هششت ودعوته بحنو، صداقتنا تكبر وجلستنا قاربت معرفة الاسبوع، تلفت باهتمام، واستطال عنقه فى حركة دؤوب باحثا عن الجرسون، أراح عينيه حول سور المقهى المطل على الساحة في فوضى منتظمة من اطراف حجارة اجتاحته شجيرات عصية نزقة بين مسافة وأخرى، بجذوع يتشقق عنها بلاط اسمنتي يبرك فوق الأرض التي تلمها ويكسوها.
لمعت عيونه، وقلقت – هكذا حالها منذ بداية الاسبوع – كأنها تود ان تمتلك حرف عطف على المستقبل، ثم استقرت.. كأنها استقرت مرغمة على رهط من الغزالات..
لم ننتبه جيدا لموقع المركبة الفضائية التي هطلن منها ولا لشكها.. غزالات وحور بالجينز.
غلام صغير منثور وسطهن يداعبهن بأوراق في يده وتسقط اصابعهن، وضحكاتهن على شعره.
يليق الجينز بالحور والغزلان، تمتم بصوت عال، ولم ينتبه لي، الغلام الصغير يقطع الردهات الرخوة بين الطاولات يتلطف، وينادي. بصوت وارف كأن شيئا وراءه يتلصص على رجفة الروح.
تقصدت ان أتبع حركته متغافلا عن صديقي الذي مشط كآبته الطيبة، واقسم ان يدعوني على الشاي لحفاوتي به في الايام السابقة.
في المقاهي تنمو صداقات عابرة، تقتسم حزن الشاي والسحن، الغلام يدور دورته ويقترب، يحرك الاوراق امام ناظرينا، ووشيش عبث أصابعه الطفولية يطغى أغصان الشجر الذي انفلت من قيظ اغسطس، وهزه هواء سبتمبر، بينما غزالات الجينز، يعبرن شقراوات وسمراوات في فيض لا ينتهي.
لم نستطع ان نسأل عن موقع المركبة الفضائية، هم الغلام بالابتعاد، فدس صاحبنا يده في جيبه ثم سحبها بسرعة، كأنه تحاشى ان تلتقي نظراتنا،.. رشفه، ثم كأنني باغتته.. لماذا لا يلوح بالخيال ان بين الحور سمراوات:؟
ابتله كآبة وجهه الطيبة، وأطلق بئر نفط من فمه، سمراوات او شقراوات، اعرف انني لن احظي بواحدة منهن – قالها بحزم – وانتظر دوري في الجنة، واللاتي يرسلن افخاذهن يختصرن روحي في الأزرق الضيق،
راتبي بالكاد يكفي شركة الاكل الجماعي في الاسرة، والماء والقهوة، ولن اعطي دروسا خصوصية، هل تصدق أنني اشعر بالكذب عندما أقول للأولاد ان اجمل ما في الموناليزا ابتسامتها..
الغلام الصغير الا تعرف اين ذهب؟ قالها للجرسون بتثاؤب، وأنت لماذا لا تتزوج؟
يبدو ان قميصي المهندم، وعزومتي له طوال اسبوع يشيان بيسري، ربما لا يدرك لمروره العابر أنني أجلس هنا طويلا.. تبدو مثلي قاربت السابعة والثلاثين.
قشرت الضباب عن بشرته السمراء، وذقنه الداكنة. مومياء حلم، وغزالة ميتة، وسبعة وثلاثون، نعم، تبدو أصغر من ذلك، ربما بدقيقة واحدة او اكثر
تهكمت ذقنه.. تبدو أصغر من ذلك. وأنا أيضا سبعة وثلاثون حبلى، ومثلهن حورا،
وقفت على شواطئهن.. دائما يعبرن امامي، ويعبرنني،
قال في جدية المهزوم.. لا تشغل بالك بهن بعد الآن، العمر قصير، ثم أنك ميسور أكثر مني، وقد.. لم استطع ان اصدقه رغم طفه كآبته الطيبة، التي سقطت في حجري،
تحسست وجهي،
نعم تكاد تبلغ السابعة والثلاثين،
.. سبعة وثلاثون نداء للجرسون كي يدفع الحساب، وسبع وثلاثون غزالة أمام عيوني،
والغلام الصغير يقطع الردهة، ويستقر على طاولتنا.
كلانا نظر للآخر، رفع يده في خشية، نظر الي طويلا، مدها في جيبه، ونظرته أيضا في جيبي، اشتعلت عينانا، دسست يده في قميص المهندم، نظراتنا تتعلق في الهواء،
وعيني على الحور، اصطدم وشيش الورقة التي أخرجها بخرفشة ورقتي،
بسط الغلام أوراقه.. نتيجة سحب اليانصيب، بدأنا في المراجعة بخجل متوار، طارت ورقتانا بفعل هسيس سبتمبر، هرع الغلام ولم يعد، ضحكنا عاليا.
في اليوم التالي، قال الغلام ان الورقتين استقرتا على حوريتين احداهما سمراء والاخرى شقراء.
اشترينا اوراقا أخرى، وسألنا الغلام عن المركبة.
وحيد الطويلة (قاص من مصر)