عبد المنعم حسن محمد
كاتب وشاعر مالي
منذ غادرتُ النهر لم أعد. طفولتي بقيت في ذاكرة أمي، تكبر خيالًا في طريق توأمي الفلاح وهو يحرث الصباح والمساء أمام ناظريها، كان له نصيب المخاطَب، ولي نصيب الغائب من دعواتها، ولا شك أن مقدار حبها للغائب أوفر.. لم أعد.
قال لي رجل الغبار: لن تبرح أثري. فعلقت فيه نظرة حائرة، ثم طاردتُ بها غرابًا حلق فوق كومة من القمائم.
في سيكاسو، قريبًا من محطة الحافلات التي توغل بالبشر نحو الجنوب أو تعود بهم، نزلنا أحد البيوتات، حيث تعيش أسرة “دامبيلي”، زوجة وست بنات، الكبرى في السابعة عشرة والصغرى في الرابعة، وأربعة أولاد، الأكبر في الخامسة والعشرين والأصغر رضيع.
كان فناء البيت واسعًا، وأرضيته نظيفة مملسة بالأسمنت، في الواجهة غرفة كبيرة في سقفها مروحة، وبابها حديد مطلي بالأخضر، وفي يسار الفناء حمّام غير مسقوف، خارج جداره دهليز يُفضي إلى فناء آخر أصغر، على كتفه درج بدون درابزين يصعد إلى السطح. في هذا الحوش سطول للماء، طسوت كبيرة، خادمة تنحني لغسل الملابس، حبل معلق للنشر، أطفال عرايا، فتاتان تسحقان الدخن بمدقة خشبية، وفي آخر الفناء مطبخ من صفيح، تجلس فيه امرأة سمينة تهتم بقِدر على فحم. سأمرُّ بهم قبل أن أنعطف يمينا إلى دهليز آخر، فيه ست حجرات متقابلة، والسابعة في صدر الدهليز بابها مغلق، بينما بقية الأبواب مواربة، يطل منها بين الفينة والأخرى امرأة أو فتاة أو عجوز أو طفل أو طفلة.
حين دخلنا البيت كان الوقت ظُهرًا، فلم يكن ثم غير إناث وأطفال. رجل الغبار وقف طويلًا مع زوجة دامبيلي يسلّم، لم يعيروني أي اهتمام، حتى جلسنا في غرفة الفناء الكبير، واستلقى كل منا في ركن بصمت يقطعه رجل يدخل ويجلس، أو رجل ينهض ويخرج، وصوت أذان وصلوات على عجل.
مكثنا كذلك حتى غربت الشمس وجاء صاحب البيت، دامبيلي، ثوبه مخرق ومبقع، وصافحنا بيد حدّادٍ خشنة، في صوته بأس الحديد وصلابة المطارق، يرسل الجملة الواحدة بلهجتين ولغتين، فأفهم نصفها الغريب بنصفها المبذور في أذني ولساني. وحين يكون الكلام عني تستمر لغة واحدة، فأشعر أنني الموضوع إذا رأيت الوجوه.
ليلتي تلك كانت وحيدة بلا غبار..
في اليوم التالي، جاء رجل الغبار واستلم حزمة من المال، وودع دامبيلي، وبقيتُ.
مبارزات البعوض داخل أحواض مطحلبة، كوابيس إثر أحلام، أوقات أوهى من دأب العناكب في زوايا مظلمة… كاد يحول الحول إذ حملَتنا حافلةٌ أخرى، تتويجًا لخطط دامبيلي المتواطئة مع ذلك المُغبَرّ. كنا صبيةً راشدين، بل كنت الرجل الصغير الأوحد بين ثلاثين.. أربعين امرأةً، لا أفرق بين الصبيات والطفلات والكهلات، كيف وقد حمَلَت فتاةٌ صغيرةٌ على ظهرها رضيعًا، بجانب كبيرةٍ فعلت كذلك؟! ترتجف بنا قسوة الطريق المعبد دون عناية، أشجار تحف جانبي الأسفلت، تقف مبهوتةً؛ حِدادا على الملايين من سلالتها التي ذهبت قرابين لهذا الدرب الطويل الذي تجلده قافلتنا، هنا شعوب الصنوبر، يفصل بينها رهط باوباب، ضخامة جذوع لا نهائية، غابات متناسقة لا تكف عن الامتداد ملء البصر وأبعد، تحكي عن تبذير الطبيعة وعطاءاتها المحيرة التي لا تكترث للطفيليات البشرية الصغيرة، والمتناثرة في الضفاف، رغم انهماك نفر من الناس في طقس حميم، يعكفون على تنظيف محاصيل القطن وتخليص زهراته من البذور الملتحمة بها، مستعملين أياديهم محالجَ أو خطاطيف تعمل بصبر ودقة لإعداد الغمام الأبيض، وفي نفس الوقت تحرص على عدم إتلاف البذور ليتم غرس بعضها من جديد، وإنتاج الزيت والطحين من بعضها الآخر، لعل المأمور بسر القطن يكترث للتلال البيضاء الممهورة بمئات الساعات من عرق الرجال، المتكومة على شاطئ الغابة التي يمضي خلالها الطريق، ربما عينٌ إلهية تنظر إلى نسوة ثلاث، يغبن بين جماعات الصنوبر، وفوق رؤوسهن أشياء داخل قصعات خشبية مجوفة، ساحباتٍ وراءهن الظلال.
كنت في مكاني داخل الحافلة، ملمومًا بين قرينتين إحداهما تغني جملةً رتيبة، والثانية تنتظر برهةً لا أنظر فيها إليها لتريح عينيها على وجهي، إنها امرأة أعرفها، وحولنا الرؤوس تقلقل فلا يساورك أدنى شك في أن الوصول مرهون بحركة هذه الرؤوس.
نسيت أن أحدثك عما جرى قبل خروجي من بيت دامبيلي، الزمن بعيد أكثر مما يسمح بالتذكر الصافي، إلا أن ملامح آجارا لم تتبدل في مرآة الاستدعاء، منذ جاءت عروسًا بعينين جافلتين وخجل وقور، زفتها نسوةٌ في نفس اليوم الذي وصلَت فيه من غانا حيث تعيش أسرتها المهاجرة مع كثيرين هاجروا من قرى غاوو وبورم، من تكامبا، غري غونغو، شوي تيمبيدي، فِيا، جدسو، شيرو باريا… منذ أكثر من قرنين، كالطيور الحرة الضاربة في سماء الله بحثا عن موسم أفضل. كانت غانا ساحل الذهب، أيسر في المعيشة، اعتادتها القوافل منذ أزمنة الإمبراطورية، ولا تزال كذلك، تغذيها ثمرات المحيط الأطلسي، وطلح الغابة، ويسقيها مطر الاستواء حد الفيضان، فيغدو الرجال مكتملين صلابا، والفتياتُ مكتنزات حياةً واستدارة.
من هناك زُفت آجارا، ذات ستة عشر مطرًا، واستقبلها دامبيلي أمام الباب ذاهلًا عن أبنائه وبناته وأُمهم، صلعته تعكس ضوء الشمس اللاهب في ربيع سيكاسو، إذ لم يكن يعتمر قلنسوة آنذاك، عيناه كرات مغناطيس تتدحرج اشتهاءً في زئبق أحمر، لا يقوى على شكم ابتسامة تفضح نابين علويين بقيا بعد اختفاء أسنانه الأمامية كلها، كأنه أسد عجوز بوغت بغزالة مستسلمة، لذلك حين مد يده للمصافحة ترددت آجارا ورفت عيناها الواسعتان شديدتا البياض والسواد، وعضت على شفتها اللمياء بِرِقَّةٍ وجِلة، ثم أقدمت تصافح، وانحنت بنصف جثو كما تفعل لتحيي والدها، هذا اليوم لم يكن دامبيلي يبدو مثل حدّاد، رغم وقوفه بسعادة أمام الباب الحديدي الذي صنعه، غير أن أحدًا لن يظن أنه هو من صنعه بيديه اللتين جذب إحداهما للتو من يد آجارا، أما صوته فلم يملك غير أن يبقيه خشنًا يحتوي الحيَّز كله، ويذوب في لغط الاحتفال مثل زبدة الشيا في قدور الوليمة.
بعد أن هبط الليل، لم يبق غير المدّاحين يتأهبون للانصراف حين يحملون بقايا الأرز الأبيض والـ “فكو هوي”، وما أعده البيت للوليمة، إنهم لا يكفون يسوقون عجيب الكلام ممزوجًا بالدعاء لدامبيلي وأقرانه في الرتبة، فتمتلئ جيوبهم بالفرانكات بمقدار ما تمتلئ الآذان بسحر إطرائهم، كأنهم يتعمدون إثقال وقت المشتاق ما لم يثقل طمعهم.
وإذ تيقن دامبيلي أن الغرفة الجديدة جاهزة، ألقى تحية المساء على أم العيال باقتضاب، وأقفل الباب الحديدي، وخطا خطوات لهفى عبر الدهليز، نبضه ساخن يضرب في قفاه، تكاد تفر شرايينه من جلده، يمشي وركبتاه طافحتان بزيت السمن وخلاصة لحم البقر، وظهره مشدود بعطاء الملوخية تترجم حلكة رغبته، يتخيل في المسافة العروس راقدة بجلباب أبيض تنتظره بشغفٍ، لا يقل عن الشغف المتكاثف في كيانه آن امتطائه ذروة صدرها. قَطع خيالَه مرأى قدرٍ مفتوح فأزاح السلال وبقايا الفحم وغطاه بصحن، وأبعده عن طريقه بين الدهليز والفناء، وأكمل مشيه وانعطف إلى الحجرات، كان المكان هادئًا والأبواب مغلقة على الأبناء والبنات، لكن ما جلب له الطمأنينة الكاملة هو باب واحد، الزوجة، لن يضطر إلى الوقوف أمامه هذه الليلة منذ سنين كثيرة، بل سيجتازه إلى الباب الجديد، باب الذهب.
“لا تكسري حجاب الستر بالصراخ أيتها البقرة” آجارا منجم ذهب عصي عن التنقيب، ودامبيلي مزق جميع الأقمشة، وأقعى على ركبتيه يحاول جر معصم البنت، وهذه تزفر وترفس وتهمهم بغيظ: “ماذا تريد، اتركني.. اتركني، سأصرخ”. مزاج الخلوات تلك يشعل نيران اللعائن، لا يطفئها انكسار زير الفخار المملوء، غَيظ أُضرِم في حطب رجل يريد ويستطيع ثم لا ينال. مرت أيام دون أن تُحَل عُقدَة.
لاحِقًا، كنتُ في الحمام أضغط وأقاوم الزحار، نسيت الألم الذي يبرق أسفل في الدائرة، والعرق والذباب، إذ زعزع سكونَ ما قبل الشروق زعيقٌ حديدي لرجل، دوَّى بغتة في أرجاء البيت، لن تشك في أنه صوت مجنون يعاني. انتشر في الدار الخبر منقوصًا، إنه صوت دامبيلي، الرجل ذاته الذي سيأمرني بعد أسبوع بالاستعداد، ثم يصطحبني إلى محطة الحافلات، في سيره أمامي كان يجذب بطنه إلى الوراء، ويتنهد من ألم مكتوم، مباعدًا بين رجليه.
اختفت آجارا كأنها تبخرت، ولو كانت المدينة أكبر شبرين مما هي عليه لاستراح دامبيلي يائسا؛ غير أن سيكاسو كلها مرسومة في باطن كفه. بحث في كل مكان، وجنَّد كثيرين من معارفه، وبذل من المال ما يستطيع أن يحصل بنصفه على عشرين آجارا أجمل وأكثر وفاء من هذه الهاربة، لكنّ المسألة متعلقة بكرامة لا يجب أن تُضام وسط قوم سوف يلوكون سمعته دهرا ويطيرون فرحا بالعار. دامبيلي الذي يوم زفوا إليه آجارا اشتعلت الأغاني في الحي، وصاح المدَّاحون ملء حناجرهم يُشيدون بحظه الأثير، ويصبون الزيت في نيران حُسّاده الذين كان يَرِده عنهم كثير من القيل والقال، كان مهما حاول ألاّ يلتفت إلى الادعاءات لا يستطيع أن يتمالك حِلمه عن أحد أقارب زوجته الأولى، إذ كان هذا يسعى بين المجالس بمثالبه، ويكرر جملة واحدة: “يشتري ملذات فرْجه بأموال الحج”. كان دامبيلي واسع العلاقات، وكانت صِلاته الكثيرة بالتجار دفعت أحدهم إلى منحه مبلغا من المال والربط بينه وبين رجل يأخذ الناس للحج بعد أن ينجز لهم جميع الإجراءات ويضمن لهم العودة إلى ديارهم سالمين، لكن دامبيلي لم يحج؛ بل أنفق المال في الزواج، وها هو يجني الشوك من الشوك كما يعقب صهره برصانة الحكيم الحاسد.
“وجدوها وهي الآن في بيت الإمام”
“كراموغو؟ لا غيره”
“أجل، وهي بخير، لولا أن ملابسها تمزقت”
“خذ، أعط هذا المبلغ للإمام، ولا تخبره أني عرفت بوجودها عنده”
“حاضر يا أبي”
“أعطه المبلغ ولا تأت له بسيرة البنت، هل فهمت”
“فهمت أبي، فهمت”
عدَّ “باكينا” -الابن الأكبر لدامبيلي- النقود ودسها في جيبه ثم خرج مغتبطا. هذه هي المرة الثالثة بعد هروب آجارا التي يتكسب فيها من الحادثة، أحيانا يعود من خداع والده بخيبة، حين يخونه الأسلوب في إقناعه ببذل المال، وأحيانا يفوز. قبل أيام زعم لوالده أن أحد أصحابه رآها تعمل في بيت جدته في منطقة بعيدة، فأعطاه ثمن التاكسي، لكنه عاد في الليل وزعم أنها هربت فور إحساسها بقدومه، ومرة قال إنها في قبضة الشرطة وعنده صديقٌ والدُه ضابط يستطيع إخراجها وجلبها إلى البيت إذا دفعوا إليه المال، أما هذه المرة فقد اهتدى إلى حيلة جديدة لاستغلال دامبيلي، كان الإمام شاهدا على تلقي دامبيلي المال من ذلك التاجر، وهو الذي بارك ودعا للتاجر بالخير وزيّن له فعلته بذكر آيات الثواب الذي سيناله كاملا، وأن أجر الحج لن يكون لدامبيلي وحده؛ بل سيحصل التاجر على أضعافه، ثم أسدى نصائح وإرشادات طويلة لدامبيلي، وعلمه مناسك الحج وأوصاه كما كان يوصي الرسول أصحابه، لكن دامبيلي لم يحج وصار يتهرب من ملاقاة الإمام، كان ابنه يعرف أنه لن يجرؤ على ملاقاته، فأتاه بهذه الحيلة بعد حيل عديدة. ويوم اكتشف دامبيلي كذِب ابنه لم يرغب في بقائه معه في البيت، لم يطرده؛ وإنما ضرب له بسهمٍ في نفس المصير الذي رسمه للطالب، وذكر اسمه للملثم بالغبار، وهذا هز رأسه وشد على يد سيده.
لم يشأ دامبيلي أن يتدخل رجل الغبار في شأن آجارا، ولكن الرجل طمأنه دون أن يدري أنه بذلك قد غمسه في زيت حار: “سنجدها”.