يقول الأستاذ يوسف الصديق في إحدى مقالاته حول التساؤل عن غياب الظاهرة المسرحية بمقاييسها الإغريقية اللاتينية ومن ثمة الغربية: «لا تنتج الفلسفة إلا في المدينة, و لا يتأسس المسرح إلا في واقع عمراني مدني»(1) إن هذا الرأي على وثوقيته لا يحسم الجدل القائم حول السبب الجوهري الذي عطل أسباب ميلاد الظاهرة المسرحية في المدينة العربية الإسلامية ورغم ثبوتية شروط هذا الميلاد المجهض.
لكن صحة هذا الرأي في الحقيقة يقوم على شرعية القياس الذي يذهب إلى التأكيد على أن الظاهرة المسرحية الإغريقية كانت نتيجة للمدينة, أي «البوليس» (Polis) وهي المدينة التي كانت تنبع منها القوانين المدنية والتي بدورها كقوانين هي التي سنت قوانين المسرح.
إن التأكيد على ارتباط الظاهرة المسرحية بالظاهرة القانونية والتشريعية في المدينة الإغريقية لتأكيد على وظائفية الظاهرة المسرحية, من ذلك أن الموطن الأثيني في لحظة تقبله للقوانين والتعامل معها أو رفضها, يكون تعامله مع الظاهرة المسرحية ضمن إدراكه الكلي بان المسرح يتنزل ضمن الدائرة الذهنية الشاسعة لمنبع تلك القوانين نفسها التي أنتجت المدينة والمسرح كمفهومين متلازمين يربطاهما ويفرقهما الصراع والجدل الاجتماعي.
إن تقبل القوانين والتعامل معها, حسب هامش المصلحة الشخصية أو الجماعية,كان حافزا على إثارة الصراع وإدراكه لدى المواطن الاثيني الذي وجد في التعبير المسرحي أداة لتمثل هذا الصراع والإبانة عليه كحاجة حياتية تجاه الآخر الذي يقاسمه نفس الحيز والفضاء الجماعي. وفي هذا الصدد يشير محمد عزيزة إلى أهمية تجربة الصراع, فيقول: «فلو لم يعرف المسرح اليوناني تجربة الصراع لظل نشيدا مأساويا وحيدا… ولقد اشار أفلاطون في كتابه القوانين الى أن أثينا كانت (المدينة المسرحية) التي تسن قوانين المسرح مؤكدا بذالك أهمية فن الدراما في الصراعات الأيديولوجية والسياسية… أي بكلمة واحدة الحياة العضوية لأية مدينة».(2)
هذا الرأي الذي يركز على مسألة المدينة يمكن من خلاله التطرق إلى مفهوم طبيعة المدينة في الحضارة العربية الإسلامية وعلاقتها بغياب مفهوم الصراع المتعلق بنشأة مفهوم المواطنة وغياب الظاهرة المسرحية فيها. ان مفهوم المدينة في هذا السياق لا يتعلق هنا بالدلالة العمرانية أو الديموغرافية, بل بالحيز الرمزي الذي تؤسسه المدينة في علاقتها بمتساكنيها, وما تقوم به هذه الرمزية من وظيفة في تكوين الذهنية الاجتماعية بما في ذلك هوية الانتماء لدى الفرد. كما تحيلنا أيضا على الدلالة السياسية المتعلقة بحضور هذا الفرد نفسه في هذه المدينة العربية الإسلامية بمقابل المدينة الأخرى الإغريقية.
ودون الدخول في مقارنة بين بنية المدينة العربية الإسلامية وبين المدينة الإغريقية التي شهدت ميلاد المسرح لا بد من الإشارة إلى مسألة أساسية متعلقة بمصدر التشريع القانوني والسياسي وهي حسب رأينا النقطة المفصلية في الاجابة على مسألة غياب الظاهرة المسرحية (كتابة وفرجة) في الحضارة العربية الإسلامية. ان مصدر التشريع القانوني والسياسي في المدينة العربية الاسلامية ينبع أو هو مختزل بشكل ملموس في شخص الخليفة الحاكم «أمير المؤمنين» الذي يختزل في شخصه وربما في بطانته السلالية.. –خاصة عندما تحولت الخلافة الى ملك –احتكار العنف المادي والرمزي تجاه الرعية توطيدا للدولة القائمة بصورة جدلية على مبدأ المزج بين المقدس والدنيوي, وإذا كان الخليفة, الحاكم السياسي هو الذي يختزل «الدولة» في شخصه, فإن الدولة العربية الاسلامية منذ الأمويين قد: «وقع فيها قلب المعادلة التي حكمت الرؤية الإسلامية للعالم في مرحلة النبوة المتلخصة في خضوع السلطة السياسية لسلطة التعاليم الإسلامية المفارقة للتاريخ الدنيوي, حيث صارت الدولة تستعمل سلطة هذه التعاليم ذاتها, لتبرير العنف الدموي الذي تمارسه لفرض هيمنتها السياسية والاجتماعية وإقصاء الجماعات المعارضة لها من الفعل السياسي».(3)
إن محتكر هذا العنف في الحقيقة, هو محتكر لمفهوم المشاركة التي ينجز من خلالها مفهوم المواطنة, كما ينجر عنها تبلور مفهوم الفردانية وما يؤثر بشكل مباشر على رمزية المدينة كحيز أو فضاء تتحقق من خلاله جدلية الإختلاف والإتفاق.
ومن هذا المنطلق فإن موقع الحاكم-الخليفة في المدينة العربية الاسلامية لا يكون إلا وفق ذالك الانفصام مدنية الراعي ومدنية الرعية أي مدينة داخل مدينة تقطع بشكل جذري مع هامش المشاركة السياسية والمدنية على «العامة». وفي هذا المعنى يشير يوسف الصديق: «فالمدينة لدى الراشدين والأمويين كانت مجهولة أو مهجورة, ثم إن المدن لم تكن قد قام ببنائها هؤلاء الخلفاء, فهم لا يسكنون إليها, وإنما يسكنون فيها بدافع واجب المحافظة على الحكم الذي أناطه الإسلام بعهدتهم».(4) وبذلك تأسست في تاريخ المدينة العربية الاسلامية الخطوط الحادة بين الخاص والعام, و بين الرسمي والهامشي.
وقد مس ذالك اهم مجال تعبيري الا وهو الأدب الذي انقسم في الثقافة العربية الاسلامية الى ادب الخاصة وادب العامة دون ان يكون بينهما ترابط او تجاذب. وهو ما يفسر الى حد ما ان المظاهر الفرجوية الشعبية التي ظهرت في المدينة العربية الاسلامية لم ترتق لكي تتشكل ضمن ظاهرة مدنية ممأسسة تضفي عليها السلطة السياسية شيئا من الشرعية ضمانا لاستمراريتها وتطورها. وإنما ظلت هذه الظواهر الإحتفالية شبه المسرحية تتحرك ضمن الهامش الذي ولدته القطيعة في المدينة بين الخاص والعام وترتهن لناموس الارتجال والظرفية. وفي هذا السياق يشير يوسف الصديق إلى أن المدينة العربية: «لا تزال منذ العباسيين تعرض الدائم على مستويين اثنين : مستوى الجموع (ما يسميه ابن خلدون بالرعاع) وذالك من خلال المناظرات الكلامية. وعروض الدجالين والسحرة وأنصاف المجانين والمداحين والباعة و«الزوافرية»… ومستوى أصحاب السلطة من أرستقراطية دينية وسياسية وبرجوازية في القصور والحفلات وألف ليلة وليلة وليالي المنادمات والبذخ والهرج… وعلى هذه الأرضية استطاعت( ) الشعبية إن تنسج خطوط رؤيتها للعالم وطقوس التسامي واستطاعت الزندقة أن تعرض أدوارها الاستفزازية, وتتظاهر بميلها إلى العبث والتمرد وجنوحها إلى «الظهورية»(exihibitionnisme) لا يعترف الزنديق بوجوده دونها.»(5)
هذا الترابط بين المدينة العربية والإسلامية وبين طبيعة مصدر التشريع القانوني والسياسي وتموقعه ضمنها, وعلاقة القطيعة بين الخاص والعام وغياب مفهوم الفردانية والمواطنة وانصهار المسلم عقائديا ونفسانيا وهو المقصي من المشاركة السياسية في نوع من الطمأنينة المطلقة والمحددة بين طرفي المعاش والمعاد, تتعارض كلها مع بنية المدينة الاغريقية التي شهدت ميلاد الفن المسرحي. فأثينا كما يصفها أفلاطون في «القوانين» هي مدينة تياتروقراطية (théâtrocratie) أي مدينة تأثر فيها سلطة المسرح, وذالك لمدى إدراكه أهمية تدخل الفن الدرامي بشكل ملتبس في الصراعات السياسية والإيديولوجية, كما أن مصدر التشريع القانوني والسياسي يظل في هذه المدينة مصدرا وضعيا يتم في المدينة وبالمدينة مما يضمن لها قيمتها الرمزية من خلال مشاركة متساكنيها الأحرار في صياغة نواميسها وهو ما يرشحها أن تكون مصدرا للوحدة السياسية الدالة على الوحدة الوطنية وكما يشير إلى ذلك موسيس فانلي (moses Finley) (6).
و المدينة في هذه الحال في حاجة الى تعزيز هذا الدور, أي الشعور بالوحدة والانتماء الشيء الذي يدفع بالحاكم السياسي الاثيني لاستغلال كل ما يعزز أيديولوجيا هذه الوحدة عبر تعزيز ما يجمع الناس في هذه المدينة وعلى رأسها المسرح لا كمجرد ممارسة فنية ترفيهية فحسب بل كجهاز وسائطي بين السلطة والشعب, لذلك كانت الظاهرة المسرحية الاغريقية تستند إلى قرار سياسي, وهو ما توضحه جاكلين دي روميلي (Jacqueline de Romilly) حين تركز على الرابط الخفي بين المسرح وبين المدينة وهي تقول: «حين دخلت التراجيديا في الحياة الاثينية بفعل قرار رسمي, مندسة في سياسة كاملة للتوسع الشعبي, بدت في بداياتها مرطبة بنشاط مدني, و هذا الرابط لا يمكن له ان يضيق عندما يصبح هذا الشعب المجتمع في المسرح مسؤولا على تحكيم مصائره وهذا الرابط يفسر كيف أن جنس التراجيديا أصبح مرتبطا بازدهار سياسي».(7)
ان تلبس المدينة الاغريقية كتجمع حول الهوية والانتماء, أي بمفهوم التجمع السياسي, حتى من خلال الاشتقاق اللغوي الاتيمولوجي (Polis =مدينة, Politeia =سياسة) (8) يجعل من أنشطتها الجماعية والعمومية ومن بينها المسرح في قلب المشاركة السياسية, مما يرسخ عند الفرد الذي تحول بموجب قوانين المدينة إلى مواطن يزداد شعوره بالمسؤولية تجاه مستجدات الحياة التي تطرأ على وجوده في هذه المدينة, مما يضعه أويعرضه لحالة الصراع الدائم في أشكاله المتعددة وفق طبيعة المستجد الحياتي الذي يواجهه هذا الفرد, وهو ما يتم نقله بطريقة استعارية إلى أشكال الصراع المتعدد الذي يعيشها البطل التراجيدي كبديل رمزي للفرد الإغريقي. وقد أشار محمد عزيزة(9) محددا هذا الصراع الذي يعايشه البطل التراجيدي في أربعة مظاهر: صراع عمودي يتم فيه اختبار الحرية البشرية في مواجهة الإرادة اللاهية, وصراع أفقي يتم بين الفرد وبين قوانين المجموعة, وصراع ديناميكي, تواجه فيه العفوية البشرية القدر والتاريخ, وكذالك صراع داخلي يتأسس على التناقضات الداخلية التي تشحذ البطل التراجيدي لإكمال وجوده. هذه الوضعية التي تواجه الفرد المواطن في المدينة الإغريقية من خلال العملية الاستعمارية التي يوفرها المسرح تسمح للمدينة نفسها ككينونة اجتماعية وسياسية من تصريف العنف والاقتصاد فيه, وهو نفس العنف الذي تحتقنه المدينة العربية الإسلامية من خلال انفراد السلطة السياسية به, أي السلطة ذات الاستعارة الرعوية أو احتكارها له من خلال امتلاكها أو استبطانها لقدسية السلطة ذات المرجعية الدينية.
لذلك فإننا نرى أن الهامش الذي توفره المدينة الإغريقية باعتبارها المدينة «التياتروقراطية» على حد التعبير الافلاطوني في تشريك المواطنين الاثينيين في حل أو مقاربة أو استعراض النزاعات الأيديولوجية والسياسية, قد سمحت للمواطن الإغريقي من تمثل فردانيته وبالتالي اكتشاف حريته. ويسير جون دوفينيو (J.Duvignaud) أن المسرح في هذا السياق هو بمثابة «التمرين الشعري للحرية»(10) في لحظة تاريخية محددة تنتقل فيها اليونان من حالتها الأركاييكية إلى حالتها المعاصرة من خلال فاعلية القوانين الموضوعة التي تقي اليونانيين هول العقليات القديمة القائمة على العنف والثأر.
ولأنه بالامكان قراءة تاريخ المدينة الإغريقية من خلال النصوص المسرحية التراجيدية أو الكوميدية قراءة استعارية سواء تعلق الأمر بتاريخ ميلاد وحدتهم القومية أو ما تعلق بحياة المدينة نفسها كوحدة سياسية ومدنية دالة أو تاريخ الفرد الاركيتيبي الإغريقي, فإن المسرح في التحامه الشديد بمفهوم الحياة في المدينة ومن خلال قدرته الاستيعابية على تشرب العنف الجماعي وتفريغه من دمويته تحول إلى أداة يتم من خلالها التكوين أو التربية الجمالية للإنسان(11). وهي في الحقيقة تربية جمالية وسياسية وبمعنى آخر تربية مدنية تجعل من المسرح لا الأداة الدعائية التي تفرض من خلالها القوانين بل الأداة التي يتم فيها تبيان جدوى القوانين المدنية كبديل أقل ضررا وأكثر عدالة من القوانين العرفية الموروثة من العصور الاركايكية المظلمة المرتبطة بالشبكة الدموية لوجود الفرد (العائلة –القبيلة – الأجداد – الأسلاف الطوطمية…). والمسرح في الحالة الإغريقية هذه, والذي نشأ في التمفصل التاريخي بين الانتقال بالمدينة من الحالة الأركاييكية إلى الحالة التياتروقراطية لا ينبئ في الحقيقة إلا على تحول سياسي تزامن مع وضع القوانين المكتوبة واستطاع المسرح أن يعبر عنها(12), من خلال إدراك مبتدعيه أهمية الحفاظ على المدينة التي كانت قد ظهرت حسب رأينا كمفهوم ثابت في الشعر الدرامي وهو ما لم تعبر عنه الملاحم التي تخلو من فكرة المدينة المحكومة بالقوانين الوضعية, بل المسكونة بفكرة المدينة المناوئة التي يجب تدميرها كما هو الحال بخصوص مدينة طروادة, إذا اعتبرنا طبعا الملحمة كوثيقة تاريخية.
وفي المقابل فإن المدينة العربية الناشئة قبل الإسلام أو بعده, لا تزال في الحقيقة تتميز بمجموع من الخصائص والسيمات التي تجعلها في الطرف النقيض مع وظيفة نموذج المدينة الاغريقية التي شهدت ميلاد الفن المسرحي وبالرغم من تلك السيمات التي أورثتها الحضارة الهيلينستية لمدائن الشرق في بلاد الرافدين وما جاورها, بعد سقوط بابل على يد الاسكندر المقدوني.
وإذ نحن أخذنا نموذج مدينة مكة مثلا كنموذج للمدينة العربية الجاهلية والإسلامية, فإن هذه المدينة بقطع النظر عن كونها مستقرا عمرانيا وبشريا إلا أنها بالأساس «المدينة الحرم» التي حاول العرب خاصة بعد ظهور الإسلام استبطانها في تصورهم وإقامتهم للمدن العربية الإسلامية الجديدة. و«المدينة الحرم» في هذا السياق تعني أولا المكان التوبوغرافي المحدد الذي يتم على أساسه اختزال وتحديد الجغرافيا الدينية المقدسة الجامعة لا للمكيين فحسب بل لغيرهم من القبائل العربية الذين ينصهرون عند الحلول بها ضمن دائرة الهوية الأثينية الموحدة, وهي بذلك قد استحقت عند العرب لقب «أم القرى» بمعنى مدينة المدن دلالة على الأصل الجامع الذي يتم فيه اختزال بقية المدن أو القرى العربية, و هو أيضا اللقب الذي يرمز إلى التفوق على مدن غرب بلاد العرب وتدل كذلك على المركز الذي يتجه إليه الجميع(13)و ثانيا بمعنى الفضاء المقدس أي المدينة الاستثنائية على حد عبارة هشام جعيط التي لا تدانى وقد جعل منها التاريخ المدون اللاحق والمتأخر نموذجا إلهيا يعود إلى الزمن الكوني (14).
فمدينة مكة هي اختزال لمفهوم الفضاء الحرم الذي يتم فيه تحييد العنف الجماعي, بل إبطاله وهو ما يعني في نفس الوقت تجريد الداخلين فيه من أية هوية ثانوية أخرى, دموية أو قبلية أو تحالفي. وفي هذا السياق الخاص بتبيان دلالة الحرم يشير هشام جعيط إلى «إن الحرم المكي مستقر دائم, أو اتجه نحو الديمومة, وهو ليس كأماكن الحج والأسواق من حولها المحرمة في فترة معلومة. حرمة الحرم المكي عندما أخذت شكلها الثابت كانت تعني أن قبائل الجوار على الأقل يعترفون بها وأنهم استبطنوها.الاعتراف بها هو انتفاء للعنف.»(15) ويؤكد جعيط على الطبيعة اللامادية لهذا الحرم فيشير إلى انه «غير محاط بسياج ملموس, إنما سياجه في القلوب والعقول «(16)
لا شك ان مكة كنموذج أصيل للمدينة العربية الإسلامية قامت بالأساس على الاختزال القوي لمركزية الحضور الديني, ولعلها قد أورثت مع الإسلام هذه الشحنة الرمزية لمسيرة إنشاء المدن العربية الإسلامية الأخرى.لكن هذه الشحنة المقدسة على الحديث أو النظر لمسألة الوظيفة الدنيوية للمدينة العربية الإسلامية, وأهمها مسألة التواصل بين متساكنيها في أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر بشكل جدلي في بنية المدينة ومؤسستها الدنيوية, وهو ما يدفعنا إلى نوع من المقارنة بين المدينة الإغريقية النموذجية أثينا وخاصة وأن نوعا من التشابه والتماثل في البنية الشكلية لهذه المدينة خاصة على مستوى المساحة الرئيسية عادة ما توحد بين المقدس والدنيوي.و لعل هذه المساحة الحيادية عادة ما تكون نقطة تتأسس داخلها آليات الحراك الاجتماعي والثقافي لمجموع المتساكنين في هذه المدينة أو تلك. إن تشابها ما يتجلى انطلاقا من فكرة هذه المساحة بين مكة وأثينا وبين بقية المدن العربية ( الكوفة- بغداد- القيروان– القاهرة…), أي أن تشابها بين الأغورا (Agora) الأثينية وبين ما يسمى في بعض المدن العربية بـ«الرحبة». غير أن هذا التشابه الظاهر يخفي في الحقيقة لغزا ما مؤثرا في حركية المشاركة والإلغاء الاجتماعيين وأي نوع متعلق باقتصاد العنف وتصريفه.
يشير الباحث الفرنسي ميشال سار (Michel Serr) أن اليونان ابتكرت الدائرة مثلا وفي الممارسة البرلمانية وفي الأنساق الكسمواوجية معا.ويبحث جون بول فارنان (J.Pierre Vernant) في كتابه (Mythe et pensée chez les Grecs) عن العلاقات التي تربط هذه النماذج الأولى الصارمة للعالم بثورة قلبت النظام السياسي وغيرت تاريخه الاجتماعي فينتهي إلى النتيجة التالية :كان المتكلم يأخذ مكانه في المركز, على غرار الأرض والشمس ويحيط به المستمعون ويصغي كل واحد بدوره, ويتناول الكلمة بعد ذلك, يتحقق بهذه الطريقة تساوي الحقوق الديموقراطية الشهير ». (17)
وخارج هذا التصور الكوسموغرافي لأصل شكل الاغورا أو الساحة العمومية عند الإغريق فان هذه الاغورا تحولت إلى مؤسسة قائمة الذات من جملة المؤسسات الأخرى التي تقوم عليها «المدينة الدولة». وإذا كانت الاغورا في كثير من الأحيان مركز وفضاء لقاء بين مواطني المدينة, إلا انه لا يمكن وضع تعريف دقيق لمعناها التوبوغرافي والمؤسساتي, وبقطع النظر عن المعنى السائد (أغورا =ساحة عمومية) فإننا يمكن ملامسة وظيفتها من خلا ل ما يشير إليه أرسطو في كتابه «السياسة»حين يشير إلى أنها ارتبطت بالأساس بالنشاط القانوني والتحكيمي.فهو يذكر أن الاغورا استعملت في مدينة طيبة (Thébes) لمعاقبة مواطنين هما إفترون (Evtron) وأرخياس (Archias) أمام الملأ عندما ثبتت عليهما تهمة الخيانة الزوجية(18).وأثينا اتخذت من الاغورا مكانا للتحكيم (Arbitrage) وقد وضعوا من أجل ذلك تمثالا لرجل جالس كرمز لعملية التحكيم(19). كما إن هذه الاغورا الاثينية خاضعة إلى تقسيمات متواضع عليها لاجتماعات الكهنة والحكام(Les magistrats)(20) وكما أنها استعملت لوظيفة مراقبة العقود التجارية كما ان الأمن العام يشرف عليه «أغورانوميون» (Agoranomes)(21) وهذه المعاني التي يوردها أرسطو تؤكد أن الاغورا الإغريقية هي بمثابة المتمم لإدارة الشؤون الداخلية أو البلدية. كما يشير أرسطو في كتابه «دستور أثينا» إلى أن الاغورا قد شهدت أحداثا سياسية كبيرة ومن بينها خلع مجلس الثلاثين (Les Trentes) على إثر ثورة المواطنين وعدم رضاهم على تصريف شؤون الدولة- المدينة(22) وكما أن أرسطو يلمح إلى جانب الصفة الإدارية والسياسية للاغورا صفتها كفضاء مقدس لا بالمعنى الديني بل القداسة في مفهومها الأخلاقي المتعلق بمفهوم الحرية والفضيلة عند المواطن الإغريقي, حيث يتم منع أي متهم بجريمة المكوث أو المرور بالاغورا قبل محاكمته وفي المقابل يسمح له ولوج الصحن الخارجي للمعبد(23).
هكذا ترتسم وظيفة الاغورا كساحة عمومية وفضاء مشترك بين السلطة السياسية والمواطنين ومن ذالك أنه إذا اعتبرنا الاغورا فضاء مدنيا يتم فيه حل النزاعات من خلال آلية المحاكمة والعقاب والتحكيم فإن تقنين العنف في المدينة يستعرض نفسه بشكل مادي وفرجوي, لكنه خاضع في نفس الوقت للقوانين الموضوعة. غير أن إقناع المواطنين بهذه القوانين والامتثال إليها ليس بالمسألة الهينة, لذلك فإنه من خلال عملية استعارية وتنقيلية(Transposition) ومن منطلق اعتبار الاغورا فضاء سياسيا يقوم على الحسم فقط, فقد عمدت السلطة إلى إعادة إنتاج الاغورا بشكلها الدائري من خلال استبطان بنيتها في المسرح لتفسير هذه القوانين عبر الفن الدرامي, بمعنى آخر: تصريف العنف عبر التطهير(24). ومن هذا المنطلق قام المسرح الإغريقي بتفسير هذه القوانين التحكيمية لتربية الجمهور سياسيا عبر استعراضه لمظاهر العنف التقليدي الموروث, سواء في طبيعة الكائن اليوناني– و الطبيعة هنا معارضة الثقافة وبالتالي للمدنية- أو ضمن تاريخية الأزمات الوطنية في ذاكرة الأمة. ومن هذا المنطلق فإن المؤسسة المسرحية مكملة للمؤسسة التشريعية إلى الحد الذي يلتبس فيها السياسي بالمسرح ومما أثار حفيظة أفلاطون حين ينعت أثينا وبشكل سلبي بـ«التياتروقراطيا الدنيئة».
وارتباط المسرح بالاغورا السياسية والمدنية, يعبر في الحقيقة عن قطيعة حضارية في تاريخ الإغريق, وفي هذا السياق يشير ميشال سار فيقول: «قد تكون القطيعة راجعة إلى انقلاب خارق للعادة في الممارسات الاجتماعية. فقد تطورت الحاضرة اليونانية في عصري هزيود وأنكسيمندراس وافترض التسيير المشترك للشؤون العامة في الاغورا العمومية وهي ساحة وسط المساكن الخاصة عقلنة الحياة السياسية. ظهر اللوقوس (Logos) كخطاب جماعي لمواطنين متساوين ومن ثم ظهر العقل فورا وو انتقلت شؤون الحاضرة على عمومية العموم, بعد انتزاعها من المالكين والطبقات المحضوضة والمحاسبين والكهنة.»(25)
إذا كانت هذه الاغورا يعاد إنتاجها في المدينة الإغريقية من خلال استبطانها وتمثل بنيتها ووظيفتها من خلال المسرح, فهل يعني هذا أن الساحة أو الرحبة في المدينة العربية الإسلامية لم تشهد مثل تلك الوظيفة والمتمثلة في ذلك الفضاء الذي تتم فيه تلك المشاركة الاجتماعية وذلك الجدل الفكري بين المسلمين ؟
في هذا السياق بالذات, وبالعودة إلى نموذج مكة الأصلي في عهد الرسول محمد يشير الباحث هشام جعيط إلى أن مكة كانت تتمتع بهذه المساحة العمومية داخل الحرم الضخم والذي تقدر مسحته بـ20 على 20 كلم في أقصى امتداد, له بناء على ما يورد الازرقي في كتابيه «السيرة» و«معجم البلدان»: «أن الحرم باعتباره أرض مقدسة, محرمة ينفي عنها العنف إزاء كل ما هو حي, فهو أرض سلام مهيأة لاستقبال القبائل للحج والأسواق… إذ الحرم مؤسسة لبلاد العرب, بقيت حية حتى عهد الرسول.»(26) وقد تكون هذه المساحة متفقا عليها ضمن الجغرافية الداخلية للبلاد, عادة ما ترتبط بالمناسك والتجارة وأمور أخرى اجتماعية. وقد سمحت هذه المساحة العمومية حين تشكلت كبؤرة إجتماعية في مكة بتوفير فضاء قائم على التبادل المادي المتمثل في التجارة وكما قامت على التبادل الرمزي بخصوص حرية القول والجدل وجملة الأفكار المشتركة داخل المدينة وظلت بذالك مركز الثقل والانفتاح وربما لعبت هذه المساحة العمومية دورا سياسيا أوليا بين الناس والفصل بين منازعات القبائل والعشائر, ولنا في رأي الأستاذ جعيط في كتابه «تاريخية الدعوة المحمدية» ما يؤكد ذلك حين يشير إلى الجدل الفكري الحاضر في هذه المساحة, فيقول: «إن ضرورة الحفاظ على التوازنات بين العشائر والوجود الفعلي لحالة سلم داخلية, أفسح المجال لحرية القول والجدل. أما حرية التعبير فلم يمنعها النبي, وأما الجدل فموجود بكثافة في القرآن بين قريش والنبي».(27)
غير أن المساحة الأولية قد أعيدت صياغتها بعد ذلك في المدن العربية الإسلامية الناشئة, وتوزعت إما في شكل الأسواق أو الرحبة, كما هو الحال في مدينة الكوفة كنموذج المدينة العربية الناشئة. فالرحبة كما يشير إلى ذلك جعيط هي ظاهرة مدنية عمرانية عادية تتمثل في ترك فضاء ما أمام البنايات ويقربها من الاغورا حين يذهب إلى أنها: «الخلاء المفتوح انفتاحا كاملا, وهو يذكر بالساحة العامة (Agora) عند اليونان والميدان عند الفرس وبالساحة العامة (Forum) عند الرومان.»(28)
غير أن وظيفة هذه الرحبة بالمقارنة بالاغورا الإغريقية لم يكن لها نفس الدور التحكيمي والتشريعي والمدني وكما أنها ليست بالضرورة تلك المساحة التي يشعر فيها الفرد بالمشاركة في أمور المدينة وقضاياها خاصة إذا ما كانت هذه الرحبة, وهي عادة ما تكون بجوار المسجد الجامع, تحت سيطرة السلطة السياسية (الخليفة أو الوالي) حيث يتم تخصيصها للاحتفالات العسكرية واستعراض الجيوش بحيث أنها لعبت وظيفة المنصة لإبراز رمزية السلطة السياسية. (29) ولأنها تحت إشراف هذه السلطة السياسية فهي لم تتطور كفضاء اجتماعي أو فكري, بل أن وظيفتها اقتصرت في فترة ما كما هو الحال في الكوفة عند تعاظم السلطة على أن تكون حاجزا أمام الجماهير الغفيرة.(30) وبهذا المعنى لم تستطع الرحبة أن تضطلع بدور اجتماعي أو مدني قائم على المشاركة أو التشريك, بل باتت رغم فراغها تحيل على العنف ورمزيته السياسية, كما أنها لم تتطور لتصبح مؤسسة عمومية واضحة المعالم كما هو حال الاغورا الإغريقية.
ويبدو أن الفصل الحاسم بين المقدس والدنيوي كان جذريا في بنية المدينة, والمقدس هنا متداخل مع السياسي المشار إليه بتجاور المسجد والقصر, وتداخل وظيفة الزعامة والإمامة لدى الحاكم السياسي المسلم. ومن هذا المنطلق فان تشابه الاغورا والرحبة ليس إلا تشابها مضللا: خاصة وأن السلطة السياسية في المدينة العربية الإسلامية ليست بالسلطة التي تتكئ على قوانين موضوعة كما هو الحال بالنسبة لأثينا, وهي في ذلك ليست في حاجة لأداة استعراضية تقوم بالدور الإيديولوجي المساند لهذه القوانين كحاجة الاغورا الإغريقية للمسرح. ونعتقد أن السلطة السياسية وربما الدينية قد حيدت هذه المساحة العامة, كما حيدت الأسواق من أي نشاط اجتماعي تداولي بإمكانه أن يشكل رأيا عاما سياسيا أو ثقافيا يسهم في المطالبة بالمشاركة السياسية على مستوى أفقي, في الوقت الذي كان فيه بالامكان تطوير الفضاءات العمومية في اتجاه مؤسساتي يقوم على مبدأ تشريك الناس. إن هذه الحالة من احتكار السلطة السياسية لهذه المساحة العمومية دفع بالمدينة العربية الإسلامية على تمكين العامة من فضاءات أخرى هامشية غير ثابتة قد تخفى عن عيون رقابة السلطة وفيما يتم تشكل الرأي العام حول الحياة السياسية. وهذه الفضاءات عبارة عن جيوب هامشية تتشكل تارة في الأسواق وتارة في المساجد والتكايا وأخرى في الحمامات والخانات والارباض, وحتى في الخرائب وتحت الجسور.و قد احتضنت هذه الفضاءات الهامشية مظاهر ثقافة شعبية وبلورت لبنات المخيال الشعبي والذهنية الاحتجاجية كردة فعل على هذا النوع من من الإقصاء الاجتماعي وهو ما يمكن أن نستشفه من كتابات التوحيدي والجاحظ في العصر العباسي, إلى جانب كون هذه الفضاءات الهامشية احتضنت بدورها بذور الانتفاضات والفتن السياسية على جانب كونها شكلت إطارا لتمذهب الديني والسياسي الشاق عصا الطاعة للسلطة الرسمية.
وفي هذه الحالة من الإقصاء والتشدد الديني والسياسي الرسمي الذي صاحب ميلاد وحياة كبريات المدن العربية الإسلامية وأمام غياب سلطة رسمية تحتضن ما يمكن أن ينتج تقاليد فنية فرجوية عميقة التأصل بمشاغل الناس كما هو الحال في بلاد الإغريق. هذا وقد ظل الأدب العربي الناشئ في هذه المدن خاصة الشعبي منه وكما ظلت المظاهر الفرجوية الشعبية تتسربل بنوع من «المسرحة» (Théâtralité) الهشة التي لا ترتقي إلى أن تكون تلك التعابير الأدبية والظواهر الفرجوية فنونا قائمة الذات تتأسس على جمالية مدنية وتتمتع بدور ثقافي واجتماعي يؤسس لمجال من الممارسة الفنية ذات الاتصال العريق بمشاغل الناس. ويشير يوسف الصديق في هذا الشأن: «بدأت المسرحة تظهر في الأدب والظواهر المسرحية على هامش السنة أو ضدها في بعض الأحيان وبدأ النفس المسرحي والمكتوبة (أو المقالة الضائعة التي لا تدون قبل أو بعد إلقائها) و بدون أن يصل بهذه النصية إلي عمل عرض تمثيلي قائم بذاته كعمل فني. ففي المدينة يزول البعد وتتقلص المسافة ويستحدث زمن تتحدد نبضات صيرورته بالحفلات المقامة.».(31)
وبالمقابل وبالرغم من هذه الظواهر التعبيرية ذات المسرحة الهشة فإنها حاولت الاستمرار على مدى قرون من التهميش, إلا أن السلطة السياسية في المدينة العربية الإسلامية قامت بدورها في احتكار الفرجوي لنفسها كمتمم لعملية احتكار العنف وينبئنا المؤرخون كالمسعودي وغيره كم كانت الدولة العباسية مثلا تجتهد في إبراز هيبتها القمعية من خلال مسرحة (Théâtralisation) مشاهد التنكيل والتعذيب لقمع الثوار الخارجين على الطاعة فيما يشبه إقامة كرنفال قداسي مثلما حدث في مشاهد التعذيب الفرجوية ببابك الخرمي وأخيه ومحفل السخرية منهما أمام العامة في بغداد (32). ويمكن اعتبار مشاهد التعذيب والتنكيل في المدينة العربية الإسلامية والذي يتخذ صفته الفرجوية تلك «فنا» قائم الذات وإحدى المظاهر الاحتفالية المعبرة عن الاحتكار المطلق للسلطة وقد أقيمت هذه المظاهر الفرجوية في الرحاب وفي الساحات العمومية والأسواق, ولنا في المنمنمات الهندية والفارسية التي يوردها لويس ماسينيون (Louis Massignon) حول مشاهد صلب وقتل المنصور الحلاج ما يعبر في الذاكرة عن هذا التمسرح الطقسي في مجال التعذيب والتنكيل (33).
هكذا ومن خلال المقارنة بين وظيفة الاغورا الاغريقية من جهة وبين وظيفة الرحبة أو الساحة العمومية العربية الإسلامية وكذلك من خلال تحديد موقع الفرد في كلا الفضاءين, فإننا نقف على الوظيفة المدنية الغائبة في فضاء الرحبة العربية الإسلامية فالاغورا الاغريقية سمحت للمواطن في أثينا بتحقيق فردانيته وشعوره بالحرية ومن ثمة إدراكه لمفهوم المواطنة وكما نقف على عضوية الاغورا في تأصيل هذا المفهوم باعتبارها المؤسسة الاجتماعية والمدنية المعاضدة للمؤسسة المسرحية والتي أشرنا إليها من خلال عملية الاستعارة الشكلية والمضمونية مما يجعل المسرح امتدادا لها. وهو امتداد نلمسه في العلاقة المتشابهة بين الاغورا من جهة وبين المسرح من جهة أخرى في تكامل وظيفة خدمة القوانين المدنية وحل النزاعات السياسية واستفراغ احتقانات العنف بين مختلف مركبات المجتمع في المدينة– الدولة. ومن خلال هذه المقارنة أيضا, فإن سؤالا يطرح نفسه بناء على تلك المقارنة بين الاغورا والرحبة, وهو التساؤل عن السبب المعطل لتطور هذه الرحبة أو الساحة العمومية في المدينة العربية الإسلامية في لعب دورها المدني والثقافي كالذي قامت به الاغورا.
إن الإجابة عن هذا السؤال الصعب لا يمكن حسب رأينا الإجابة عليه بشكل حاسم نظرا للعوامل التاريخية والدينية والسياسية الحافة بنشأة المدينة العربية الإسلامية نفسها.
إن ما يمكن أن يشكل نواة إجابة شافية عن هذا السؤال, حسب رأينا, هو ما يمكن أن نجده في الرأي الذي يذهب إليه الأستاذ جعيط حين يشير إلى تفرد السلطة السياسية الحاكمة في المدينة العربية الإسلامية بالقرار السياسي خارج مفهوم تشريك الآخرين أي العامة في الخوض في شؤون المدينة, وذالك حين يقارن بين الاغورا والرحبة في نموذج مدينة الكوفة, فيقول: «فما القول إذن في وظائف الاغورا الكلاسيكية ووظائف الرحبة الإسلامية إذا ما سلمنا باقتباس ما؟ كان للاغورا اليونانية في الفترة العتيقة وضيفة تجارية, وأضافت الاغورا في الفترة الكلاسيكية إلى ذلك وظيفة سياسية فأصبحت المجال الحيوي للعلاقة الاجتماعية ومكانا للمداولات والمناقشات. لكن رحبة الكوفة ورحبة بغداد بدرجة أقل لم تكونا إمدادا للسوق ولا ساحة سياسية, ولا حتى مكانا للمداولات. عن صمت المصادر العربية عن هذا الموضوع ناطق مبين. لقد كان القصر يجمع في قبضته قوة القمع والقرار فكان في بداية الأمر يوظف الرحبة إما لجمع رجاله, وإما لإظهار قوته عبر الاستعراضات العسكرية». (34)
إن غياب الساحة العمومية كمجال حيوي للعلاقات الاجتماعية وفضاء للمداولات والمناقشات قد أسهم حسب رأينا في عدم قيام هذه المساحة العمومية في المدينة العربية الإسلامية في بلورة هذه الحاجة إلى ظهور أدب وتصور في شكل ممارسة فنية تكون مرادفا لظهور الظاهرة المسرحية كما هو الحال في دور الاغورا الإغريقية في ظهور المسرح ومعاضدته خاصة.
إن مثل هذا المجال الحيوي للعلاقات الاجتماعية ضروري في مراكمة الإحساس بتلك الفردانية الضرورية التي يتحقق فيها الوعي بالحرية اللازمة للتعبير عن هواجس الفرد داخل الجماعة. إنه العنصر الأساسي الغائب الذي يصفه الأستاذ جعيط بظاهرة «بزوغ الفردانية» أي: «شعور الفرد بذاته وبمصالحه والتركيز على الانا على حساب انصهار وتكافل المجموعة عشيرة كانت أم قبيلة.»(35) والذي اثر حسب رأينا في اجتراح الجماعة المدنية لشكل تعبيري يحقق ازدواج الكتابة والعرض الفرجوي لممارسة تنحو نحو التمأسس (Institutionnalisation) تكون فيه السلطة السياسية والمدنية طرفا سياسيا.و يمكن اعتبار هذا الغياب للوظيفة الاجتماعية للساحة العمومية في تاريخية المدينة العربية الإسلامية سببا رئيسيا في عدم تطور فن مسرحي في الثقافة العربية الإسلامية على شاكلة ما عرفه الإغريق.
إن فكرة ارتباط المسرح بالمدينة, ومن ثمة ارتباطها بالمساحة العمومية, كمجال حيوي للعلاقات الاجتماعية الملتبسة بالمشاركة السياسية تحيلنا مباشرة على التساؤل حول دور هذه السلطة السياسية في مساهمتها في تثبيت موانع استنبات الظاهرة المسرحية في المدينة العربية الإسلامية, وهو ما يدفعنا منطقيا إلى التساؤل حول فكرة الحرية الفردية من جهة وعلاقتها بالسلطة, أي بطبيعة الحكم في الإسلام, كمجال مفهومي تنخرط فيه هذه الحرية الفردية– إن وجدت – ورصد مساهمتها وانعكاسها في اجتراح تعبير رمزي وفني – كما هو حال المسرح – يدعم حيوية العلاقات الاجتماعية ويدفعها نحو تمثل المشاركة في المجال السياسي كمجال واسع يدرك أهمية التواجد الاجتماعي في المدينة ويحولها إلى مطلب استحقاقي.
في البداية لا بد من الإشارة إلى مسألة ثابتة يجمع عليها الكثير من الدارسين, في أن مسيرة السلطة السياسية في الإسلام تتلخص في أن مفهوم الدولة قد انتقل تاريخيا من مفهوم الخلافة كمفهوم طوباوي إلى واقع نظام سياسي يعرف بـ«نظام الملك». وكلاهما أي الخلافة والملك في علاقة وطيدة وعضوية بالدين.
فإذا كانت الخلافة قائمة على «الإلهام الديني», فان انقلاب الخلافة إلى ملك, جعل من هذا الملك قد قام على إرادة الحاكم الفرد أي الحكم الذي بمقتضى الطبيعة البشرية هو الملك القاهر المتحكم(36). وهو الحاكم الذي يستند إلى الدين (الإسلام) في إظهاره الحفاظ على الشرع وتطبيقه. لذلك فان التداخل بين السياسة والسياسة أمر ثابت لا مناص منه في تاريخ الدولة الإسلامية أو الدول التي انتسبت للإسلام في مصدر حكمها وتشريعها. وفي هذا الإطار لا يمكن أن نتصور مفهوما للسلطة خارج مرجعية الدين ولايمكن الحديث عن نظرية سياسية إسلامية خارج الدين والشريعة. ويبدو أنه منذ قيام الدولة الأموية وصولا إلى دولة التنظيمات في القرن التاسع عشر قد أ خضعت السلطة السياسية حاجتها على الاعتماد على السلطة الفقهية للحفاظ على شرعيتها لتبرير القهر واحتكار العنف تاريخيا. ومن هذا المنطلق يظل تطبيق الشريعة في قلب تحديد مفهوم السلطة, ومفهوم الفردانية ثم الحرية.
إن تطبيق الشريعة قبل قيام الملك, أي زمن الخلافة كان القصد منه, كما يشير إلى ذلك عبد الله العروي, «تطبيق مكارم الأخلاق» ومما يجعل العلاقة بين سلطة الخلافة الإسلامية والشريعة علاقة تكاملية على خلفية الإلهام الإلهي الذي تركه تراث النبي المؤسس ومن أجل تحقيق العدل. غير أن وظيفة الشريعة عند انقلاب الخلافة إلى ملك قد غيرت موقعها من وضعية الهدف إلى الوسيلة. أي أنها لم تعد غاية تسعى الدولة إلى تحقيقها بل الأداة التي تستعملها الدولة لتركيز وتثبيت سلطتها, وقد عبر العروي عن هذا التحول في الصياغة التالية: «تحت ظل الملك تخدم الشريعة أهداف الدولة, وتحت ظل الخلافة تخدم الدولة أهداف الشريعة.».(37)
هذا التحول في العلاقة بين السلطة والشريعة حول مبدأ تطبيق الشريعة إلى هوس لدى سلطة الملك دفعتها لصياغة ذهنية سياسية تقوم مقام المرجعية الايديولجية لممارسة الحكم, من منطلق التبادل التكاملي المزيف بين السياسة الحكومية والشريعة الإسلامية على مستوى الوظائف والمقاصد, بمعنى استعانة الحاكم بالفقهاء في تثبيت الحكم وإضفاء الشرعية المقدسة تجاه الرعية, واتقاء الفقهاء على الحاكم من أجل صيانة العقيدة وتحقيق الحد الأدنى من العدل, أي أن العلاقة التكاملية تحولت إلى علاقة تواطئية فيها «يخدم الحاكم الشريعة ظاهرا لأن الشريعة تخدمه باطنا, فالهدف هنا من إقامة معالم الشرع هو دوام الملك وتوسيع النفوذ, وإن حصلت نتيجة أخرى فبالتبعية.»(38)
وفي ظل هذا النظام, تم علاوة على احتكار العنف, احتكار الرأي السياسي وأي رأي المشاركة, وانحصر الخوض في المسائل السياسية على المستوى النظري عند الفقهاء, من منطلق تلك العلاقة التواطئية, وانحصر هذا الجهد فيما بات يعرف بـ«الآداب» الذي وطد أيديولوجيا هذا الحكم في ممارسته للسياسة من منطلق تثبيت القطيعة بين الراعي والرعية ويمكن تلخيص أيديولوجيا هذه الآداب من خلال مرتكزاتها ومقوماتها الثلاث التي حددها الجابري وهي الترفع عن «العامة» والنفور منها, الانبساط مع الخاصة وبناء المعاملة معها على المجاملة والتودد, والانصياع التام لـ«الحاكم» والسير على طاعته وتقدير الأمور على هواه. وهي المبادئ التي تقوم جميعها على مبدإ جامع: هو إنزال الناس منازلهم(40). ومن هذا المنطلق فان احتكار الرأي السياسي في الدولة مع تواطؤ الفقهاء منع من تشكل طبقة مفكرة ومؤثرة في تشكيل الرأي السياسي الحر, بمعنى تفويت الفرصة على نشأة نوع من الانلجنسيا بإمكانها النظر بشكل مستقل عن السلطة الحاكمة وداخل شرائح المجتمع في المدينة العربية الإسلامية وبالشكل المؤثر الذي لعبه فلاسفة الإغريق في شؤون المدينة. وكنتيجة لهذه الوظيفة التي قام بها الفقهاء –فقهاء الآداب – تم تضييق مجال الحرية الفكرية والسياسية التي بموجبها أن تؤسس لهذا المناخ الاجتماعي التواصلي والتشاركي الذي يسمح كما سمح للإغريق بتأسيس مدنية المواطنة الحرة.
إن الحرية في ظل الدولة هي حرية مشروطة تحت رقابة الدولة والتي هي بمثابة «العين الإلهية» المراقبة لكل شيء وذالك أن هذه الحرية وإن وجدت فهي حرية منطوقة بإرادة الحاكم ويشير العروي في هذا السياق حول وضعية الحرية في ظل دولة التسلط فيقول: «هذا واقع الدولة: مفهومها هو التسلط. لا يمكن تصور دولة بلا قهر وبلا استئثار جماعة معينة للخيرات المتوفرة. وبالمقابل لا يمكن تصور الحرية إلا خارج الدولة أي في نطاق الطوبى». لكن هل يكفي تمثل الحرية كطوباوية, وهو ما التجأ إليه الفقيه والأديب والمتصوف.(41)
لكي تكون هذه الرغبة في الحرية رغبة ملحة تجاه احتياجات المجتمع نفسه في ظل دولة سلطانية ؟
إن طبيعة النظام السياسي القائم على القهر في ظل الدولة وعلى الاعتماد على الفكر الفقهي الديني القائم على أيديولوجيا التحريم كأداة فعالة لدرئ الفتنة أدى إلى حالة من القطيعة الدائمة بين الفرد والهم السياسي من جهة وبين الفرد والمجتمع من جهة أخرى, كما أدى إلى إرباك تشكل الفردانية تشكلا اجتماعيا ومدنيا, بل سرح هذه الفردانية في دروب هامشية أخرى تنأى عن بؤر التفاعل الاجتماعي. فكانت هذه الفردانية إما انطواء ميتافيزيقيا – عزلة المتصوف مثلا – أو تشرذما اجتماعيا وفكريا. وكانت من بين أهم نتائج هذه الوضعية تحقيق مجتمع اللامشاركة واللاختلاف. وهو ما حدد, حسب رأينا, ثنائية الانخراط إما في الرسمي الذي يعني الأتباع أو الهامشي الذي قد يعني الإبداع. كما انعكست هذه الوضعية على عدم تمثل فلسفة سياسية تشاركي تسمح كما سمحت للإغريق في القرن السابع قبل الميلاد بابتكار فن تعبيري يعبر عنها– وهو الفن المسرحي– ويحقق الوعي بالمدنية من خلال الربط بين المجال العمومي الذي تمثله الاغورا أو المجال المخيالي الذي يمثله المسرح. ونعتقد أن الانفصام في العلاقة بين الخاص والعام, والتي تعتبر التجربة السياسية فيه سببا رئيسيا في إجهاض مشروع استنبات أو ظهور ظاهرة تعبيرية مسرحية خاصة إذا ما أدركنا الخلفية السياسية التي تقوم عليها. ويشير عبدالله العروي في هذا السياق: «إن جوهر التجربة السياسية تحت ظل الحاكم هو التناقض المعروف بين المدينة والبيت, أي بين السلطة العمومية وسلطة الفرد نفسه. الفرد داخل الدولة مستعبد بالتعريف فلا يعرف الحرية إلا إذا خرج منها أو عليها.»(42)
إن هذا التناقض بين السلطة العمومية وسلطة الفرد والذي صاغ التجربة السياسية في تاريخ مجتمع الدولة جعل الفرد في المدينة العربية الإسلامية رهينة ضمن ثنائية الامتثال أو المروق, أي الامتثال لايدولوجيا الآداب الحكومية المكرسة بدورها لقداسة السلطة وهيبتها, أو المروق عنها بالانعزال أو التمرد. كما أن هذا التناقض قد صاغ بدوره التجربة الإبداعية وتحكم بمسارات هذا المخيال الجمعي الذي كان تعبيرا في مجمله عن هذا الخروج والمروق من قهر السلطة السياسية والدينية, وانخراط الميراث الأدبي والفرجوي في دائرة الهامش, أي في مواجهة سياسة السلطة السلبية في موضعين:
موضع عدم السعي إلى احتضان تعبيرات هذا المخيال ضمن اطر مؤسساتية. و موضع التعرض إلى قمع تعبيرات هذا المخيال بحجة التحريم والتشهير تحت شعارات البدع, أو تحت مبدأ: «إنزال الناس منازلهم».
الهوامش والإحالات:
(1) يوسف الصديق: نحو مسرحة ذات ذات أرضية عربية إسلامية– ثم ماذا ؟ (مقال) مجلة «ثقافة», إصدار دار الثقافة ابن خلدون, العدد 8, ص 42, تونس 1972.
(2) محمد عزيزة: الإسلام والمسرح, ترجمة: رفيق الصبان, منشورات عيون,الدر البيضاء 1988, ص17.
(3) محمد الجويلي: الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي بين المقدس والمدنس, سراس للنشر والمؤسسة الوطنية للبحث العلمي, تونس1992, ص62.
(4) يوسف الصديق, نفس المرجع, ص42.
(5) نفس المرجع ص 42-43.
(6)Moses i. Finley.Les premiers temps de la grece, l’age de bronze et l’ époque archaïque. Flammarion Paris 1980.p 111.
(7) Jacqueline de Romilly. La tragédie grecque /PUF.Paris 1970.
(8) أنظر المعجم العربي – الإغريقي بخصوص كلمة : «بوليس»
(9) محمد عزيزة, نفس المرجع, ص19و20
(10) Jean Duvignaud. Sociologie de théâtre, sociologie des ombres collectives.PUF. Paris 1965. p 224.
(11) Idem.
(12) Idem.
(13) هشام جعيط, الكوفة نشأة المدينة العربية الإسلامية, دار الطليعة بيروت, طبعة ثانية بيروت 1993 ص206
(14) نفس المرجع,ص207
(15) هشام جعيط, تاريخية الدعوة المحمدية في مكة, دار الطليعة بيروت, طبعة أولى, بيروت2008,ص125-126
(16) نفس المرجع, نفس الصفحة
(17) ميشال سير, أصول الهندسة, ترجمة جمال الدين بادو, نشر الفنك, الدار البيضاء
(18) -Aristote. Politique.texte établi et traduit par Jean Aubonnet.coll. tel Gallimard. Paris 1993. p169,170.
(19) Ibid, p195.
(20) Ibid, p 112.
(21) Ibid, p 243.
(22) Aristote. Constitution d’ Athenes & Xenophon. Constitution de Sparte. coll. tel Gallimard. Paris 1996.
(23) نفس المرجع ص 177
(24) Voir a propos de la purgation de la violence l’essai de Jacqueline de Romilly “ la grece antique contre la violence “ Edition de Fallois.Paris 2000.
(25) ميشال سار, مرجع مذكور, ص84
(26) هشام جعيط, الكوفة, مرجع مذكور, ص207
(27) هشام جعيط, تاريخية الدعوة, مرجع مذكور, ص37, 138
(28) هشام جعيط, الكوفة, مرجع مذكور, ص207
(29) نفس المرجع, نفس الصفحة.
(30) نفس المرجع, نفس الصفحة
(31) يوسف الصديق, مرجع مذكور, ص42
(32) أنظر خروج بابك الخرمي زمن المعتصم في «مروج الذهب» للمسعودي, الجزء الرابع, من صفحة 64 إلى صفحة 69, نشر دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى (دون تاريخ)
(33) Voir les miniatures de la lapidation de Hallaj*(in)Louis Massignon. La Passion de Hallaj.martyr mystique de l’Islam.tome III. nrf.Editions Gallimard/ Paris 1975
(34) هشام جعيط, الكوفة, (م,م) ص 111 و112
(35)هشام جعيط, تاريخية الدعوة,(م,م) ص 141
(36) عبدالله العروي, مفهوم الدولة, المركز الثقافي العربي, بيروت – الدار البيضاء, الطبعة الرابعة 1988, ص 94.
(37) العروي, نفس المرجع, ص 104.
(38) العروي, نفس المرجع, ص107.
(39) محمد عابد الجابري, العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته, مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة الخامسة, بيروت 2004,ص 342.
(40) العروي, مفهوم الدولة,(م,م) ص 115.
(41) أنظر تمثلات الحرية في الثقافة العربية الإسلامية كما يناقشها العروي في كتابه «مفهوم الحرية» نشر المركز الثقافي العربي.
(42) العروي, مفهوم الدولة,(م,م), ص116.
عبد الحليم المسعودي كاتب من تونس