لهفي عليك وأنت مشتعل
في الليل خلف الساتر الرمل
هل كان ينبض دونك الأمل
أم كان يخفق فتنأى الخيل
هكذا تفسح قصيدة سعدي يوسف لحضورها البهائي.. بتصاف غنائي بكر دون مواراة لفضائحيتها المتخلفة لسحرية ناصعة يشكلها سعدي يوسف بغنائية عالية الوهج وبتخيلية شعرية وضاءة عبر فنية ثرية الفضاءات بليغة بتحويل مفردات الواقع الى عالم مدهش.. وسعدي يوسف بارع بتسخير اليومي والتفصيلي واحالته الى غرائبية مبهرة – قلما يدخل القارىء قصيدة سعدي يوسف ولا يتوارى في ظلال حروفها ألوانا مائية.. ولا يقل القلب او يخف سؤالا شائكا فيستبق الذاكرة المحفورة في أرض القصيدة قافية، ولا تترجمه أصقاع الجرح بنفسجا شاكا أو تفاحة مرا.. اندمالا للروح في مسافات تفضح اتساع خوائها المحموم بالاسئلة، ترى كيف يفيء سعدي يوسف احتضاره بأغنية تجرح الروح التفاتاتها، والقلب لم ينهض بعد من خريفه الكابوسي، كيف وما زال يرمي الوردة على الزجاج ويدعي انه تخفى بما ليس يشبهه، فرأى نوافذ المقاهي تتداعى بين يديه اندلسا ثاكلة، ترى اكلما احمر القلب فيه وجعا، صرخ هذا وردي وليس شرارة
احتراقي وراح يهمي القصيدة بأصابع تحترق:
(إن شئت مزق صدرنا
لن ترى الا السني
والمنى.. والمواطنا).(1)
ربما لأنه بقي حيا، ونحن نائمون، ربما لانه رأى منازل القلب بين الظلال أقسى بحرا، اشد وردا، ذلك لان سعدي يوسف ليس نبيا، ان شقي -اعاد قلب الوحش: حمامة بيضاء- وليس مسيحا ينشىء من حبة العرق "فراتا" او "نياد" ليطلق القلب نورسا، يستعيد امومته ما بين النهرين قليلا، من القلب، ويمكننا تحديد ملامح سعدي يوسف، يمكننا التظلل بأفياء النخيل في تجاعيد وجهه، يمكننا لملمة رمل الصحراء العربية من كفيه، يمكننا تضييق المنافي بخاتمة القصيدة تردد تراجيديا الحلم المتعددة لمعات الجرح، او ترتل دراما التيه، فان كان سعدي يوسف متشظيا، كحركية لهذه الدراما او نشيد لتلك التراجيديا فهو غير متلاش او مستهلك بفجائعية الواقع، لا استعلاء منجزا، باستيهامه، بل لتحصنه برؤية شعرية استسرارية تجترع الامل بمناهضتها اتضاع الموت، فاضعف الايمان ظل أخضر:
وعلى الرغم من ادراك سعدي يوسف ان الشعر يعني ممارسة الشهادة ابدا.. وان لتنشئة اية وردة في الصحراء يلزم ربيعا من الموت كان سعدي يوسف مفعما بموته اليومي ومواردة هذا النبع الشعري الذي يسر له: اكتب قصيدة ومت قرب وردتك
(لي وردة في الروح
كم غنيتها حتى غدوت مغني الطرقات
لكن الاغاني سوف تبقى في يديك).(3)
فعلى الرغم من انتظام سعدي يوسف في مسلكية ايديولوجية ذات مرتكزات فلسفية نافرة العقلانية فانه بقي مصابا لقلبه غير قاطع حبال الوصل مع فيض الذات، والتقاء سعدي يوسف بذاته يعني مواجهة انسلاخ الوردة عن عطرها.. يعني مناهضة كابوسية الخواء واندمال شفة الحلم.. وانفساخ الروح وانتكاسها الى قحل التجريد، ابدا يكابد موت العشاق والتغني باحتراق جزء من دمه كي يبقى على موعد مع ابتسار سر التجوف المتسرطن في ايقاع حركية العالم المقتحم انتحاره. فسعدي يوسف متصالح مع ذاته بإغراق منبثق من ضمائرها اللامرئية، الذاهل بإلماعها وبهاء حزنها اليسوعي الذي يصير الشاعر نايا يتنهد ذاته وجعا عراقيا مقدسا يتأرثه روحه ليبقيا متساكنين بلعنة ميتافيزيقية شرقية:
(لكن سعدي لن يمو
في الرمل.. في شيزار.. من أجل الشهادة
متمسكا بالصخر
يحصي اللانهاية في النهاية). (4)
(للبحر انت تعود مرتبكا
والعمر تنشره وتطويه
ولوكنت تعرف كل ما فيه
لمشيت فوق مياهه ملكا). (5)
وليست هذه المسا كنة التأملية ومعانقة اوجاع الذات في الشاهد الثاني قهقرى – كما نستدل من الشاهد الذي يسبقه -فسعدي يوسف ادري باعثي عي حد السكين وارتشاف الياسمين، مما تساقط من دمه غير أنها ملاقاة الروح، فهو شاعر مهما تكن مسلكيته الايديولوجية فحنين سعدي يوسف فضفاض علي بكاءات الروح مهما اتسعت، اذ طالما ارهقته المنافي والاغتراب علي وجهيه:
(سلاما أيها الحي الذي لم نغترب فيه
ولم نطعم مآكله، ولم نترك مقاهيه
سلاما أيها الإعمى المغني قصة التيه ). (6)
ومهما ترامت اطراف المنافي يبقى بوسعه ان تحدد تضاريسها في ملامح سعدي يوسف وتشاركه في صياغة دراما الانسان لتشارن روحه حساسية دمعتها الى جعة غربة واغترابا:
(يا ولدي قل لهم انني اعرف الدرب
اخبر همو بالذي اتذكر
بيتي على النهر لاشك
بيتي به نخله
هل تذكرته
هل تذكرتني
فلتلعني بني ).(7)
حدود الهوية وآفاق الابداع
لا تخلو القراءة في جدلية الهوية والابداع في شعر سعدي يوسف من المأزق المحرجة فالبرغم من ميل الشاعر الى الاستواء الشعري بوحي ايديولوجي وبالرغم من علو الرطانة السياسية والشعاراتية لكك الايديولوجية فان سعدي يوسف ظل امينا لماهية وجوهرية الانشغال الشعري والمرتكزات الفلسفية لتوجهه الفكري. غير انه يبقى المنظور الذي يعاين به مفهوم الشعرية واداءاتها الفنية والاجتماعية، ومسؤوليته كشاعر تجاه فنه وتجربته تحد من الانصياع للقولبة او ترجيع هذه المؤسسات الفكرية لرؤيته بشكل لا يحيل فنه الى ذريعة لتسويغ تلك الفلسفة، فهو بإخلاصه الجلد لكتابته يصر على إلا تخسر الهوية ذاتيتها بالانفلاق، لان الهوية الشعرية قبل كل شيء هي الانفتاح والاختراق والقلق الدائم في البحث والتجديد لا الانهمام المرتجل تراضيا مع المنطلقات النظرية لايديولوجيته، لان الشاعر يدرك ان مثل هذا الانهمام المجاني يفضي الى غياب الرؤيا الشعرية الكلية:
(هل كان على عينيك ان تنتظر كل الذي يأتي
وهل كان على عينيك ألا تغمضا
لا.. لاتقل شيئا
ودع للغيم ان يهبط في كفك
دع للغيم ان يأوي
كما يإ أبى ي النعاس )(8)
فليست مآلات الخطاب الشعري الى الحقيقة هي الاحتباس بسنن تلك الايديولوجية، اذ انه من (العبث الاعتقاد بأن الحقيقة تكمن -بلا مجال للمنازعة -في اللعبة التلقائية للتواصل، ان مهمة قول الحقيقة عمل لا نهائي يمثل امبترامها في تعقيداتها، ضرورة لا يمكن لأي سلطة ان تقتصد فيها الا اذا تم فرض الصمت عن طريق الاخضاع )(9):
(انها الارض تدفعني-من عروقي لابلغ
اعلى السياج
وهي الشمس
تختار طاولة ثم تجلسني كي تقدم لي كأسها طافحا بالهياج
)
كيف امسك نفسي اذن
انها الارض والشمس والريح
ترفعني هكذا نحو أعلى السياج ).(10)
فالإخضاع ليس الا استلاها للشعرية وسادسة مأتمية لانكماشها، لان الهوية هي الشخصية الشعرية، ومتى تيتمت لغير الاذلجة أحيلت علي المعاش وتنحت عن حيويتها وعونيتها، وباتت خصوصية التجربة عموميتها، فلا يمكن للشعرية ان تؤسر في اهاو عقائدي او جغرافي او حتى ذاتي محض – لان الهوية انفتاح ومعيار للقيمة الابداعية وتصوراتها وامكانيتها وادواتها التي تؤسسها، فلا إبداع خارج الهوية ولا هوية خارج الابداع. والابداع بطبعه اختراق وتجاوز، وهو بهذا متجدد ومتطور،وبتجدده وتطوره يطور الهوية وكلما زاد( 0) الابداع نمت الهوية وقويت وزاد عطاؤها(11) فالعلاقة جدلية بين الهوية والابداع، ولذلك تبقى الهوية أفق فماء لا تقييد.
بلاشك (هناك التجديد العقائدي والاجتماعي والجغرافي والبنيوي والذاتي ولكنها تحديدات متداخلة ومتفاعلة ذات تأثيرات متبادلة وقد يغلب ويتميز واحد منها على بقيتها، ويسود في ظروف تاريخية ولحظات اجتماعية معينة، دون ان يعني هذا الغاء التداخل والتفاعل والتأثير المتبادل )
(12) وسعدي يوسف غير خلي تماما من ورطة الحماس للايديولوجية حتى التقمص والامتلاء بنفور شعاراتها:
(هل تبقى من لحج
غير رفيق المدرسة الحزينة
واشجار الباباي)(13)
….
(انظروا الى الصحف والمجلات
انظروا الى البيان السياسي
لهذه الحركة او تلك..)(14)
مما يحيل الشعرية الى نواحة تندب موتها، لذلك يجهد الشاعر دوما للنزوح عن هذه المأزق عبر التواطؤ الشعري بالتراضي مع الذاتي لنفي او تقليص الفجاجة الايديولوجية.. فهو كثيرا ما يكون
على ضفة أخرى لمقولة الثنائية العدائية بين الانا / الهوية والهو/ المغاير، اللهم الا في العدائية للاستعمار والظلم وهو بمثابة انكار، ومثل هذا الانكار ليس الا انتصار المتخيل على الآخر، لتحقيق الانا بالتساوق مع الحركة الحضارية لا بالانعزال عنها استعلاء قوميا، او ضغينة حضارية تؤدي الى عماه مطلق ازاء الآخر:
زحفت تشحذ للثورة حد المقصلة
فاصر خلوا بالقتلة..)(15)
( انا نطلب من أعماقكم صيحة حب
ورصاصة)..(16)
….
لكننا لن نترك هؤلاء الاعداء
المتحكمين يطمئنون)(17)
وهذا الانكار في خطاب سعدي يوسف ليس مجرد سياق نفسي بسيط بل هو طاقة جماعية مصممة داخل عنفها النازع الى ابعاد الاخر الى انكاره. وذلك احتراز في صيانة الانا خشية الغائها من هذا الآخر. وهذه حقانية انسانية، والنزعة الانسانية لدى سعدي يوسف جوهرية في خطابه الشعري وهي تشاق انساني، وبالتالي شعري اكثر منها اجتلابا او تذييلا وذلك تأكيد لانكار مضاد اي انكار النرجسية والتالية للأنا الذي يعكرحلمها بوجوديتها الانسانية، واجتنابا لمأزق النرجسية وتخلعها الانساني وما يلحق من المهانة بالشعر، فالنرجسي لا يحب (من المرأيا غير تلك المفردة العازلة، التي تعكس له صورته وحده ولا تذكره بوشائج او روابط 0
تنشز انغام طقوس العبادة التي يقيمها لذاته )(19)
(فتحنا قلبنا
لجميع الناس حتى عادت الارض لنا
وردة من دمنا)(20)
وهذا الانفتاح الوجداني على الافق الانساني العام هو هاجس ناري في شعر سعدي يوسف لان العبادة النرجسية ليست الا عبودية مجانية لا تصكك حتى نشازها خارج ايقاع الكون وحركيته لذا يبقى سعدي يوسف غاية في الموضوعية وثراء الافق الانساني والمشاركة في اشعاعه:
(نحن لن نمسك بهذا الكون من قرينه
لم نجلقه من تفصيل صورنا
وصخرتنا
ولكننا اتينا مثلها تأتي العناصر
ولننجرف في الكون)(21)
ولا بد من الالتفات هنا الى حقيقة ان تسويغ ما اسلفنا به لا يتأكد عبر ما سقناه، فهو ليس الا مقدمات مبتورة نسعي الى استجلائها عبر قراءة الثنائيات التي تشكل نسغ تجربته والتي من خلالها يمكن تقص مصداقية جدلية الهوية والابداع عند سعدي يوسف وهي لاحقة ان شاء الله.
الهوامش:
1 – سعدي يوسف الاعمال الشعرية – دار الفارابي بيروت 1979 ص 472.
2- سعدي يوسف ديوان – مريم تأتي – ط3 دار الحوار للنشر – سوريا1983 ص33
3- سعدي يوسف ديوان – خذ وردة الثلج خذ القيروانية ط 1 دار الكلمة للنشر – بيروت 1987 ص 7.
4 – سعدي يوسف مجلة الشعر عدد (2) – ابريل ا 198 ص 148.
5 – سعدي يوسف ديوان يوميات الجنوب يوميات الجنون ط 1 دار ابن رشد – بيروت 1981 ص 53.
6- سعدي يوسف – الاعمال الشعرية ص 337.
7- سعدي يوسف – خذ وردة الثلج.. ص 05 1 – 06 ا.
8- سعدي يوسف – ثلاث قصائد – مجلة لوتس. عدد 71 ربيع 1990 ص 88.
9- فوكو – الانهمام بالحقيقة – حوار فرا نسوا اوالد – مجلة كتابات معاصرة المجلد السادس – عدد ا 2 ايار حزيران 1994 ص 97.
10 – سعدي يوسف ديوان خذ وردة الثلج.. ص 86.
11- د. محيى الدين صابر – حول الابداع والهوية القومية مجلة الوحدة – السنة الخامسة عدد 58/ 59 يوليو / اغسطس 6989 ص27.
12 – محمود امين العالم – الابداع والخصوصية المرجع السابق ص 62.
13 – سعدي يوسف – ديوان يوميات الجنوب.. ص 35.
14 – سعدي يوسف يوميات المنفى الاخير دار الهمذاني ص 37.
15 – سعدي يوسف الاعمال الشعرية ص 445.
16 – سعدي يوسف الاعمال الشعرية ص 463.
17 – سعدي يوسف يوميات المنفى الاخير ص 66.
18- عبد الكبير الخطيبي – ما وراء الصدمة مجلة الكرمل العدد 13 – 1984ص ا 0 1.
19 – انسي الحاج – الحياة ممنوعة بحجة الموت مجلة الناقد – السنة الثالثة – العدد 20 ديسمبر 0 199 ص 14.
0 2- سعدي يوسف الاعمال الشعرية ص 473.
26- سعدي يوسف ديوان خذ وردة الثلج ص 27.
خالد زغريت (كاتب من سوريا)