر فأنه لم يكن مسجلا في ملف العريف فرانكا، أنما اعترفت جدتي بوجوده وهي تنتحب بصوت عال، عندما استجوبت مع شقيقها فنسفت.
لم تستطع جدتي مقاومة عبارة مشعل الحرائق بالدرهم الملكي وحده، بل عرضت أوراقا تثبت عدة مرات بأن يوسف فرانكا كان قد تطوع في العام صفر وأربعة في سلك الاطفاء في منطقة "دانسغ –نيدرشتات"، وخلال أشهر الشتاء حين كان الملاحون يتوقفون عن العمل، كان رجل الاطفاء فرانكا يساهم في اخماد بعض الحرائق الصغيرة أو الكبيرة، وثمة وثيقة أخرى أعلنت عن أن رجل الاطفاء فرانكا لم يساهم فقط في إطفاء الحريق الذي نشب في مصنع القطارات "ترويل" في العام صفر وتسعة، بل أنقذ حياة اثنين من متدربي الحدادة، وقد أدلى نقيب فرقة الاطفاء (هشت) بشهادة مماثلة، وأضاف الى المحضر "أريد أن أعرف كيف يكون شكل مشعل الحرائق الذي يقوم بإخمادها في الوقت نفسه ؟ ألم أره منتصبا على سلم الاطفاء عندما أتت النيران على الكنيسة في (هويبوده)؟ كان ينبعث كالعنقاء من النار والرماد وكان لا يطفيه النيران وحدها إنما حريق العالم كلا معها، ويروي ظمأ سيدنا المسيح، وأقول لكم حقا: إن كل من يطلق لقب (حنفية النار الحمراء) على الرجل الذي اعتمر خوذة الاطفائيين والذي كان له حق المرور قبل الآخرين ويتمتع بحب شركات التأمين ويحمل في جيبه دائما حفنة من الرماد، سواء أعانت شارة أم تصرفا ما تطلبا المهنة، فإن ذلك المدعي يستحق أن يربط عنقه الى حجر الرحى..".
ربما لاحظتم أن النقيب هشت كان يعتبر بنظر متطوعي الاطفاء قسيسا واعظا بليغ العبارة، وكان يعتلي كل يوم أحد منبر كنيسة سانت باربرا في "لانغارتن" ولا يتورع عن ضرب الأمثلة بكلمات مشابهة لتلك الكلمات التصويرية على غرار رجل الاطفاء السماوي ومشعل الحرائق الجهنمي ليرسخها في أذهان رعاياه مادامت التحريات جارية بخصوص كولياجك – فرانكا.
ولأن موظفي الشرطة الجنائية لم يذهبوا الى كنيسة سانت باربرا، فضلا عن أن مفردة "العنقاء" ستتوغل في أسماعهم باعتبارها إهانة للسمو الملكي أكثر مما هي تبرير لأعمال فرانكا، فإن نشاط فرانكا التطوعي في فرقة الاطفاء قد أثر عليه سلبيا، وتم استدعاء شهود من ورش نجارة عديدة واستعين أيضا بمعطيات الدوائر المختصة وتقييماتها: لقد أبصر فرانكا نور العالم في "توخل" بينما كان كولياجك "تورني" المولد ثم أن تضاربا بسيطا شاب أقوال الملاحين المسنين والأقرباء بعيدي القرابة. كانت الجرة كثيرا ما امتلأت بالماء، فلم يبق لها في آخر المطاف سوى أن تنكسر، فعندما بلغت الاستجوابات مداها الأقصى دخلت ناقلة الأخشاب الضخمة أراضي الرايخ، وبعدما اجتازت ناحية "تورن" جرى تفتيشها تفتيشا عاديا لم يثر أي شبهة، ثم وضعت تحت الرقابة في المرافيء وأماكن الرسو.
وانتبه جدي الى المراقبة بعد أن تخطى "درشاو" على الرغم من أنه كان يتوقع المراقبة، ولعل نوبة سهو، كانت تجتاحه بين الحين والآخر وتدفع به الى حافة اليأس منعته من محاولة الفرار بالقرب من "لتسكاو" أو كيزمارك"، والتي كان مقدرا لها أن تنجح في ناحية مألوفة كتلك وبمعونة الملاحين المتعاطفين معه. وبعد "آينلاغه"، حين توغلوا في ذراع "فايكسل" المطمور حيث كانت السفن تسير ببطء وترتطم ببعضها البعض، كان ثمة قارب صيد شراعي ينزلق بمحاذاة الناقلة على نحو لافت، أو غير لافت للنظر، لكنه كان غاصا بالركاب، وبالضبط خلف "بليهنندورف" انطلق الزورقان البخاريان التابعان لشرطة المواني، من الضفة الكثيفة البردي وشقا طولا وعرضا المياه المالحة الراكدة لذراع "فايكسل" والذي كان ينبيء عادة بالوصول الى المرسى الأخير. وخلف الجسر المؤدي الى "هويبوده" بدأ أصحاب "القيافات الزرقاء" يحكمون طوق الحصار، كان "الزرق" حاضرين في كل مكان في مستودعات الأخشاب المقابلة لمصنع السفن وفي منشأة الزوارق الصغيرة، وميناء الأخشاب المتسع على الدوام والذي بلغ ناحية "موتلاو" وجسور الرسو التابعة لورش نجارة مختلفة، حيث يأتي بعدها جسر الورشة التابع للشركة المعنية والذي كان أهالي الملاحين وعائلاتهم ينتظرون العائدين فقط في الناحية المقابلة عند "شيشاو"، حيث رفعت البيارق والأعلام، فقط هناك كان الأمر مختلفا إذ لابد أن تكون هناك سفينة جديدة جاهزة للتدشين، فاجتمع حشد غفير من الناس، حتى أن النوارس كانت مضطربة يجب أن يكون هناك حفل ما، فهل كان ذلك حفلا لاستقبال جدي؟
لم ينتبه الجد الى حقيقة الأمر إلا بعد أن أبصر أكوام الأخشاب ملغومة بأصحاب القيافات الزرقاء والزوارق البخارية التي كانت تمخر في المياه، منذرة بالشؤم، وتقذف الأمواج على الناقلات، حينئذ فقط أدرك أن ذلك البذخ والاسراف كانا مخصصين له وحده، في تلك اللحظة بالذات استيقظ قلب مشعل الحرائق، ذلك القلب الكولياجيكي العتيق، فنفض عن نفسه فرانكا الوديع متنصلا من فرانكا المتطوع في فرقة الاطفاء معلنا تخليه مل ء شدقيه، وبصرت خال تماما من التعثر، عن فرانكا المتلعثم اللسان، وأطلق ساقيه للريح، هاربا عبر الناقلات والسطوح المتأرجحة، يركض حافيا فوق الأرضيات الخشبية غير المستوية قاطعا اللوح الطويل بعد الآخر في اتجاه "شيشاو"، حيث كانت البيارق ترفرف بمرح في الريح، مخترقا اكوام الأخشاب، إذ أن هناك دعائم للماء أيضا، تلقى عليها أجمل الخطابات، وحيث لا يهتف أحد باسم كولياجك ولا تسمع سوى العبارة التالية : سأعمدك باسم (ٍٍSMS كولومبس)، أمريكا حيث تبلغ القدرة على إزاحة الماء تحت السفينة أر بعين ألف طن، وتبلغ القوة الحصانية ثلاثين ألفا، إنها سفينة جلالته التي فيها صالة للدرجة الأولى، مخصصة للتدخين، ومطبخ للدرجة الثانية في الجناح الشمالي، وصالة جمباز من الرخام ومكتبة، إنها أمريكا، سفينة جلالته المزودة بنفق للأمواج التي يقذفها المحرك، ومتنزه فوق السفينة، فحييت خالدا تحت غار النصر، حيث رفرفت البيارق الملونة في الميناء الوطني، وحيث وقف الأمير وراء دفة القيادة وحيث كان جدي يركض حافيا، وقدماه تكادان لا تمسان جذوع الأخشاب المستديرة، متجها نحو موسيقى الآلات النحاسية، فياله من شعب يتمتع بأمراء مثل، هؤلاء كان الشعب كله يهتف باسمه وهو يقفز من ناقلة الى أخرى، حييت خالدا تحت غار النصر، وتحت صفارات الانذار في مصنع السفن، وصفارات السفن الرأسية في الميناء، وصفارات سفن المهربين وسفن اللذة والمتعة، وكولومبس والحريق، وثمة زورقان بخاريان جنا من فرط الفرح وهما يمخران المياه الى جانبه من ناقلة الى أخرى، حتى قطعا الطريق عليه، لقد أفسد هذان المخربان لعبة المطاردة، فكان على الجد أن يتوقف على الرغم من أنه كان في فورة الركض، ووجد نفسه يقف وحيدا فوق ناقلة ويتطلع الى أمريكا، فعاجله الزورقان من الناحية الأمامية، فكان عليه أن يقفز ورأت الناس جدي يعوم صوب ناقلة انحدرت في "موتلاو". كان عليه أر يغوص في الماء هربا من الزورقين وأن يبقى هناك في الأعماق بسبب الزورقين فتزحزحت الناقلة فوقه، ولم تبد رغبة التوقف، فكانت تولد ناقلات جديدة على الدوام، والى الأبد: ناقلة إثر ناقلة.
أوقف الزورقان محركيهما وأخذت أزواج الأعين الصارمة الحادة تفتش فوق سطح الماء. بيد أن كولياجك ودع الأشياء والناس علهم وداعا نهائيا، متجاهلا الآلات النحاسية وصفارات الانذار وأجراس السفن وباخرة جلالته وخطبة تعميد الأمير هاينرش ونوارس.
جلالته المخبولة، غير قادر على أن يردد : حييت خالدا تحت غار النصر، ومتجاهلا رغوة الصابون بمناسبة تدشين باخرة جلالته، متواريا تحت الناقلة عن أنظار أمريكا وعن تحريات الشرطة كلها.
لم يعثر أحد أبدا على جثة جدي. وأنا المقتنع تماما بأنه قد لاقى حتفه اتحت الناقلة، يجب علي أن أكلف نفسي، لكي أحافظ على الموضوعية، بإعادة مود التصورات والروايات المدهشة المتباينة والمتعلقة بإنقاذه : قيل إنه عثر على فجوة بين أعمدة الناقلة الخشبية، كان حجمها كافيا لكي تبقى أجهزة تنفسه طافية. كانت تلك الفجوة ضيقة من الأعلى لدرجة أن الشرطة التي أمضت الليل طه تفتش الناقلات وأكواخ القصب فوق الناقلات لم تتمكن من اكتشافها.
وبعد ذلك وتحت جنح الظلام – كما قيل – تسلل الى ضفة "موتلاو" الأخرى، بجهد بالغ وبشيء من الحظ، ووصل الى مبنى منشأة سفن "شيشاو"، وعثر على ملاذ في مستودع الخردة، وبعد فترة وجيزة تمكن من الوصول الى ناقلة ملطخة بالسخام والشحوم، وصلها على الأرجح بمساعدة البحارة اليونانيين الذين كانوا يعرضون اللجوء على بنى الفارين.
وادعى آخرون بأن : كولياجك الذي كان ماهرا جدا في السباحة، ويتمتع برئة ممتازة، لم يغص تحت الناقلة، إنما قطع بقية نهر "متلاو" الواسع غوصا، وبلغ اليابسة بعد أن حالفه الحظ، ودخل منشأة سفن "شيشاو" واختلط بعمال المنشأة دون أن يثير ريبة أحد، ومن ثم اختلط بعموم الجماهير المتحمسة وردد معها أنشودة "حييت منتصرا ومكللا بغار النصر" واستمع، وهو متأهب للتصفيق، الى خطبة تعميد الأمير هاينرش على متن سفينة جلالته "كولومبس" وانسل خلسة من الجمع بعد التدشين الناجح للسفينة، وغادر مكان الحفل بثياب كانت مبللة الى حد ما، واستقل في اليوم التالي – وهنا تلتقي رواية الانقاذ الأولى بالرواية الثانية – استقل باخرة اغريقية شهيرة وسيئة السمعة ثم اختبأ في زاوية ما.
ومن أجل إتمام الموضوع، فإنني سأذكر الخرافة التالية التي أشاعت بأن جدي انساب مع التيار على جذع صيادون من محلة "بونزاك" وسلموه الى قارب بحري سويدي خارج المياه الاقليمية، ومن هناك جعلته الخرافة نفسها يستعيد عانيته ببط ء وبصورة مدهشة على أرض السويد ليواصل رحلته الى مالمو، الى آخره.. لكن ذلك الكلام كله مجرد هراء وثرثرة حرية بصيادي الأسماك.
ولذلك فإنني لا أعير أي قيمة لأقوال أولئك الشهود غير الجديرين بالثقة والمنتشرين في موانيء المدن الساحلية، والذين ادعوا بأنهم رأوا جدي في "بوفالو" الولايات المتحدة، عقب الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة وأنه أطلق على نفسه اسم جو كوجك، وجعل المتقولون تجارة الأخشاب مهنة له، كما أنه يمتلك، حسب الادعاء أسهما مالية في مصانع الكبريت وعيدان الثقاب، وأنه صار أحد المقربين من شركات التأمين ضد الحرائق، وأنه أصبح ثريا فاحش الثراء، ومعزولا، يقبع وراء مكتبه في إحدى ناطحات السحاب، ويضع في أصابعه طها خواتم مطعمة بالأحجار الكريمة الوهاجة ويتمرن مع حراسه الشخصيين الذين يرتدون قيافات رجال الاطفاء، ويجيدون الغناء باللغة البولندية ويطلقون على أنفسهم لقب "حراس العنقاء".
الفراشة الكبيرة والمصباح
كان هناك رجل قد ترك كل شيء وراءه، وقطع البحار العظيمة، وحط ركابه في امريكا، وأصبح ثريا.
إنني الآن أريد الاكتفاء بهذا القدر من الحديث عن جدي، بغض النظر عما إذا كان لقب نفسه بغولياجك باللغة البولندية أو كولياجك باللسان الكاشوبي، أو جو كوجك بالصيغة الامريكية.
من الصعب جدا النقر على طبل من الصفيح بسيط للغاية، ويمكن الحصول عليه في أي محل للعب الأطفال في أي متجر، والطواف به فوق الناقلات المنتشرة على امتداد النهر حتى الآفق ومع ذلك فقد تمكنت من قرع الطبل في موانيء الأخشاب والألواح العائمة، متجولا حول الشواطيء، مقلبا قصب البردي، حتى وصلت وبجهد يسير الى أجزاء السفن والمراكب التي لم يكتمل بناؤها بعد في منشأة "شيشاو"، ومن ثم مصنع "كلافيت" للسفن، وكذلك ورش تصليح الزوارق ومستودع خردة الحديد في مصنع عربات القطارات، ومخازن جوز الهند عطفة الرائحة التابعة لمعمل الزيوت، وجميع الأركان والمخابيء المعروفة لي فوق جزيرة العنابر والمستودعات.
لقد فارق جدي الحياة، ولم يعد يجاوبني، أو يظهر اهتماما بالتدشين القيصري للسنن الجديدة، ولا بفرق سفينة كان يبدأ يوم تدشينها ويستمر عادة عشرة أعوام، أي غرق سفينة تدعي في هذه الحالة "كولومبس" والتي كان يطلق عليها لقب "مفخرة الأسطول"، تلك السفينة التي أبحرت بكل بداهة صوب أمريكا، وتم اغراقها فيما بعد، أو أنها هي التي أغرقت نفسها بنفسها، ولعلها انتشلت من جديد وأعيد بناؤها وعمدت ثانية، أو تحولت الى خردة حديدية. ومن المحتمل أيضا إنها طفت مرة أخرى على السطح، تلك السفينة التي كان اسمها "كولومبس"، مقلدة جدي، وربما إنها تتجول اليوم بأطنانها الأربعين ألفا، وصالة تدخينها وقاعة التمارين الرياضية المنحوتة من المرمر، وحوض السباحة، وقمرات التدليك دعونا نقول تتجول في عمق ستة آلاف متر عند منخفض القلبين، أو في خليج "امدنتيف" كما أن من الممكن الاطلاع على هذه التفاصيل في كتاب "فاير" عن الأساطيل، أو في تقويم الأساطيل -أعتقد أن "كولومبس" الأولى والثانية قد أغرقت نفسها بنفسها، لأن القبطان لم يعد راغبا في مواصلة الحياة، بسبب العار الذي أسفرت عنه الحرب.
لقد قرأت على برونو جزءا من حكاية الناقلة، ثم طرحت عليه سؤالا، طالبا منه الاجابة بموضوعية، فقال بحماس "إنه لموت رائع!"
وعاجل فورا الى تحويل جدي الفريق الى توليفة من الأشكال المعقودة التي كان يركبها من شرائط الهدايا. فكان علي أن أقتنع بإجابته والا أهاجر الى أمريكا مترصدا الميراث.
لقد زارني صديقاي كليب وفيتلار. كليب جلب معه اسطوانة جاز فيها مقطوعتان لكنغ أوليفر، وفيتلار ناولني بتكلف (قلبا) من الشيكولاتة معلقا بشريط وردي، ثم أخذ الصديقان يعبثان ويقلدان مشاهد من قضية محاكمتي، وتظاهرت أمامهما بالارتياح وخلو البال من الهم والغم لكي ادخل الفرح الى قلبيهما، مثلما أفعل عادة في أيام الزيارات معلنا عن استعدادي لتلقي أكثر النكات سخفا بقهقهة. وقبل أن يلقي كليب محاضرته المحتمة حول علاقة موسيقى الجاز بالماركسية، بدأت أقص، وبخفية تامة، حكاية رجل اندس ذات مرة تحت ناقلة خشبية عملاقة بشكل مهول، وقد حدث ذلك في العام الثالث عشر، أي قبل فترة قصيرة من اندلاع الحرب للان الرجل لم يظهر على السطح ثانية وكذلك لم يتم العثور على جثته.
وردا على سؤال بسيط طرحه بضجر شديد، أدار كليب باستياء رأسه المعقود الى رقبته كثيرة الشحم، وفك أزراره ثم أطبقها من جديد، صار يقلد حركات السباحة وفعل كما لو أنه نفسا قد اندس تحت ناقلة خشبية.أخيرا نفض يده عن سؤالي، وألقى بذنب التخلي عن الاجابة على المساء المبكر. بدا فيتلار في جلسته مثابرا تماما، واضعا ساقا على ساق، حذرا من أن تتكسر ثنيات السروال، مستعرضا نمطا من السخرية الهجينة شديدة النعومة والسخرية بملائكة السماء: "إنني موجود الآن على ظهر الناقلة. والجو أصبح رائعا جدا على سطح الناقلة، فصار البعوض يقرصني، إنه إذن لأمر جيد عندما أكون تحت الناقلة، حيث لا يقرصني البعوض، وهذا أمر مريح للغاية. وأعتقد أن الحياة ممكنة تحت الناقلة، إذا لم يكن المرء راغبا في البقاء على سطحها لينهشه البعوض".
توقف فيتلار عن الكلام توقفا عتيدا أثبتت التجربة الطويلة فعاليته وتفحصني بنظرة، ثم رفع حاجبيه اللذين كانا مرفوعين أصلا بالفطرة، لكي يبدو مظهره شبيها بمظهر البومة، وقال مشددا على عباراته بشكل مسرحي: "إنني أفترض أن.الفريق، أي الرجل الذي انزلق تحت الناقلة، هو شقيق جدك، إن لم يكن جدك نفسه، ولأنه كان يشعر بالمسؤولية إزاءك باعتباره شقيق جدك أو جدك بصورة أوضح، فإنه لاقى حتفه، إذ ليس هناك شيء أشد بغضا اليك من أن يكون لك جد حي. وعليه فإنك لست قاتل شقيق جدك، بل قاتل جدك بالذات ! ولأنه أراد أن يعاقبك قليلا، مثلما يفعل كل جد حقيقي، فإنه لم يخلف لك ما من شأنه أن يدخل البهجة الى قلوب الأحفاد، بحيث يجعلك تقف على الجثة الغريقة المتفسخة والمترهلة لتشير اليها بفخر واعتزاز، ثم تستخدم كلمات مثل، انظروا الى جدي الميت لقد كان بطلا حقا فاقتحم الماء عندما كانوا يطاردونه، لقد اختلس جدك الجثة من العالم ومن الحفيد معا، لكي ينشغل به الحفيد والأجيال القادمة زمنا طويلا" ثم ينقلب فيتلار الطبيعي الى فيتلار الماكر المنحني قليلا الى الامام، موحيا بنزعته للمصالحة، قافزا من نبرة مسرحية مصطنعة الى أخرى: "إنها أمريكا، فكن فرحا يا أوسكار لقد أصبح لك هدف في الحياة، ومهمة، وسيحكمون عليك هنا بالبراءة وسيطلقون سراحك، فإلى أين ستذهب إن لم تذهب الى أمريكا حيث يستطيع المرء العثور على كل شيء مرة أخرى، بما فيه الجد المفقود!".
ومهما غرقت إجابة فيتلار بالتجريح والتهكم المرير، فإنها كانت تمنحني ثقة أكبر بكثير من تبرم كيب الضبابي العائم والذي لا يفرق بين الموت والحياة، وكذلك أفضل من إجابة الممرض الذي أطلق صفة الرائع على موت جدي، لسبب واحد ليس إلا، وهو أن SMS كولومبس قد تم تدشينها بعد رحيله بفترة وجيزة وانغمرت بالأمواج، حينئذ امتدحت أمريكا فيتلار المحافظة على الأجداد، أمريكا، ذلك الهدف المكتسب سلفا، والمثل الأعلى الذي يجب أن أضعه نصب عيني إذا ما ألقيت بالطبل وريشة الكتابة جانبا ذات يوم ضجرا بأوروبا: "عليك أن تواصل الكتابة يا أوسكار! أفعل ذلك من أجل جدك كولياجك الثري والمتعب في آن، والذي يشتغل الآن في تجارة الأخشاب ويعبث بعيدان الثقاب في جوف إحدى ناطحات السحاب!".
حالما ودعني طيب وفيتلار، منصرفين أخيرا قام برونو بطرد رائحة الصديقين المزعجة من الغرفة عبر عملية تهوية فعالة ومؤثرة، بعد ذلك تناولت طبلي وطبلت، ليس لأخشاب الناقلات التي كانت تطبق على الموت إنما عزفت ذلك الايقاع المتسارع الشديد التبدل الذي لابد أن ينصت له جميع الناس في شهر أغسطس من العام الرابع عشر، ولهذا فمن الصعب علي أن أتفادى هنا، في هذا النص وصف ذلك الطريق وصفا أوليا تلميحيا على الأقل، قبل الوصول الى ساعة ولادتي ذلك الذي كانت تقطعه جموع المشيعين المفجوعين الذين خلفهم جدي وراءه في أوروبا. فبعدما اختفى كولياجك تحت الناقلة اجتاح الخوف جدتي وابنتها آغنس وفنسنت برونسكي وابنه يان ذا التسعة عشر عاما والذين بقوا بين أهالي الملاحين وأقربائهم عند جسر المرسى التابع لورشة النجارة.
كان غريغور كولياجك الشقيق الأكبر ليوسف، والذي استدعي أيضا للتحقيق معه واستجوابه، يقف بعيدا عن تلك التطورات، غريغور هذا الذي لم تكن لديه سوى اجابة واحدة مستعد لترديدها أمام الشرطة كل مرة : "إنني أكاد لا أعرف شيئا عن شقيقي. ولا أعرف في الحقيقة سوى أنه يدعى يوسف وعندما رأيته لآخر مرة كان في العاشرة، أو في الثانية عشرة من عمره. وكان ينظف لي الحذاء ويجلب البيرة. إذا ما رغبت أنا، أو أمي في شرب البيرة".
إن إجابة غريغور كولياجك لم تنفع الشرطة شيئا، حتى لو كانت أم جدي محبة للبيرة حقا، بيد أن وجود كولياجك الأكبر قد نفع جدتي كثيرا. لقد بقي غر يغور الذي كان قد أمضى شطرا من حياته في "شتيتين" وبرلين وأخيرا في "شنايدهمول" في داسنغ وعثر على عمل في مطحنة البارود وبعد انتهاء العام، وايداع الأمور المعقدة التي ترتبت عن زواج جدتي من فرانكا المزيف أضابير الشرطة وملفاتها، عقد غريغور قرانه على جدتي التي لم تكن راغبة في التخلي عن آل كولياجك ولعلها لم تسرع في زواجها الثاني لو لم يكن غريغور كولياجيكيا.
لقد صان العمل في مطحنة البارود غريغور من مغبة الثوب الملون الذي ان يلحق دائما بالثوب الرمادي الكالح. أقام الزوجان ومعهم أمي في الدار نفسها ذات الغرفة ونصف الغرفة والتي كانت ملاذا لمشعل الحرائق أعو اما طويلة. واتضح آنذاك بأن كل كولياجك لا يشبه الآخر بالضرورة، فبعد أقل من عام على الزواج اضطرت جدتي الى تأجير الدكان الذي فرغ للتر في قبو الدار في "ترول"، لتعرض فيه جميع الحاجيات القابلة للبين من الدبوس الى الكرنب، وتحصل على بعض النقود، لأن غريغور الذي كان يتقاضى في الحقيقة أجرا كبيرا، لم يجلب الى الدار ما هو ضروري للعيش، إنما كان ينفق ماله على الشرب. وبينما كان غريغور معاقرا للخمرة، ربما تحت تأثير أم جدي، فإن جدي يوسف كان يحتسي بسرور قدحا صفيرا من الخمر بين الحين والآخر.
لم يشرب غريغور الخمرة بسبب الحزن، بل أنه كان يشربها حتى في حالات فرحه النادرة، ولأنه كان يميل دوما الى الكآبة والانطواء فقد كان يحب الخمر ليس تحت تأثير الفرح. وأحب الشرب أيضا، لأنه كان يحب الوصول الى قاع الأمور كلها والى قراراتها بما فيها الخمرة ولم يشهد أحد أنه رأى غريغور كولياجك تخلى طوال حياته عن ثمالة قدح واحد من خمرة العرعر.
آنذاك أظهرت أمي ذات الخمسة عشر عاما والممتلئة بعض الشيء نفسها باعتبارها فتاة مفيدة فكانت تساعد أمها في الدكان فتلصق الأسعار على المواد الغذائية وتوزع البضاعة على الزبائن أيام السبت وتكتب إنذارات خالية من اللباقة لكنها مليئة بالفنطازيا، لكي تدفع المقترضين المقصرين الى التعجيل في تسديد ديونهم. ومما يؤسف له أنني لم احتفظ بواحدة من تلك الرسائل المتوعدة المنذرة، فكم سيبدو الأمر ممتعا لو أنني اقتبست مقطعا من صرخات الاستغاثة الصبيانية تلك التي سطرتها فتاة يتيمة الأب في خطابات عنيفة اللهجة، إذ أن غريغور كولياجك لم يكن صالحا لتعويض الأب المفقود تعويضا كاملا.
كانت جدتي وابنتها تجدان صعوبة بالفة في اخفاء صندوق الدخل المليء بالقطع النقدية النحاسية والفضية والمؤلف من طبقتين خفيفتين من الألومنيوم، عن الأنظار الكولياجيكية السوداوية شديدة الاكتئاب أنظار طحان البارود دائم الظمأ.
وعقب وفاة غريغور كولياجك في العام السابع عشر، إثر اصابته بالانفلونزا، ارتفعت نسبة الأرباح التي كان يدرها دكان العطارة، لكن ليس الى حد كبير، إذ ما الذي كان يمكن أن يباع في العام السابع عشر:
أما الحجرة الصغيرة في الدار والتي ظلت خالية منذ رحيل طحان البارود، لأن جدتي لم ترد السكن فيها خشية الجحيم فقد شغلها يان برونسكي ابن خال أهي ذو العشرين عاما آنذاك والذي ترك "بيساو" وأباه، عازه على تمضية فترة التدريب في دائرة البريد التابعة للمدينة المحلية بعد نيله شهادة تخرج جيدة في المدرسة المتوسطة في "كارتهاوز"، لكنه قدم آنذاك الى دائرة البريد المركزية في دانشغ رقم 1، ليعد نفسه الى وظيفة إدارية من النوع المتوسط. وبالاضافة الى حقيبته جلب يان معه طوابع سيرة الى بيت خالته. كان يجمع الطوابع منذ صباه المبكر، ولذلك فإن علاقته بالبريد لم تكن مجرد علاقة مهنية، بل علاقة شخصية أيضا، ومتأنية على الدوام.
كان لذلك الفتى النحيف الجسم والنحيف والمحدودب الظهر بعض الشيء وجه وسيم بيضوي الشكل، ولانه كان وسيما وذا عينين زرقاوين، فقد شغفت به أمي ذات السبعة عشر عاما ووقعت في غرامه.
لقد أخضع يان ثلاث مرات للفحص الطبي العسكري، إلا أنه كان يعفى من الخدمة كل مرة بسبب قامته المعوجة وحالته السيئة على العموم والتي انتشرت حولها شتى الأقاويل في ذلك الزمن الذي كان يساق فيه الاصحاء مستقيمو القامة الى ناحية «فردان»، حيث كانت أجسادهم تمهد هناك في التراب الفرنسي على نحو أفقي كان على المغازلات أن تبدأ في الواقع أثناء التفرج على ألبومات الطوابع، أي أثناء مقارنة الرؤوس المسننة للنسخ النادرة الثمينة، غير أنها بدأت أو جاءت بالأحرى، بعد أن استدعى يان للفحص الطبي للمرة الرابعة. فرافقته أمي التي أرادت المرور بالمدينة لحاجة ما، وانتظرته أمام مبنى القيادة العامة للمنطقة حيث وقفت الى جانب كابينة الحراسة التي كان يقوم بها الدفاع المدني، وكانت متفقة مع يان على أنه سيساق هذه المرة الى فرنسا، ليشفي قفصه الصدري السقيم في هواء ذلك البلد المتخم بالرصاص. وربما أحصت أمي آنذاك أزرار الحرس المدني مرات عديدة، وخرجت بنتائج متباينة. وأستطيع أن أتخيل أزرار أصحاب القيافات العسكرية محسوبة بطريقة ما، بحيث كان الزر الذي يحسب في الأخير يعني "فردان" أي أحد رؤوس هارتمانسفالير كوبف، أو يعني نهرا صغيرا في ناحية سوم، أو مارن.
وحين فتح الشاب الظريف المفحوص للمرة الرابعة بوابة القيادة العامة للمنطقة بعد حوالي ساعة، وهبط درجات السلم الأمامي متعثرا طوق جيد)مي بذراعيه، ثم همس في أذنها مرددا تلك المقولة التي كانت محبوبة آنذاك : "لا مؤخرة ولا عنق، سنة كاملة الى الوراء !".
فحضنت أمي يان برونسكي لأول مسرة في حياتها، ولا أعرف فيما إذا أخذته في أحضانها بسعادة بعد ذلك مثلما شعرت في تلك اللحظات.
إنني لم أطلع في الواقع على تفاصيل علاقة الحب الشابة تلك التي نشأت ابان الحرب. لقد باع يان جزءا من مجموعة طوابعه ليرضي رغبات أمي المولعة بكل ما هو جميل وأنيق وثمين وفي ذلك الوقت بدا أيضا بتدوين يومياته التي فقدت للأسف الشديد.
كانت جدتي راضية بتحالف الشاب والفتاة، ذلك التحالف الذي يمكن أن يقال عنه إنه ذهب أبعد بكثير من مجود صلة القرابة، لأن يان برونسكي سكن في ذلك البيت الصغير في "ترول" حتى فترة قصيرة قبل اندلاع الحرب. وقد انتقل من هناك بعدما بات من الصعب انكار وجود سيد يدعى ماتسرات، ذلك الوجود الذي اعترف به حقا. لابد أن تكون والدتي قد تعرفت محل ذلك السيد أثناء خدمتها كمساعدة تضميد في المستوصف العسكري "سلبرهامر" قرب «أوليفا». كان الفريد ماتسرات المولود في حوض الراين راقدا في المستوصف إثر اصابته إصابة بالغة بشظية اخترقت فخذه، في صبح بمرور الوقت محبوبا من قبل المضمدات جميعهن حبا مبهجا جديرا برجل قادم من منطقة المردين، ولا يمكن استثناء الممرضة أغنس من ذلك الحب. فكان يتكيء على ذراع هذه الممرضة أو تلك، ويعرج في الردهات قبل أن يتماثل للشفاء، وكان يساعد الآنسة أغنس في أعمال المطبخ، لأن قلنسوتها البيضاء كانت متناسقة تماما مع وجهها المستدير، ولأنه، بصفته طاهيا متقاعدا، كان قادرا أيضا على تحويل المشاعر الحسية الى حساء.
بعدما اندمل الجرح بقي الفريد ماتسرات في دانسغ، حيث عثر فورا على وظيفة وكيل تجاري لشركته الرينانية الكبيرة التي كانت تصنع الورق. وحين تراخت حدة الحرب، بدأت الناس تتسلى بتحضير معاهدات للسلام، من شأنها أن تشكل منطلقا ودافعا لحروب قادمة، فتم اعلان قيام الدولة الحرة في المنطقة المحيطة بمصب "فايكسل"، بدءا من "فوغلزانغ" امتدادا بموازاة «نوغات» حتى "بيكل" ومن هناك انحدارا مع «فايكسل» الى "جاكتاو"، وتضم من ناحية الشمال مثلثا يمتد رأسه الى "شونفليس"، وقوسا منحنيا يحيط بغابة "ساسكوشينر" وينتهي ببحيرة "أوتمين" متخلية عن الأراضي الواقعة في "ماترن" و"رامكاو" و«بيساو» موطن جدتي، ثم تواصل الدولة الوليدة طريقها حتى «كلاين – كاتس» على بحر البلطيق ووضعت تلك الدولة تحت وصاية عصبة الأمم المتحدة، وقد منح الى بولندا ميناء حر في أراضي دانسغ ذاتها إضافة الى الرصيف الغربي الذي كان يضم مستودع الذخيرة وادارة القطارات ودائرة بريد مستقلة في ميدان "هيفوليوس".
وبينما كانت طوابع الدولة الحرة تمنه الرسائل شعارات ورسومات سفن شراعية بأبهة تتناسب وأبهة المدن التجارية الألمانية فإن البولنديين كانوا يكتفون بلصق المشاهد الجنائزية على رسائلهم.
انتقل يان برونسكي الى البريد البولندي، وقد بدا انتقاله تللقائيا وكذلك اختياره لبولندا. كان هناك الكثير من الناس الذين رأوا في حصول أمي على الجنسية البولندية سببا رئيسيا لسلوكها. وفي العام العشرين هزم القائد ببلوزودسكي الجيش الأحمر بالقرب من وارشو، وظهرت المعجزة عند "فايكسل" واعتبرها الناس من أمثال فنسفت برونسكي من معجزات السيدة العذراء، في حين اعتبرها الخبراء العسكريون من معجزات الجنرال سيكورسكي، أو الجنرال فايغاند، في ذلك العام البولندي الصرف خطبت أمي من قبل ماتسرات المحسوب على تبعية الرايخ الألماني إنني مازلت مقتنعا الى حد ما بأن جدتي آنا، شأنها شأن يان، لم تكن متفقة مع تلك الخطبة، فتخلت عن الدكان، الذي انتعش آنذاك الى ابنتها.
ورحلت لتقيم مع شقيقها فنسفت في "بيساو"، البولندية واستلمت إدارة حقول البنجر والبطاطس مثلما كانت تفعل في الأزمان ما قبل الكاولياجيكية، متيمة الفرصة لشقيقها الذي حلت به الرحمة والبركة التحدث الى ملكة بولندا العذراء ومناجاتها ومقتنعة بالتربع بثيابها الأربعة أمام نيران أعشاب البطاطس متطلعة الى الأفق الذي مازال يفصل أعمدة التلغراف عن بعضها.
بعدما وقع يان برونسكي على فتاته هدفغ، الكاشوبية الأصل والقادمة من المدينة نفسها، التي كانت تمتلك حقلا زراعيا في "راسكو"، وزواجه منها، تحسنت العلاقة بينه وبين أمي. قيل إنها قدمت يان الى ماتسرات أثناء حفلة راقصة تشبه الحفلات التي يلتقي فيها الناس ببعضهم بمحض الصدفة. وفي الحال أظهر السيدان، المختلفان في الطبع والمتفقان في علاقتهما بأمي، إعجابا لبعضهما على الرغم من أن ماتسرات كان قد وصف انتقال يان الى البريد البولندي بلهجة الرينانية العالية النبرة والقاطعة بأنه تصرف أحمق. ثم رقص يان مسن أمي في حين رقص ماتسرات مع هدفغ الخشنة العظام والضخمة الجسد والتي كانت لها نظرة طافحة مثل نظرة البقرة، كانت تشيع لدى الحاضرين المحيطين بها اعتقادا بأنها حبلى على الدوام. لقد رقصوا مع بعضهم وخلاف بعضهم وكان كل واحد منهم يفكر أثناء الرقص في الرقصة القادمة، وصاروا يستبقون الايقاعات في رقصة "الزحزحة" ويتوقفون في رقصة "الفالس" الانجليزية الى أن استعادوا شقتهم من خلال رقصة "الجارلس"، بل إنهم وجدوا في رقصة "الثعلب" متعة حسية تقترب من التدين.
حين تزوج الفريد ماتسرات أمي في العام الثالث والعشرين والذي كان يمكن أن يكسو فيه المرء ورق جدران غرفة نومه كاملة بثمن علبة ثقاب، أي بلا ثمن في الواقع حضر يان شاهدا، أما الشاهد الآخر فكان تاجرا لبضاعة المستعمرات ويدعى مولن.
ليس لدي الكثير مما أرويه عن مولن هذا الجدير بالذكر فقط، لأنه سلم أمي وماتسرات متجر بضائع المستعمرات الكاسد والموشك على الافلاس بفعل كثرة ديون الزبائن، والذي كان يقع في ضاحية "لانغفور". لقد تسلما المتجر في الوقت الذي دخلت فيه العملة الجديدة وخلال فترة قصيرة تمكنت أمي التي كانت اكتسبت خبرة عمتان ة في التعامل مع الدائنين على اختلاف أصنافهم أثناء ادارتها للدكان في "ترول والتي كانت تتمتع بحس تجاري" ويروح السخرية وسرعة البديهة، تمكنت من انعاش المتجر المهمل الى الحد الذي دفع بماتسرات الى التخلي عن وظيفة الوكيل التجاري في صناعة الورق المكتظة آنذاك بالعاملين والتفرغ للعمل في المتجر.
كان كل منهما يتمم الآخر على نحو مدهش، فكان ابن الراين يصل في تعامله مع الوكلاء أو عندما يشتري البضائع من أسواق الجملة الى القدرات والجهود ذاتها التي كانت تبذلها أمي في تعاملها من زبائن المتجر. إضافة الى ذلك جاء حب ماتسرات الى مئزر الطهاة الذي كان صالحا دائما للعمل في المطبخ والمتضمن غسل الأطباق والأواني أيضا، مما خفف العبء عن أمي التي كانت تؤثر الوجبات السريعة.
كانت شقة السكن الملحقة بالمتجر ضيقة في الواقع ومقسمة بطريقة سيئة، إلا أنها كانت تعتبر شقة برجوازية بقدر كاف، مقارنة بالشقة في "ترول" والتي كنت تعرفت عليها من خلال الأحاديث بحيث أن أمي لابد وأن تكون قد شعرت بارتياح عميق هناك في الأعوام الأولى من زواجها.
وفيما عدا الممر الملتوي قليلا والذي كدست فينه علب مسحوق الغسيل، كان ثمة مطبخ واسع، امتلأ نصفه كذلك بالبضائع ويعلب الطعام المحفوظ وأكياس الطحين وقطائف الشوفان، أما غرفة الجلوس ذات النافذتين المطلتين على الشارع والمشرفتين على الحديقة الأمامية الموشاة صيفا وشتاء بأصداف بحر البلطيق فقد كانت عماد تلك الشقة في الطابق الأرضي. واذا ما كان ورق الكساء يشع لونا أحمر خمريا، فإن المصطبة المنجدة كانت أرجوانية اللون، وثمة طاولة طعام قابلة للسحب، بأطراف مستديرة وأحاطت بها أربعة كراسي مكسوة بالجلد الأسود، إضافة الى منضدة تدخين صغيرة متغيرة المكان باستمرار، كذلك تلك الأشياء كلها تنتصب بقوائمها السوداء فوق سجادة زرقاء، وكانت هناك ساعة سوداء مذهبة قائمة بين النافذتين، وبيانو أسود أستقر عند المصطبة الأرجوانية، كان قد استأجر في البدء، ثم سدد ثمنه بالتقسيط ومقعد عزف دوار وضع على جلد مدبوغ طويل الوبر. وفي الجهة المقابلة ثمة بوفيه أسود مشبك بقضبان بيضاوية ثقيلة وأبواب رسمت عليها صور فاكهة قاتمة السواد، نضدت خلفها الأواني وشراشف السفرة وقد ركب البوفيه على دولاب أسود اللون وكانت هناك فجوة صغيرة بين إناء من البلور وكأس سباق أخضر ربحه الزوجان في اليانصيب، واكتملت الغرفة بفضل أمي وشطارتها بجهاز راديو ذي لون بني.
كانت حجرة النوم مطلية بالدهان الأصفر، ومطلة على فناء المنزل المؤجر ذي الطوابق الأربعة. أرجو أن تصدقوا إذا ما قلت لكم إن قبة سرير القلعة الزوجية كانت زرقاء، فاتحة الزرقة، وتحت الضوء الأزرق الخفيف كانت ثمة صورة مؤطرة شفافة الزجاج تمثل مريم المجدلية وهي تكفر عن ذنوبها في المغارة، شاحبة الجسد، تنفث بحسراتها الى اليمين نحو الزاوية العليا للصورة، وقد أطلت أطرافها العديدة من ناحية الصدر، لدرجة أن المرء كان يضطر كل مرة الى احصائها من جديد لاعتقاده بأنها أكثر من عشرة. وقبالة سرير الزوجية ربضت خزانة الملابس البيضاء بأبوابها المزودة بالمرايا، وعلى شمالها منضدة أدوات الزينة، وعلى يمينها كومدينو ذو سطح من الرخام، وعلق تحت السقف مباشرة طبقان من الخزف الصيني، لم يربطا بالقماش مثلما ربطت الأطباق الخزفية الأخرى في غرفة الجلوس، إنما بذراعين من النحاس الأصفر، طبقان من خزف وردي أطلت من ورائه اللمبات الصغيرة جلية للعيان ناشرة الضياء في كل مكان، هكذا كانت مصابيح غرفة النوم.
لقد قرعت طبلي اليوم طوال فترة كلها، طارحا عليه الاسئلة، لأنني أردت أن أعرف فيما إذا كانت لمبات غرفة نومنا بأربعين، أم بستين واط. ولم تكن تلك الأول التي طرحت فيها هذا السؤال الجوهري علي وعلى طبلي في آن واحد. كنت غالبا ما احتاج الى ساعات طويلة لكي أجد طريقي الى المصابيح من جديد. ألم يتوجب علي كل مرة أن أنسى آلاف الأضواء أثناء دخولي ومغادرتي المنازل الكثيرة التي كنت أبعث فيها اليقظة، أو النوم من خلال أزرارها الكهربائية المناسبة لعلي أخرج، عبر التطبيل الخارق للعادة من غابة الأجساد الضوئية العادية المألوفة، وأتلمس طريقي الى غرفة نومنا؟
لقد وضعت أمي في البيت، وعندما جاءتها آلام المخاض كانت تقف في المتجر، تعبيه السكر في أكياس الورق الزرقاء ذات نصف الكيلو أو ربعه. وقد تأخرت عملية نقلها الى مستشفى الولادة لذلك استدعيت قابلة عجوز كانت تسكن في شارع هيرتا، قريبا من دارنا، والتي لم تعد تمارس مهنتها إلا نادرا فقدمت لنا المساعدة في غرفة النوم لكي ننفصل أنا وأمي، عن بعضنا.
انني أبصرت نور العالم هذا في هيئة لمبتين كل واحدة منهما بقوة ستين واط.ولذلك فإن نص الكتاب المقدس يحضرني الآن : "أمر الرب بالضوء فجاء الضوء"، تماما مثلما كانت الدعاية الخطية الناجحة لشركة "أوسرام" وما عدا التصدع الاجباري الذي حدث في السد، فإن ولادتي تمت بيسر، فتحررت بسهولة من الوضع الرأسي الذي كثيرا ما امتدحته الأمهات وخبراء الأجنة والقابلات على السواء.
دعوني أقول على الفور: إنني كنت من الأطفال الرضع المرهفي السمع والذين حسم تطورهم الذهني والروحي منذ الولادة، ولم يعد أمامهم سوى أن يؤكدوا شخصيتهم ويثبتوا وجودهم على الدوام. وبمقدار ما كنت متحررا من كل شكل من أشكال التأثير عندما كنت جنينا، فإنني لم أصغ قط إلا لنفسي وحدها، مقدرا في الوقت ذاته أهمية اللهو والعبث بسائل الرحم، فكنت أتنصت بحس نقدي الى التصريحات التلقائية الأولى التي كانت يطلقها والداي تحت اللمبات. كانت أذناي متيقظتين مرهفتين الى حد بعيد ومهما شيع عن صغرهما وانثنائهما والتصاق صيوانهما وظرفهما، فإنهما كانتا تحتفظان لي بكل هتاف أو نداء مهم كان يطرح نفسه بصفته انطباعا أوليا. بل أكثر من ذلك. لقد كان دماغي شديد الصغر يحلل كل ما كانت تلتقطه أذناي لأقرر بعدها فيما إذا كنت سأنفذ تلك الفكرة، أو أن أتخل عنها بالضرورة.
قال السيد ماتسرات الذي أعتبر نفسه والدي : "انه ولد، وسيتسلم المتجر في المستقبل وأخيرا أصبحنا نعرف لماذا كنا نكد ونكدح طوال الوقت".
لكن أمي لم تفكر في المتجر، إنما في تجهيز لوازم ابنها: "انني أعرف أنه صبي، حتى لو كنت مرحت بعض المرات بأنني سأنجب بنتا".
وهكذا نشأت علاقتي المبكرة بالمنطق النسوي، وكنت سمعت آنذاك كلاما من وراء ظهري : "إذا بلغ أوسكار سن الثالثة فسيحصل على طبل".
عندما كنت أعقد المقارنات والموازنات بين وعود الأم والأب وقتا طويلا، راقبت خلالها أنا أوسكار شخصيا وأصغيت بنفسي الى فراشة ليلية ضلت طريقها الى الغرفة.. كانت تحوم، متوسطة الحجم ومشعرة، لتخطب ود اللمبتين، وتلقي بظلالها على المكان بجميع محتوياته حتى أنها أطبقت ممليه بحركات ظليلة مرتجفة، لم تكن تتناسب مع حجم جناحيها وامتدادهما، وأخذت تتحسسه وتجعله واسعا، لم تكن لعبة الضوء والظل أثارت اهتمامي بقدر ما أثاره الصوت الذي كان يتصاعد في المجال الفاصل بين اللمبة وخفقات الفراشة. وصارت الفراشة ترغي وتزبد، كما لو أنها سوف لا تحصل أبدا على فرصة مماثلة في وقت لاحق للتحدث ساعة الى الضوء وكما لو أن محاورتها مع المصباح كانت آخر اعتراف لهاه ونوع من الغفران وزعته اللمبتان، غفران لا يتيح فرصة قط للائم والجنوح. واليوم فمان أوسكار يقول بسذاجة. إن الفراشة كانت تطبل. لقد سمعت الأرانب والثعالب والسناجب تطبل. كما أن بإمكان الضفادع جلب الزوابع والأمطار عبر التطبيل. ويقال عن نقار الخشب إنه يستدرج الديدان من مخابئها بالتطبيل، وأخيرا فإن الانسان يضرب على النقارة الضخمة والصناجة والرق والطبل ويتحدث عن مسدسات التطبيل ونيرانها، كما أنه يتحدى الانسان الآخر بالتطبيل، أو يشاركه القرع، وكان هذا ما يفعله صبيان التطبيل ومراهقوه. بيد أن هناك مؤلفين موسيقيين يدونون النوتات لعازفي الآلات الوترية والايقاعية، ولعلي استطيع هنا التذكير بالمعزوفات الموسيقية الكبرى والصفري والاشارة أيضا الى محاولات أوسكار حتى ذلك الوقت، وهذا الكلام لم يكن موجها الى عربدة التطبيل التي أقامتها الفراشة الليلية على لمبتين بقوتي ستين واط بمناسبة ولادتي. ربما هناك زنوج في افريقيا السوداء، أو ن نرج يعيشون في أمريكا دون أن ينسوا افريقيا، وربما هناك أناس منتظمو الايقاع يضاهون فراشتي في العزف، أو يقلدون الفراشات الافريقية – التي هي عادة أكبر حجما وأشد فتنة من فراشات أوروبا الشرقية – أناس يطبلون بجموح صارم وبانتظام أيضا، لكنني سأحتفظ بمقاييسي الأوروبية الشرقية، متمسكا بفراشتي الليلية متوسطة الحجم والمنقطة باللون البني والتي حامت ساعة ولادتي، تلك الفراشة التي أعتبرها أستاذة لأوسكار.
وفي ذلك الأمر في الأول من سبتمبر، كانت الشمس تقف في برج العذراء، فقدمت الرعود والأعاصير الصيفية المتأخرة من بعيد، واهتزت لها الصناديق والدواليب في الدار طوال الليل، لقد جعلني عطارد أتمتع ببصيرة نقدية مرهفة وجعلني الكوكب السابع أتمتع بسرعة الخاطرة، ووهبني كوكب الزهرة نعمة الاقتناع بالسعادة الصغيرة،ودفعني المريخ الى التمسك بتفوقي والايمان بطموحي، ثم ارتفع برج الميزان في مواجهة الافق الشرقي، فصيرني حساسا، وحثني على المبالغة، وحل نبتون في مجال الكوكب العاشر، أي في برج منتصف العصر، فغرسني بين أرض المعجزة وخيبة الأمل. وكان زحل الذي وقف في مجال الكوكب الثالث قبالة المشترى هو الذي وضع أصلي ونسبي موضع الشك والتساؤل.
لكن من ذد الذي أرسل الفراشة وسمح لها، وللجلبة التي ولدتها الرعود والأعاصير ذات النكهة التعليمية، أن تصعدا في ذلك الصيف المتأخر من حدة الرغبة في اقتناء طبل الصفيح الذي وعدتني به أهي، تجعل من تلك الآلة المشتهاة شيئا ملموسا ومدركا وسهل الاستعمال ؟
وأثناء تظاهري بالصراخ وتصنعي لبراءة الطفل الرضيع الأزرق والأحمر الجلد، توصلت الى قرار مفاده أن أرفض اقتراح أبي المتعلق بمتجر بضاعة المستعمرات رفضا قاطعا وأن أتفحص في الوقت المناسب ربعين الرضا، الرغبة التي أفصحت عنها أمي والمتعلقة بعيد ميلادي الثالث.
والى جانب تلك التأملات النظرية المرتبطة بمستقبلي أصبحت متأكدا من أن أمي ومعها الأب ماتسرات لم يتمتعا بالعضو الجسدي اللازم لفهم احتياجاتي وقراراتي والقبول بها عند الضرورة. وهكذا ظل أوسكار راقدا تحت اللمبة دون أن يفهمه أحد، مستنتجا بأن الأمر سيبقى على تلك الحال خمسين أو ستين عاما، الى أن يحدث التماس الكهربائي الذي يقطع التيار الكهربائي عن مصدر النور، ولذلك السبب بالذات فقدت القابلية على الفرح والنشوة قبل أن تبدأ هذه الحياة تحت ضوء اللمبات، بيد أن الطبل الموعود هو الذي منعني من إعطاء فكرة العودة الى الوضع الجنيني الرأسي أهمية خاصة، فضلا عن أن القابلة فقد قطعت آنذاك حبل السرة، فلم يعد هناك في نهاية الأمر ما يمكن القيام به.
ترجمة: حسين الموزاني ( مترجم من العراق يقيم في المانيا)