جوان أكوتشيلا*
ترجمة: نجاح الجبيلي- كاتب ومترجم عراقي
كان منتصف القرن التاسع عشر هو الزمن الذي بدأ فيه الكثير من الغربيين يشكّك بحقيقة الكتاب المقدّس التاريخية. هل حقًا أننا جميعًا ننحدر من آدم وحواء، اللذين خلقهما الله على صورته ووضعهما في جنّة جميلة، ثم طردهما من هناك بسبب خطاياهما؟ فهل زاد نسلهما من شرّهم، إذ قرر الربّ أن يغرقهم جميعًا في طوفان عظيم؟ وهل بعد أن رأى الدمار الذي أحدثه، قطع عهدًا مع العائلة الوحيدة الباقية، عائلة نوح، ووعد بأنّه لن يرفع يده مرة أخرى على خليقته؟ قرّر، وفق الكتاب المقدّس نسخة الملك جيمس، أنّه “طالما تبقى الأرض، لن يتوقف وقت الزرع والحصاد، والبرد والحرارة، والصيف والشتاء، والنهار والليل”. طمأنت هذه القصة الناس قرونًا عدّة. على الرغم من أننا قد نخطئ، لكننا نأمل في رحمة الله، لأن هذا هو ما وعد به نوح.
بحلول أوائل القرن الثامن عشر، كان العلماء من مختلف المجالات الناشئة، الجيولوجيا وعلم الآثار وعلم الحفريات، يقدمون أدلة على أنّ الأرض كانت أقدم بكثير مما كان يظن أيّ شخص، وأن المجتمعات البشرية كانت موجودة قبل وقت طويل من أزمان الخلق والتاريخ والفيضان المحدّدة. في العام 1859، طرح تشارلز داروين، في كتابه “أصل الأنواع”، نظرية تشير إلى أن البشر ربما لم ينحدروا من آدم وحواء، بل من حيوانات أدنى، ذات فراء. وليس من المستغرب أن تواجه مثل هذه الأفكار معارضة شديدة. لقد ضاعف العديد من العلماء والدارسين جهودهم للعثور على دليل على حقيقة الكتاب المقدس.
في الوقت الذي كان فيه داروين يؤلّف كتابه، أصبح الشاب اللندني جورج سميث، الذي ترك المدرسة في سن الرابعة عشرة وكانَ يعملُ نقّاشَ أوراقٍ نقدية، مفتونًا بتقارير القطع الأثرية التي كان المستكشفون يعثرون عليها فيما يُسمّى اليوم “العراق” وتُرسل إلى إنجلترا. وكما كتب ديفيد دامروش في كتابه “الكتاب المدفون” (2007)، قضى سميث ساعات الغداء في المتحف البريطاني، يدرس مقتنياته. لاحظه الموظفون في النهاية، وفي العام 1866، عينته الإدارة للمساعدة في تحليل عشرات الآلاف من كِسر الطين التي تم شحنها إلى هناك قبل سنوات وكانت موجودة في صناديق تخزين المتحف.
كان الموقع الذي جاءت منه الألواح يسمى نينوى، وهي مدينة مهمة في بلاد ما بين النهرين القديمة، والسبب في العثور على العديد من الألواح في مكان واحد هو أنها بقايا مكتبة مشهورة، وهي مكتبة آشور بانيبال، ملك الإمبراطورية الآشورية الجديدة في القرن السابع قبل الميلاد. حين تم التنقيب عن الألواح لأول مرة، لم يتمكن أحد من قراءة النص الغريب، الذي سُمّي فيما بعد بالكتابة المسمارية، نسبة إلى الرموز التي تشبه المسامير التي كتبت به. وقد عمل العلماء على ذلك عقودًا من الزمن.
وانضم جورج سميث إلى عملية البحث. لقد درس القطع لمدة عشر سنوات تقريبًا، وكان هو الذي وجد المقطع الأكثر شهرة منقوشًا عليها، وهو وصف فيضان عظيم قضى على البشرية بأكملها تقريبًا، مع بقاء عائلة رجل واحد على قيد الحياة. حينَ قرأ هذا أصبح جدّ متحمسًا لدرجة أنه قفز من كرسيه وركض في جميع أنحاء الغرفة، ومزّق ملابسه. يمكن لهذه الوثيقة القديمة أن تدعم حقيقة سفر التكوين، أو هكذا بدا لسميث والآخرين. في العام 1872، عندما قدم سميث النتائج التي توصل إليها إلى جمعية علم آثار الكتاب المقدس، كان حتى وليام جلادستون، رئيس الوزراء، حاضرًا. أصبحت أخبار هذا الاكتشاف تملأ واجهات الصحف في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. وسرعان ما منحت صحيفة ديلي تلغراف اللندنية سميث منحة للذهاب إلى المنطقة لمعرفة ما إذا كان بإمكانه إضافة المزيد إلى النتائج التي توصل إليها. وفي غضون أيام، عثر على اكتشاف مهم، وهو لوح بدا كأنّه يكمل قصة الطوفان، وقام المتحف البريطاني بتمويل رحلتين إضافيتين له. وفي الثانية توفي بالزحار في حلب، وهو ابن ست وثلاثين سنة. لم يعش قط ليدرك أنه، في الواقع، لم يثبت حقيقة العهد القديم بلوحه الطيني. (كان من الممكن أن تنحدر روايتي “الطوفان” من مصادر أقدم، ومن المحتمل أن تكون خيالية). ومع ذلك، فقد فعل شيئًا آخر. لقد اكتشف ما كان آنذاك، وما زال، أقدم قصيدة طويلة في العالم، “جلجامش”.
لقد نشر الشاعر والباحث مايكل شميدت الآن كتابًا رائعًا بعنوان “جلجامش: حياة قصيدة” (برينستون)، وهو عبارة عن رحلة عبر الملحمة، وسرد أصولها واكتشافها، والحالة المتشظّية لنص القصيدة، والعديد من العلماء والمترجمين الذين تناولوا معناها. يشجعنا شميدت على رؤية “جلجامش” ليس كتكوين مكتمل ومهذّب، ملحمة أدبية، مثل الإنيادة، وهو ما يود كثير من الناس أن تكون عليه، بل كشيء أشبه بالحياة، غير مرتب، غامض. ويعتقد أنه من خلال قراءتها بهذه الطريقة فقط، سنقترب من نسيجها الخشن ولبّها الصلب.
نلتقي بجلجامش في السطر الأول(1). إنه ملك أوروك، وهي مدينة رائعة ذات أسوار عالية في جنوب بلاد ما بين النهرين. كانت والدته إلهة وكان والده بشرًا. وبناء على ذلك، فهو نموذج جيد لرجل، يبلغ طوله أحد عشر ذراعًا (سبعة عشر قدمًا) وعرض صدره تسعة أشبار. ومع ذلك، فهو ليس حاكمًا مثاليًا. إنه يرهق شباب مدينته بالمسابقات الرياضية، وعندما يتزوجون يصرّ على حق الليلة الأولى: فهو، وليس العريس، الذي يقضي ليلة الزفاف مع العروس.
يشتكي شعب أوروك إلى الآلهة من سلوك جلجامش، وردًا على ذلك، أخذت الربة الأم أرورو قطعة من الطين، وصنعت منها إنسانًا جديدًا، هو أنكيدو، ليكون صديقًا لجلجامش ويصرفه عن عاداته السيئة. كان أنكيدو عملاقًا أيضًا، لكنه ليس بحجم جلجامش. لأول وهلة، هو يشبه إلى حدّ كبير الحيوان، وجسده مغطىً بالشعر ويركض مع الغزلان على أربع ويشرب معها عند نبع الماء. لكن لديه ذكاء بشري. فهو ينقذ دائمًا رفاقه من الحيوانات من الفخاخ. حين يعترض أحد الصيادين المحليين على أن أنكيدو يتدخل في معيشته، يُطلب منه إحضار بغي المعبد، عشتار أو شامات (شمخة)، إلى بئر الماء التي يتردد عليها أنكيدو ويجلسها على حافتها. (كانت هناك كائنات مثل مومسات المعابد، المكرسات لخدمة ربة الخصوبة، في العديد من المجتمعات القديمة، وكانت هذه مهنة محترمة). يصل أنكيدو وتكشف شامات عن ساقيها فيستسلم لها على الفور. ومن خلال ما يجب أن يكون أقوى علاقة شبقية في الأدب، ينهمك مع شامات في علاقة جنسية متواصلة لمدة ستة أيام وسبع ليال. ثم يتعب، فتأخذه شامات إلى معسكر الرعاة. لأول مرة في حياته يأكل الخبز. كما أنه يشرب سبعة كؤوس من البيرة، ويبدأ في الغناء. ولكن عندما يحاول الانضمام إلى الغزلان، تتجنبه. هكذا تدخل المأساة إلى ملحمة “جلجامش”. من خلال ممارسة الحب مع البشر وتناول طعام الإنسان، أصبح أنكيدو رجلًا، فلم يعدْ كلّ شيء إلى عهده السابق بالنسبة له.
على سبيل المثال، أصبح يميّز الأفعال الأخلاقية. حين سمع عن ممارسة جلجامش عادة “حقّ الليلة الأولى” شعر بالغضب وذهب إلى أوروك وجذب جلجامش إلى القتال. فتتحطم الأبواب، وترتج الجدران، لكن بعد فترة سَئِم الرجلان من الشجار وقررا أن يصبحا صديقين. يقدم جلجامش أنكيدو إلى والدته الربّة ننسون فلا يعجبها. وتسأل: مَنْ هم قومه؟. ويشعر أنكيدو بالإهانة، ويقترح جلجامش، لتشجيعه، القيام بمغامرة: يذهب الاثنان إلى غابة الأرز، ويقتلان حارسها، العفريت خمبابا، ويجلبان بعض خشب الأرز لبناء مشاريع في أوروك.
لم يكن خمبابا وحشًا عاديًّا. إنّه مثل الوبالة، أو الكابوس. لديه سبع هالات يمكن أن يلتف بها ويرسلها كوسيلة للدفاع. عندما يقترب منه جلجامش وأنكيدو، يسخر منهما. ويخاطب أنكيدو قائلًا: “تعال يا أنكيدو يا بيض السمكة، يا مَنْ لا يُعرف له أبٌ”، كما يقول عن جلجامش: “سأطعم لحمه النسور والعقبان الجوارح”. على الرغم من ارتعاشهما من الخوف، يقبضان عليه، فيغرز جلجامش خنجرًا في نحره. ويمزق أنكيدو رئتيه وتتبعثر الهالات. بعد ذلك، يقطع الرجلان أشجار أرز عملاقة عدة، ويبنيان طوفًا، ويبحران عائدَين إلى أوروك، إذ يلوّح جلجامش برأس خمبابا.
ما إن يعود جلجامش إلى المنزل، حتى يستحم، ويرتدي ملابس نظيفة، ويسرّح شعره الطويل. عند رؤيته تنبهر عشتار، ربة الحب والحرب، وتناديه وتعرض عليه الزواج: “امنحني ثمرتك أتمتع بها!” وتقول إنها ستعطيه عربة من اللازورد والذهب. وستلد عنزاته “ثلاثًا ثلاثًا”. وتلد نعاجه التوائم. يرد جلجامش متسائلًا ماذا سيستفيد من الزواج منها. قال لها: “أنت موقد تخبو ناره في البرد. أنت باب خلفي لا يحفظ من ريح ولا عاصفة، وقصر يتحطم في داخله الأبطال، وقربة ماء تبلل حاملها، ونعل تقرص قدم منتعلها” الرجال الذين أحببتِهم: ماذا حدث لهم؟ لقد حوّلتِ أحدهم ضفدعًا والآخر ذئبًا. ويقول لها: لا شكرًا.
هرعت عشتار، التي تعرضت إلى إهانة شديدة، نحو السماء، إلى والدها آنو، وطلبت منه أن يعطيها “الثور السماوي”، للانتقام من هذه الإهانات. عند النزول إلى أوروك مع الربّة عشتار، يتسبب الوحش الهائل بضرر جسيم حتى عند هبوطه. حين كان يخور تنفتح الأرض، فيسقط فيها مائة رجل. وحين خار ثانية انفتحت حفرة أخرى وابتلعت مائتي رجل. وعند الخوار الثالث، وحين ينفتح الشقّ، يسقط أنكيدو فيه، ولكن حتى خصره فقط (لأنه عملاق)، ويمسك الثور من قرنيه. يسيل زبد الثور على وجه أنكيدو ويقذفه بروثه. لكن جلجامش طعنه في رقبته فمات. عندما احتجّت عشتار، قام أنكيدو بتمزيق إحدى كتفيِّ الثور ورماها عليها، قائلًا: “لو أمسكتُ بكِ لفعلتُ بكِ مثلما فعلتُ به ولربطتُ أحشاءه بأطرافكِ” ثم غسل هو وجلجامش أيديهما في نهر الفرات، واحتضن كلّ منهما الآخر، وعادا منتصرين إلى القصر. يسأل جلجامش خادمات قصره: “مَنْ الأمجد بين الأبطال؟ مَنْ أزهى الرجال؟”.
كان الانتصار قصير الأمد. في تلك الليلة بالذات، حَلُمَ أنكيدو بأنّه للتكفير عن جريمة قتل الثور السماوي، يجب أن يموت أحد الرجلين. لا أحد يحتاج أن يسأل أيّهما. يمرض أنكيدو ويبدأ بالشكوى: لماذا لم يمت في القتال؟ وبهذه الطريقة، سيتذكره الناس. ولكن بعد ذلك تنخرم الألواح. وكما كتب مايكل شميدت، لدى أنكيدو “حوالي ثلاثين سطرًا صامتًا حتى الآن ليودع صديقه الحميم جلجامش ويموت”.
يبدو أنه كان هناك ملك حقيقي اسمه جلجامش. أو في الأقل يظهر اسمه في قائمة الملوك التي تم تجميعها حوالي العام 2000 قبل الميلاد، ومن المحتمل أنه عاش في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد. وبعد ألف سنة في الأقل بعد وفاته، كُتِبتِ القصائدُ عنه بمختلف لغات بلاد ما بين النهرين. ثم، في وقت ما بين عامي 1300 و1000 قبل الميلاد، قام سين-ليكي-أونيني (اسمه يعني “إله القمر سين يسمع صلواتي”) بجمع القصص وتحريرها. يمكن أن نطلق على سين-ليكي-أونيني ناسخًا أو مُنقّحًا. وفق أحد العلماء، كان طاردًا الأرواح الشريرة محترفًا أيضًا. المهم أنه جمع ما بين يديه من قصائد جلجامش، وأضاف وحذف، وربط البداية بالنهاية، ليكون عملًا أدبيًا موحّدًا، بلغته الأكدية. وهذه التركيبة هي ما يسميه علماء الآشوريات نسخة ملحمة “جلجامش” القياسية. وقد تمّ نقشها على أحد عشر لوحًا، من الأمام والخلف، فيما يقرب من ثلاثمائة سطر في كلّ لوح.
ليس لدينا نسخة كاملة من ألواح سين-ليكي-أونيني. وبسبب عوامل الزمن والرياح، والحروب تعرضت نينوى ومكتبة آشور بانيبال إلى هجوم وتدمير من قبل القوات المجاورة في العام 612 قبل الميلاد وضاع قدرٌ كبير من النصّ. يمكن سدّ بعض الثغرات بمواد من قصائد جلجامش الأخرى، لكن حتى بعد القيام بذلك، تكون هناك أقسام مهمة مفقودة. ومن بين ما يقدر بـ 3600 سطر، ليس لدينا سوى 3200 سطر، كليًّا أو جزئيًّا. (غالبًا ما توفر الترجمات علامات حذف عندما يكون النصّ مفقودًا، وتستخدم الحروف المائلة والأقواس لتحديد درجات متفاوتة من التخمين).
إضافة إلى ذلك، فإن الشيء الناتج أمامنا، بعد الإدخالات، هو خليط من النصوص التي تم إنشاؤها في أوقات وأماكن متنوعة، وبلغات مختلفة في كثير من الأحيان. إحدى الترجمات التي تحظى باحترام كبير، والتي قام بها أندرو جورج، أستاذ اللغة البابلية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، تقدّم ما تبقى من نص سين-ليكي-أونيني ثم تلحق به “لوح بنسلفانيا”؛ “لوح ييل”؛ و”لوح مدرسة نيبور” في بغداد؛ و”شذرات من حاتوشاش” (الحيثية) (بوغازكوي الآن، في وسط تركيا)؛ وما إلى ذلك. لا يستطيع الباحثون أن يتجاهلوا هذه القيم المتطرفة، لأن الرموز التي تشكل الكتابة المسمارية، والتي يصل عددها الألف، تغيرت على مدى الألفية التي أنتجت مواد سين-ليكي-أونيني. لذا فإن كلمة “إلهة الحب والحرب” الموجودة على قطعة في بغداد قد تكون مختلفة عن نظيرتها الموجودة في واجهات المتحف البريطاني. وفي الواقع، قد تتغير المعاني في الحاضر أيضًا، مع حدوث اكتشافات إضافية. بعد ظهور قطعة نور جديدة في العام 2015، كتب جورج أن أنكيدو وشامات (شمخة) المفعمين بالحيوية لم يمارسا الحب لمدة أسبوع واحد فقط، بل لمدة أسبوعين قبل العودة إلى أوروك. يفتقد النصّ الاستقرار ويفلت بين يديك.
كما أن النصّ كان مفقودًا فترة طويلة مما يجعله جديدًا نسبيًا بالنسبة لنا. يقدّر شميدت أن العلماء درسوا الإلياذة والأوديسة منذ حوالي مائة وخمسين جيلًا؛ والإنيادة لنحو مائة جيل؛ في حين أن”جلجامش” دُرِّسَ سبعة أجيال أو ثمانية فقط. يمكن لمترجمي هوميروس وفرجيل أن يراجعوا ترجمات أسلافهم العظماء مثل بوب ودرايدن. لكن الأمر ليس كذلك مع “جلجامش”. فقد تم إنتاج أول ترجمة غربية كاملة في نهاية القرن التاسع عشر. لم أعرف القصيدة في المدرسة، ولا من أي شخص أعرفه. لا يوجد عُرف حقيقي لقراءتها، والمترجمون المعاصرون يعتمدون على أنفسهم إلى حدّ كبير.
وأمامهم تحدٍّ خاص. حين يموت أنكيدو في نهاية اللوح السابع، لا تنتهي قصة “جلجامش”. على عكس ذلك، يبدأ شيء كأنه قصيدة جديدة، بنغمة مختلفة. في السابق، كان الشابان يقتلان الوحوش ويعشقان النساء وهي قصة لا تختلف كثيرًا عن تلك الموجودة في أفلام الحركة الحديثة. والآن، مع وفاة أنكيدو، تغير كلّ شيء، يرسل جلجامش رثاءً كبيرًا أليمًا إلى صديقه أنكيدو: “آه يا صديقي، يا حمار الوحش الجامح، حمار الجبل الوحشي، نمر البراري”… عسى أن تندبك أشجار الأرز، ونهر الفرات الطاهر”. وينادي صنّاع المدينة: “الصائغ (الجواهري)! الصفّار!” ويطلب منهم صنع نصب جنائزي لأنكيدو: “فليكن حاجباك من اللازورد، وصدرك من الذهب”. لمدة ستة أيام، لا يستطيع جلجامش أن يغادر جثة أنكيدو. وأخيرًا، تخرج دودة من إحدى فتحات أنف أنكيدو. (يتم تسجيل هذه التفاصيل المروعة بصورة مكرورة. وقد عرف الشعراء قوتها.) وبعد رؤيته هذا المشهد فهم جلجامش أن صديقه قد تحول حقًّا إلى مادة، وإلى لحم ميت. وسرعان ما يقع جلجامش صريع حزن جديد ويفكر: لا بدّ من أن يموت هو أيضًا. وهذا يخيفه حتى النخاع، ويصبح موضوع بقية القصيدة. هل يستطيع إيجاد طريقة لتجنب الموت؟
يهرب من أوروك ويرتدي جلود الحيوانات. يذهب في البداية إلى الجبل حيث تشرق الشمس وتغرب. يحرسه اثنان من الرجال العقارب. يوضح لهما جلجامش إنه يبحث عن أوتو- نبشتم، الرجل الوحيد الذي سمعَ بأنّه أصبح خالدًا. يسمح له الرجلان العقربان بالدخول إلى نفق تمرّ به الشمس كلّ ليلة. لكن إذا تمكن من اجتيازه فعليه أن يسبق الشمس. يبدأ بالركض في الظلام الدامس. ولا يرى شيئًا خلفه أو أمامه. ويستمر هذا ساعات وساعات. في النهاية، يتفوق على الشمس بشدة، ويخرج إلى حديقة حيث ثمار الأشجار عبارة عن جواهر:
وهي حاملة أثمارها من العقيق الأحمر
شجرات وارفات متهدلات الأغصان طيبات للنظر
وأشجار لازورد حاملات أوراقًا
حاملات ثمرًا، مُسرًّا النظر.
بالنسبة لي، هذا هو المقطع الأكثر إبهارًا في القصيدة: الظلام الغامر، حيث لا يستطيع جلجامش أن يرى شيئًا لساعات، فهو كائن حيّ في حفرة لا غير، ثم فجأة، يظهر الضوء واللون وكرات جميلة من اللون الأحمر والأرجواني. الأحمر يتدلى من الأشجار. عالم الله، الذي خلقه لنا، أو هكذا ظنّنا.
جلجامش لا يبقى في البستان. وأخيرًا وجد أوتو- نبشتم، الرجل الذي حدّق إلى الموت ونجا. جلجامش يريد أن يعرف، فيخاطبه: كيف فعلت هذا؟ يشرح أوتو- نبشتم بشكل غير مُعين:
“لا أحد يرى الموت،
لا أحد يرى وجه (الموت)
لا أحد (يسمع) صوت الموت،
الموت جدّ قاس، وهو ينقضّ على البشر…
على مدار الأيام يرتفع النهر فيجلب الفيضان،
يعاسيب الربيع عائمة على الماء.
بوجه الشمس تحدق إلى طلعتها،
ثم فجأة لا يوجد شيء هناك!
يروي أوتو- نبشتم لجلجامش الآن القصة التي جعلت جورج سميث يخلع ملابسه. وكان من الممكن أن نفعل الشيء نفسه، لأن قصة أوتو- نبشتم أكثر إثارة للخوف من تلك الموجودة في العهد القديم. ومثل نوح، تم تحذير أوتو- نبشتم من الكارثة المقبلة، وأمر ببناء الفلك. تبلغ مساحة الجزء السفلي من الهيكل فدانًا واحدًا، مع بناء ست طبقات عليه. (ويبدو أنّ السفينة كانت على شكل مكعب!) في حال الانتهاء من بناء السفينة، صعد أوتو- نبشتم وعائلته وجميع الحيوانات التي استطاع أن يضع يديه عليها، وأي حرفي يمكنه استدعاؤه، إلى السفينة. قبل أن يبحر، أعطى قصره وكل ممتلكاته إلى صانع السفينة، وهي هدية مثيرة للسخرية، حيث القصر وممتلكاته، ومن المحتمل أن يتمّ تدمير صانع السفينة أيضًا في اليوم التالي. يتابع أوتو- نبشتم:
“ولما ظهرت أنوار السحر،
علت من الأفق البعيد سحابة داكنة السواد،
وفي داخلها أرعدَ أدد إله العاصفة.
وكان الإلهان شُلاّت وخانيش يسيران أمامه،
يحملان عرشه على الجبال والسهول.
“كان الإله إراكال يقتلع أعمدة الإرساء،
نينورتا، عند مروره، جعل السدود تفيض.
وحملت آلهة الأنوناكي مشاعل من نار،
وجعلت البلاد تلتهب بوهج أنوارها.
وبلغت رعود الإله “أدد” عنان السماء،
فأحالت كلّ نور إلى ظلمة.
هاجم الأرض مثل الثور (الهائج)
فتحطمت الأرض الفسيحة مثلما تتحطم الجرّة”
“حتى الآلهة ذعرت من الطوفان،
فهربت وصعدت إلى سماء آنو،
لقد استكان الآلهة وربضوا مثل الكلاب خارج الجدار.
صرخت عشتار كما تصرخ امرأة عند الولادة”.
هذه السطور الأخيرة هي ما يقتبسه الجميع. كم هي مثيرة، مع صخب الآلهة، وعويلها، في السماء، والعاصفة تحطّم الأرض مثل الجرّة. في النهاية، يتوقف هطول الأمطار، وترسو سفينة أوتو- نبشتم، مثل سفينة نوح، على قمة الجبل. ينزل هو وأصحابه الناجون ويعيدون الناس إلى اليابسة.
وبسبب معاناته من هذه المحنة، مُنح أوتو- نبشتم وزوجته الخلود، لكنه يقترح أنه لا يمكن لأحد غيرهما أن يعيش إلى الأبد. ثم يندم ويعطي جلجامش بعض الاختبارات التي قد يخدع بها الموت. فيفشل جلجامش. (إنها اختبارات ساذجة، وهو يفشل بطرق ساذجة. القصيدة ليست مثالية). يأخذ ملاّح أوتو-نبشتم جلجامش إلى منزله. عند وصولهما إلى أوروك، يطلب جلجامش من الملّاح أن يتسلق سور مدينة أوروك:
“اِفحصْ قواعد أسوارها، انظرْ إلى آجر بنائها،
ألم يكن من الآجر الفاخر؟
ألم يضع الحكماء السبعة أسسها؟
“شارًا واحدًا خُصِّصَ للسكن،
وشارًا واحدًا لبستان النخيل،
وشارًا واحدًا لسهل الري،
وشارًا واحدًا لمعبد عشتار:
ثلاثة شارات ونصف هي مساحة أوروك”.
يفسر بعض المفسرين هذه الكلمات على أنها بيان تعزية: يجب أن نشعر بالارتياح لإنجازاتنا على الأرض ونتقبل حتمية نهاية الحياة.
ومع ذلك، مع القصيدة في حالتها الحالية، من الصعب القيام بمثل هذه الحالة. بعد قراءة السطور أعلاه، التي تشكل خاتمة اللوح الحادي عشر، كما ترجمها أندرو جورج، نقلب الصفحة ولا نجد اللوح الثاني عشر بل نجد ملاحظة مختصرة تخبرنا بأنّ ما يتم تقديمه غالبًا على أنه نهاية قصيدة “جلجامش”، هو يصف أحوال العالم السفلي، حيث سيحكم جلجامش بعد وفاته، وهو ليس جزءًا من الملحمة على الإطلاق. على وفق جورج، فهي جزء من قصيدة قديمة، تمّ لصقها لتوفير النهاية.
كان من الممكن أن تكون مؤلفة من اثني عشر لوحًا رائعًا. هذا هو شكل الإنيادة، والإلياذة والأوديسة يبلغ طول كل منهما أربعًا وعشرين أنشودة. لكن تنسيق أحد عشر لوحًا لا يزعج جورج. يقترح أن بنية القصيدة هي (5 + 1 + 5)(2)، ويرى اللوح 6، الذي يعود فيه جلجامش وأنكيدو إلى أوروك بعد قتل خمبابا، كقطعة مركزية إذ يظهر جلجامش في ذروة مجده.
من المؤكد أنه في اللوح الخامس، عندما قتل خمبابا، ظهر جلجامش في أنبل صوره. بينما، في اللوح 6، نحصل على رفضه الفج عشتار المفتونة به ومن ثم ذبح ثور السماء، الأمر الذي يثير استياء الآلهة لدرجة أنها تعاقب جلجامش بقتل صديقه أنكيدو. الحقيقة هي أن قصيدة “جلجامش”، كما يليق بشيء كان مدفونًا تحت كومة رمال لمدة ألفين وخمسمائة عام، تفتقد بعض القطع.
شميدت، في كتابه، يتنقل نوعًا ما عبر القصيدة، متناولًا المواضيع عند ظهورها. وحين يأتي موضوع الحرب، يشير إلى الحرب في العراق، التي اندلعت منذ العام 1990، عندما كان عددٌ من مترجمي “جلجامش” يعمل. عندما تمارس الشخصيات الجنس، يناقش الجنس الآشوري. هل كان لجلجامش وأنكيدو علاقة مثلية؟ وهو لا يعتقد ذلك، لكنه يقدم الأدلة المؤيدة والمعارضة. كما أنه يشير إلى نقطة مهمة وهي أن صداقتهما هي العلاقة الأكثر رقة في القصيدة. وفي كل ليلة، عندما يسافر الرجلان إلى غابة الأرز، يصنع أنكيدو منزلًا صغيرًا لينام فيه جلجامش، و”مثل الشبكة، يستلقي في المدخل”.
يناقش شميدت الترجمات بصورة مكرورة. قد نعتقد أن القصيدة الموجودة بين كومة من القطع المكسورة، بلغة جدّ ميتة، ستكون شيئًا يهرب منه المترجمون سريعًا. والعكس تمامًا هو الحال. من المفترض أنه، كما كتبَ شميدت، شيء “غامض ومساميّ”، ينجذب المترجمون إليه. في كثير من الأحيان، من حيث المهنة، فإنهم ليسوا مترجمين أو علماء آشوريات لكنهم شعراء لا غير. وبعضهم الآخر من علماء الآشوريات، وليس من المستغرب أن لا ينظر جميعهم بلطف إلى الأشخاص الذين ينشرون نسخًا من “جلجامش” دون معرفة اللغة التي كُتبت بها. قال بنجامين فوستر، أستاذ علم الآشوريات والأدب البابلي في جامعة ييل، لأحد المحاورين: “ليس لديّ صبر مع الأشخاص الجاهلين الذين يعتقدون أنهم يستطيعون ترجمة الملحمة دون تكبد عناء إتقان اللغة البابلية، على الرغم من أنهم بالطبع مرحّبٌ بهم لإعادة سردها”.
منذ منتصف القرن العشرين، كانت هناك، حسب إحصائياتي، ما يقرب من عشرين ترجمة كاملة لكتاب “جلجامش” إلى اللغة الإنجليزية(3). أغلب المترجمين، ناهيك عن المفسرين، خرج من بين “القوم الجاهلين” عند فوستر. ما يفعله معظم هؤلاء الأشخاص هو قراءة ترجمة حرفية كتبها أحد الخبراء في علم الآشوريات ثم “إضفاء طابع شعريّ عليها” وتحويلها إلى شعر. مثل هذا الإجراء لا ينبغي أن يفضي إلى فضيحة أحد في عصرنا. وهذا هو، في الأساس، الطريقة التي كتبَ بها عزرا باوند ما يُسمى بترجماته للشاعر الصيني لي بو، وأودن نسخته من قصيدة إيداس الأيسلندية. ولكن مع وجود نص مجهول باسم “جلجامش”، يصعب على أيّ منّا قراءته، فإن هذه الطريقة تثير بالتأكيد بعض الأسئلة.
لا يتأخر شميدت في طرح الأسئلة. فهوَ واسع الأفق. إنه شاعر، والشيء الذي يهتم به هو كسب الشعر، والحصول على عنب العقيق الأحمر والمستدير حقًا، وجعل عالم أوتو- نبشتم الخالد باهتًا وباردًا. ومن خلال تصفح القصيدة لوحًا تلو آخر، يتوقف عند أجزائها المفضلة ويقرأ لنا من ترجمات مختلفة. وكم يتحمس عندما يغادر الرجلان (جلجامش وأنكيدو) إلى غابة الأرز! كم هو مفتون بثراء الغابة!
حمامة كانت تهدل، واليمامة تجيب:
كانت الغابة سعيدة بلقلقة اللقلاق،
كانت الغابة جدّ مبتهجة بغناء الدُرّاج.
واصلت القرود الأم نداءاتها، بينما زقزقت صغارها.
في بعض الأحيان، يبدو شميدت مؤرخًا أدبيًا أكثر من صديق لا غير، جاء إلى منزلنا في المساء، ومعه زجاجة، ليقرأ لنا قصيدة رائعة.
كما أنه يوصي بترجمات محددة، ويدرك تمامًا عمر القصيدة، وحالتها المجزأة، ومجهولية مؤلفها، “قصيدة بلا شاعر”، كما يُسمّيها. الترجمات الأكثر حذرًا هي تلك التي تحاول إخفاء تلك الغرابة، وإزالة “الآخر” من القصيدة، وحلّ ألغازها، وبالتالي “تحريرنا لنكون مستهلكين أدبيين قانعين”. يسمي أسماء مترجمين: في إنجلترا، نانسي ك. ساندرز (1960)؛ في الولايات المتحدة، ستيفن ميتشل (2004). كلاهما، كما يقول، “مذنبان بالتهمة الموجهة إليهما”، مذنبان بإنتاج قصيدة تحاول إقناعنا بأن جلجامش هو صديقنا في الشارع، ويعاني من مشاكل مثل مشاكلنا، ويتحدث بالكلمات التي قد نتكلم بها.
مع ذلك، يواصل شميدت اقتراحه بأنه إذا لم نقرأ “جلجامش” بعد، فمن الأفضل أن نبدأ بترجمة نانسي ساندرز، لنشعر بالارتياح مع القصيدة. بعد ذلك، يجب أن ننتقل إلى أحد علماء الآشوريات، فوستر أو جورج، ونكتشف ما تقوله النقوش الباقية بالفعل. أخيرًا، يجمح شميدت ويرسلنا إلى كتاب “الديكتاتور: نسخة جديدة من ملحمة جلجامش” (2018)، حيث يترجم الشاعر المولود في بلفاست فيليب تيري القصيدة إلى لغة جلوبش “Globish”(الانكليزية العالمية أو الشائعة)، وهي عبارة عن ألف وخمسمائة كلمة من المفردات التي جمعها المدير التنفيذي السابق لشركة I.B.M، جان بول نيريير، ونشرت في العام 2004 كلغة أعمال تجارية دولية مقترحة، تمامًا كما كانت الأكدية، لغة “جلجامش”، هي اللغة المشتركة لتجارة الشرق الأدنى في ذلك الوقت.
أعتقد أن شميدت يقضي بعض المتعة معنا هنا، وإنّه قرأ الكثير من ترجمات “جلجامش”. توصيتي الخاصة ستكون هي نفسها توصيته بالنسبة للمحطتين الأوليتين، ترجمة ساندرز، لكي يشعر بالراحة، وبعد ذلك، ترجمة أحد علماء الآشوريات، لكي يشعر بالقلق. ثم قد أذهب إلى رواية «إعادة سرد جلجامش» (2018) للشاعرة الأنجلو- ويلزية جيني لويس، التي تُدرِّس في جامعة أكسفورد. نسخة لويس جدّ موسيقية، مع القوافي والأجراس والأوزان المتغيرة(4). يمكن أن تكون ترجمتها جافّة. فوصفها مقتل خمبابا مُرهق. ومع ذلك، فإن ترجمتها هي أكثر رقّةً وحزنًا أيضًا، وهي الترجمة التي أعتقد أنّها قد يوصي بها الباحثون في النسوية. حين يلتقي أنكيدو بشمخة عند بئر الماء، لا يوجد حديث عن الفرج. إذْ يضرب أنكيدو ويغني لها. وبالمثل، عندما يفقد أنكيدو، نتيجة تعامله مع البشر، قَرابة الحيوانات، فإنّ هذه الحقيقة الكئيبة توفي حقّها:
بعيدًا، تحت أغصان الغابة
ما زال الغزال الصغير يبحث عنه دون جدوى
وحيوانات أخرى تستنشق الهواء لتلتقط رائحته
لكن لم يكن هناك شيء تحمله الريح
ولمْ يبقَ في ذهنه أيّ فكرة عنهم.
ولكن لديّ اقتراح غريب: لن تكون فكرة سيئة أن نبدأ بكتاب مايكل شميدت عند التعامل مع قصيدة “جلجامش”. نعم، إنّه تعليق، وليس ترجمة شاملة، ولكنه يتضمن الكثير من أفضل المقاطع المترجمة. وحجة شميدت مؤثرة ومقنعة فيما يتعلق بالقصيدة الشعرية، بالمعنى الحديث كونها ملموسة، غير مزجّجة، قاسية على العقل. قرأتُ الكتاب بانبهار، في جلسة واحدة. (أما قصيدة “جلجامش” فهي قصيرة، حجمها أقل من مائتي صفحة).
لدى شميدت مشاعر تجاه هذه الألواح القديمة. عندما تتعامل مع أحد هذه الألواح، كما يقول لنا، “خاصة ألواح الناسخين المبتدئين التي يمكن وضعها في راحة اليد، كما لو كنّا نصافح الناسخ الأصل، فإن الإحساس بالاتصال الحيّ يمكن أن يكون مكثّفًا. لقد جرت دحرجة طين النهر ذي الحبيبات الدقيقة وتشكيله، وتقطيعه إلى شرائح، ورفعه إلى العين، وفي ضوء الشمس المبهر في فناء الكَتبة، وتحت الإشراف، تمّ حفر الأشكال المسمارية.
إنه يرى الألواح مرّة أخرى، بعد آلاف السنين، بعد أن جلس العديد من الأشخاص الذين يتقاضون أجورًا زهيدة في المتحف البريطاني، سنة بعد سنة، محاولين معرفة ما تقوله تلك الألواح. في زمن جورج سميث، لم يكن المتحف يفتقر إلى الضوء الكهربائي فحسب، بل كان يفتقر إلى ضوء الغاز أيضًا. (كانت الإدارة خائفة من الحريق). كان لدى بعض كبار الموظفين فوانيس، لكن جورج سميث لم يكن من كبار الموظفين. إذا كان اليوم ضبابيًا ولم تكن النوافذ تسمح بدخول الضوء الكافي للقراءة، كان عليه العودة إلى المنزل. وفي الأيام الأخرى، تجده في مكانه. كتب شميدت: “بالإخلاص والانكباب الصبور، تمكن هؤلاء العلماء من فكّ رموز اللغات، وعثروا على أصوات بشرية في الطين، وعاد مَلك خائف من الموت إلى نصف عمر الشِّعْر”.
الهوامش
– عن مجلة نيويوركر New Yorker.
*تعمل جوان أكوتشيلا كاتبة في المجلة منذ العام 1995. وأحدث كتاب لها هو «ثمانية وعشرون فنانًا وقديستان».
1. اعتمدنا ترجمة الراحل د. طه باقر والدكتور نائل حنون في مقتبسات نص الملحمة.
2. الشكر الجزيل للشاعر عبد الله حسين جلاب الذي أوضح الوزن والعَروض البابليّ الذي كُتِبتْ به القصيدة:
تقول جوان أكوتشيلا : بنية القصيدة هيَ : (5 + 1 + 5) .
وفكّ هذه البنية الرقمية هو بالتقطيع العَروضي السومريّ والبابليّ الذي يرمز للحرف المتحرك بخطّ مائل، هكذا:/ ويُسمى المقطع القصير. ويرمز للحرف المتحرك مع الحرف الساكن بخطّ مائل مع علامة سكون، هكذا: / 5 ويُسمى المقطع الطويل .
الرقم 5 = يتكوّن من مقطع قصير ومقطعين طويلين:
/ / 5 / 5
تقابله فَـعُـوْلُـنْ
وإذا قدّمنا المقطع الثاني (الطويل) على المقطع الأول (القصير)، يصبح الرقم 5 هكذا:
/ 5/ / 5
تقابله فَــاْعِـــلُــنْ
لكن، هنا، استخدمت كاتبة المقالة (جوان أكوتشيلا) الأرقام في تقطيع ملحمة جلجامش، وهي طريقة العَروض السنسكريتي في تقطيع الشعر، هكذا:
الرقم 1 يرمز للحرف المتحرك فقط، أي المقطع القصير، والرقم 2 يرمز للحرف المتحرك مع الساكن، أي المقطع الطويل.
تقطيع بنية القصيدة، هنا، على الطريقة السنسكريتية، أي الرقمية، هكذا:
5 + 1 + 5
التقطيع الأول:
221 + 1 +221
فَعُوْلُنْ فَ فَعُوْلُنْ
التقطيع الثاني:
212 + 1 + 21
فَاْعِلُنْ فَ فَاْعِلُنْ
3. هناك كثير من ترجمات الملحمة إلى اللغة العربية منها: د. طه باقر، سامي سعيد الأحمد، فراس السوّاح، عبد الغفار مكاوي ود. نائل حنون وغيرهم.
4. نظم الشاعر السوري جرجس ناصيف (1930-2014) الملحمة شعرًا على بحر الكامل وقد صدرت في العام 1992.