– ليس سهلا عليك أن تصبح حفار قبور. بهذه الكلمات اختتم (عبد الموجود) حديثه مع معاونه الجديد في الغرفة التي تطل على المقبرة، نهض الشاب معبرا عن ضيقه من تكرار تلك الكلمات واتجه نحو الباب وهو يتمتم بصوت خافت:
– دائما كلمات ونصائح.. هذا العجوز لا يمل من الكلام أبدا.
– فارتفع صوت (عبد الموجود): – بماذا تتمتم ؟
فرد الشاب بسرعة: لا شئ..
وتابع سيره إلى خارج الغرفة وهو يردد:
– ما زال العجوز يحتفظ بسمعه رغم سنواته الستين. لفحه تيار هواء ففكر بالعودة للداخل لكنه استعاد صدى كلمات (عبد الموجود) فرفع ياقة كوته للأعلى ودس يده في جيبه وسار قليلا وتوقف أمام أول قبر صادفه، قلب عينيه في ظلال القبور الممتدة أمامه، وتنهد بعمق:
– هنا النهاية.
تأمل السكون للحظات، واتجه إلى بوابة المقبرة.. أطل برأسه للخارج: فكر بمغادرة المقبرة والجلوس تحت عمود الضوء الذي ينتصب وحيدا في بداية الشارع:
– حتى ذاك العمود وحيد.. ضوؤه لم يبعد عنه الوحشة.. وظلمة الليل تنتظر أي فرصة لتنقض عليه.. انه مثل العجوز طويل ويظن انه محور الأشياء.
خرج من بوابة المقبرة ومنحه الرصيف الاسمنتي شعورا بالدفء وفكر بالعودة لفراشه الدافئ:
– انها مجرد ساعة تأخير فقط فلماذا كل هذا التوتر؟ عاد الى داخل المقبرة.. تجول بين القبور وجلس بجوار الحفرة المفتوحة حديثا والتي ستستقبل ساكنا بعد قليل:
– الأمر سهل.. فقط عليك أن تتوحد مع المكان وتصبح جزءا منه.. الراحة تكون دائما مع الصمت.. هكذا يقول العجوز دوما. أغمض عينيه.. لكن السكون عاد ولعب بأعصابه.. فتح عينيه ونهض وعاد للغرفة فكلام العجوز أفضل من سكون الموتى، وقبل أن يسأله (عبد الموجود) كان يرد بأن الجنازة لم تصل بعد، وواصل طريقه حتى الجدار المقابل (لعبد الموجود) وجلس وضم ركبتيه إلى صدره وتساءل إن كان هذا المكان مناسبا للتفكير بالمستقبل.. وخرج من شروده على أثر صوت (عبد الموجود) الذي تكلم بدون مقدمات كأنه يكلم نفسه:
– عملنا ليس أي عمل أو أن أي شخص يستطيع القيام به، فقبل كل شيء علينا أن ننسى ما يدعى بالخوف، وعلينا ألا ندعه يتسلل إلينا عبر القماش الأبيض وأن نحافظ على هدوئنا ونحن ندفن أحباءنا. والتفت بهدوء إلى الشاب وهو يتابع:
– في المرة الماضية كانت رعشة يديك واضحة.. يجب عليك أن تنظر للأمر كأنك تؤدي عملا عاديا تحصل منه على أجر لأنك تسدل الستار على حياة إنسان.. لا وجود للعلاقات الإنسانية هنا.. فهنا نهاية كل شيء. ونهض العجوز بقوة لا تتناسب مع سنوات عمره الستين واتجه للنافذة التي تطل على الجهة المقابلة لبوابة المقبرة وأشار للمقبرة المترامية:
– في بداية عمري كنت أخاف أن أحضر إلى هنا وعندما شاركت في دفن أول جثة كاد يغمى علي ولم أنم طوال ثلاث ليال بعدها.. لكن الآن لا أستطيع النوم بدون أن اتفقد القبور.. كان والدي يعلم خوفي لذلك كنت أنجو في بعض الأحيان من عقابه عندما أهرب من البيت ولا أذهب إلى المقبرة وبعد الحاح من جدي حاول أن يعلمني مهنة أخرى ولكن عندما كنت أفشل في تحمل مصاعب تلك الأعمال كانت قناعة والدي تزداد بأنني سأكون وريثه. وصمت العجوز للحظة ولانت ملامحه وهو يختصر عشرات السنين بعدة كلمات:
– تعلمت بعد جهد شاق من أبي وكذلك مني وصرت بعد خمسة أعوام أتقن أغلب أصول المهنة ولم أدرك معنى أن تكون حفار قبور الإ بعد سنوات طويلة، انظر إليها إن القبور الآن صامتة ولكنها ليست جامدة ففيها حركة الكون، ومازالت قوانين الحياة تؤثر فيها، إنها كذلك تتأثر بالزمن كالأحياء، القبر يولد ثم يشيع وينتهي ليترك المجال لقبر جديد.. وأولئك الناس في الخارج يجهلون بأن الأشياء بالنسبة للموتى على الأقل قد تغيرت فيعمدون إلى أشياء عجيبة اعتقد أن الموتى يستغربون لها، انظر هناك يقيم شخص غني.. قبره يدل عليه،وهذا القبر الترابي يسكنه بائع خضراوات.. سمعت انه كان جاركم.. (لا يهم ذلك الآن ) فقد اصبح جاري أيضا وبرغم كل ما يفعله أقرباء الميت يتوحد الموتى عندما يتركهم الآخرون لمصيرهم.. كلهم الآن يرتدون أسمالا واحدة، ويتركون أجسادهم لنفس الدود، ولا أحد منهم يستطيع أن يقول انه الأفضل أو أن يعترض أحدهم على رطوبة قبره أو على حقارة الدود الذي يأكله.. فقط نحن مازلنا نتوهم أن الاختلافات تستمر حتى ما بعد الموت، فكما يولد الاطفال أغنياء يظل الفقير فقيرا حتى بعد الموت. والتفت الى الشاب وتأمله للحظة وعاد للنظر للخارج وهو يتابع:
– ألا يعجبك كلامي؟
– لا.. ولكن على أحدنا أن يبقى صامتا كي يترقب الموكب القادم. وردد العجوز بشرود:
– الموكب القادم.. مضى زمن طويل قبل أن يأتي مثل هذا الموكب. وتابع الشاب محاولا ألا يترك للممت فرصة:
– أحقا انه شخصية عظيمة ؟
– أكثر مما تتصور بإمكانك بعد الجنازة أن تأخذ إجازة.. لعدة أيام فقط.
وخبا صوتاهما وعاد الصمت يسيطر على الغرفة، حاول الشاب أن يقول للعجوز أن يإلق النافذة لمنع الرياح الباردة من الوصول إليه فاختنقت العبارة في جوفه وخرجت كهمهمة غير مفهومة جعلت العجوز يلتفت إليه للحظة ثم عاد لينصت لعله يسمع ما يثير إلى اقتراب الجنازة بينما اخذ الصمت يعبث بما تبقى من أعصاب الشاب الذي أخذ يحدث نفسه بنفس النغمة غير المفهومة وبصوت خافت:
– لماذا أنا هنا؟.. كيف رضيت أن ترمي بي الاقدار الى يد (عبد الموجود)؟ صحيح انه شخص جيد وله سمعة طيبة.. وهو حفار قبور من الطراز الأول، ومخلص في عمله الى درجة البلاهة، والا ماذا يعني انه يستعمل هذه الغرفة كسكن حتى يستطيع أن يكون جاهزا في أي وقت، لا ترهبه القبور، شخص يستطيع أن يعمل أي شيء.. يحلق عاليا بشموخ والجميع يحترمونه لكنه في الاخير حفار قبور، وأنا لا أريد أن اصبح مثله، مكاني ليس هنا، أريد أن ارتمي بأحضان الدفء لا أن أتلقى الرياح الباردة كشخص ميت.. أعاده صوت العجوز الى جو المقبرة الذي حاول الفرار منه، وهز رأسه بالايجاب عندما سأله ان كان كل شيء جاهزا، فهز العجوز رأسه وهو يقول:
– لا فائدة منكم.. يجب أن أعمل كل شيء بنفسي.. حركاتك تكاد تقسم بأنك نسيت شيئا ما لا يجدر بك الاستسلام هكذا.. مهما كانت مشاكلك، لا يمكنها ان تنسيك حقك بالحياة.. ربما حيث تجلس الآن يوجد رفات ميت، كم من المشاكل عاصرها أولئك الموتى، ولكن هل استطاعوا حل جميع مشاكلهم ؟! لا أعتقد ذلك.. لنكن صريحين.. فمنذ مجيئك الي وأنت تحاول الهروب مني تقوم بالعمل كأنك مكره عليه.. لا احد يستطيع ان يفرض عليك هذا العمل.. حتى أنا كان بامكاني ترك هذا العمل منذ زمن طويل والاتجاه لعمل آخر ولكني لم أجد العمل الذي يجعلني أترك هذا العمل وعليك أن تقرر بنفسك ان كنت تريد الاستمرار أو لا، لا تدع الآخرين يقررون لك.
ومع آخر حروف كلماته خرج العجوز من الغرفة.. نهض الشاب ببطء ووقف أمام النافذة وهو يقول لنفسه:
– كيف يمكنه أن يرى جمالا في هذا المنظر الموحش ؟! تنهد وهو يتابع:
– ليلة مفزعة منذ البداية.. حتى هم تأخروا.. متى يأتون لأرحل معهم للنور؟ غادر الغرفة ووقف بعيدا يتأمل العجوز في صمت:
– أي سر جعله يتخلى عن الأضواء والأصوات والدفء.. أهو عمره الذي لم يعد يحتمل ثقل الحياة ؟.. لكن الجميع يتحدثون انه هكذا منذ سنوات طويلة، هل أصبح مثله يوما ما؟ يجب أن أرحل بعيدا عن هنا لم أعد أحتمل البقاء مع الموت في مكان واحد. اقترب الشاب من العجوز وهو يفكر بمصارحته برغبته بالرحيل، غير ان صوت العجوز ارتفع وبدون ان يلتفت اليه:
– أتعرف يا (محمود) بان ذكرى المرة الأولى لا تزال تدوي في رأسي ومازلت أتساءل كيف استطعت قهر خوفي؟ ربما لم يخف أحد من القبور كما كنت أخاف منها…!! لكن الآن اعتقد انه لا يوجد أحد يحبها أكثر مني..! أهي العادة والألفة مع هذا المكان وسنواتي التي انحفرت في هذه المقبرة، أم أن هناك شيئا غامضا يجذبني الى هنا؟ انني لا أقوى على فراق هذا المكان.. انني أعرف هذه القبور واحدا واحدا.. وحين يأتيني الأرق آخذ غطاء السرير وأنام بين القبور.. كل يوم اكتشف اني أحب القبور كأبناء لي.. أنا أيضا لا أكاد أصدق هذا واعتبرها تخاريف عجوز لكنها الحقيقة التي أعيش داخلها. ساد السكون للحظات.. ثم التفت العجوز وهو يتابع:
– أنا لا أعاني أي مشاكل مع الموتى.. مشكلتي الحقيقية مع الأحياء.. لا أقول انهم ينبذونني بعيدا، ولكن نظراتهم تجعلني أتجنبهم خوفا من أن المر تلك النظرات من جديد..بين الموتى أجد نفسي بدون أحقاد أو حتى نظرات منزوعة وقد حاولت التأقلم مع الأحياء من دون جدوى حتى اضطررت الى السكن هنا.. الأمر ليس بالبساطة التي كنت اتخيلها، أترك الأمور على ما هي عليه ومن ثم أغلق الباب وأنام.. سنوات قاسية عشتها داخل هذه الغرفة، في كل حجر من جدرانها آلاف الصرخات والضربات.. صوتي العالي المفزوع في الليل لم يسمعه سوى الموتى.. هذيان الحمى.. في أحد الأيام رقدت داخل حفرة وقبل ان يصل التراب الى وجهي كنت قد قفزت وانطلقت اجري كالمجنون، وفي صباح اليوم الثاني وجدت نفسي في القرية المجاورة ممددا على الأرض.. ومن كثرة أفكاري عن الموت صار رفيقا لي، أتحدث أنا وهو بينما نراقب الأضواء من هنا.. هذا ليس جنونا لكن الامر حدث بطريقة ما، مما جعلني متأكدا من انني نمت معه عدة مرات عندما كان يتأخر الوقت ونحن نتحدث.. لم أجد أحدا أتصادق معه الا الموت. سار العجوز خطوات وسط القبور ثم اخذ حفنة من التراب وتركها تنهال ببط ء من يده:
– التراب الناعم صديق عزيز هو الآخر.. نحن الثلاثة الحقيقة الأكيدة في هذا المكان، وبين التراب والموت أعيش حياتي مرة مع الخوف ومرة أخرى مع السعادة وأحيانا مع الضجر. تقلبات الحياة أعيشها هنا أنا أيضا، أشعر بالوحدة وأتمنى أن أجد شخصا يشاركني أحزاني.. أشاركه في أحلامي وأحلامه.. شخص يعيد لي مشاعري التي نسيتها، وأستطيع البوح له بضعفي وربما ابكي أمامه وانتظر يده تربت على ظهري أو يحتضنني بقوة وعيناه مملوءتان بالدمع.. أنا لست قاسي القلب كما يتصورني الآخرون، ولكنها طبيعة عملي، ولماذا أخشي الموت وقد دفنت أبي بيدي هاتين، أنا لم أتزوج خوفا من أن يشعر أبنائي بنفس الشعور الذي غمرني عندما أهلت التراب عليه، ولا أستطيع أن أصف نفسي في تلك اللحظة ولم أعرف معنى الموت الا ويدي تقبض على كومة من التراب وتفلتها برفق على الجسد الساكن. تنهد العجوز واتجه بخطوات بطيئة الى القبر المفتوح حديثا وتصاعد صوته بعد همهمة غير مفهومة:
– كابوس واحد يزعجني هنا.. كابوس في بعض الاحيان أحبه وأتمنى تحققه، كابوس يبدأ بينما أنا نائم في هذه الغرفة وفجأة يطرق الباب أحد ما، وحين أدعوه للدخول تختفي جدران الغرفة وتظهر القبور من حولي ويخرج منها كل الذين دفنتهم فيحملونني على اعناقهم ويحتفلون ويطوفون بي كافة ارجاء المقبرة ومن ثم يشيعون جنازتي الى حيث يقع القبر الذي أشير اليه ولكنهم بعد أن ينتهوا من دفني يغادرون المقبرة عائدين الى منازلهم بينما أظل وحيدا تحت التراب، أنا في النهاية انسان.. وأخاف مثل كل الناس، لكنهم يتصورون أنني بلا مشاعر واذا راني أحد وأنا اضحك ينظر الي كأنني مخلوق غير بشري، وكأن فرحي تمرد وان علي أن أظل داخل عالم الأحزان والكأبة والنسيان.. لقد دفنتني نظراتهم منذ زمن بعيد. أغمض العجوز عينيه وابتسم بسخرية لثوان:
– أصبحت مدمنا على الخوف وصار الأمر عاديا جدا، حتى انني أصبحت أبحث عن الفزع والخوف.. خلال العام الماضي لم يزرني أي كابوس جديد.. البحث عن الخوف صعب عندما تعيش مع الموتى لكن الحياة تفزعني أحيانا.. أتسلى أحيانا بالتفكير بالغد.. وكانت لدي أحلام.. الكثير منها.. الشباب وقوته تغزي الأمل تجعله يصارع ويقاوم الفشل.. لكن الآن ومن فوق هذه الصخرة العالية في عمري أتأمل تلك الأحلام وهي ما تزال تحلق فوق رؤوس الكثيرين من الشباب، وبرغم تفاهتها أريد عودة الأمل ليعبث بي وأتخيل شكل حياتي اذا عادت الي أيام الشباب.. أريد الهروب.. أريد الهروب من حياتي ومن كل شيء.. الهروب والبداية في مكان جديد بالنسبة لكم الأمر سهل، فعندما ترغب بالهروب تختفي بين الأحياء.. تغمس جسدك في الزحام والحرارة، وعندما ينصهر جسدك تكون قد نجحت بالهروب لكن هنا لا تستطيع أن تلفي نفسك.. وحيدا مع الأصوات وأول شيء تفكر فيه هو الخوف.. وعندما تخاف لا تستطيع الهروب.. تقف مكانك منتظرا النهاية، ربما الخوف هو ما أبقاني طوال هذه السنين، أخاف أن أعود هنا فوق قطعة خشبية.. أخاف أن أنتهي داخل حفرة..!!! صمت العجوز ودفع قليلا من التراب بقدمه الى داخل الحفرة:
– كل تلك الحياة والأحلام تتحول الى حفرة صغيرة، وبعد رحيل المشيعين يتبقى النسيان، كل الذين هنا منسيون، ربما في يوم تجد أوراقا خضراء فوق قبر لكن الأساس هنا هو الموت، أنا أقف بين الموتى والأحياء.. أراقب وأحاول معرفة الى أي الجهتين سأنتمي.. أعرف أن النهاية ستكون هنا.. داخل حفرة!! ولكنني أريد حسم الأمر مبكرا، الحياة بكل ما فيها من أشياء والموت الذي يترصد في كل مكان شخصا ما.. فهل أستغل وقتي في الشعور بالحياة ؟ لم أحسم الأمر بعد.. عمري كله ولم أتوصل الى نتيجة، في بعض لحظات اقتنع بالموت لكن شيئا ما يعيدني الى سطح الأرض. أحيانا المرء يتخيل أشياء معينة وبها يسير حياته – تفهم ما أقصد- لكن عندما يكتشف انه كان يجري وراء وهم يرغب بالهروب أو ينغمس في الخوف، كلاهما واحد.. البداية مع الهروب.. لكن بعد الخوف تأتي مرحلة أكثر بؤسا وقسوة، مرحلة اللاعودة.. عندما تهرب تبحث عن مكان تبدأ فيه من جديد.. وعندما تخاف فانك تحمي نفسك من النهاية ولكن في اللاعودة تتحول الى كابوس وآخر أمل تتمسك به هو أن تأتي النهاية.. لكنه هناك أشياء عديدة تبدأ من جديد، كان من الممكن أن تكون في منزلك الآن في غرفتك الدافئة.. لكن تأخر الجنازة قلب الأمور.. أحيانا تبدو الأمور جيدة، الشمس مشوقة، والجو رائع، لكن خطوات قليلة ويتبدل كل شيء وتصبح الخطوات السعيدة ثقيلة وحزينة.. تقرر عمل شيء.. مشروع مثلا ثم لا شيء.. الحياة فيها الكثير من الأشياء البراقة، وأنا طفل صغير كنت أبكي كثيرا عندما افقد أي شيء.. نظرات الشفقة بعيون الآخرين ونظرات أبي القوية لم تجعلني أتردد كثيرا في اختياري لطريقة حياتي.. ما فائدة الحفاظ على الأشياء ما دمت ستفقدها ذات يوم، اختصرت كثيرا من السنوات، في البداية واجهت صعوبات.. تعرف مغريات الحياة.. الناس.. الضوء.. الدفء.. ربما ثماني مرات تركت فيها المقبرة وعدت الى الناس.. لكن.. حادث صغير بالنسبة للآخرين لكنه كان كافيا لاغلاق أبواب العودة أمامي.. ولو تركت المقبرة الآن فلن أجد مكانا واحدا يقبل بي.. رائحة الموت ملتصقة بي، بثيابي، وعرقي، في كل جسمي.. عندما أتنفس تخرج رائحة العظام المختلطة بالديدان، أشعر أنني لو جلست في حديقة خضراء ستتحول بعد ساعة إلى مقبرة…!! التفت العجوز إلى الشاب ونظر إليه للحظات وعاد يتأمل القبور:
– عمل معي قبلك عديدون لكن الخوف من العيش مع الموت يبعدهم دوما.. وعمري الكبير يجعلني أبحث عن شخص يمكنه أن….
– يمكنه ماذا؟
– أن يدفنني.. أعرف أنني سأموت وحيدا داخل تلك الغرفة أو بين القبور واحتاج إلى شخص يهيل علي التراب.. ويضع بعض الأوراق الخضراء على قبري، نظرات الآخرين تهرب مني وعندما تصطدم بي لا أرى فيها سوى الخوف والرعب.. أنا أمثل الموت بنظرهم.. قبل أسابيع وعندما ذهبت لأحلق لن أنسى صورتي تلك.. الحاجبان المقوسان للأعلى والعيون الغائرة للداخل، عظام الوجه البارزة والشفتان المتشققتان، كان وجهي وجه ميت.. أشعر بالموت يقترب مني، وعندما انهض من نومي لا افتح عيني.. اتحرك داخل الغرفة.. ثم اتجه الى الباب وبعد فتح الباب افتح عيني.. مرة واحدة لم ينفتح الباب لكنه كان كابوسا.. انهم ينادونني.. يأتون الى في أحلامي ويخبرونني انه أصبح لدي مكان بجوارهم ويتساءلون عن سبب عدم قدومي حتى الآن. صمت العجوز للحظة:
– عندما يأتي موكب أشمر عن يدي وبعد ذهاب الجميع اجلس بجوار القبر أتحدث اليه طول الليل، أحكي له قليلا عن حياتي.. هذا ليس جنونا لكن هذا الحديث الذي أجريه مع الموتى هو ما أبعد الجنون عني.. عندما أيأس من الحياة أتحدث.. لا يهم من يسمعني لكن المهم عندي أن أشعر بأن أحدا ما يستمع الي.. وجودك الى جواري الآن في هذا الليل يثبت لي انك ستكون حفار قبور جيدا، وحتى اذا فكرت بمغادرة المكان أرجو أن تأتي في يوم ما.. انظر الى الطرف القريب من المقبرة.. توجد صخرة صغيرة أريد أن أدفن هناك. وضع الشاب يده على كتف العجوز ومن بعيد تعالت أصوات الجنازة…
سمير عبد الفتاح (قاص من مصر)