لا أجد أي متعة في استذكار سنواتي الأولى في المدرسة, أولا لأني لم أبدأ بارتيادها إلا في التاسعة من عمري, وذاك لأن ابي, ذو النزعة الفوضوية الصميمة, كان لا يطمئن إلى كل ما يمت بصلة الى مؤسسات الدولة. وبما أني كنت ارتدي نظارة وياقة مستعارة وربطة عنق, فقد لبثت طوال الوقت, عرضة لهزء ودعابات معظم أترابي الذين فطروا على سوء التربية. أجدني عاجزا عن استذكار اسم المدرسة, غير أني اعلم انها كانت تقع في شارع ال-؛تاميز« كان أبي يردد قوله ان تاريخ الارجنتين صار أشبه بالتعليم الديني; فكان يفترض بنا إذن أن نعشق كل ما هو ارجنتيني. فمثلا, يعلموننا تاريخ الارجنتين من دون ان يأتوا على ذكر البلدان العديدة والعصور العديدة التي اسهمت في قيامها. أما في درس الانشاء بالاسبانية فكانوا يلقنونني الكتابة بأسلوب مزخرف:
Aquellos que lueharon por una patia libre, independinte glrosia…
(أولا الذين ناضلوا في سبيل وطن حر, مستقل, مجيد…) فيما بعد, في جينيف, علموني أن هذا الأسلوب خال من أي معنى وأنه ينبغي لي أن أرى الأشياء بعيني أنا. أما شقيقتي نورا, وهي من مواليد 1091, فقد ارتادت, بالطبع, مدرسة للفتيات.
طوال تلك الأعوام, كنا نقضي فصل الصيف في ؛آدروغيه«, التي تبعد عشرين كيلومترا جنوب بوينس أيرس, وحيث نملك عقارا- دارا كبيرة من طبقة واحدة محاطة بحديقة فسيحة, ومقصورتين صيفيتين, وطاحونة هواء بالإضافة الى كلب راع اسمر الفروة جعديا.
كانت »آدروغيه« آنذاك, ناحية نائية, وحدة وادعة, لبيوت ريفية مسدرة بشباك حديد ذات بوابات مجانبة بـ»أعمدة« من أحجار متوجهة بأحواض ورود, ومن حولها جنائن وطرقات متلألئة انطلاقا من عدد المستديرات, وحيث الأجواء مفعمة بضوع الاوكاليبتوس. لقد قضينا في آندروغيه عددا لا يحصى من الصيفيات خلال عشرات السنين.
ترقى أولى زياراتي الى منطقة البامبا الى عام 1909, وكان ذلك لمناسبة زيارة قمنا بها لأقرباء في ناحية سان نيكولاس, شمال غرب بوينس ايرس, وأذكر أن أقرب المنازل الينا كان يبدو كنقطة ضائعة في الأفق. ذلك الاشعاع المترامي كان يدعى البامبا, وعندما بلغني ان العمال الزراعيين كانوا من »الطوشو« كشخصيات ادواردو جوثييريت, فقد اكسبهم ذلك مكانة خاصة في عيني. وذات مرة, أذن لي أن أصحبهم على صهوة جواد لسوق الماشية الى النهر, في ساعة مبكرة. كان الرجال قصار القامة, سمر البشرة, يرتدون البومباتشاس (نوع من سراويل الزواوي). وعندما سألتهم عما اذا كانوا يجيدون السباحة, أجابوا قائلين: »ان المياه جعلت للماشية«!! أهدت أمي دمية موضبة في علبة كبيرة لابنة رئيس العمال. ولما عدنا في السنة التالية, وسألنا عن حال الفتاة الصغيرة, قيل لأمي: »كم أسعدتها بتلك الدمية! « وأشاروا اليها, في علبتها, معلقة على الحائط مثل لوحة. وكان واضحا انهم لا يسمحون للفتاة إلا بالتطلع إليها من دون أن تمسها كيلا توسخها أو تكسرها, فالدمية التي جعل مكانها في صدارة رفيعة مصونة من كل لمس, يمكن ان تعبد من بعد, لقد كتب لوغونيس, ذات يوم, انه كان شائعا في قرطبة, قبل ان تفتتح المحال التجارية فيها, أن تعلق ورقة من أوراق اللعب بمثابة لوحة, إذ تثبت بمسمار على جدران أكواخ »الغوشو«, وكانت ورقة الـ4 الكبا برسمة الأسد والبرجين عليها, هي المفضلة لديهم على الاطلاق واعتقد اني شعرت قبل ذهابي الى جنيف, بنظم قصيدة عن الغوشو, استوحيتها, على الأرجح من أجواء الشاعر اسكاسوبي, وأذكر اني حاولت ان اضمنها, ما استطعته, بعضا من تعابير الغوشو, غير اني اصطدمت بعقبات تقنية جمة. ولابد اني اقلعت عن المحاولة بعد فقرتين أو ثلاث.
أوروبا
عام 1914 غادرنا الى أوروبا عازمين على الاستقرار فيها نهائيا. كان بصر أبي يشح على نحو متزايد, وأذكر اني سمعته ذات يوم قائلا: »كيف يسعني أن اوقع على وثائق رسمية أعجز عن قراءتها? «. واذ أرغم على التقاعد في سن مبكرة, لم يستغرقه اتخاذ القرار بالقيام بهذه الرحلة وتنظيمها اكثر من عشرة أيام. ففي تلك الحقبة لم يكن العالم متشددا في حذره وتحوطه ولا يعرف هذه المقادير الثقيلة من المستندات الادارية المطلوبة اليوم. قضينا أولا بضعة أسابيع في باريس, تلك المدينة التي لم تغوني في ذلك الوقت كما لا تغويني اليوم على نحو خاص, بعكس ما يحصل لكل الارجنتينيين تقريبا. ولربما كان ذلك, ومن دون ان أدرك, لأنني لطالما كنت ذا نزعة بريطانية; والواقع أني لطالما اعتبرت (موقعة) واترلو انتصارا. كانت الغاية من تلك الرحلة هي ان نتمكن أنا وشقيقتي من متابعة دروسنا في جنيف, وكان مقررا أن نمكث فيها مع جدتي لأمي التي رافقتنا في رحلتنا والتي توفيت في هذه المدينة فيما والداي يجوبان أنحاء أوروبا. كما كان والدي يسعى الى علاج عينيه على يد مختص سويسري شهير. في تلك الحقبة كانت المعيشة في هذه القارة أرخص منها في بوينس ايرس, وكان البيسو الارجنتيني يعد عملة قوية. ولم نكن نحن, على اطلاع بمجريات الامور الراهنة فلم يدر في خلدنا للحظة واحدة ان الحرب العالمية الأولى ستندلع في شهر اغسطس, وصودف أن أبي وأمي كانا في ألمانيا عندما أعلنت الحرب, لكنهما تدبرا أمر رجوعهما الى جينيف. بمضي سنة, والحرب في أوجها, أتيح لنا عبور (جبال) الألب للقيام بجولة سياحية في شمال ايطاليا. وما زالت لدي ذكريات واضحة ودقيقة عن قيرونا والبندقية, ففي مدرج قيرونا المقفر وقفت لأتلو بشجاعة فقرات مطولة من قصائد اسكاسوبي عن الغوشو.
في الخريف الأول لتلك الحرب- 1914- كنت قد بدأت الدراسة في ال-؛كوليج دوجنيف« التي انشأها جان كالفان. كانت مدرسة خارجية. في صفي كنا نحو أربعين تلميذا نصفهم أجانب. وكانت المادة الرئيسية هي اللاتينية وسرعان ما أدركت ان المجتهد في معرفة اللاتينية يمكنه ان يهمل المواد الأخرى بلا عواقب. وكانت هذه- الجبر والكيمياء والفيزياء وعلم المعادن وعلم النبات وعلم الحيوان- تدرس بأية حال بالفرنسية. في تلك السنة اجتزت امتحاناتي كلها بنجاح, فيما عدا امتحان اللغة الفرنسية. وقد عمد رفاق صفي, من دون ان يعلموني, الى توجيه التماس الى مدير المدرسة, وقعوه جميعا, وفيه اشاروا الى اني اضطررت الى درس كل هذه المواد بالفرنسية, وهي لغة احتاج الى تعلمها. وطلبوا من المدير اخذ الامر بعين الاعتبار وهذا ما فعله بكل ترحاب. في البداية لم أكن أعرف حتى متى يوجه الأستاذ سؤاله إلي لانه كان يلفظ اسمي على النحو الفرنسي, فلا ينطق إلا بمقطع صوتي منه (على نحو ما تلفظ »بورج«) فيما نلفظه نحن, بمقطعين صوتيين, تكون فيه الـ»ج« »خاء« مخففة. لذا كنت أعلم أن السؤال موجه إلي عندما يبادر أحد الرفاق الى لكزي بمرفقه.
كنا نقيم في شقة في الناحية الجنوبية من المدينة, أي في الجزء القديم منها. ما زلت الى اليوم أعرف أحياء جنيف أكثر مما أعرف بوينس ايرس, وتفسير ذلك يسير إذا علمنا ان ما من ناصيتين متشابهتين في جنيف مما يسهل التمييز بينهما. كل يوم كنت أسير بمحاذاة ذلك النهر الأخضر الجليدي, نهر الرون, الذي يجتاز قلب المدينة وتعلوه سبعة جسور مختلفة, السويسريون أناس, في العادة, حذرون ومتحفظون. وكان صديقاي المقربان يهوديين من أصل بولوني- سيمون يشلنسكي وموريس ابراموفيتش. احدهما أصبح محاميا والآخر طبيبا. وقد علمتهما لعبة الـ »تروكو«, فأجاداها حتى انهما ربحا كل نقودي من الجولة الاولى. أصبحت نجيبا في اللاتينية برغم اني لا اقرأ في بيتي الا الانجليزية. في اسرتنا كنا نتكلم الاسبانية, ولكن شقيقتي احرزت تقدما في تعلم الفرنسية حتى انها صارت تحلم, أحيانا, بهذه اللغة. أذكر اني عدت ذات يوم, الى البيت فوجدت نورا مختبئة خلف ستارة من القطيفة الحمراء وهي تصيح مرددة: »ذبابة, ذبابة! « فبدا لي انها تبنت الاعتقاد الفرنسي بأن الذباب نوع خطير من الحيوانات. ؛اخرجي من هناك«, صاحت بها أمي وأردفت بعبارة ليست مديحا لموطنها, حين قالت: »لقد ولدت وترعرت بين الذباب! «. بسبب الحرب, وباستثناء جولتنا القصيرة في ايطاليا وبعض الرحلات داخل سويسرا, لم تتمكن من السفر, بعد ذلك بقليل, تمكنت جدتي الانجليزية, التي أفلتت من حصار الغواصات الالمانية برفقة أربعة أو خمسة مسافرين آخرين, أن تنضم الينا في جنيف.
بمبادرة مني, بدأت بتعلم الالمانية خارج مواقيت المدرسة, وقد راودتني هذه الفكرة على إثر قراءتي ؛(sortor Resartus) لكارلايل, المؤلف الذي بهرني واحبطني في وقت معا. البطل, ديوجينيس- براز- الشيطان, هو ألماني, استاذ للنزعة المثالية. فقد كنت ابحث في الأدب الالماني عن سمة جرمانية ما, فيها شبهة تاسيت, غير ان هذا لن أجده, فيما بعد, إلا في اللغة الانجليزية القديمة والاسكندنافية القديمة. بدا لي الأدب الألماني رومانسيا ومعتلا, حاولت أولا, »نقد العقل المحض« لكانط غير ان هذا الكتاب سرعان ما أحبطني كما يحبط معظم قرائه, وغالبا بمن فيهم الالمان أنفسهم. ولذلك قلت في سري ان الشعر سيكون أيسر تناولا بسبب ايجازه تدبرت أمر الحصول على المجلد الذي يتضمن قصائد هاينه الاولى: ؛(Lurisches Intermezzo), وعلى قاموس ؛ألماني – انجليزي. وشيئا فشيئا, اتضح لي, بفضل القاموس المقتضب لهذا الشاعر, إنه بامكاني الاستغناء عن القاموس. ولم ألبث ان صرت قادرا على التمتع بجمال لغته, كما تمكنت من قراءة رواية مايرنك!
Der Gotem (في عام 1969, خلال زيارتي اسرائيل, دار نقاش حول الاسطورية المجرية للغوليم بيني, وبين غرشوم شوليم, الباحث المختص في الزعدية اليهودية, والذي استخدمت اسمه مرتين في احدى قصائدي لضرورات القافية المتماشية مع غوليم). كما حاولت الانكباب على جان بول ريختر حبا بكارلايل وتوماس دوكونيسي- كان ذلك نحو العام 1917- لكني سرعان ما ادركت ان هذه القراءة تضجرني. فقد بدا لي ريختر, وبرغم معجبيه البريطانيين, كاتبا لفظيا ومجردا من أي شغف بالتأكيد. غير اني اعجبت كثيرا, في المقابل بتيار التعبيرية الألماني وما زلت, الى اليوم, أرى انه أرقى بكثير من المدارس الفنية المعاصرة كالتصويرية والتكعيبية والمستقبلية والسريالية… الخ. بعد ذلك بسنوات, عملت, في مدريد على ترجمة عدد من الشعراء التعبيريين, وكانت تلك على ما أحسب, ترجماتهم الاولى والاخيرة الى الاسبانية.
خلال اقامتي في سويسرا, شرعت ذات يوم في قراءة شوبنهار. واليوم إذا كان لابد لي أن أقرأ فيلسوفا واحدا فسوف اختاره هو. فاذا كان الكون يمكن التعبير عنه بكلمات فسنعثر على هذه الكلمات في مؤلفاته. لقد قرأته مرارا بالالمانية وقرأته بالاسبانية مع أبي ومع صديقه الكبير ماسيدونيو خونانديث. مازلت مقيما على اعتباري الألمانية لغة جميلة جدا, وربما كانت أجمل من الأدب الذي ولدته. في حين ان الفرنسية, وهنا تكمن المفارقة, أنجبت أدبا جميلا برغم ولوعها بالمدارس والحركات الأدبية, لكن اللغة في حد ذاتها, هي برأيي, أقرب الى الدمامة, اذ تميل الاشياء لان تبدو ركيكة حين تقال بالفرنسية. والحق أني اعتقد بأن حتى اللغة الاسبانية تتفوق عليها برغم كون الألفاظ الاسبانية أكثر طولا وأثقل وقعا. فبوصفي كاتبا ارجنتينيا أجدني مجبرا على التعبير بالاسبانية ولذا أراني خبيرا بمثالب هذه اللغة. أذكر ان جوته كتب ذات يوم انه مجبر على استعمال أسوأ لغة في العالم- أي الالمانية. ,احسب ان معظم الكتاب لهم رأي مماثل باللغات التي يضطرون لاستعمالها. أما عن الايطالية فقد قرأت, مرارا وتكرارا, »الكوميديا الالهية« في أكثر من اثنتي عشرة طبعة مختلفة, كما قرأت الاريوست وتاسه, وكروتشه وجنتيله, لكني عاجز تماما عن التحدث بالايطالية أو مشاهدة مسرحية أو فيلم بالايطالية. وفي جنيف أيضا اكتشفت, للمرة الاولى, والت ويتمان من خلال قصيدة له كان يوهانس شلاف قد ترجمها الى الالمانية (»ذات يوم في الاباما فيما كنت أقوم بنزهتي الصباحية«) طبعا.. كنت مدركا عبثية الموقف الذي يجعلني أقرأ شاعرا أمريكيا بالألمانية. فأوصيت, إذن, على نسخة من ديوانه ؛(Leans of Gras) (أوراق العشب), كي يبعث به إلي من لندن.
ومازلت اذكر جيدا- كان مجلدا بغلاف أخضر. لقد لبثت لبعض الوقت مقتنعا بأن ويتمان ليس شاعرا كبيرا فحسب, بل انه الشاعر الوحيد. وبلغت بي غلوائي مبلغا حسبت معه ان كل شعراء العالم لم يفعلوا حتى العام 1855, سوى التمهيد لمجيئ ويتمان, وان الامتناع عن محاكاة أسلوبه هو البرهان على الجهل. وأذكر ان حماستي لكارلايل كانت مماثلة, ولكني أضيق بقراءته اليوم, وكذلك الامر بالنسبة لشعر سونيبرن, تلك هي المراحل التي مررت بها, وفيما بعد اختبرت مرارا مثل هذا الشعور بأني واقع تحت تأثير كاتب معين على وجه التحديد.
أقمنا في سويسرا حتى عام 1919. فبعد ان اقمنا ثلاث أو أربع سنوات في جنيف انتقلنا الى لوجانو. كنت قد نلت شهادة البكالوريا وصار واضحا اني سأتابع طريقي في مجال الأدب. كنت أبدي رغبتي في أن أطلع أبي على كتاباتي غير انه اعلمني, غير مرة, انه لا يؤمن بجدوى النصائح وأن علي أن أمسك دربي بمفردي مهما كانت النتائج. كنت قد نظمت سونيتات بالانجليزية والفرنسية. وكانت السونيتات الانجليزية مجرد تقليد لدورسوورث, أما الفرنسية فكانت من حيث ركاكتها, تقليدا للشعر الرمزي. ما زلت اذكر بيتا وحيدا من محاولاتي الفرنسية: ؛أيتها العلبة السوداء للكمان المحطم«. وكان عنوان القصيدة: ؛قصيدة لتلقى بلكنة روسية. فبما اني كنت اعلم بأني أكتب الفرنسية كما يكتبها الاجانب, حسبت أن اللكنة الروسية قد تكون أصلح لها من اللكنة الارجنتينية. وفي محاولاتي الانجليزية كنت أتكلف بعض المذلقات الاسلوبية الموروثة من القرن الثامن عشر; كأن اكتب مثلا (Qer) بدلا من (Over) أو أن أكتب, لضرورات الوزن (doth Sing) بدلا من (Sings), لكني أدركت, على الفور, أن قدري هو ان أكتب بالاسبانية, لا محالة.
(قررنا العودة الى ديارنا, ولكن بعد قضاء عام في أسبانيا, فقد كان أهل الارجنتين, قد بدأوا, فقط آنذاك, باكتشاف هذا البلد. فحتى ذلك الحين, كان حتى مشاهير الكتاب, أمثال ريكاردو جويرالدس وليوبولدو لوجونس, يتعمدون اجتناب المرور بأسبانيا اذا اقاموا لبعض الوقت في أوروبا. ولم يكن ذلك بسبب هوى عابر, ففي بوينس ايرس, لطالما كان الاسبان يتولون الأعمال الدنيا من حيث المكانة- كخدم وندلاء وعمال- أو كانوا من صغار التجار. كما اننا نحن- الارجنتينيين- لم نعتبر انفسنا اسبانيين يوما. والحق اننا تخلينا عن انتمائنا الى هذه الأمة في عام 6181 عندما أعلنا استقلالنا. وعندما قرأت في طفولتي كتاب برسكوت ؛(The corquesl of poru) ذهلت لتصويره الغزاة على نحو رومانسي. فقد كنت ارى, برغم تحدري من نسب بعض المشاهير الذين أتى على ذكرهم, انهم, في الأحرى, تافهون. ومع ذلك فان الامريكيين اللاتينيين الذين طالما نظروا إليهم من خلال أعين الفرنسيين, كانوا يرون انهم مؤثرون, خارجون للتو من اسقاط جارثيا لوركا- غجر, سباق ثيران, وهندسة مورسكيه. ولكن على الرغم من الاسبانية هي لغتنا ودمنا اسباني وبرتغالي, فإن أسرتي لم تفكر لحظة واحدة ان تلك الرحلة الى اسبانيا قد تكون عودة الى الوطن الأم بعد غياب دام ثلاثة قرون من الزمن.
قصدنا مايوركا لأن المعيشة رخيصة جدا ولانها بلد جميل وليس فيها من السياح إلا قلة قليلة سوانا, أقمنا سنة بأكملها تقريبا في بالما وفي بالديموسا, وهي قرية مستوحدة بين الروابي, تابعت هناك دروسي اللاتينية ولكن, هذه المرة, على يد راهب أسر إلي بأنه لاكتفائه بعالمه اللوني الذي يشبع كل حاجاته, لم يشعر يوما برغبة في قراءة رواية. ومعه درست, على عجل, فيرجيل الذي ما زلت معجبا به إلى اليوم. أذكر كم كان أهل الناحية يذهلون لبراعتي في السباحة. فقد تمرست بها في أنهر متدفقة الجريان مثل نهري الاوروجواي والرون, في حين ان المايوركيين لم يسبحوا يوما إلا في مياه راكدة لا موج فيها. كان ابي منصرفا الى تأليف رواية يجمع فيها ذكريات الايام الغابرة خلال حرب السبعينات الاهلية في مسقط رأسه ؛انتري ريوس«. واذكر اني اقترحت عليه بعض الكنايات الرديئة المستلهمة من التعبيريين الألمان والتي قبلها على مضض. ثم طبع من روايته نحو خمسمائة نسخة حملها معه الى بوينس ايرس حيث أهداها لأصدقائه. كانت عبارة »بارانا«- وهو اسم المدينة التي ولد وعاش فيها- يتردد كثيرا في النص الاصلي, لكن المنضدين عمدوا الى تحويله, كلما صادفوه إلى »باناما« ظنا منهم انهم يصممون خطا. ولكيلا يكبدهم مزيدا من المشقة, ولأنه, أيضا أوجد ان الخطأ قد يكون مسليا أكثر من الصحيح, قدر ابي ان يترك الكلمة كما وردت. بعد ذلك بسبعة عشر عاما, وقبل وفاته بقليل, أسر إلي بأنه يود حقا ان أعيد كتابة هذه الرواية بلغة أبسط متخليا عن اسلوبها المتكلف والمزخرف. كما كتبت, أنا, بذات نفسي, قصة في تلك الحقبة, عن غول ذئبي بعثت بنصها الى مجلة شعبية تصدر في مدريد هي (La Espua) لكن ناشريها أحجموا بحسن دراية, عن نشرها.
قضينا شتاء 1919- 1920 في اشبيلية حيث شهدت, للمرة الاولى, إحدى قصائدي منشورة, كان عنوان القصيدة ؛نشيد الى البحر« وقد نشرت في مجلة ؛جريتيا« في عددها الصادر في 13 كانون الأول 1919, وكنت قد بذلت ما وسعني لكي أحاكي فيها أسلوب والت ويتمان:
»أيا بحر! أيا أسطورة! ايا
شمس ! أيا فراغ مستريح!
أعلم اننا عجوزان
نحن الاثنين,
وأننا تعارفنا
منذ قرون سحيقة..
أيا برويتوس, لك أدين
بالحياة.
مكبلين معا بالقيود
تائهين,
متعطشين لأنجم
السماء
راجيين
محبطين…! «
اليوم, أجد صعوبة بالغة في تصور المحيط, أو في تصور نفسي متعطشا للنجوم, ومضت سنوات طويلة قبل أن أقع على عبارة آرنولد بينيث التي يتحدث فيها عن »فصاحة النسق الثالث« وأدركت مغزاها على الفور. ومع ذلك, عندما قدمت الى مدريد بمضي بضعة اشهر, فقد عوملت, لأنها القصيدة الوحيدة التي نشرت من بين قصائدي, بوصفي شاعر البحر.
في اشبيلية, كنت قد انضممت الى جماعة أدبية تدور في فلك مجلة »جريتيا«. تلك الجماعة التي اطلقت على نفسها تسمية ؛المتطرفون« كانت تهدف الى تجديد الأدب, وهو فرع من الفنون يجهلون عنه كل شيء. فقد قال لي أحدهم ذات يوم إن كل ما قرأه هو »الكتاب المقدس« وسرفانتس وروبن داربو بالإضافة الى مؤلف او اثنين من مؤلفات المعلم رفاييل كانينوس اسينس. ولكوني ارجنتينيا شعرت بالحرج لما علمت ان أحدا منهم لا يجيد الفرنسية وأنهم, جميعا يجهلون وجود شيء يدعى أدبا انجليزيا حتى انهم عرفوني برجل يحظى لديهم باعتبار كبير, يسمونه »الانسانوي« ولكني سرعان ما أدركت ان معرفته باللاتينية لا تقارن بما أجيده منها. أما شأن مجلة »جريتيا«. فقد كان ناشرها, ويدعى اسحق دلباندوبيلار, يكلف معاونيه بكتابة قصائده التي ينشرها حاملة توقيعه, وأذكر ان احدهم قال لي ذات يوم: »إني مشغول جدا« فأسحق منكب على نظم قصيدة«.
فيما بعد, انتقلنا للاقامة في مدريد, وهناك كان الحدث البارز فيما يعنيني, هو صداقتي لرفاييل كانسينوس اسينس. وما زلت الى اليوم ارغب في اعتبار نفسي تلميذا له. كان قد قدم من اشبيلية حيث تابع دروس الكيريكية طامحا لأن يصير راهبا, ولكنه عثر على اسم كانسينوس في ارشيفات محاكم التفتيش الدينية, فقرر انه يهودي. قاده ذلك الى تعلم العبرية, حتى أنه في النهاية, أخضع نفسه لعملية ختان. أصدقاء كنت ألتقيتهم في أوساط الاندلس الادبية عرفوني به. امتدحته بخجل لقصيدة كتبها, هو أيضا, عن البحر.
»بلى قال, وكم أود أن أراه قبل مماتي! « كان رجلا طويل القامة يبدي ازدراءه الاندلسي بكل ما هو قشتالي. وما كان مميزا في شخصية كانسينوس هو انه يحيا من أجل الأدب من دون حساب للمال أو الشهرة. كان شاعرا جيدا. وألف مجموعة من المزامير- ذات طابع ايروسي فاضح- أسماها »الشمعدان ذو الفروع السبعة«, نشر عام 1915. كما كان يؤلف الروايات والقصص القصيرة والمقالات النقدية, وعندما تعرفت به كان يرأس حلقة أدبية.
كنت, في كل يوم سبت, أقصد الـ» (café colonial) حيث نلتقي عند منتصف الليل ويدور سجال حتى الفجر. وكان عددنا يصل أحيانا الى ثلاثين أو اربعين شخصا. كانت الجماعة تمقت كل ما يمت بصلة الى التقاليد المحلية الاسبانية- كانتي خوندو أو سباق الثيران. ويعشق أفرادها (موسيقى) الجاز الوافدة من أمريكا ويعنيهم أن يكونوا أوروبيين وليس مجرد اسبان. كان كانسينوس يقترح موضوعا للنقاش- المجاز, البيت الحر, الاشكال التقليدية للشعر, الشعر السردي, النعت, الفعل. وبرغم مظهره الهادئ كان أشبه بديكتاتور لا يسمح بأي غمز من قبل الكتاب والحاضرين, ويجهد في إبقاء النقاش راقيا.
كان كانسينوس قارئا نهما. كان قد ترجم »اعترافات مدمن أفيون« لتوماس دوكوينيسي, و»خطرات« ماركوس اوديليوس, عن اليونانية, وروايات (هنري) باربوس و»الحيوات المتخيلة« لشووب (schowb), وفيما بعد سيشرع في ترجمة مؤلفات جوته ودوستويفسكي. وهو أيضا من وضع الترجمة الاولى بالاسبانية لـ»ألف ليلة وليلة«, وهي ترجمة اقل التزاما بحرفية النص مما هي عليه ترجمة برثون او لايني, ولكنها برأيي, أكثر امتاعا للقارئ. ذات يوم قصدته في زيارة فاصطحبني الى مكتبته. والأحرى ان أقول ان منزله كله كان مكتبة. إذ كنت اسير بين أكداس الكتب كمن يسير على دروب غابة. لم يكن فقره يسمح له أن يقتني ارففا فكدس الكتب بعضها فوق البعض من الأرضية حتى السقف ما يرغم السالك في بيته على السير بين أكداس عمودية. كنت ارى كانسينوس على انه, منفردا, يمثل كل ماضي, تلك أوروبا التي أخلفها ورائي- نوعا من الرمز للثقافة بأكملها, ثقافة الضرب كما الشرق. غير أن ضربا من الشذوذ الذهني يحول دون قدرته على التفاهم مع أبرز معاصريه. وقد أدى به ذلك الى تصنيف كتب في مديح كتاب من الدرجتين الثانية او الثالثة. في ذلك الوقت, كان أورتيفا أي جاسيت في ذروة مجده غير ان كانسينوس لم ير فيه سوى فيلسوف رديء وكاتب رديء. أكثر ما كنت استمتع به عنده هو متعة المحادثة الأدبية. كما حثني, أيضا, على قراءة كتب ما كنت لأقرأها قط. وتنبهت لدى انصرافي الى الكتابة إلى أني بدأت أقلده على نحو مضحك. فقد اسلوبه يعتمد الجمل الطويلة المتماوجة ذات النكهة العبرانية أكثر منها اسبانية..(…)
ترجمة : بسام حجار شاعر ومترجم من لبنان