هذه هي الرواية الأخيرة للمبدع والروائي العربي (السورى) الكبير، الراحل هاني الراهب، صاحب التجربة الروائية الهامة والمتميزة على غير صعيد، فنيا وفكريا، وهي التجربة التي بدأها بروايته الأولى "المهزومون" ثم كرسها في "والوباء" و "بلد واحد هو العالم"، وعمقها ووسع آفاقها في "الف ليلة وليلتان" ثم يضيف اليها روايته الساخطة والعنيفة "رسمت خطا في الرمال" التي أثارت موجة ساخطة وردات فعل حاقدة من العديد من الكتاب في الخليج العربي عموما، بسبب موضوعها الذي لا يمكن اختزاله في الوضع الكويتي، وان كان يمكن تحديد عنوان أساسي له هو: تأثير النفط في الحياة العربية عموما، وفي حياة وبنية المجتمعات الخليجية تحديدا.
ولا تقف تجربة الراهب الثقافية والابداعية عند عمله الروائي، فهي تتعداه الى عمله الأكاديمي – دراسة وبحثا وتدريسا – والصحفي، ولاسيما دراسته القيمة والفريدة عن شخصية اليهودي في الأدب الانجليزي (أطروحة جامعية باللغة الانجليزية ).
أما الرواية الجديدة – الصادرة عن دار المدى، دمشق، قبيل رحيله الفاجع بشهرين تقريبا – فهي نمط جديد في سيرته، بل يمكن القول – دون خوف من مغالاة – انها تكاد تشكل، مع قليل من الروايات العربية سواها، فتحا جديدا لآفاق الرواية العربية يأخذها نحو أمثلة واشكاليات، وهموم وقضايا، إما أنها غير مطروقة سابقا، أو لم يجر تناولها بالتعمق والتحديد المطلوبين ويمثل هذا التفصيل الذي نجده في "خضراء كالبحاره" لم ونجدها على نحو مختلف، أشد عمقا واتساعا، في رواية العراقي فؤاد التكرلي "المسرات والأوجاع" التي صدرت – أيضا – عن دار المدى – دمشق، في العام 98)، وبهذه الجرأة على البوح في اطار العلاقة المتعددة الأبعاد والوجوه بين الرجل والمرأة، ورسم الصورة التي تحمل قدرا عاليا من النقد اللاذع لسلوكيات وأفكار شريحة من المجتمع، هي شريحة المثقفين والمبدعين يمثلها الفنان الرسام والنحات فراس نصار والكاتبة الصحفية نورما البدر، ويدخل أشخاص مثل مهند (زوج نورما) وميراى (العشيقة والصديقة للفنان – الدونجوان من جانب، والدونكيشوت من جاب آخر، كما سنبين لاحقا).
تبدأ الرواية من لحظة مفصلية في حياة كل من الشخصيتين الرئيسيتين: نورما في لحظة تمثل أقصى حالات ضعفها جراء غياب والدها عبدالممجيد البدر المدير العام لوزارة الدفاع، و "السند" الحقيقي الذي فقدت برفاته ما يمكن تسميته آخر خطوط الدفاع، خصوصا في ظل غياب زوجها المهندس (مهند) في السجون الاسرائيلية، في الفترة نفسها التي شهدت نهاية الحرب الحاسة لم لا يذكر الراوي أو المؤلف ما إذا كانت هي حرب عام 1982، لكن بعض التفاصيل تثير اليها، خصوصا أن المكان في الرواية يتضمن ملامح من بيروت).
في هذه اللحظة يحدث أن تلتقي نورما مع فراس فلا ترى فيه أكثر من شخص آخر ينضم الى قافلة المتعاطفين المجانين، وليس لديه سوى الكلمات، يقولها ويمشي". لكن فراس يتلقاها في صورة مختلفة، فقد رأى "ان وجهها محتاج الى اعادة تكوين"، وهنا نكتشف أولى ملامح النحات –الفنان، لكننا نكتشف، أيضا، الرجل / الذكر في مواجهته الأولى مع الأنثى حين يحدد ما يحتاج الى اعادة تكوين في وجهها "عيناه وشفتاه عالم من الايحاء والولادة، ووجهه وذقنا سطح من العطالة والشرانق". ثم إن كلماته لم تكن – بالنسبة الي نورما – مجرد كلمات مجانية يقولها ويمشي، فقد كانت بمثابة مطلع حكاية ذات فصول مشوقة ومعذبة (بكسر الذال) هي ما يشكل جسم الرواية ومعالمها الرئيسية. و "فراس"، قبل أن يكون – في الرواية – فنانا، هو رجل تزوج ثلاث مرات وطلق مرتين، وانفصل عن زوجته الثالثة دون آن يطلقها، ويعيش وحيدا، جاعلا "مرسمه" بيته الذي يستقبل فيه صديقاته وعشيقاته، وهو – الآن – بلا علاقة مع أي امرأة. ويآتي لقاؤه مع نورما مقدمة مناصبة لعلاقة يحتاجها كل منهما.
تبدأ العلاقة – إذن – في لحظة حاجة / ضعف كل من "البطلين" فمن جهة نري حاجة نورما الى رجل، في غياب الرجلين (والدها وزوجها) اللذين كانا يملآن حياتها، وفي غياب طفل يخصها – من رحمها – حيث سنكتشف عقم زوجها وإلحاحا على ضرورة انجاب طفل (حتى بالطرق الاصطناعية)، ومن جهة ثانية نري حاجة فراس الى أنثى تملأ سريره من جانب، وتكون ملهمته وربة لوحته أومنحوتته من جاب آخر.
والعلاقة التي تأسست في غياب الزوج، بل على أساس غيابه في جانب منها، سوف تتعمق وتتكرس وتمر في منحنيات وتقلبات كثيرة به خروجه من السجن، اذ ليس غياب الزوج سوى سبب واحد لبنائها، وكان يمكن آن تقوم حتى في عز حضوره. فحضور الزوج (مهند) في حياة نورما جاء، منذ البدء، امتدادا لحضور والدها الذي أراد لها هذا الـ(مهند) زوجا رأت فيه منذ البداية الرجل المناسب لحياة زوجية كانت مهيأة لها، ثم أصبح- مع الوقت – واحدا من الروبوتات التي تبرمج لها حياتها… والتي ستتخلص منها في علاقتها مع فراس، لكن هل تخلصت منها حقا؟ بالطبع لا، فهي ظلت تتقلب وتراوح بين البرمجة التي عاشت عليها، وفي إطارها أكثر من خسة وثلاثين عاما، وبين فراس وحاجتها العامة الى حضوره معها، بين تربية بالواجبات والقيم والعلاقات المستقرة، ولو على حساب حاجاتها الجسدية والعاطفية، وبين ما راحت تكتشفه في العلاقة مع فراس من حرية وأشواق وعوالم جديدة.
وستظل تتأرجح بين عالمين، عالم الزوج الذي لم يعد يربطها بها سوي خوفها من تبعات انفصالها منه، لكنه الزوج الذي لا يطالبها سوى بحقه في النوم معها، وفيما عدا ذلك، فهو يترك لها الحرية لتفعل ما تريد: آن تسافر الى كندا لتقديم أطروحة في الفن، وأن تلتقي بمن تريد من زملاء المجلة في السهرة الأسبوعية، بل بان تتبنى طفلا يعرفان أنه "ابن حرام" ونتاج علاقة "غير شرعية" تقيمها شادية – زوجة خال نورما – وتنجب منها طفلا تتخلى عنه، فتتبناه نورما لاحساسها بضرورة أن يكون لها طفل… وعالم فراس الذي يفتح لها آفاقا جديدة، فتعود لتواصل دراساتها بعد الانقطاع الذي أحدثه الزواج، وبعد ان يكتشف فراس لديها قدرات نقدية متقدمة، عبر الدراسة التي أعدتها عن بعض أعماله الفنية. فراس الذي سيفجر طاقات جسدها ويشلها باللذات والرغبات والشهوات كما لم يفعل لها أحد من قبل، لكنه في المقابل – سيظهر مقدار ضعفها وخوائها.
ورغم كل ما تكسره من حواجز وقوانين في علاقتها مع فراس، إلا أنها تحتفظ بالكثير من الحدود التي تمنع هذه العلاقة من تجاوز الحدود التي لا تستطيع تجاوزها. ولهذا فإن ترجحها وترددها سيدمران كل شيء، أذ سيوصلان العلاقة الى أفق سدود، خصوصا في ظل احساس فراس أنها اذا كانت تحبه حقا فإن عليها أن تترك زوجها وتتزوجه هو، أو على الأقل آن تنجب منه طفلا. لكنها تعرف حدودها وقدراتها، وفوق ذلك هي ملاحقة بشعور الخطيئة لما ترتكبه، بل إنها كثيرا ما تشعر بالذنب تجاه زوجها الذي يمنحها ثقته فتخونها.
فهي تتمزق بين شعورين – بل مشاعر عديدة متناقضة – ورجلين / عالمين مختلفين في كل شيء، ولكنها تريدهما معا، وعلى النحو الذي يلائمها، فكيف تجمع بينهما دون شعور بالتمزق وبالاثم ؟ كيف تعلم جسدها لرجلين، لا تفصل بينهما سوى ساعات قليلة أحيانا، ولا تشعر بانفصام: انها مشاعر "امرأة يتداولها رجلان. امرأة هي امرأتان كل منهما تخون الأخرى، تكون على عكس الأخرى، ضد الأخرى، تأثم على حساب الأخرى، وخاصة فوق سريري القبح والشبق. فكيف لنورما البدر ان تتحمل هذه الفيزياء؟".
تكشف هذه التفاصيل وسواها عن شخصية تراجيدية بامتياز شخصية ترى قدرها وتسعى اليه، لا تحاول تغييره، واذا حاولت فبإرادة ضعيفة مهزوزة حينا، وبأسلوب يقود الى المزيد من التمزق والتشتت حينا آخر! ومن أسباب ذلك أنها تحاول التغيير تحت وطأة الشعور بالاثم من جهة والشور بالخوف من "مسدس" الزوج الذي تخشى كل لحظة أن يكتشف علاقتها، هذا المسدس الذي يكمن في وعي – أو لاوعي – البطلة، أي أنه مسدس حاضر في الموروث، أكثر من كونها تواجهه عيانا.
هذا اضافة الى طبيعة رؤيتها للعالم، وتفسيرها لما يحدث من حولها من كوارث بأنه بسبب الخطيئة والآثام التي تلوث روحها وجسدها، ما يجعلها تلجأ الى الحلول غير الصحيحة وغير المجدية،.وما تتوهم انه حل للخروج من الوحل، كأن تقرر اشباع رغبات جسدها بمداعبات غير بريئة مع الطفل – مثلا – أو تقرر حماية جسدها بارتداء الجلباب والحجاب ظنا بأن ارتداءهما سوف يحميها من الاستمرار في علاقة (مع فراس) تريدها وتحتاجها لكنها تشعر بأن عليها التخلص منها؟
ما يحدث في نهاية الرواية هو انها تكتشف أن ارتداء الحجاب لا يمنعها عن الاتصال مع فراس ومواعدته وعلاقاته وعرض استمرار العلاقة معه، لكن بشروطها هي، ما يدفع الأمور الى نهايتها، حين يقذف في وجهها عبارته الأخيرة "أنت بلا كرامة" العبارة التي جاءت لتذكرها "بكل ما حاولت أن تطمسه"، ولتعود – بعد رحلة "الحرية" التي استمرت أربع سنوات – الى الزوج والابن و "الغياب" متسائلة لماذا لا يقبل (فراس) أن يستمرا صديقين، فيكون لهما نقاء الروح ولغيرهما عكر الجسد؟ لماذا يطلب منها أن تتصرف كبطلات القصص وهي ليست بطة قصة: ولكنها لا تلبث آن تتمنى آن يأتيها الموت "مثلما أتى لايما بوفاري وآنا كاونين؟" وكأنما تذكرنا بالرواية المشتركة بينها وبين هاتين البطلتين الروائيتين، وكان الراوي قدمها لنا في بدايات الرواية بأنها "تسأل أمثلة خرقاء كتلك التي تسألها بطلات فرانسوازساغان وليلى بعلبكي"، ليقول – ربما – انها بطلة روائية يخلقها المؤلف ليضع من خلالها تصوراته ومنظومة أفكاره الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة !
واذا كان صحيحا تشبيه نورما بايما بوفاري لجهة بعض ملامع حياتها، فإن الاختلاف في المصير ليس اختلافا بسيطا، انه اختلاف في الجوهر، فما أقدمت عليه مدام بوفاي (بطة رواية فلوبير الشهيرة) ليس أقل من محاولة انتقام لكرامتها التي شعرت أنها تهدرها في علاقات تنطوي اقامتها على تناقض و.. خيانة وآثام ! وما كان ليطهرها شيء سوى الانتحار الذي هو المصير الأكثر رحمة لها من التمزق الذي كانت تسببه طريقة حياتها. أما نورما فما كانت تملك تك الجرأة وكان مصيرها ذلك الذل وتلك المهانة.
وتبرز تناقضات نورما أكثر ما تبرز في حوارها مع شادية (زوجة خالها) عندما تتحد- معها بلغة الأخلاق وترفض من شادية ما تمارسه هي نفسها: "لن أسمح لك ان تعيشي سفالتك وخيانتك على حساب العائلة"، ولم يكن الفرق بينهما بسيطا بالطبع، فنورما "تخون" زوجها في السر، وشادية تفعل ذلك علنا – وتعلن بجرأة "قولي لنعمان يطلقني، وارتاحوا مني!" غريبون أنتم. وهذه واحدة من هزائم "البطلة" ونقاط ضعفها القاتلة.
وبعودة الى عنوان الرواية، نكتشف أن "خضراء كالبحار" تحمل دلالات مختلفة ومتناقضة، لتعكس، ربما القدر الهائل من تناقضات البطلة، ففي البداية نجد العنوان ضمن كلمات اطراء يضعها الفنان على لوحة يهديها لها، يقول فيها "الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران". وعندما تجد البطلة نفسها بين الرجلين ولا "تعرف كيف تصفو" تتساءل ان كان عدم صفائها هو ما دعا فراس ليصفها "خضراء كالبحار". وحين يشعر الفنان بالغصب تجاهها، بسبب تقلباتها وتهربها يتساءل لماذا وصفها بذلك ويجيب متسائلا "لأنها ستبتلعه يوما داخل غابات قاعها الأناني؟" وتطل عبارة "البحر الأخضر"، رغم الدلالات السلبية التي تحملها، تعني – كما يعبر فراس لنورما – ان "البحر الأخضر جميل دائما" حتى في لحظة الافتراق عنه. فعنوان الرواية هنا يؤشر على مضمونها المدجج بالتناقضات والصراعات !
ويمثل قدرته على رسم شخصية الأنثى، وعلى هذا القدر من الغنى في المشاعر المتناقضة والأحاسيس المتضاربة، يرسم الراهب شخصية الرجل – الذكر والفنان… وقليلا ما جاء على شخصية الأب والزوج. انه – منذ البداية".. وحيد كذئب البراري. أحب خمسين مرة. تزوج ثلاث مرات. صار آبا ست مرات. سافر الف مرة. رسم مائتي لوحة. صنع أربعين تمثالا. شرب الف نخب. كبر ابناه وابنتاه.. وأخيرا اختار أن يعيش في مرسمه. هناك في الضاحية الجبلية للمدينة، التي كانت قبل مائتي عام وجارا فعليا للذئاب الحقيقية".
ولم يكن فراس، في نظر نورما – في البدء – أكثر من "نكرة معلقة بالطبع". وهو- بدد وجدان الذئب المتوحد" – لم يكن يدري كيف ومتى ألتقي "وجدان القديسة المطوبة ؟" ( يقصد "المطوبة باسم زوجها كالقديسات باسم المسيح)! ولكن حاجة أحدهما للآخر، هي المفترق الذي التقيا عنده.
إن كونه قد "أحب خمسين مرة" – مثلا – تضعنا أمام ملمح يلقي سؤالا: أي حب هذا؟ وأي درجة من درجات الحب ؟ وما الذي فعلته خمسين "مرة" من الحب، أية تجربة اكتسب منها أو تعلم ؟
بالعودة الى تفاصيل هذه العلاقة وتقلباتها وتحولات كل من الشخصين، نجد أن أكثر ما يشد الرجل في المرأة هو قدرتها على أن تكون له هو دون سواه، ويصرف النظر عما ستؤول العلاقة اليه، حتى لو كانت تجاربه السابقة تخبر عن فشل الزواج، وكأنها الرغبة في الامتلاك هي ما يوجه حب الرجل للمرأة. وهو في الوقت نفسه قادر على اتخاذ صديقة يمكن أن يشتهيها جنسيا، ويمارس معها دون مشاعر الحب، لكنه لا يستوعب أن تصر المرأة التي يحبها وتحبه على البقاء في علاقتها الزوجية.
انها المسألة الاشكالية الأشد إلحاحا بين أمثلة الرواية التي تحاول أن تجسد أدق المشاعر وأكثر الأحاسيس شفافية، فتصور الرجل والمرأة مقيدين بخيوط يحيكها كل منهما بأسلوب يضمن بقاء الطرف الآخر ضمن هيمنته، وبما يلبي رغباته ونزواته، الأمر الذي ينقل علاقة "الحب" لتكون قيدا بدل أن تكمن سببا للحرية، ويجعلها مصدر تنغيص بعد أن كانت – في بدايتها على الأقل – نبع سعادة.
هنا، علينا آن نتنبه الى سؤال الحرية، وعلاقة كل من الرجل والمرأة به، فهل علاقة كل منهما بالحرية هي نفسها، هل ينظر الى حرية المرأة كما ينطر الى حرية الرجل، أم أن للمجتمع تقسيما وفهما وسلوكا مختلفا حيال كل منهما؟ الاجابة في الرواية تظهر اختلافا بينا.
حرية الرجل تدفعه للتوغل أكثر فأكثر في العلاقة دون خوف أو تردد، أما المرأة – هنا – فهي كلما ابتعدت عن مصدر قيودها تنوء بعبء الحرمة أكثر.." فها هي مع فراس في كندا وتحاول ايجاد المبرر كيلا تنزل معه في الغرفة نفسها. انها مسكونة بالروبوتات التي برمجت حياتها، فهي تعتقد انها "اذا أسلمت نفسا للحرية هنا، أسلمت مهند للعدم هناك"، وهي لا ترغب في الوصول الى هذه النتيجة، لأنها تخشى أن يجيء يوم ويدل مهند إدارة الفندق، ويقولون له انها نزلت مع رجل في غرفة واحدة !
الرواية تضعنا أمام أنموذجين شانعين في المجتمع العربي (الذكوري بامتياز)، وأمام شكل من أشكال الحب، ولكنها – في الأساس – تريد ان تفصح عن علاقة كل من الرجل والمرأة مع المجتمع، ومن ثم مع المفاهيم والتقاليد والقوانين والأعراف السائدة. ففي المجتمع هذا، ثمة تفرقة واضحة وساطعة المعالم، لكنها ليست بالضرورة لمصلحة الرجل، بل هي لحفظ قيم اجتماعية هي ضد العلاقات الانسانية، ضد حرية الانسان الفرد. قيم تبيع للرجل آن يقيم ما شاء من علاقات، لكنه لن يجد المرأة الحرة التي اليها يحتاج. فأين هي حريته اذن ؟
هذه مسألة ترتبط بعلاقة الفرد مع المجتمع وقدرته على التكيف أو التمرد، على الاندماج أو التفرد والتوحد والأنعزال. وقد رأينا كيف اختار الفنان بيتا يشبه الكهف، وهو نفسه المرسم الذي يعمل فيه، فيما استمرت نورما في بيت الزوج (الفيلا الفاخرة) ويمكن لقراءة تفاصيل وملامح المكان الخاص بكل منهما ان يحيلنا الى ملامح شخصيته.
وعلى صعيد آخر ينبغي آن نشير الى اختيار فراس (الفنان) الرحيل الى باريس بصحبة صديقته ميراي التي سبق وسافرت معه وعملت وكيلة لبيع أعماله (وباعت بالفعل واحدة من منحوتاته بمبلغ يعد ضخما)، وقد حاول أن يجعل علاقته معها حبا، لكنها ظلت تصر على الصداقة وفاء للرجل الألماني الذي جمعته بها علاقة حب عاصف لم تنته برغم موته ففي خيار الرحيل هذا ما يثير الى انفصال عن المكان والمجتمع والجذور، والتحاق بنمط جديد من الحرية، ومن علاقة الفنان بفنه ولوحته، حيث ستغدو اللوحة هي الوطن وهي الجذور، كما ستغدو هي مصدر العيش والثروة. وتنبهنا جملة كتبتها صحيفة عن رحيل الفنان اعتبرته "كان صادقا أكثر مما كان مبدعا، ولم يستطع أن يتقن شيئا من زعبرات بيكاسو وضحكه على ذقوننا، فأحبط صدقه ابداعه"… تنبهنا الى واحد من ملامح الفنان فيما تصفه صحيفة أخرى بأنه "قدموس الرسم والنحت يهرب من مدينة الظلام الى مدينة النور".
ثمة، في الرواية، الكثير مما يستحق التوقف، ولكن أبرزها يهمنا فيها هو محاكمتها الجادة والمعمقة لمجتمع هو أكثر المجتمعات العربية انفتاحا على الحرية، انه مجتمع بيروت الثقافي والاجتماعي. فاذا كان هذا هو حال المجتمع الأكثر تحررا، فكيف هي أحوال مجتمعات التخلف والتحجر والانغلاق ؟
على صعيد بلية العمل الروائي، تقوم الرواية هذه على بنية كلامية تخترقها محاولات تحديث على مستوى تعبير صوت الراوي حينا، واستدخال الاسطورة حينا آخر، والانحراف بالأداء اللغوي الى الشعرنة والتصوير السينمائي، والايغال في عالم اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية ضمن سياقات سردية طبيعية جدا، والاتكاء على مناهج وقراءات علم النفس لأجل نبش أعمق في عالم /عوالم النفس البشرية.. الخ.
عمر شبانة (كاتب من فلسطين)