كانت عزيزة راشد قبل بضع سنوات طالبة متميزة في جامعة قطر، وكان لها حضور خاص في أوساط الحركة الطلابية وكذلك في مقرّات أعضاء هيئة التدريس في كلية الآداب، ولا سيما في قسم اللغة العربية الذي لم يكن أصلاً القسم الذي تنتمي إليه في دراستها. إذ ربما كانت تراه أقرب إلى اهتماماتها من أي قسم آخر.
وكانت تتابع مقالاتي في الصحف والمجلات وتناقشني في كثير من المسائل الفكرية والتربوية. وترتب على ذلك مشروع لها كبير في محاورتي من خلال أسئلة تلسكوبية لا ترحم، إذ تبحث عما وراء السطور. وقد دفعتني إلى ما يشبه الاعترافات في أسئلتها الذكية (استعمل الكلمة هنا بمدلولها المعلوماتي)، وتركت لي مجال الاستفاضة في الأجوبة….
وكانت الأسئلة مطولة -كما سوف يرى القارئ- ولم يكن وقتي المكتظ يسمح بالتفرغ للإجابة، فدأبت على احتضان (دفتر الأسئلة) في أسفاري لعل الزمن يسعف. وبالفعل كانت الوقفة الطويلة في المطارات ولا سيما مطار هيثرو-لندن- فرصة للتفرغ للإجابة. ويجد القارئ إشارات في الإجابات إلى شرفة المطار حيث كانت أحسن ملهم للتذكر.
أسجل شكري للتلسكوب العماني عزيزة، لأن هذه المساءلة تصلح نواة لسيرة ذاتية حافلة بالترحال والمفاجآت والوقائع.
حسام الخطيب
٭ المهد الأول حيث النشأة والتكوين فيه تنمو شخصية المبدع وتتطور خيالاته .. حدثنا د.حسام عن طور النشأة والطفولة والشباب؟
ولدت في مدينة طبرية بفلسطين بتاريخ 10/٥/1932، حيث مقر أخوالي آل الحاج خليل. وكان أبي الأستاذ أمين عبد الله الخطيب – رحمه الله – يذكرني دائماً أن أصل الأسرة من قرية المرصّص بقضاء بيسان حيث كان جدي الشيخ عبد الله محمد الخطيب أحد اثنين يتنافسان على زعامة القرية وربما المنطقة الضيقة من حولها. ولكني لم أعرف المرصّص إلا من خلال زيارات عابرة مع الأسرة خلال العطلة الصيفية. ومنذ ولادتي – وهذا هو سبب عزوفي عن التفاصيل – لم أعرف طعم الاستقرار، ففي طفولتي كنت موزع الانتماء بين العمومة والخؤولة، والحق أن طفولتي الأولى غير الواعية تماماً تركز على مدينة طبرية، ولكن دخلتُّ قرية المرصّص بعد ذلك جانبياً فقط. إلا أن المهم هو أن والدي كان مدرس لغة عربية وديانة في ثانوية طبرية، ولكن بسبب خلافات لا مجال لذكرها الآن حُكم عليه أن يصبح طوال حياته الوظيفية معلم قرية، وكان هذا التصنيف بين المدينة والقرية حادّاً في فلسطين، وما أظنُّ إلا أنه انتعش بتغذية من الاستعمار البريطاني آنذاك (1920-1948). وقد حدثني والداي، بل كانا يتندران بما لقيه والدي من عنت ومعارضة حين تقدم – وهو الفلاح ابن الفلاح – لخطبة ابنة المدينة، وهي من أسرة ذات مكانة، وكان من أبرز المعترضين شقيقها إسماعيل الحاج خليل (أبو عرب) ذو النفوذ الواسع، وكاد يبطل المشروع.
المهم أنه بسب انتقال والدي إلى القرى، وجدت نفسي أولا في قرية «حطِّين» ( قضاء طبرية). وفي حطِّين قضيت سنوات طفولتي الأولى، وكان أهلها فخورين جداً بالناصر صلاح الدين وانتصاره على الصليبيين في معركة حطين المعروفة. ثمّ استقر بنا المقام في قرية طيطبا التابعة لمدينة صفد، واستطيع أن أكتب سيناريو شريط سينمائي عن ذكريات طفولتي (من الصف الأول إلى الرابع الإبتدائي في مدرسة القرية التي كان أبي معلمها الوحيد)، ثم في مدرسة قرية «الجِش» القريبة من طيطبا حين ترفعت إلى الصف الخامس، وكان عليّ أن أداوم يومياً في تلك القرية قاطعاً الطريق كل يوم صباحاً ومساءً على الأقدام وفي ظروف مناخية قاسية جداً في فصل الشتاء.
وهكذا بدأ منوال عدم استقراري يدور دون هوادة، فبعد مساع ووساطات نُقل والدي إلى قرية «فراضية» وميزاتها أنها واقعة على الطريق العام بين حيفا وصفد، ولكن كنت حينذاك في الصف السادس، فأدخلت في منزل الطلبة التابع لثانوية صفد، وكانت تلك أولى تجاربي المرة في الحياة واحتفظ بذكريات سلبية عن تلك الفترة. وبعد سنة بقي أبي في «فراضية» وكان على الأسرة أن تنتقل إلى صفد، والأب يذهب صباحاً في الباص ويعود مساءً. وقد نعمت بأربع سنوات من الاستقرار في كنفِ الأسرة. وما كدت أنجز الصف التاسع (أيار – مايو 1948) حتى أتى اليهود الصهاينة واقتلعونا من البلدة، وغادرت مع أسرتي مشياً على الأقدام أولاً إلى جنوب لبنان ثم إلى دمشق، ومنذ ذلك الحين كُتب على جبيني العنوان الرئيسي لهويتي: «لاجئ فلسطيني»، حتى ساعة كتابة هذه السطور (١/٩/2003).
أذكر زمان الكتابة، لدلالته أن الفتى – رحم الله طه حسين – عاش لاجئاً متنقلاً منذ يفاعته، أي منذ أن بدأت مرحلة وعيه الحقيقي. أما مكان الكتابة فهو أيضاً ذو دلالة ولا سيما من ناحية تأكيد الفكرة التي تطرحها إجابة السؤال الحالي، وهي أن عدم الاستقرار هو عنوان حياة الفتى العتيق والرجل السابق والشيخ الحالي! فهذه الأسطر تكتب في مقهى شرفة كوستا Coffee Costa في مطار لندن. وهذه الشرفة مطلة على حركة الطائرات الرائحة والغادية، فكأنها أبلغ ( ديكور) لشعور الفتى الشيخ بالتنقل والرحيل، فهو مثلاً قادم من ديترويت في الولايات المتحدة وفي طريقه من لندن إلى دمشق، وبعدها مباشرة إلى الدوحة عاصمة قطر.
وعذراً لهذه القفزات، فهذا ليس تاريخاً وليس سيرة ذاتية، ولكنه عرض لقلق التنقل والترحال الذي لازم حياة الفتى ولا شك أنه ترك بصماته على شخصيته وإنتاجه الفكري والأدبي الذي يمكن اعتباره رحلة سندبادية في أجواء المعرفة والكتابة. فبين أول مقال لغوي متشدد كتبه الفتى بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن العشرين وبين مؤلفاته في أوائل القرن الحادي والعشرين التي تعالج مسائل الأدب والتكنولوجيا، والأدب المقارن من العالمية إلى العولمة، بين هاتين المحطتين هناك عملية ترحال وقفز وقلق وارتياد وارتجاع وتطلع، أشبه بأغنية الشيطان، إذ تبعد صاحبها عن حلاوة الاطمئنان وإلقاء العصا واستقرار النوى . وأين ذلك من قول الشاعر
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
آه. كم اشتاق لأن استلقي على ظهري وأعد النجوم في فضاء البادية، مدة مائة سنة على الأقل.
وعوداً على بدء السرد، لم تطل إقامة الأسرة في جنوب لبنان (بنت جبيل وجويّا). فقد أزف الترحال بعد أن وضعت أمي ابنتها الخامسة والاخيرة في بنت جبيل، ضمن ظروف اللجوء والاضطهاد والخوف، وفقدان ماء الشرب والاغتسال، ومع ذلك اسماها الوالد انتصار، رمزاً لأمل العودة، ولا أدري إذا كان قد سلمها فور ولادتها مفاتيح بيتنا المهجور في صفد.
المهم بعد شهور وفي أواخر صيف 1948، نقلتنا شاحنة إلى دمشق، وفي دمشق الحانية العربية الأصيلة، انتقل الفتى من مرحلة التكوين الجنيني إلى مرحلة التكوين الواقعي، ربما من البنية التحتية للتكوين إلى البنية الفوقية تدريجياً بالطبع. وفي سورية أنجز المرحلة الثانوية وخاضها بنجاح في سنة واحدة رغم اختلاف المنهج وشظف العيش في ظلِّ أسرة من سبعة أطفال وأبوين في غرفة واحدة لا تكاد تتسع للفراش الممدود على الأرض، وكان الفتى ينتظرهم حتى يناموا جميعاً، ثم يشعل ضوءاً خافتاً، أو كان ينام معهم ويستيقظ قبلهم لكتابة وظائف المدرسة. وهنا أيضاً بدأ التنقل التنازلي من غرفة معقولة إلى غرفة مقبولة ثم إلى غرفة الكهف مع انتهاء مخزون الأسرة من المال. وهذه المرحلة من التنقل المحدود لم تدُمْ أيضا. فبعد لأي وجهدٍ ورجاء ودعاء، وجد الوالد وظيفة معلم في قرية بصرى الشام بقضاء حوران. وهنا بدأت أيضاً صفحة جديدة من حياة الفتى فيها نور ورجاء. وكان قد نال شهادة الثانوية السورية (١٩٤٩)، وساعده أحد أساتذته في الثانوية للحصول على وظيفة معلم وكيل في بصرى الشام من قضاء درعا، أي ليعيش مع أسرته مدة سنة واحدة وليوفر مصروف دراسته الجامعية المقبلة في جامعة دمشق. ومنذ ذلك الحين كان يأتيه النور والدعم والرجاء من أساتذته النبلاء(١) الذين طوّقوا عنقه حتى بعد أن شبّ عن الطوق.
وبعد سنة (1950) انتقل الفتى إلى دمشق واستأجر غرفة متواضعة، ثم تنقل من غرفة حقيرةٍ إلى أخرى، وظروف كل واحدة أسوأ من الأخرى وكانت الأخيرة غرفةً مهجورة، في سطح بيت عربي قديم، تتلاعب به الرياح، وحين يتذكر الآن لا يصدق كيف كان يحفظ ويحضر الوظائف، ويؤمن الطعام لنفسه، وسط الجلبة والضوضاء وضيق الأنفاس. وفي السنة نفسها انتقلت الأسرة إلى مدينة درعا، وأصبحت أيام الفتى نهباً بين دمشق وهذه المدينة الصغيرة التي نبتت فيها بعض أهم صداقاته فيما بعد. وبعد انتهاء مرحلة التكوين (فوق السطح) والتخرج من الجامعة عمل الفتى مدرساً في درعا ثم في دمشق، وتنقل في وظائف كثيرة، ثم قصد كامبردج ونال فيها الدكتوراه ١٩٦٩، وعُيّن مدرساً في جامعة دمشق ثم انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأخذ يتنقل أسبوعياً بين دمشق وعمّان.
وكانت تلك تجربة فريدة من نوعها أثمرت كتابه: «في التجربة الثورية الفلسطينية» 1973، الذي ربما كان أول كتاب تحليلي – على بساطته – يتناول تجربة الثورة الفلسطينية من الداخل. أما الأعمال الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة فقد كانت تنطلق من مواقف الدعوة والتنظير الانتمائي التنظيمي.
ويطول الكلام في سرد تقلبات هذه الحياة التي لم تنعم أبداً بفترة استقرار ولكن كان قسم اللغة العربية بجامعة دمشق الذي تولى رئاسته طوال السبعينات والثمانينات هو الملاذ والملجأ الدافئ (وليس دائماً الهادئ!!) للفتى المشرّد بمختلف معاني الكلمة. ففي سبعينات القرن، انتقل إلى وظيفة معاون وزير التعليم العالي في دمشق إضافة إلى عمله في قسم اللغة العربية، وذاق لسعات العمل الإداري، وبعدها تسلم وكالة الأمانة العامة للاتحاد البرلماني العربي وشارك إيجابياً في بناء مقرّ الاتحاد في دمشق، وتابع نشاطاته البرلمانية في العواصم العربية والعالمية. وبعد سبع سنوات من العمل الدؤوب الذي كاد ينحرف به عن دروب الكتابة، عاد إلى المرفأ الحنون في قسم اللغة العربية، ثم وجد نفسه في جامعة إنديانا في الولايات المتحدة (تفرغ علمي مع منحة فولبرايت 1987-1988 وعاد بعدها ليستعد بعد بضعة أشهر لفترة جديدة من الاغتراب في اليمن أولا (1989 – 1993)، عميداً لكلية التربية ثم كلية الآداب التي أنشأها في مدينة تعز. وبعد ذلك انتقل إلى قطر (جامعة قطر 1993 – 2004) وهنا حاول الاستقرار في الدوحة وعزم على هجر النوى، ولكن (المكتوب) في الجبين لا بد أن تراه العين. في تلك الفترة قرأت له مصيره امرأتان موهوبتان: مارتين فيدو، قارئة الكف المشهورة في باريس، ثمّ هند هارون الشاعرة الإنسانية الوفية، والبارعة في قراءة الفنجان (رحمها الله)، كلتاهما قالتا: لا تطمح بالاستقرار. فخطوط كفك قصيرة ومتقاطعة، وخطوط فنجانك لا توصل إلى هدف. وفعلاً بعد خمس سنوات من الاستقرار في جامعة قطر، بدأت رحلة الصيف المنتظمة إلى الولايات المتحدة، ومازالت شبه قدرٍ محتوم…. وفي نهاية عام 2004 انتهى عمل الشيخ في جامعة قطر، وتلقفه المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث ليعمل خبيراً ثقافياً فيه وينشئ مركزاً للترجمة. وكم يتمنى لو تكون هذه النقلة غير المنتظرة خاتمة المطاف في مجال العمل. ألا يفسّر هذا التنقّل الدائم ما وراء الانتاج الفكري والادبي المتنوع للفتى الشيخ، الذي ضاقت أدراج مكتبه ورفوفه بأكوام الارتيادات إذ لا يكاد يبدأ بواحدة منها حتى تغويه أخرى، وليس له من خيار سوى أن يتمثل بقصيدة الأخطل الصغير
كفـاني يا قـلب ما تحملُ
أفي كل يوم هوىً أول
أيخلق منك جديد الجمال
فؤاداً من السـكر لا يعـقل
٭ ما الاتجاهات الأدبية الأولى التي اتجهت للبحث فيها والكتابة عنها في اول منهلك العلمي؟
منذ صغري كان هاجس الكتابة يلاحقني. لم احلم يوماً ما أن أكون طبيباً أو تاجراً أو حاكماً أو موظفاً كبيراً. وكانت أمي رحمها الله، تراني جاداً ومجداً ومنضبطاً، فتصرّ على أنني سأصبح (حاكماً للقدس). وكنت أريها مجلة «الرسالة» في ذلك الحين وأقول لها: كل أملي أن يظهر اسمي ورسمي على صفحات المجلة. فما كانت تسرُّ لذلك ولكن أيضا كانت تطمئن إلى حقي في اختيار ما يناسبني.
في ثانوية صفد، ومنذ أن كنت في الصف الثامن، اختارني مدير المدرسة أميناً للمكتبة. وكنت أسهم في احتفالات المدرسة بكلمات أو مقالات وكنت أشعر بالسرور حين يأتيني الأساتذة والطلاب ليستعيروا كتباً أو ليسألوا عن مرجع. وبعد إتمام الثانوية في دمشق نلت شهادة «الصحافة المصرية» بالمراسلة وكنت اكتب في نشرتها المتواضعة. وخلال دراستي الجامعية ملتُ إلى نظم الشعر، واقتنعت بعد عدة تجارب أن موهبتي تقع في قارة أخرى. وبعد ذلك نشرت عدة قصص قصيرة في «المعلم العربي» بدمشق، ثم في مجلة «المعرفة» بتشجيع من الرائد النبيل فؤاد الشايب. ولم أجد مبتغاي في القصة القصيرة. وحاولت كتابة الرواية فأفلت مني الزمام ودخلت من محاولة روائية إلى أخرى، ولذلك أتى كل ما كتبته من نقد بعد ذلك متعاطفاً مع مقدرة كتاب الرواية على «لف» شخصياتهم في لفافة ذات ألوان ومشارب شتى. وبذلك صدق ما كتبته عني الأدبية وداد سكاكيني ذات مرة بعد أن نشرتُ دراستي في «المعرفة» حول القصة النسائية في سورية وكانت الأولى من نوعها. قالت رحمها الله ( أو كما قالت!): «لم يستطع حسام الخطيب أن يكون شاعراً أو قاصاً فنصّب نفسه للنيّل من كل مبدع».
على أن الفتى، والى جانب كل هذه المحاولات، كان يركز على كتابة المقالة الفكرية والنقد الأدبي. وقد انصرف في البدء إلى نقد القصة منذ الستينات، واكتسب شهرته الأولى على هذا الأساس، مع تركيز خاص على التجربتين السورية والفلسطينية في القصة. ومن أطرف ما حدث في هذا المجال أن احد أساتذته الأجلاء التقى به في احد المؤتمرات بعد فُرقة عشر سنوات أو أكثر، فأقبل عليه الفتى متوقعاً كلمة طيبة من أستاذه ( الذي هو أيضا مؤلف كبير)، ولكن الأستاذ فاجأه بقوله أو كما قال: «خيّبت ظني يا حسام. كيف تضيع موهبتك في نقد القصص والحكايات وتترك الشعر». وحتى ذلك الحين، أي أوائل السبعينات، كان معظم الأساتذة الكبار لا ينظرون باحترام إلى القصة وكتّابها فكيف بنقادها… والى جانب النقد، مارست كتابة المقالة المطولة حول الموضوعات اللغوية والاجتماعية والفكرية، مع تركيز على القضية الفلسطينية.
وبعد ذلك تنوعت اهتماماتي، وكان ينتابني الملل (وربما أيضا الخوف من التكرار)، إذ استقر اهتمامي على منحىً واحد في الكتابة. وفي أحيان كثيرة كنت أخضع لمتطلبات الموجة السائدة في الكتابة. ومنذ مراحلي الأولى لم انقطع أبداً عن التعريف بالاتجاهات الفكرية والأدبية الحديثة في الغرب وتشهد بذلك مقالاتي المتسلسلة في مجلة «المعرفة» السورية في الستينات، إذ كنت مراسلها في بريطانيا أيام دراستي في جامعة كامبريدج، وكنت اكتب في «المعرفة» باباً منتظماً بعنوان «مطالعات في الصحافة الأدبية في الغرب». ومن هنا برزت بعض اهتماماتي المبكرة جداً في مجال الأدب والتكنولوجيا، حيث نشرت قصائد انجليزية نظمها الحاسوب في الستينات، وما كنا في ذلك الوقت ندرك ما هو الكمبيوتر، وقد ترجمته بعبارة: «جهاز الإحصاء الآلي».
وكل هذه البذور تحولت إلى جذوع وفروع فيما بعد وان كنت اتجهت في السنوات الأخيرة إلى البحث الأدبي والنقدي التنظيري، وحاولت الابتعاد عن الموضوعات البعيدة عن تخصصي في الأدب المقارن، احتراماً لمقتضيات التخصص.
٭ بلا شك أنك عاصرت العديد من الشخصيات والأحداث والرؤى الثقافية. كيف استطعت الاستفادة من كل هذا المزيج وما المميزات التي تميز بها؟
حديث الشخصيات وحديث الأحداث الثقافية وحديث الوسط الثقافي يطول ويعرض وتصعب السيطرة عليه واحتواؤه تحت سقف محدد. لقد سنحت سنوات عمري كلها في الوسطين الأكاديمي والثقافي؛ وكان يومي، بما في ذلك أيام العمل وأيام العطل المنتظمة، مقسوماً دائماً بين هذين الشطرين، ولكن هاجسي وهواي ومبتغاي كانت كلها شاخصة إلى الكعبة الثقافية. ولا أتكلم مجازاً، فغالباً ما كنت أقسم نشاطي اليومي بين كلية الآداب بدمشق واتحاد الكتاب العرب وربما مجلة المعرفة وغيرها من الساحات الثقافية. وكم أتمنى لو تمهلني الأيام حتى ارسم بالكلمات صورة متكاملة لهذه الصبوة التي كان نشاطها كلمات وكلمات وكلمات.
صدقاً، لا أدري كيف أحدد الاستفادة من زوبعة دائمة كنت في قلبها باستمرار. ولا شك أن اندماجي في هذه الزوبعة أسهم كثيراً في مجرى إنتاجي وطبيعته مع الاعتراف بالمراوحة بين النجدات والوهدات. شيء واحد أحب أن اذكره بوضوح هو أنني بالتدريج ومن خلال المعاشرة اليومية تعودت أن افصل بين القائل ومقولة القول، وألححت على مطالعاتي وقراءاتي وتحليلاتي النقدية ألا تسمح لشبح المؤلف أن يطغى عليها أو حتى يتأثر بها. وكذلك ما عدت استغرب إذا شعرت بالهوة بين ما تكون عليه شخصية الأديب الذي أعاشره وطبيعة الإنتاج الذي يقدمه. بل إنني بالتدريج تناسيت المقولات المدرسية التي يعلمونها في الصفوف من ناحية العلاقة بين المبدع وإنتاجه، ففي أحيان كثيرة يكون الأديب عالي الثقافة ويكون إنتاجه ضحل المردود، وقد يكون الأديب أخلاقيا مثلاً وإنتاجه شيء آخر، وصحّ لدي أن النص هو المرجع، وكلما عُزل عن صاحبه برزت طبيعة لمعته ودرجة أصالته، وهذا أمرٌ لم نعتَدْ عليه في مراحل دراستنا الجامعية وما قبلها، إذ كنا نهتم بحياة المؤلف قبل إنتاجه.
وبصراحة، أركّز على هذه الناحية، من ضمن نواح أخرى احسب أنني توصلت إليها نتيجة لمخالطة أهل الأدب والفن، لأنني أتوسّم من جمهرة متابعي الأدب أن يعلموا أن الإبداع الأدبي والنفسي هو تحليق شبه سماوي، ولكن دون أن يتطلبوا من الأديب أن يكون في شخصه سماوياً، فالأدباء بشر(كما يقول استاذنا الكبير إسحاق موسى الحسيني)، وأحيانا يكون مخاض النتاج الأدبي مدمراً لشخص المبدع. على أنني أتمنى للمواهب المبدعة ألا تفسد صورة إبداعها من خلال التظاهر بالشذوذ وافتعال الخروج على المألوف، وهي تصرفات نراها بل تلسعنا مشاهدتها كل يوم. فهل من الضروري أن يكون الأديب أشعث الشعر، رث الثياب، غريب الأطوار، ساهِمَ النظرات، مستخفاً بالناس العاديين حتى يتبوأ مكانته في سدّة العبقرية والإبداع؟ وإذا كانت هذه المظاهر الغرائبية وليدة أزمة داخلية أصلية لدى المبدع فمرحباً بها وأهلا، وما أحلاها، وما أعذب مراميها؟! ولكن إن كانت مصطنعة فمن حقها أن تلحق ضرراً بطريقة تقبّل الناس لإنتاج صاحبها.
ها أنذا اذكر معنى ومغزى عملية معاشرة أهل الأدب والنقد والثقافة. وكنت دائماً جزءاً من عالمهم الآخر المنتَج ولكن لا اذكر أنني انسجمت يوماً مع جوّ كثير من أهل الحرفة المشحون بالغرائب وخصوصيات المخالفة. ولم اقل الشذوذ لأنني لم انفرْ حقاً من ذلك الجو وكم حاولت الانخراط في أجوائه فلم افلح، بل كنت دائماً أتألم واشعر بالغربة كلما قضيت سهرة مرحٍ… مع أهل الفن أو كلما سمعت سخريتهم بالآخرين واستهانتهم بكل ما ومن هو خارج نطاق جوقتهم. لكم وعدتُ نفسي ألا أقترب من مبدعي كثيرٍ من النصوص ذات الإلهام والجمال والإثارة خشية أن يحدث ارتباط ظالم في حشايا نفسي بين النصوص ومسالك أصحابها.
وحتى كتابة هذه الأسطر (2003) كنت قد سلخت من العمر أربعة عقود ونيّفاً من الزمن في خضّم الوسط الأدبي. وعقدت صداقات كثيرة وأسهمت في مؤتمرات وندوات وحلقات بحث بعدد ما تبقى من شعر رأسي (لم أصلع بعد!!). وبصراحة لا اشعر أنني أفدْتُ فكرياً أو حوارياً من خلال المخالطة الشخصية مع أهل الأدب، إذ ليس من تقاليد الوسط العربي أن يدخل صديقان أو أصدقاء في حوار جاد مثمر حول ما يؤرق فكرياً أو أدبياً. كما أنني لم أسمع أية ملاحظة مفيدة من أي زميل لي حول الكثير الذي نشرته في حياتي. وقد أتيح لي أن ألتقي شخصياً بمعظم الأسماء التي التمعت في الساحة الأدبية العربية ابتداء من السبعينات. واقرب الناس إلى نفسي أدباء سورية وفلسطين والشام بوجه عام، طبعاً بحكم وحدة الوسط الأدبي، ولي بينهم أصدقاء خُلـّص كثيرون. كما أن عدداً كبيراً من تلامذتي استطاعوا فيما بعد أن يحتلوا مكانة بارزة في الإبداع الشعري أو القصصي أو النقد أو الإعلام المسموع والمرئي والمطبوع. ولا أحب أن ادخل في معترك التسميات بالنسبة للأحياء. ومن الأصدقاء الذين ارتحلوا عن الدنيا، وشعرت باللوعة لفقدهم جداً، جبرا إبراهيم جبرا، وكانت تجمعني به موّدة صافية وأفدت من صحبته كثيراً على قلة ما كنت ألتقي به. ولا استطيع أن أنسى إعجابي بشخصية الأديب الرائد شكيب الجابري الذي لازمته بعد أن اقلع عن الكتابة، وكم كنت أشجعه بدعم من الإنسانة الرائعة أم حسان، ولكنه كان يحاول ويشقُّ على نفسه ولا ينال. وكذلك صادفت نزار قباني في أخريات أيامه وتبادلت معه بعض الرسائل، وأعجبت كثيراً بما آلت إليه شخصيته في سنيّه الأخيرة من اعتداد وبسالة وترفع، وذلك خلافاً لما يحدث مع الناس كلما تقدم بهم العمر.
إن سلسلة الراحلين طويلة ولا استطيع الاستمرار من فيض التأثر:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
ولا استطيع إلا أن اذكر من جملة الذين افتقدهم، بل في مقدمتهم الإنسان الرقيق الرؤوف محمود موعد الذي ضنّ بوقته على موهبته الثرّة، ونعمَ بحياته اليومية على حساب قريحته، ولم تسعفه الأيام بإصلاح ما فرّط فيه. وللحديث عنه وعن غيره من الأحبة الراحلين مجال آخر غير المجال الحالي.
بالنتيجة اعترف دون أية مواربة إن اتصالاتي ولقاءاتي ومخالطتي مع أهل الأدب في الوطن العربي لم تكن لها حصيلة مؤثرة في قناعاتي. ولكن الذي أفدت منه فعلاَ هو المؤتمرات العديدة التي كنت أتأهب لها بجدية كاملة، واعتبر كل مؤتمر عودة ثانية إلى المدرسة. وملفات هذه المؤتمرات تملأ أدراجي اليوم وتتكاثر وما من سبيل إلى نخلها أو شفاء الروح من عصارتها الكامنة، وقد نشرت الكثير الكثير عنها في الدوريات الأدبية والجرائد اليومية، والمحطات الإذاعية والتلفازية.
٭ إن تغير الأمكنة وتعدد الوجوه يصقلان الشخصية الإنسانية ويحددان المسار الثقافي لها.. ما الأثر والاستفادة والخبرة التي تركتْه فيك أسفارك المتعددة؟
شكراً لهذا السؤال…. كم كنت أتمنى دائماً أن يطرح عليَّ شيء من هذا القبيل.
بالنسبة للأمكنة، أتمثل بالحكمة الدارجة التي تفيد أنه إذا أحب الله عبداً أطلعه على ارض الله الواسعة. وهذا الاطلاع الواسع من نعم الله التي استأثر بها العصر الحديث بفضل التطور المذهل في المواصلات و الاتصالات. (مرة أخرى ها أنا اكتب بالعربية في مطار لندن، ويمر بعض الفضوليين فيعجبون لهذا الزخرف الذي هو الخط العربي، ولهذه اليد التي تكتب من اليمين إلى الشمال). نادرة هي البلدان التي لم أزرها في العالم، وبعض بلدان الغرب أصبحت أليفة عندي حتى الملل … وفي المؤتمرات التي حضرتها بعدد شعر رأسي عرفت كل أنواع البشر العاملين في حقل الثقافة والتحصيل المعرفي. واعترف هنا أن زاوية التقصير عندي هي قلة حيلتي في التعامل مع الناس العاديين الطيبين. أحبهم كثيراً ولكن اخجل من قلة حيلتي معهم سواء من ناحية التفاعل وتبادل الأحاديث والنكات أم من ناحية الغفلة التي يستغلونها عندما أتعامل معهم في الأسواق وأماكن الصفقات، حتى أن الأهل والأصدقاء يحذرونني من ذلك. أضيف إلى هذه المعرفة معرفة ثانية على مستوى التخصص الأكاديمي. فالأدب المقارن يعلمني من شؤون التفكير والإبداع والتفاعل مع الحياة ما يكفي ويزيد. وإن مجرد الاطلاع على ثقافات الآخرين وعلاقاتها المتبادلة، وتماثلها أو تخالفها مع ثقافتنا وأدبنا يشكل زاداً ثميناً يعمق مستوى الاطلاع الشخصي ويغنيه. ثم إن القراءة بلغة أجنبية متمكنة تغني وتعمّق وتوسّع في وقت واحد.
هذه الخبرة الواسعة أقيسها من خلال زيادة سنوات العمر. وهي تعطي المرء عمراً مضاعفاً وأحيانا أضعاف أضعاف العمر المعدود بالسنوات، والأعداد دائماً غشاشة!
الآن: ما الأثر والاستفادة.
أخشى أن أقول مع أبي نواس إن المرء ينبغي ألا يدعي المعرفة لأنه يعرف شيئاً وتغيب عنه أشياء كثيرة، وكذلك مع الفلاسفة، ولا سيما المتصوفة، لأن المعرفة الظاهرية هي غطاء الجهل، وإذا كان لها من فضيلة فهي أن تطلعنا على تلك المنطقة المجهولة التي صرنا ندرك أنها غابت عن أمداء نظرنا.
ومع ذلك تبقى المعرفة أفضل من اللا معرفة لأنها على الأقل تزيل بعضاً من المرددات المخلوطة والتنميطات الدارجة sterotypes والأوهام الموروثة.
ولست أريد أن امضي أكثر من ذلك في ذكر فوائد المعرفة لأنني تورطت في هذا الأمر إلى الأذقان. وأخشى أن يترجم كلامي على غير وجهه، وما أكثر ما حدث ذلك معي ولا سيما في صفوف الأدباء من أهل الدار.
ولكن يهمني أن اعترف أن اتساع اطلاعي على ارض الله الواسعة واتصالي بعباد الله المنتشرين في مختلف الأصقاع، إضافة إلى القراءات والمطالعات وما تنقله الأخبار والإذاعات والتلفازات، هذا الاطلاع أوقعني في ورطتين على الأقل:
الأولى: أن لساني وقلمي أصبحا يعانيان من داء الحيطة والتردُّد. أي أصبحا ضحية الحسابات المتعددة التي تمنع الإنسان من تحديد موقف واضح من الأشخاص والأشياء والمعارف. وحتى الحماسة لرواية معينة، أو ديوان شعر، أو عِشرة صديق أو الإحجام عن ذلك… مثل هذه الأمور لم تعد سهلة عندي. وكم اغبط أولئك الذين يسرعون في الأحكام ويجهرون بالحماسة أو الفتور لهذا الرأي أو ذاك. وأحيانا اتهمني بعضهم بالتقيّة، أي المراوغة أو الاحتيال في إبداء الرأي في سبيل أن ينجو جلدك من تبعاته. ولكن! أقول إن هذا الإحجام عن اتخاذ الموقف أصبح عندي صفة عامة لا تقتصر على السياسة مثلاً. والحق أنني اعتدت أن أرى كل ظاهرة من خلال وجوهها المختلفة سلباً أو إيجاباً، وما أصعب الحسم في مثل هذه الأحوال(٢) .
الثانية: تتبع الأولى ويمكن وصفها ببطء الإنتاج. كم أترحّم على تلك الأيام التي كان فيها قلمي سيالاً يستجيب لدعوات الكتابة بعفوية وتدفق. لدرجة أنني نادراً ما عرفت المسوّدة في كتاباتي السابقة، التي كانت تتنزل مسكوبة كأنها صقلت عدة مرات. ومن هنا أتت إيجابية موقف أهل الصحافة والإذاعة من مقابلاتي. أي أنها لم تكن تتعبهم. ولكي اُبقي هذا الانطباع حياً في أذهانهم وأذهان القراء أخذت الآن اختصر عمداً كثيراً من المقابلات حتى لا تتعرض صورتي القديمة عند معارفي السابقين.
٭ ذكرت في نشرة الحرم الجامعي التي يصدرها قسم الإعلام بجامعة قطر انك وضعت الهم الثقافي للأمة فوق كل اعتبار حتى همومك الأسرية.. حدثّنا عن حجم المعاناة التي تكبدتها وأنت تقضي جمّ وقتك في مناقشة الهموم الثقافية؟
الهم الثقافي والهم الثقافي للأمة.. هذا ليس معاناة ولا واجباً مفروضاً. إنه اختيار بالبداهة والطبيعة. وأضيف إليهما الهم المعرفي الخالص. هذه الهموم شقاء لذيذ مكتوب على الجبين. يذهبون، الأصدقاء أو أفراد الأسرة، إلى المتع والسهرات ويذهب أهل الثقافة إلى المكتبات والمحاضرات. حتى أصبح الآخرون لا يشفقون علينا إذ يعرفون أن تعبنا ليس مشقةً بل هو المتعة بعينها ومن نحن إزاء أجدادنا العظام كالجاحظ وأبي العلاء وابن سينا وابن رشد…. وآبائنا كطه حسين والعقاد…
مرة أخرى اكتب الآن في مطار لندن إثر عودتي من أمريكا. قبل أسبوع كنت في زيارة لشيخي في الأدب المقارن وصديقي هنري رَ يماك في بلومنغتون (إنديانا)(٣) بعد عودتي إلى مقرّي في آن أربر ميشيغن اتصل بي ريماك، الذي جاوز التسعين حينذاك، يسألني: هل حقاً نحن لا نشتغل، أي ليس لدينا مهنة؟ قلت ماذا؟ قال: اسمع. كنت في البيت فرنّ جرس الهاتف، فقام حفيدٌ لي يجيب. سأله الزميل على الهاتف: إذا كان هنري مشغولاً فلا تزعجه، سأتصل به في وقت آخر. أجاب الحفيد: لا، هو لا يشتغل شيئاً. إنه طوال النهار يقرأ ويكتب… أي همّ اخترناه، وما أحلاه!!.
ومع ذلك فالأدباء بشر، يا أستاذنا اسحق موسى الحسيني، ولنا مناخ في المتعة. قد يكون مختلفاً عن سوانا. وبصراحة في أوقاتٍ ما نحسدهم أو نغبطهم ولكن يصعب علينا أن نجاريهم حتى لو أمرتنا النفس بذلك. وفينا من استطاع أن يجمع الدين والدنيا ونجح. وأولئك هم المفلحون.
٭ حصولك على جائزة الملك فيصل العالمية يعد اقل تكريمٍ تستحقه.. ترى كيف رشحت لنيل هذه الجائزة وما أهم الأعمال التي قدمتها لنيل الجائزة و ماذا تلك الأعمال من قضايا ثقافية؟
أود أن أوضح أن الحصول على الجوائز لا يتضمن تقييماً منظماً لكل مستحق. فالجوائز الأدبية عندنا وعند غيرنا تخضع لظروف وملابسات وخطوط مختلفة، كما أن طريقة التحكيم وكفاءة المحكمين لا تعني بالضرورة أن الفائز هو الأكثر استحقاقاً، ولكن الفوز يعني أن صاحب الحظ أصبح في مستوى رفيع في مجال الموضوع الذي تدور حوله الجائزة. ولا أنكر أنني سررت جداً حين فاجأني الخبر من أحد الصحفيين في الرياض في وقت متأخر من مساء ٢٩/١١/2001، ولا أنكر كذلك أنني فوجئت بالفوز لأني أصلاً لم أخطط له ولم ابن عليه بروج الأحلام. والأدب الفلسطيني يشكل ركناً مهماً في حديقة اهتماماتي ولكنه ليس الركن الأهم. وبالمناسبة كان الموضوع المحدد للجائزة هو: «الدراسات التي تناولت الأدب العربي الفلسطيني الحديث في تاريخه أو كتبه أو رجاله أو قضاياه». وفي الأصل، حين ورد الإعلان عن الجائزة إلى جامعة قطر وطلب إلينا الترشيح، لم أتقدم للترشيح، والدليل على ذلك أنني لم أكن مرشحاً من جامعتي. ولكن بعد حين وردني هاتف من إدارة الجائزة يطلب نماذج من إنتاجي فهمت منه أن جامعة الملك سعود في الرياض وبعض الجامعات الأخرى هي التي قدمت ترشيحي، وهذا فضل اعتزُّ به. وحاولت بعد ذلك استدراك الترشيح من جامعة قطر، وعلى الرغم من تجاوب المسؤولين عن الموضوع لم يكـُنْ ممكناً تجاوز الروتين وتقديم ترشيحي ضمن المهلة المحددة. وفعلاً أرسلت إلى ادارة الجائزة ما اعتقدت أنه أفضل أعمالي وتوكلت على الله، وكنت أعلم أن المنافسة شديدة، وهناك من هم أكثر مني تركيزاً على الموضوع الفلسطيني. وبالفعل ورد في بيان إدارة الجائزة ما يشير إلى أن لجنة الحكم كانت واعية لهذا الموضوع: «… تقديراً لجهوده عامةً وعنايته الواضحة بدراسة الأدب العربي الفلسطيني الحديث إبداعاً ونقداً في داخل فلسطين وفي الشتات «وكان شريكي في الفوز بالجائزة المرحوم الدكتور حسني محمود من الذين توقعت لهم الفوز لقاء عنايته الشاملة بالتأريخ للأدب الفلسطيني.
وما دامت فُتحت سيرة الجائزة أود التنويه بأن الجائزة ليست جائزة حكومية رسمية، بل هي جزء من نشاطات خيرية وعلمية وثقافية فائقة تقوم بها مؤسسة الملك فيصل الخيرية، ويديرها أبناء له …، وفي مقدمتهم الأمير الشاعر خالد الفيصل.
أما بالنسبة بشأن الأعمال التي قدمتها للجائزة ومدى ما تحمله من إضافة لدراسات الأدب الفلسطيني، فمن الممكن إيجازها بما يلي:
١- ظلال فلسطينية في التجربة الأدبية (1990)، وهو مجموعة الدراسات الأدبية التي نشرتها في الدوريات العربية والأجنبية.
٢- حركة الترجمة الفلسطينية (من النهضة حتى أواخر القرن العشرين 1995).
٣- النقد الأدبي في الوطن الفلسطيني والشتات (1996)، وهو دراسة في حركة النقد الأدبي في فلسطين المقيمة والظاعنة حتى الانتفاضة 1988.
٤- روحي الخالدي، رائد الأدب العربي المقارن 1995.
وتستند هذه الأعمال الأدبية إلى خلفية ثقافية واسعة من خلال أعمال أخرى في الموضوع الفلسطيني أهمها:
– في التجربة الثورية الفلسطينية (1972).
– القدس – دمشق – القدس (1980).
– الثقافة والتربية في خط المواجهة (1983).
وذلك بالإضافة إلى عشرات المقالات والدراسات المبثوثة في الدوريات العربية.
ويتصف الإنتاج بمجمله بالمبادرة والسبق التاريخي والالتزام المنهجي. ويمكن تلخيص السبق التاريخي في المستويات التالية:
– السبق في دراسة أعمال أدبية مبكرة أو متفوقة مثل دراسة رواية «الطريق إلى بئر السبع» لاثيل مانين، والسبق إلى تعريف القراء العرب برواية «أرابسك» لانطوان شماس، وقد كتبت أصلاً بالعبرية ثم تـُرجمت إلى الانجليزية والفرنسية وغيرها.
– السبق في دراسة حركة الترجمة الفلسطينية في الوطن وخارجه، ولم يسبق هذه الدراسة أي مرجع أو بحث في هذا الباب. وقد ذيلتها بقائمة بيلوغرافية تناولت الإنتاج الفلسطيني في الترجمة من أول القرن العشرين حتى أواخر الثمانينات.
– يضاف إلى ذلك السبق في تصور منهج متكامل لدراسة الأدب الفلسطيني، أنجز من خلال الحوار مع جهابذة في الأدب الفلسطيني، وذلك في اليونسكو- باريس، أوائل التسعينات.
وبالمناسبة كنت زمنياً أول من قدم تعريفاً بأدب النكبة في المحافل الدولية، وذلك عام 1965 في لاهور بباكستان خلال مؤتمر اتحاد الكتاب الآسيويين الإفريقيين. وربما كنت أول من قدم ادوارد سعيد بوصفه ناقداً أدبياً وذلك من خلال كتابه: البداءات. ولي نظرية في ترشيح الأدب الفلسطيني للعالمية من خلال مقوماته الخاصة.
وهذه أمور متروكة للدارسين طبعاً، وتعتبر الجائزة طريقاً ممهداً للإنصاف، وهي ليست نهاية المطاف.
٭ يرى بعض الكتاب والمثقفين أن مهرجانات التكريم الثقافية لم تعد سوى حقل خصب تنمو فيه المجاملات الشخصية والوساطات الأدبية دون تمييز بين الغث والسمين ما تقييمك للمهرجانات العربية الثقافية التي تعج بها الساحة الثقافية العربية في الآونة الأخيرة؟
لا ادري عن أية مهرجانات يدور السؤال. ومهما يكن من أمر أرى أن المهرجانات الثقافية واحتفالات التكريم تعطي دفعة تنشيط للرأي العام وللأدباء أنفسهم. إن أهل الأدب والكتابة يعانون من التهميش والعزلة في مجتمع عربي أضاع القيم ولم يبقَ أمامه سوى النهم والتسابق على الغنم. وحتى لو كانت هناك وساطات ومجاملات في المهرجانات والمناسبات فذلك أمر يمكن أن يتحسن مع الممارسة. وبصراحة اذكر أنني بدأت نشاطي النقدي مبكراً وكنت قاسياً على الكتاب المعاصرين لأن نظرتي للكتابة كانت مثالية وغير واقعية. والآن حين اشهد بعيني انزواء المؤسسة الأدبية في ركن صغير من حلبة الحراك الاجتماعي، أصبحت أقول شكراً لمن يتعب نفسه ويخط سطراً للنشر. حتى القراء ما عادوا يشكلون عزاءً للكاتب بسبب ندرة الذين يتخذون من القراءة متعة روحية أو وسيلة للمعرفة. فكان مجتمعنا، من خلال خلفيته السماعية، اطمأن إلى أن الأذن واللسان هما أداتا المعرفة والعرفان. وقد زاده عزوفاً عن متعة الحرف تلك التطورات المتعاظمة في حقل البث التلفازي ذي الوسائط المتعددة والبهرج الخلاّب، وأتى الحاسوب وتفرعاته فأكمل العزوف عن القراءة. لو قارنا مثلاً بين عدد المتدخلين في ندوات وبرامج الفضائيات من جادّة وهازلة آو سفسطائية، أو رياضية أو غنائية، وبين عدد القراء الذين يعلقون في الصحف والدوريات على ما يقرأون فماذا نجد؟ نحن نكتب لأنفسنا ولإرضاء ميولنا، وليس لبناء جسر اتصالي مع القراء. وهذا باب من القول مؤس ومدمر للمعنويات. وحسبي أن أقول هنا إن كل تكريم أو احتفاء أو عطاء مادي أو معنوي لأهل الكتابة – ولو على غير معيار صحيح – ينبغي أن يشجّع ويشكر، بعد أن أصبحت الكتابة عملية استمنائية عاجزة عن التوصيل أو التوعية أو حتى الإثارة.
أما أهل الأدب والفكر والكتابة فليس عندي ما أقوله لهم سوى الجملة الخالدة: أحبوا بعضكم بعضاً، ودعوا البغضاء والتحاسد والالغائية جانباً. ولا منجاة لكم بغير ذلك.
٭ العولمة حولت العالم إلى قرية صغيرة لا تعترف بتفاصيل اللحظة فما تأثير العولمة على الأدب المقارن؟ وما أهم المواضيع التي اشتمل عليها كتابك: (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة) الذي يعد الأول من نوعه فيما يتعلق بموضوع مستقبل الأدب المقارن.
في كتابي «الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة» حاولت أن أتفحص التأثيرات البادية على الأدب المقارن في ظل العولمة، في محاولة للتوصل إلى رؤية مبدئية لمستقبل الأدب المقارن ومهمته في القرن الحادي والعشرين الذي تشكل العولمة مناخه ولكنها ليست كل شيء طبعاً. ومن الضروري التنبيه إلى أن العالمية، وهي الأم البريئة للعولمة، كانت دائماً حلماً مقارنياً، وكانت دراسات الأدب المقارن ونظرياته تطبق دائماً إلى الانتقال من الأدب القومي ( المختلف) إلى الأدب العالمي (المؤتلف). وبما أن هذا الموضوع مهم جداً سوف اقتطف من خاتمة كتابي الخطوط الأساسية لتطور دور الأدب المقارن في عصر العولمة، أو بالأحرى في المدى المنظور للقرن الحادي والعشرين.
أولاً: يبدو المناخ العام مناسباً لنهوض نسق معرفي مثل الأدب المقارن يستهدف في وقت واحد مضاعفة الاهتمام بقضايا تجاوز الحدود على اختلاف أشكالها من جهة، ومن جهة ثانية احترام ما قد يبقى في عصر العولمة من الحدود التي تحفظ لكل شعب ولكل صقع من أصقاع الأرض هويته التاريخية والقومية والمعتقدية ولونه الخاص في الفكر والأدب والفن، وبذلك يكون الأدب المقارن فن المؤتلف والمختلف في آن واحد، إذ لا يمكن أن تكون هناك مقارنة إذا لم يكن هناك اختلاف جزئي أو كلي. والعولمة أو التسوية الشاملة قد تعني انتفاء وظيفة المقارنة، إلا أن مثل هذا الطموح صعب التصور. ولكن هذا الأمر يتطلب انتفاضة قوية قد يكون من الأفضل أن يترك تحديدها للمجتهدين المنتظرين من الجيل المتحفز، ولكن ربما كان من أبرز شروطها تعديل الكفة بين الدراسات التطبيقية المزدهرة والدراسات النظرية المستحيية، بحيث تتضافر جهود المنظرين للإجابة على كثير من الأسئلة المقلقة التي تعترض مسيرة الأدب المقارن، وحبذا لو تركز مؤتمرات الأدب المقارن على هذه الناحية في محاولة للتوصل إلى حد أدنى من الرؤية المشتركة. مع اعترافنا طبعاً بوجود نفور بل أنفة مستمرة من الخوض في النظرية المقارنية في أوساط أهل البيت المقارني ولاسيما في الجناح الغربي من العالم.
ثانياً: ومن هذا القبيل، لابد أيضاً من مضاعفة الحصاد النظري للنتائج الغزيرة المتنوعة التي تسفر عنها جهود التوسع الفائق في الممارسة المقارنية التطبيقية التي دخلت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين مناطق معرفية مجهولة وتجاوزت مختلف الحواجز القومية والجغرافية واللغوية والمعرفية والثقافية، وتركت ركاماً هائلاً من المعلومات والتحليلات والاستنتاجات والاجتهادات الكفيلة بإغناء المعرفة الإنسانية، وتعميق فهمنا لنفوسنا وللظاهرة الأدبية وامتداداتها ولاسيما من خلال ثنائيات الأنا والآخر، والمحلي والعالمي، والمؤتلف والمختلف. إن هذه المتابعة النظرية هي الجديرة بتنظيم هذا المحصول التطبيقي الوفير وتوظيفه لتدعيم رسالة الأدب المقارن وتقريبه من أهدافه، ربما دائماً في نطاق جدلية المؤتلف والمختلف.
ثالثاً: وبالطبع يصعب أن تتحقق هذه المراجعة النظرية من خلال الانكفاء المعرفي والتقوقع داخل الأسوار، ونحن نعيش في عصر الأنظمة المتداخلة والأنساق المتعددة. ولذلك، وعلى الرغم من أن الأدب المقارن يبدو كأنه الضحية أمام الهجمات والانتقادات المتكررة من الأنساق المجاورة، فلابد له من العمل على مواجهة المنافسة التي تطرحها في وجهه هذه الأنساق المعرفية الجديدة المشرئبة وتحويلها إلى نوع من التساند والتبادل. وقد سبق أن أشرتُ في دراساتي إلى هذه الأنساق، القديم التالد منها مثل النظرية الأدبية والنقد الأدبي والتاريخ الأدبي، والجديد الطارف مثل النقد المقارن والشعرية المقارنة والدراسات الثقافية والدراسات الأنثوية والدراسات الترجمية ودراسة الجنسين وغيرها. وهناك أيضا السيميائية بما تطرحه من إعادة فهم لمجمل الظاهرة الأدبية.
ولا يستطيع إنسان أن يزعم أن الأدب المقارن لا يستفيد حالياً من هذه الجهود، ولكن المطلوب طبعاً العمل على تغيير منحى المنافسة إلى نوع من التفاهم والتفاعل والانفتاح ولتكن عملية جدلية نزيهة.
رابعاً: وإذا انتقلنا من المناخ الأدبي إلى المناخ الثقافي العام، فإنه يحسن بالأدب المقارن إظهار مزيد من الاهتمام بالقضايا الإنسانية الكبرى التي تشغل ساحة الدراسات الأدبية الجديدة مثل مضاعفة التصدي للمركزية الأوروبية الغربية وخليفتها الهيمنة الأمريكية (المتصاعدة في القرن الحادي والعشرين)، والتخلص من امتدادات الكولونيالية، وتصحيح مسار العولمة الثقافية، ومكافحة التمييز العنصري الثقافي بكل أشكاله وتمثلاته، والحيلولة دون انقسام العالم ثقافياً إلى طبقة فائقة الغنى والموارد، ومقابلها طبقة مدقعة تحت حزام الفقر، كما هو منتظر. ويتبع ذلك تأكيد التواصل العالمي وكشف الغطاء عن الثقافات المقموعة وتهوية تجاربها (الشفاهية في كثير من الأحيان)، والإفادة من جميع ثقافات العالم في شتى أنحائه من اجل إغناء الفكر الإنساني، ويصعب اتهام الأدب المقارن بأنه مقصر في هذا المجال ولكن يصعب كذلك اعتباره رائداً قوي الحضور. والمطلوب من الأدب المقارن أن لا يكون أقل من الأنساق الأدبية الأخرى تركيزاً على هذه الموضوعات الإنسانية المعاصرة.
خامساً: وعلى أية حال، تقتضي كل هذه الأهداف النبيلة نوعاً من التأسيس المعرفي والعلمي بحيث لا تتخذ شكل أهداف ايديولوجية مسقطة على النظام المعرفي وعرضة للمزايدات الفكرية والعاطفية أيضا. وإذا تم ذلك بشكل أو بآخر أي بفعل تطور طبيعي في النظرية وتسلسل تراكمي في الممارسة، فإن انخراط الأدب المقارن في هذه القضايا المعاصرة يمثل إحياء لرسالته ودعماً لها ودفعاً لتمهيد المناخ المعرفي لقيام جدلية مستمرة أو توازن خلاق بين الثابت والمتغير، وبين الموضوعي والذاتي، وبين المعرفي والأدبي الجمالي، وأخيراً بين القومي والإنساني أو الخصوصي والعام.
ونعترف انه من السهل التلذذ بهذه الكلمات البراقة، ولكن ليس من السهل تأسيسها على قواعد تتمتع بحد أدنى من التماسك. وبمثل هذا المحتوى والهدفية للأدب المقارن يمكن لهذا النظام المعرفي أن يبشر بحملة أدبية واسعة تهدف إلى إسهام إيجابي في مناخ العولمة الذي بدأ يتصدر القرن الحادي والعشرين، وربما إلى تصحيح مساره باتجاهٍ أكثر إنسانية وأكثر ديمقراطية وأكثر تمسكاً بتراث القيم الإنسانية العليا، بحيث تتيح عملية ذوبان الحدود في عالم الغد فرصة مساواة بين مختلف مناطق العالم – إن كان لها أن تتم – وفرصة خلق جوّ مواتٍ لتحرير الإبداع الإنساني المشترك وانطلاقه إلى أوسع الآفاق.
الهوامش
١- لا يتسع المجال الحالي لذكر أسمائهم، لئلا يُغمط حق أي منهم خلال السرد. وسيكون لنا معهم شأن في مناسبة أخرى.
٢- ما دام المجال الحالي أشبه بالاعترافات على مذهب جان جاك روسو فلا بأس بأن اذكر أن أم الأمين (رفيقة العمر) أخذت في الآونة الأخيرة تعيّرني وتلومني على البطء باتخاذ القرارات اليومية، وكثيراً ما تطنّ في أذني عبارات مثل: خذ قرارك، آن الأوان لأخذ القرار. الفرصة تضيع!!
واعترف كذلك إن الحاسوب فضحني في هذا المجال. فمنذ سنتين وفي إحدى المناسبات أقدمتُ مع بعض أفراد الأسرة على فحص ذكائنا من خلال أسئلة في برنامج معدّ لهذه الغاية. وقد امتدح الحاسوب ذكاء أجوبتي ولكنه اخذ عليّ ما سماه علة فقدان العفوية You lost your spontaneity .
٣ – كان ذلك في الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر) 2003. وبالمناسبة كان معي في الزيارة صديقي الحميم صالح الطعمة، وقد أقمت عنده في بلومنغتون خلال فترة الزيارة فوجدته بعد التقاعد أكثر إلحاحاً على الإنتاج والبحث من ذي قبل.
حاورته : عزيزة راشد كاتبة من عُمان