يتأسس النص الإبداعي على جملة من الأنشطة والفعاليات الذهنية والمتخيلة تحيل مدخلات العملية الإبداعية إلى «إنتاج لغوي منغلق على ذاته، ومستقل بدلالاته»(1)، الأمر الذي يجعل من التلقي والممارسة القرائية للنصوص الإبداعية عملية شاقة ومجهدة وتتطلب التسلح بأدوات منهجية قادرة على استبطان النصوص واستشراف آفاقها واجتراح المعاني الكامنة في بنيتها العميقة. وقد وجد النقد الحديث فيما أصطلح النقاد الغربيون – وفي مقدمتهم «جيرار جينيت» -على صكه- مصطلحاً- باسم النص الموازي (Le paratexte) أو«العتبات» Seuils(2)- وهي مجموع العناصر المحيطة بالنص كالعناوين والإهداءات والمقدمات وكلمات الناشر.. و»كل ما يمهِّد للدخول إلى النص، أو يوازي النص»(3) – مدخلاً أولياً ومهما لتقريب علائق النص وتفعيل تلقي القارئ . وأهمية هذه العناصر تكمن في أن «قراءة المتن تصير مشروطة بقراءة هذه العناصر، فكما أننا لا نلج فناء الدار قبل المرور بعتباتها، فكذلك لايمكننا الدخول إلى عالم المتن قبل المرور بعتباته، لأنها تقوم من بين ما تقوم به بدور الوشاية والبوح، ومن شأن هذه الوظيفة أن تساعد في ضمان قراءة سليمة للكتاب أو للنص.»(4)
والمقدمات بماهي خطاب افتتاحي من أهم عتبات النصوص ومداخل قراءتها, كونها «وعاء معرفيا وأيديولوجيا تختزن رؤية المؤلف وموقفه من العالم..وتتيح للكاتب العديد من إمكانات التعبير والتعليق والشرح»(5) كما تضطلع بدور مهم في بسط الأسس والمفاهيم النظرية الخاصة بالإبداع والكتابة والتأليف , ومن ثم فهي «خطاب موجه نحو النص والقارئ , قصد بناء, أو تحديد نمط من القراءة المتوخاة , وهذه الوظيفة التوجيهية جزء من استراتيجية المقدم في تحديد علاقة القارئ بالنص»(6).
ولا يخفى ماللمقدمة من حضور فاعل ومكثف في مختلف الحقول المعرفية والفكرية حتى أنه لا يكاد يخلو منها مؤلف أو كتاب , غير أن أهميتها في تلك الحقول تقل بالنظر إلى أهميتها في حقل الإبداع الأدبي ؛ وذلك عائد إلى طبيعة الأدب بماهو خطاب فني متخيل , لايحايث السائد, ولايجترح المألوف, ولا يطمح – بدرجة أساس – إلى أغراض توصيلية بقدر توقه إلى إحداث متعة جمالية.أما المقدمات فتقدم – في الغالب– خطابا معرفيا توصيليا , ومن ثم فأهميتها في هذا الحقل تأتي من أهمية المعرفة التي تقدمها حول تشكل النص وملابسات إنتاجه بمايعين القارئ على فك شفراته , وفتح مغالقه , واستكناه أعماقه؛ وفي الوقت ذاته تحمي النص من التأويلات المغرضة أو المغلوطة ؛ وهي بهذا المعنى «جزء من النص تمده بقوة قصدية وظيفية تصير ملازمة له»(7) . غير أن ثمة من لايستسيغ المقدمات في الأعمال الأدبية, بل ويعدها «عتبة قد تشوش على طبيعة النص الإبداعية ووشاية – بطريقة غير مباشرة – بأسرار النص المركزي الجوهرية» (8) وفضلا عن ذلك فهي لا تشكل –وفقا لهذا الاتجاه – أية قيمة إضافية للنص ؛ بل هي نص مضاف يعد في واقع الأمر «إساءة حقيقية لجوهر عمل إبداعي يفترض فيه توافره على القدر الكافي من الاستقلال والاكتفاء الذاتيين المطلوبين لمواجهة كل الاحتمالات التداولية الممكنة»(9).
وبرغم هذه العيوب التي يقترح جيرار جينيت لتجاوزها تأجيل قراءة المقدمة إلى مابعد الاطلاع على النص الإبداعي(10) ؛ فإنه لا أحد ينكر ما يمكن أن تضطلع به المقدمات من مهمات استقطابية توصيلية تساهم في فتح نوافذ النص للقارئ , وتمكنه من القبض على خيوطه المتشابكة , وتؤمن قراءة جيدة له ، إنها «وباختصار شديد: بمنزلة بوصلة يهتدي بواسطتها القارئ إلى القراءة الجيدة التي تجنبه شطط التأويل وسوء التقدير»(11).
ونظرا لأهميتها في مصاحبة النص وتأطيره، فقد أوليت مؤخرا عناية كبيرة في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة ، ومنذ وضعت على منصة التداول النقدي أمست مهمة تفحصها قرائياً أمراً متلازماً مع دراسة نصها, الأمر الذي حتم على النقاد معاينة وظائفها, والأدوات التي تشتغل بها, وإقامة بعض التصنيفات الأولية بشأن أنواعها. وفي هذا الخصوص ميز النقاد بين أنواع متعددة من المقدمات , منها:الذاتية التي يوقعها كاتب النص نفسه، وهي هنا «عبارة عن تعاقد ضمني أو صريح بين الكاتب وقارئه»(12) فهي تخبره حول أصل الأثر الأدبي , وأهم الموضوعات التي سيتناولها, علاوة على تنبيه القارئ بملابسات وظروف الكتاب ومراحل تأليفه ومقصد مؤلفه، وهو ما اصطلح عليه باستراتيجية البوح والإعتراف(13) .ومنها: الغيـرية التي يتكـفل مقدم آخـــر بكتابتها، بناء على طلب من كاتب النص ذاته أومن ينوب عنه ممن يعنيهم أمر النص ، «وهذا المقدم لا يختاره المؤلف (أو الناشر) اعتباطا، فهو شخصية ذات مكانة إبداعية خاصة، ووضع اعتباري مميز»(14)، بمايعني أن العلاقة ما بين المؤلف والمقدم يطبعها أكثر من قاسم مشترك.
وثمة تصنيفات أخرى تنطلق من مضمون المقدمات وطبيعة الخطاب الذي تقدمه ,منها(15):
أ- مقدمات تقريظية تحاول إبداء المحاسن والتغاضي عن العيوب.
ب- مقدمات نقدية :تدخل في مجال تحليل العمل الإبداعي ، وإضاءته مستلهمة مختلف المفاهيم النقدية قديمها وحديثها.
ت- مقدمات فنية: تقدم للنص من جنسه .
ث- مقدمات موازية وتكون مستقلة عن المتن الإبداعي تسبح في أفق عام لا علاقة له بالعمل الذي تقدمه.
ولاشك فقد أفضى تعدد المقدمات إلى تعدد الوظائف التي تؤديها, ويمكن تحديدها في:
1- وظيفية تعريفية:تنبيهيه حيث يتم التعريف بالأثر الإبداعي أو بصاحبه أو بانتماء المبدع ومسقط رأسه,أو بأسباب تأليفه.
2- وظيفة تحليلية:وتخص المقدمات التي تدخل في تحليل بعض دلالات العمل الأدبي.
3- وظيفة توجيهية :تحدد وجهة التأويل والقراءة كتحليل العنوان وشرحه .
4- وظيفة تجنيسية وجمالية : تحدد جنس المقدم له في لغة نقدية أو شعرية .
5- وظيفة ميتالغوية: تحول المقدمة إلى خطاب نقدي حول المكونات الفنية للظاهرة الإبداعية.
6- وظيفة أيديولوجية: ترسل خطابا ذا حمولة إيديولوجية تعكس مواقف المقدم نحو قضايا ثقافية أو سياسية أو اجتماعية.(16)
مع أن هذا التوصيف الوظيفي والتصنيف النوعي ليس نهائيا بحيث يمكن سحبه على مختلف المقدمات, إذ بقدر ما تتعدد المقدمات بقدر ما تتعدد وظائفها؛ إلا أن أغلبها لايخرج عن هذا التوصيف الذي يبقي لها ارتباطات مباشرة مع النص المقدم له، إما بدراسته أو بإضاءة جوانب مـنه أو مــن سيـرة مؤلفه.
وسوف تسعى هذه الممارسة القرائية من خلال مفاوضة الخطاب المقدماتي في الرواية اليمنية -لاستقراء مرجعياته الوظيفية والتعرف على مكوناته ومقاربة خصائصه الشكلية وامتداد تأثيره على النصوص الروائية ومستقبل قراءتها.
وماينبغي الإشارة إليه أن الخطاب المقدماتي في النصوص الروائية اليمنية لم يسبق له–حد علمي – أن تعرض للمساءلة والدراسة، ربما بسبب حداثة الدراسات التي التفتت للخطاب المقدماتي ونظرت له, وقد يكون السبب قلة النصوص الروائية المتضمنة لخطابات مقدماتية ، وربما لكون بعضها مقدمات لم تطرح من القضايا النظرية ما يسعف القارئ أو الناقد على استجلاء طبيعة الفن والمفاهيم ذات الصلة بالإبداع الروائي نظرا لتحول جلها إلى مجرد قراءات انطباعية تكيل المديح للنصوص المقدم لها.
ولا تدعي هذه القراءة أنها قاربت كل مقدمات الرواية اليمنية– وإن كان ذلك طموحها منذ كانت فكرة – إلا أن الخطاب المقدماتي في الروايات التي وقع عليها الاختيار يشكل نموذجا حيا ودالا على أنماط التقديم الماثل في الرواية اليمنية. والوظائف التي نهض بها في سبيل قراءة النص وتجسيد حضوره وتلقيه.
أولا:الخطاب المقدماتي الذاتي:
سبقت الإشارة إلى أن المقصود بالخطاب الذاتي هو الخطاب الذي يوقعه المبدع ذاته ويتوجه به إلى القارئ قصد بناء علاقة دافئة بينه – أي القارئ- كمتلق, وبين النص باعتباره رسالة المبدع إلى ذلك القارئ .وإزاء ذلك قد يلجأ المبدع إلى الكشف عن موضوع عمله وتوضيح الهدف منه والبوح بملابسات وظروف كتابته.كي يسهل على القارئ استيعاب تعرجات النص وفضاءاته الواسعة , ويغريه من ثم بمتابعة أحداثه المتنوعة ودلالاته المختلفة, وهذه الإستراتيجية في التقديم لها حضور متجذر في الفن الروائي اليمني منذ أول رواية تؤرخ له وهي رواية (سعيد) لمحمد علي لقمان التي صدرت في 1939(17), بما يعني أن الخطاب المقدماتي في الرواية اليمنية خطاب أصيل لازم الرواية منذ يومها الأول.
يفتتح لقمان مقدمة روايته بعنوان يشعر معه القارئ أنه إزاء خطاب مقدماتي لاعلاقة له بالمتن الروائي ولاينهض بأي دور وظيفي يخدم السياق السردي. فعنوان المقدمة «عدن بين الأمس واليوم» يشي بخطاب غرضه المقارنة بين وضعين مختلفين لـ«عدن» «المدينة/ الناس» في زمنين مختلفين , وهي وشاية صحيحة, فقد كرس لقمان مقدمته للمقارنة بين حالة اليسر والرخاء التي كانت عدن تعيشها أوائل القرن العشرين حيث» كان أهلها قابضين على زمام التجارة يملكون عشرات الآلاف من حيوانات النقل والأبقار والماعز والضان يصرفون ما يكسبون على راحتهم ورفاهيتهم ويدخرون أموالا طائلة لأبنائهم»(18) وبين حالة الفقر والعوز التي اكتسحت المدينة جراء تسلل الأجانب وسيطرتهم على مرافقها , فضلا عن تفشي الجهل بين أبنائها وخاصة في أوساط النساء «أما الجهل بين النساء فحدث عنه ولا حرج فإنهن يعتقدن بسفاسف الأمور من زار وحروز وتمائم ونذور وزيارات أضرحة ولطالما شددن الرحال إلى البلدان المجاورة ليتداوين من العقم أو الهستيريا أو حتى من داء السكري والتدرن الرئوي عند أضرحة الأولياء»(19) وواضح أن حالة التخلف الاجتماعي وضعف الوعي المعرفي لدى العدنيين أزعجت لقمان فاستثمر جل مقدمته لمحاربتها والتحذير من إضرارها , وهي وإن كشفت عن عمق الهم الاجتماعي المعتمل في وجدان الروائي وعقله ,إلا أن ثمة سؤال عن جدوى هذا الخطاب وعلاقته بالنص الروائي.
والحقيقة أن لقمان وإن أسهب في توصيف الحالة العدنية فإنه في آخر سطرين من المقدمة الممتدة عبر ثلاث صفحات حدد أبعاد تلك العلاقة بقوله: «وقد حاولت في هذه الرواية التي وقعت أحداثها في عدن أن أبين كثيرا من عيوب العدنيين الاجتماعية لعلهم يجتنبوها فيصيروا قوما صالحين يرثون الأرض»(20) لقد وضع لقمان متلقيه بهذه الكلمات القليلة أمام هدف الرواية والموضوع الذي ستعالجه, فمتنه الروائي – كما أعلمنا بذلك- مؤسس على تشخيص حالة العدنيين والعيوب التي أوصلتهم إلى تلك الحالة , وهدفه من تشخيص تلك الحالة وفضح المساوئ التي جرت إليها القصد منه تجنبها والتخلص منها , فنحن – إذن- إزاء خطاب مقدماتي محكوم بهاجس اجتماعي يؤشر إلى انخراط الروائي في أتون الحالة المرضية التي يعيشها مجتمعه. فهذه الحالة هزت كيانه، وجعلته ينغمس بين ثناياها ويعيش أعراضها ويصور حالتها ليس في خطابه المقدماتي فحسب بل في متنه الروائي أيضا, فالرواية بحسب د عبد الحميد إبراهيم تصف: «حالة العدنيين في العقد الأول من القرن العشرين . وماهم عليه من رخاء ويسر ، وتصف مجالس التجار ، وما هي عليه ، من فرش وثيرة وأثاث ناعم وخيرات طيبة ،ولكنها تحذرهم من خطر داهم .. وتدعوهم إلى تربية أبنائهم وتعليمهم» (21) .
وما يميز هذا الخطاب – على الرغم من بساطته- أنه قدم مهمات توصيلية توجيهية مهمة, فهو خطاب استباقي كشف مضامين الرواية وأحداثها ، وكذا الأزمنة والأمكنة التي ستدور فيها هذه الأحداث. وهو خطاب مساعد:أعطى المتلقي خبرة قبلية حول مضمون العمل الروائي وطبيعة أحداثه مما قد يساعده على تكوين فهم مناسب لهذا النص.
ويمكن القول إن هذه الوظائف التي ألفيناها في خطاب لقمان الذاتي هي في الغالب جل ما تضطلع به الخطابات المقدماتية الذاتية في روايات المراحل الأولى من تاريخ تطور الرواية اليمنية ,على نحو مانجده في الخطابات المقدماتية لروايات علي أحمد باكثير التي تنتسب فنيا إلى نفس المرحلة التي تنتمي إليها رواية سعيد وهي مرحلة النشأة «(22).
فخطاب باكثير المقدماتي يضع المتلقي ومنذ الوهلة الأولى في مواجهة مباشرة مع مقصدية الرواية ومضمون العمل السردي فيها فضلا عن الإشارة إلى المكان والزمان اللذين دارت فيهما الأحداث.ففي راويته «واإسلاماه» يفتتح خطابه المقدماتي على هذا النحو: «هذه قصة تجلو صفحة رائعة من صفحات التاريخ المصري في عهد من أخصب عهوده وأحفلها بالحوادث الكبرى, يطل منها القارئ على المجتمع الإسلامي في أهم بلاده وهو يستيقظ من سباته الطويل على صليل سيوف المغيرين عليه من تتار الشرق وصليبيي الغرب … فيهب للكفاح والدفاع عن أنفس ماعنده من تراث الدين والدنيا . ويشاء الله أن تحمل مصر لواء الزعامة في هذا الجهاد الكبير ..وبطلها الملك المظفر قطز»(23). فـ«باكثير» لايدع للقارئ فرصة الحدس أو الخوض في غمار العمل الروائي كي يستنتج تقريره الخاص به عن الرواية ومضمونها , بل إنه يعفيه من تلك المهمة ويتكفل هو بانجازها . وهذه الإستراتيجية في التقديم هي ذات الإستراتيجية التي انتظمت خطابه المقدماتي في رواية «ليلة النهر» الذي يفتتحه بالقول: «في وسعك اليوم أيها القارئ الكريم أن تشهد في هذا الكتاب مايشوقك من حياة الموسيقار المصري العظيم المرحوم فؤاد حلمي»(24) وهو لايكتقي بكشف موضوع الرواية بل إنه يبوح بالمصادرالتي استقى منها معلوماته عن حياة الموسيقار والأحداث التي صنعت حبكة روايته, حيث يقول: «وقد استقيت حوادث هذه القصة وأخبارها من كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بصاحب السيرة, غير أن معظمها تلقيته عن صديقه الحميم الأستاذ مراد السعيد الذي تفضل فأعارني مذكراته عن تلميذه الكبير ولم يضن على بشيء أردت الاطلاع عليه من شؤونه وأحواله إلا مايراه من قبيل السر الذي لايذاع»(25), وخطاب مثل هذا كفيل بنثر جملة من الانطباعات والإيحاءات في ذهن المتلقي بعضها يخدم الممارسة القرائية للرواية والبعض الآخر يعيقها . فالوعي بواقعية «ليلة النهر» والاطمئنان إلى أنها رواية حقيقية وأن بطلها الموسيقار فؤاد حلمي شخصية حقيقية وغير متخيلة يجنب الرواية التأويلات المغلوطة والتفسيرات المشوشة , ولكنه في الوقت ذاته يحرم القارئ متعة الاستكشاف ويلزمه برؤية قبلية تصادر حقه في التفسير الخاص به ناهيك عن تقييد حريته في إعادة إنتاج النص وفق رؤيته الخاصة.
على أن البوح بأسرار النص المركزية في الخطابات الذاتية يقل في مقدمات الروايات التي تنتمي لتيارات التجديد والحداثة لتحل بدلا عنها إشارات بسيطة ولكنها ضرورية لإضاءة بعض الجوانب المتصلة بتقنيات الكتابة الروائية , فـ«محمد مثنى» في مقدمة روايته «ربيع الجبال» يطالعنا بهذا التقديم: «إنني استميح القارئ عذرا لتوضيح بعض الضرورات ليس فيما يتعلق بشكل الرواية أو مضمونها ولا أي شيء من هذا القبيل الذي يمكن أن يتدنى إلى حد السفاقة والمصادرة واتهام الناس بالبله , وإنما فيما يتعلق بشخصية القصة الرئيسية .فقد تركت له قدرا من الحرية الانسيابية اللغوية في كلماته وجمله ورواياته معتقدا في قرارة نفسي أن مامن شيء يفسد العمل الفني والجمالي مثل تلك التنطعات اللغوية القاموسية … ليتحول القروي البسيط إلى مثقف وعالم لغوي بقدرة الكاتب ونيابته المخبولة أو يصبح الإنسان المسحوق العادي أزهريا»(26) لقد أبان هذا التقديم لـ»محمد مثنى» عن صيغة مغايرة لما ألفناه من صيغ التقديم الذاتي في روايات الاتجاه التقليدي ,كما كشف عن نفور الذات المقدمة وعدم استساغتها لمثل تلك الخطابات التي تعد -من وجهة نظرها- نوعا من التدني والاستخفاف بعقلية القارئ وقدرته على اكتشاف آفاق النص ودلالاته المختلفة , ولأن هذا النوع من التقديم لم يعد مقبولا ولا مستساغا لدى الذات المقدمة فقد انحصر خطابها على عرض وجهة نظر نقدية ذات صلة بالعمل الروائي ولها تعلقها بأحد عناصره الأساسية هو عنصر الحوار والمستوى التعبيري للبطل والشخصيات الورقية.
والحق أن قضية المستويات اللغوية في العمل السردي التي أثارها الخطاب المقدماتي لـ»محمد مثنى» قضية متداولة وذات حضور قوي في الخطاب النقدي العربي ولكنه حضور إشكالي له مبرراته الفنية والموضوعية. والتطرق إليها في مقدمة الرواية جاء على سبيل استصحاب المبررات الفنية لتقنية من التقنيات الموظفة في المتن الروائي هي تقنية التعبير باللغة المحكية في حوار الشخصيات بشكل يجعلها قريبة من حياة المتلقي ومشاغله اليومية ويضفى على الرواية بعدا واقعيا, ولم يكن القصد من إثارتها هو إعادتها إلى منصة التداول النقدي , وإلا لكان المقدم أسهب في سرد الحيثيات والمبررات ووجهات النظر التي خاضت غمار هذه القضية كي يوفر لوجهة نظره دعما لوجستيا يجذرها, ويضمن لها الفاعلية والإقناع, ولايعني ذلك براءة المقدم من الانخراط في أتون الصراع الدائر حول لغة الحوار القصصي وانحيازه الواضح للغة المحكية لغة الحديث اليومي.
نخلص فنقول إن مقدمة ربيع الجبال – رغم أنها لم تتجاوز الصفحة – صورة متقدمة من صور الخطاب المقدماتي الذاتي , ومن المقدمات التي تحمل وجهة نظر الكاتب تجاه قضايا الإبداع الأدبي , فضلا عن اجتراح إجابات مسبقة للأسئلة التي يطرحها النص المقدم له .
الخطاب المقدماتي الغيري:
يتجلى هذا النوع من الخطابات المقدماتية في ذلك التقديم الذي يكتبه مقدم آخر للنص، يقوم من خلاله بتقديم شهادة حول النص أو مؤلفه أو كلاهما في نفس الوقت، وعادة مايكون بين المقدم والمقدم له قواسم مشتركة , كأن تجمع بينهما علاقة الصحبة والصداقة أو الاتجاه الأدبي ولذا قل أن تخلو المقدمات الغيرية من روح المجاملة والدعاية والإشهار . إلا أنها تظل الأقدر على إنتاج معرفة نقدية لها فاعليتها وخصوصيتها وبالذات إذا كان المقدم شخصية لها مكانة إبداعية خاصة، ووضع اعتباري مميز, ويحضرنا في هذا السياق المقدمات النقدية للأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح الذي يعد بلامنازع رائد الحركة الإبداعية والنقدية المعاصرة في اليمن وأكثر من احتفى وقدم للأعمال الإبداعية للجيل الجديد من المبدعين اليمنيين ليس في مجال فن الرواية فحسب, بل في مجال الشعر والقصة وفنون الإبداع المختلفة. وسيدرك من يتهيأ له الاطلاع على شيء من تلك المقدمات مدى خصوبتها وثراءها المعرفي والنقدي , فمقدماته للأعمال الإبداعية – وإن بدا في بعضها كما يقول: رقيقا ومحبا ومجاملا(27)- إلا أنها – بما أثارته من قضايا الجديد والقديم , وما أنتجته من معرفة نقدية وأدبية – تمثل نقطة تحول في مسار الحركة الأدبية في اليمن. ونظرا لضيق مساحة الدراسة وصعوبة استقراء كل ماكتب منها, يكون من المفيد الإشارة إلى أن إفرادها برسالة علمية أو دراسة جامعية هو أنسب الطرق وأسلمها لتقديم نظرية متكاملة عن منجزها النقدي وأبعادها المعرفية.
وسنكتفي فيما يخص التقديم الغيري للرواية اليمنية بقراءة ثلاث مقدمات تمثل مراحل مختلفة من تاريخ تطور الرواية اليمنية, فضلا عن أن لها من الوفرة الورقية أكثر ما لغيرها مما جعلها تنتظم من الإشارات النقدية قدر ما تنتظم من التقريظ ,ومنها الأصلية التي صدرت بموازاة النص في طبعته الأولى واللاحقة التي صدرت مع الطبعة الثانية ,وفيها الموقع من لدن اسم محلي والموقع من اسم غير محلي وغير ذلك من المبررات المنهجية.
وأول تلك المقدمات مقدمة د.عبد الحميد إبراهيم لرواية الشهيد الزبيري «مأساة واق الواق» وهي تقريبا أطول مقدمة غيرية لرواية يمنية ظهرت رفقة الطبعة الثانية 1985 كمقدمة لاحقة لصدور الطبعة الأولى عام 1960, وعلى الرغم من طول المقدمة (15صفحة) إلا أنها تركزت حول قضية تأثر الزبيري بغيره ممن سبق وشيدوا مدنا فاضلة في كتبهم التي صورت رحلاتهم الخيالية إلى الدار الآخرة وتحديدا الشاعر الباكستاني «محمد إقبال» في كتابه (رسالة الخلود) أو (جاويد نامة). واستئثار قضية التأثير والتأثر بمقدمة الرواية ليس إلا ترجمة لأهداف المقدم التي أعلن عنها في بداية خطابه المقدماتي .وتمثلت في «الكشف عن فكر الزبيري, وعن أصالة ذلك الفكر والبحث عن مصادره»(28). وهذه الأهداف – لاشك – أهداف طموحة ومشروعة تنم عن وضوح شخصية المقدم وعمق تفكيره واتساع آفاق رؤيته النقدية. فسؤال التأثير والتأثر في الأعمال الإبداعية أو ما يطلق عليه حديثا بـ(التّناصّ) (Intertextuality) أو (التفاعل النصّي) سؤال غاية في الأهمية كونه يستحضر التجارب الإنسانية ويكشف تراكم الخبرة الفنية والمعرفية في بنية النصوص الأدبية. وهو– أعني التناص/ التأثر – من مميزات النصوص في النظر النقدي الحديث, إذ لم يعد ينظر للنص كخبرة خاصة بمنتجه بل غدا – كما تقول جوليا كريستيفا: «عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى»(29), بيد أن الخطاب الماثل أمامنا لم ينطلق من هذا الوعي ليستقصي التجارب السابقة والخبرات المكتنزة في رواية «مأساة واق الواق» كي يصل من خلال دراسة حضورها وقدرة النص على تمثلها والتفاعل معها إلى انجاز هدفه المعلن وهو الكشف عن أصالة فكر الزبيري وخصوصية تجربته الإبداعية , فذلك مالم يتحقق لأن أصالة المبدع كما يفهم من هذا الخطاب تعني التفرد ووضوح الشخصية بعيدا عن أثر القراءات وتلاقح الأفكار(30). ولأن مفهوم الأصالة لديه هو هذا فقد كرس نفسه لنفي أي تفاعل أو تعالق بين نص الزبيري «مأساة واق الواق» وبين نص محمد إقبال «رسالة الخلود».
ويبدو لي – وقد أكون مخطئا- أن سعي المقدم لإثبات براءة «مأساة واق الواق» من التأثر بـ«رسالة الخلود» لم يكن دافعه تصحيح واقع نقدي يرى عكس ذلك.فلم يسبق لأحد من النقاد – حسب علمي – وقال بتأثر رواية الزبيري برواية إقبال فضلا عن أن المقدم ذاته لم يذكر شيئا من هذا القبيل . وما نميل إليه هو أن قراءته لكلا النصين أفرزت في ذهنه جملة من الرؤى والتصورات بإمكانية وجود علاقة تأثير بين النصين. ففضل – بدلا من البحث عما يعززها- أن يؤسس لخطاب استباقي ينفي وجود أية صلة بينهما ؛ كي يظل مطمئنا على نقاء فكر الزبيري وأصالة تجربته التي خطط لإثباتها له منذ دشن خطابه المقدماتي , ومايقوي هذه الظنون هو اعتماده – أي المقدم- على أسلوب الحدس والافتراض في إثبات رؤيته.
فمعرفته ببعض الحقائق التاريخية كإعجاب الزبيري بإقبال وترديد اسمه في شعره وكذا علاقته بسفير جمهورية مصر في باكستان الدكتور عبد الوهاب عزام المشهور بكتاباته حول إقبال وبترجمته لكثير من كتبه فضلا عن أن باكستان بلد إقبال كانت الملجأ الآمن للزبيري من بطش الإمام إثر فشل ثورة 1948 (31) كل هذا دفعه لتصور علاقة تأثير وتأثر بين إقبال والزبيري , وبأن رسالة الخلود ربما تكون أحد مصادر رواية «مأساة واق الواق» وشجعه على ذلك تشابه كثير من ظواهرهما الفنية. فالصورة التي صورها إقبال للخائنين(جعفر البنغالي وصادق الركني) تشبه في فظاعتها صورة الإمام , وروح الهند التي تظهر لإقبال, تشبه روح لميس التي تنبري للزبيري بين السحب وهي تنشد الإشعار, وكلاهما – أي إقبال والزبيري – يلتقيان بجمال الدين الأفغاني ويطارحانه الحديث(32), ولأن هذه الحيثيات مبنية على التخمين والافتراض وليست قائمة على البحث والاستقصاء فقد سجلها الكاتب في طي مقدمته كي ينفذ من خلال تفكيكها إلى تدوين نتيجة مفادها صعوبة الجزم بوجود صلة بين العلمين «فالدليل المادي على وجود التأثير والتأثر غير متوافر. فلم نسمع الزبيري يتحدث عن رسالة إقبال, ولم تكن تلك الرسالة قد ترجمت إلى العربية حتى وفاة الزبيري, الذي كان يشكو وهو في باكستان من حاجز اللغة الذي حال بينه وبين التحدث مع الباكستانيين»(33) وفضلا عن هذه الاستنتاجات ثمة حشد آخر من الأدلة والبراهين التي اشتغل عليها الكاتب ليثبت أن «الزبيري لم يتأثر بإقبال في روايته. وإنما هي الحرارة والمعاناة بسبب مشكلات مواطنيه»(34).
وكل ماسبق يشجعنا على القول إن الخطاب المقدماتي في رواية «مأساة واق الواق» خطاب استباقي لا يكتفي بتفسير النص وفق معطياته الحالية وملابساته التاريخية , ولكنه يشتبك مع وقائع نقدية احتمالية يمكن أن تنتجها عملية المثاقفة واتساع دائرة الممارسات البحثية مستقبلا وذلك بقصد توجيه التلقي والقراءات المستقبلية صوب الانطلاق من مفاهيم أصالة الرواية كمنتج محلي خالص وخال من شوائب الآخرين وإفرازاتهم سواء على مستوى فكرتها أو موضوعها أوتكنيكها الفني.
وبالرغم من أن هذا اللون من الخطابات المقدماتية يعد في نظر البعض إساءة متعمدة للنص(35) تحد من حرية القارئ وتلزمه برؤية قبلية من شأنها إضعاف تعدد التفسيرات والتأويلات التي تمنح النص الحياة والتجدد المستمر مع كل ممارسة قرائية؛ إلا أن له هنا وجها ايجابيا فحيثيات المقدم لنفي علاقة التأثير والتأثر بين نصي الزبيري وإقبال لا تشكل إطارا مقنعا يمكنه صرف النظر النقدي عن البحث والاستقصاء في هذه القضية بقدر ما تكنه من تساؤلات يمكنها أن تحفز الباحثين وتثير فضولهم لاستنطاق آفاق التعالق بين النصين الإبداعين, ولو حدث ذلك – وليس ثمة ما يمنع حدوثه ,خاصة والدراسات المشتغلة على التناص لا تزال في أوج شبابها فضلا عن أن نجم الدراسات التي تستهويها المقارنة بين الإبداعات المتشابهة للشعوب المختلفة لم يأفل بعد- إذا حدث ذلك يكون هذا التقديم قد خدم النص المقدم له مرتين , الأولى: حينما أبرز خصوصيته المحلية وفي ذلك رد غير مباشر لمن رأى أن إبداع الزبيري يخلو من الخصوصية المحلية(36). والثانية: إذا ما أثارت حيثياته لنفي التفاعل بين نصي الزبيري وإقبال من الأسئلة مايدفع الباحثين لإثبات عكس ذلك ويعيد الرواية إلى منصة التداول النقدي والقراءات المنفتحة على كل الاحتمالات.
جدوى الخطاب المقدماتي:
يدشن الشاعر عباس الديلمي مقدمته لرواية «طيف ولاية «للروائية عزيزة عبد الله بالتساؤل عن جدوى كتابة المقدمات وأهميتها في الأعمال الإبداعية عموما قائلا: «هل يحتاج الكتاب إلى مقدمة»(37) وحيرة الديلمي وتردده إزاء جدوى المقدمات وليد قناعة مسبقة لديه بأن «الكتاب مولود جديد وربما أنه كذلك لدى المؤلفين فماذا يحتاج إذن»(38) وحسب هذه القناعة فان المولود الجديد لا يحتاج لمن يعرف به أكثر من حاجته إلى اسم يدل على شخصيته وبعدها هو من سيقول للناس من هو أو هو من سيعرف بنفسه(39) ومن هذا المنطلق لا يخفي عباس الديلمي تبرمه من كتابة المقدمات , بل ويعتبرها كذلك الثرثار الثقيل الظل ..الذي يحول بينك وبين ما تريد النظر إليه مباشرة ..أو يراك متجها إلى صالة الطعام فيمسك بك ويأخذك جانبا ليحدثك عما حوته المائدة وكيف تم إعدادها(40). ورؤية كهذه لاشك لها أهميتها لأنها تكشف جانبا مما يحبذه المبدع إزاء التعامل مع منتجه الإبداعي فـ«عباس الديلمي» مبدع مشهور عرف بكونه شاعرا وليس ناقدا ومن ثم فهو يفضل أن يلتقي قارئه مباشرة في فضاء النص دونما واسطة أو إعاقة من أحد شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين إلا أن الوضع يختلف مع الناشئة فهم بأمس الحاجة إلى من يعرفهم إلى الجمهور ويشجع محاولاتهم الإبداعية.ومادامت المقدمات غير ذات جدوى في نظر الشاعر فلماذا كتب المقدمة التي نحن بصددها؟ يستطرد الديلمي فيعترف أن صاحبة الرواية استكتبته وطلبت منه تقديم روايتها(41). ومعلوم أن تلبية الدعوة يظهر حسن احترام وتقدير الداعي ويلزم المدعو في الوقت ذاته بواجبات الضيف وآدابه حتى لو تعارضت وسلوكياته المعتادة.
وهذا يضعنا إزاء مقدم يرى نفسه ضيفا على الرواية وليس ناقدا أو قارئا لها. ولذا يرفض أن يعد ما كتبه مقدمة أو تعريفا بالرواية أو بصاحبتها.مع أن مقدمته لم تخل من التعريف بالكاتبة والزعامة القبلية والدور النضالي لعشيرتها أسرة أبي لحوم وكذا الدور النضالي لزوجها محسن العيني رئيس الوزراء الأسبق , فضلا عن التنبيه إلى بعض الإشارات الفنية التي تكتنزها الرواية(42) , بيد أنه كان في كل ماكتب ملتزما أيما التزام بآداب الضيف, متفاديا الخوض في أية قضية نقدية يمكن أن يصل من خلالها إلى خلاصات قد تزعج المضيف ولا ترضيه أو قد ترسم صورة مهتزة ومشوشة للرواية منذ بدايتها .
وفي مقابل هذا الخطاب الذي يقرر عدم جدوى المقدمات كي يتفادى الخوض في قضايا ينبني عليها أحكام قيمة , ثمة خطاب آخر لا يتجاهل أهمية المقدمات بل ويعدها من أسس الفهم العميق للأعمال الإبداعية , وعلى هذا فهو يحاور ما أمكنه من متعلقات النص وقضاياه المختلفة محللا ومفسرا وناقدا مع احتفاظه بروح التعاطف مع النص وصاحبه .وهذا الوعي يطالعنا به فضل النقيب مقدم رواية «الناقلة بلو أوشنز» لـ«علي محمد الزريقي» حيث يبدأ خطابه بالإشارة إلى أهمية المقدمة وكذا أهمية الرواية قائلا: «هذه مقدمة لابد منها للفهم العميق لعمله الذي بين أيدينا والمعنون «فصول من رواية يمنية مفتوحة – ذلك أن مدار هذا العمل وفحواه إدانة صريحة ومباشرة للشمولية السياسية والقهر الاجتماعي والتخريب النفسي والتدمير الاقتصادي وتحويل الحياة إلى كابوس والناس إلى أشباح والوطن إلى ساحة مطاردة للصيد والقتل»(43) ويذكر النقيب أن أحداث الرواية دارت في مدينة عدن في فترة السبعينات التي شهدت انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان نزح على إثرها الآلاف من الكوادر منهم الزريقي صاحب الرواية(44) والكشف عن موضوع الرواية ومكان وزمان أحداثها لا يشكل جديدا في هذا التقديم فذلك ما ألفيناه في الخطابات التقليدية , بيد أن الجديد في مقدمة النقيب هو أن كشفه لموضوع الرواية وزمانها والفضاء الذي دارت فيه أحداثها لم يكن إلا وسيلة توصل بها للكشف عن قيمة الرواية وأهميتها , إذ يرى أن الأحداث التي قصتها الرواية – وهي أحداث واقعية – قد أحدثت شرخا نفسيا لإنسان ذلك الزمن مازال يعاني آثاره النفسية والأخلاقية والعقلية حتى الآن(45), وعلاج تلك الآثار النفسية – برأيه- يكمن في التوصيف الدقيق والموضوعي والقراءة المتأنية والهادئة لتلك الأيام والأحداث, وهذه المهمة الشاقة هي ما حاولت رواية الزريقي أن تنهض بها(46). وكي لايتهم النقيب بإطلاق أحكامه جزافا فقد عمد إلى استدعاء ماحدث لبطل الرواية من اختطاف وتغييب وما أصاب عائلته من خوف وترويع ومأساة(47) بل إن استصحاب الدليل يبدو سجية حرص عليها النقيب في أغلب أحكامه النقدية التي أودعها هذه المقدمة .فعندما يصف الرواية بأنها شهادة على التاريخ , يعلل ذلك بأنها توثق للكثير من الضحايا بأسمائهم الحقيقة(48) ويعلل انحيازه وتقديره لصاحب الرواية بأنه إنسان حضاري واسع الأفق بعيد عن التعصب وقريب من الفطرة…الخ(49) ومع كل هذا الانحياز للروائي والرواية – وهو انحياز مبرر- فانه أي المقدم – وفي سياق حديثه عن أسلوب الكاتب يعترف «أن الزريقي ليس روائيا محترفا ولكنه احتال لإيجاد شكل مقبول وبسيط وممتد ليقول كلاما لايستطيعه في مقالة أو كتاب نظري وقاله هنا بلغة حياتية فصيحة , لاهي بالمتقعرة ولاهي بالسوقية وإنما هي بين ذلك قواما»(50) وهكذا يضعنا خطاب النقيب أمام جملة من الأحكام والإشارات نحسبها – مهما اختلفنا في دقتها وموضوعيتها – تنظمه في سلك الخطابات التي تقدم معرفة نقدية عن النصوص التي قدمتها للقارئ.
وتأسيسا على ماسبق يمكن القول إن خطاب المقدمات من أهم عتبات النصوص ومداخل قراءتها. فالمقدمات من النصوص التمهيدية التي قد يعول عليها الكاتب كثيرا في جذب قارئه أو في التأثير عليه أو في الإيعاز له باستراتيجيته الخاصة . وهو مايمكنها من أن تقدم وعيا معرفيا- أيا كانت قيمته – من شأنه أن يضئ بعضا من الجوانب المعتمة في النص الإبداع. وخطاب المقدمات في الرواية اليمنية لا يخرج – إجمالا- عن هذه الوظيفة المركزية.سواء في سياق خطاباته الذاتية أو الغيرية. بيد أن الخطابات الغيرية أظهرت كفاءة على إنتاج معرفية نقدية أكثر من الخطابات الذاتية مع ما شابها من الانطباعية والتأثرية كون أغلبها كتب بطلب من كاتبي الروايات.وقد تراوحت وظائف هذا الخطاب بين التعريف بالنصوص الإبداعية وكذا التعريف بأصحابها بينما اقترب بعضها من مكونات النص وعناصره المختلفة محللا ومفسرا وشارحا.
ولاتدعي الدراسة أن هذه الاستنتاجات هي أحكام تعميمية بل هي وجهة نظر قابلة للجدل والحوار ولها من احتمالات الذاتية قدر ماتحمل من الموضوعية. وعزاؤها إن كان ثمة خطل في رؤيتها أومنهجها النقدي أنها طرقت الباب ولفتت الانتباه إلى حقل من حقول المعرفة والنقد هو غائب –فعلا- عن اهتمام الباحثين ونقاد الأدب اليمني .
الهوامش والمراجع:
-1 د.محمد عزام: النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي, منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق , 2001,ص14.
-2ينظر كتابي جينيت : «Palimpsestes «(1972) «Seuils»1987ولترجمة المصطلح ينظر : د. محمد بنيس: الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، 1, دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،1989، ص 77.
3- د. حميد لحمداني,عتبات النَّص الأدبي (بحث نظري), مجلة علامات في النقد,النادي الأدبي بجدة,مج12,ع46, شوال1423هـ ،ص32.
4- د.عبد الرزاق بلال : مدخل إلى عتبات النص ، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم, أفريقيا الشرق , الدارالبيضاء 2000,ينظر: ص 23-24.
-5 د.عبد المالك أشهبون: خطاب المقدمات في الرواية العربية، مجلة :عالم الفكر ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب المجلد،33 ، أكتوبر-ديسمبر، ص 88 .
-6 . أحمد المنادي: النص الموازي :آفاق المعنى خارج النص , مجلة علامات في النقد, النادي الأدبي بجدة, ج61,مج 16, مايو 2007, ص145
7- نفسه, ص144. 8- د.عبد المالك أشهبون ، ص89.
9 – نفسه,ص 89. 10- ينظر: نفسه,ص 90.
11- نفسه,ص 90. 12- عبد الرزاق بلال, ص 37 .
13 – ينظر:نفسه، ص 51 .14 – د:عبد المالك أشهبون ، ص 105 .
-15 ينظر:د.أحمد المنادي , ص148. 16- نفسه , ص148.
-17 ممن ذهب إلى أن رواية سعيد أول رواية يمنية :هشام علي وآمنة يوسف وإبراهيم أبو طالب, ينظر: سامي الشاطبي, الرواية اليمنية (70)عاماً من الكتابة(70)عاماً من الإصدار, دراسة منشورة في موقع صحيفة إرباك الالكترونية www.erback.com. وينظر:صادق السلمي , اثر التراث في الرواية اليمنية ,ص16.
18- محمد علي لقمان , سعيد , المطبعة العربية , عدن 1939، ص3.
19- نفسه, ص5. 20- نفسه ,ص5
21 – د. عبد الحميد إبراهيم – القصة اليمنية المعاصرة (1939 – 1976) – دار العودة – بيروت– 1977 – ص 150,151.
22 – ينظر: صادق السلمي , أثر التراث في الرواية اليمنية , رسالة ماجستير غير منشورة ,جامعة ذمار ,2004, ص19.
23 – علي أحمد باكثير, واإسلاماه, الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة 1998 ,ص9 .
24 – نفسه, ص4. 25 – نفسه,ص4.
26 – محمد مثنى, ربيع الجبال, دار الهمداني, عدن, 1983 ,ص6 .
27 – د.عبد العزيز المقالح, من البيت إلى القصيدة, دار الآداب, بيروت, 1983, ص27 .
28 – محمد محمود الزبيري, مأساة واق الواق, دار الكلمة, صنعاء , ط2, 985 , ص5 .
29 – د.عبداللـه محمد الغذامي: الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر, النادي الأدبي الثقافي, جدة, 1985- ص322 وينظر: مصدره.
30 – ينظر:محمد محمود الزبيري ,ص14.
31 – ينظر: نفسه, ص 11ومابعدها .
32 – ينظر: نفسه , ص13. 33 – نفسه, ص14.
34 – نفسه, ص14.ومابعدها.
35 – ينظر: ص2ومابعدهامن هذه الدراسة.
36 – عبداللـه البردوني, أدبنا في عشرين عاما, العدد الأول من مجلة الحكمة .ينظر: حيدر محمود غيلان, البردوني ناقدا, إصدارات وزارة الثقافة والسياحة, 2004 , ص163.
37 – عزيزة عبدالله , طيف ولاية , مطابع دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة , صنعاء , د.ت , ص5 .
38 – نفسه, ص5 . 39 – نفسه, ص5 .
40 – نفسه, ص5 . 41 – نفسه, ص6 .
42 – نفسه, ص7,8,9 .
43 – علي محمد الزريقي , الناقلة بلو أوشنز, إصدارات وزارة الثقافة والسياحة , صنعاء , 2004, ص5.
44 – نفسه, ص6. 45 – نفسه, ص6.
46 – نفسه, ص6. 47 – نفسه, ص6,7.
48 – نفسه, ص7. 49 – نفسه, ص5. 50 – نفسه, ص9.
محمد يحيى الحصماني
ناقد وأكاديمي من اليمن