جاءت " دنيا زاد» الى الغرفة 401 للمرة الاولى والأخيرة, تودعني في أكفانها البيضاء الصغيرة.. عدة لفات من الشاش النظيف وثلاثة أربطة, عند الرأس والقدمين وعند الخصر. وملاءة كبيرة تضاعف من حجم الجسد النحيل.
في حرص, طالعتني بوجهها تحت غطاء من القطن الطبي. طلبت من الممرضة إضاءة الغرفة التي ظلت معتمة, رغم كل شيء، ونظرت الى الوجه المستدير المائل للزرقة. العينان مسألتان والأنف صفير والفم يشبه الهرم, شديد الزرقة. كانت تحيا هناك رغم كل شيء، بذلك الوجه الهاديء وذلك الرأس الذي امتنعت عنه الحياة (والذي سرعان ما تمحوه الذاكرة؟). كان منذ أيام قليلة فقط يندفع خارجا من رحمي الى العالم. الذي لم يكن قد تأهب بعد لاستقباله.
لم أقل سوى كلمة وحيدة مقتضبة – كانت تشبهني – بكيت بلا صوت. ثلاث ممرضات يحطن بي وزوجي الذي… لم يكن قد رأى وجهها من قبل- وكلمات رثاء بلا معنى. احداهن تربت على يدي وربما أيضا على جبيني.. خلعت نظارتي.. وندمت لأني لم أشعر بخروجهن, ولم أنظر فيما بعد من النافذة. عاد زوجي الى الغرفة ثم تركني ورحل مع الجمع المزدحم خارج الأبواب. هذه المرة بكيت بصوت عال وقلت – كانت جميلة – ولم أستطع أن أسميها. كان اسمها خاليا من أية إشارة الى جسدها النحيل الراحل. والى رائحتها التي لم تزل تملا فضاء الغرفة.
صبيحة ذلك اليوم. الأربعاء في التاسعة او بعد ذلك بقليل.. تركت الغرفة 401 وأشرت الى الممرضة. قلت سوف أخبرها الآن. يجب أن تستعدي. ثم عدت الى الغرفة وقلت كل شيء انتهى. بكينا معا. هذه المرة بكيت بحق كما كنت أتمنى، منذ يومين, بين ذراعيها، وكنت أخاف شبح الاحتضار. منحت بعض المال لرجل الأمن. الذي استدعى زميله على عجل. فأخرجت ورقة مالية أخرى. أحسبها عشرين جنيها،واصطحبت الممرضات الثلاث. بثيابهن الزرقاء. ووجوههن الملونة. التي استقر فوقها بعض توتر الخطيئة. حملت احداهن الكفن الصغير وأسرعنا جميعا الى الغرفة حيث تنتظرني زوجتي. كل شي؟ اذن يحدث كما أردت.
منحني الوجه الساكن طمأنينة لم أشعر بها طيلة اليومين الماضيين. في ضوء النيون الباهت حملقت بضع ثوان أخرى. قبل أن تسرعن بتغطية الوجه.
كان أخو زوجتي الأكبر ينتظرنا خارج الباب. منتصبا كأبي الهول.
حزينا كالحب. وربما كان يصلي في صمت. كما ينبغي… استبقيته لحظة أخرى ريثما أطمئن عليها. ثم وضعنا الكفن في سلة اشتريتها من بائع زهور قريب وغطيتها بالورود. فصارت مثل حديقة صغيرة أينعت لتوها.. وكنا… في آخر شهور الربيع.
" دنيا زاد". قلت لأمي حين أفقت من أثر المخدر إننا سوف نسميها هكذا فقالت: " كما تشائين ". ولم تكن ترغب في هذا الاسم. كان زوجي يعلم أننا لم نسمها حقا الا عند كتابة شهادة الوفاة. وكان أخي يؤمن بالقضاء والقدر فلم يشأن أن يذكرني به. وصار الجميع ينظرون الي في صمت.
في الرابعة من صباح الاثنين صحوت على الألم. ورحت أدور في البيت. استند الى ظهور المقاعد. لم أشذ أن أوقظ أحدا. حاولت النوم في السادسة وصحوت نهائيا في الثامنة. قلت لزوجي. ألبسنا ابننا الوحيد ملابسه وهو نائم. ذهبنا الى الحضانة. ثم الى البنك ثم الى المستشفى. حيث أمروا لي بالدخول. وكان الطبيب مهذبا كعادته.
الغرفة 401 نظيفة. خلعت ملابسي ورحت أدور فيها لاسكن الألم. الذي صار يتزايد. حاولت أن أكتم صراخي. حتى انفلتت مني صرخة أولى. وكان زوجي يحثني على تنظيم أنفاسي. جاء الطبيب المساعد عدة مرات. وجاء طبيبي أيضا. وقال الجميع: " ننتظر". أما " دنيا زاد"فقد كانت تبحث عن مخرج من مأزقها الحياتي الأول. أنصت الطبيب عشر مرأت لصوت القلب. كان شيء ما يزعجه. وكنت أعلم أن شيئا ما يحدث. رغم إرادتي.
حقنة مخدر في النهاية. أسكنت بعض ألمي. فاحتملت نصف الساعة الأخيرة قبل الانتقال الى غرفة العمليات (هل تأخر الطبيب؟) لم تكن الغرفة معدة لاستقبالنا. نزفت دما ثلاث مرات. دفقات ماء ودماء هائلة.انتقلت من فراش الى فراش أخر ثم الى فراش غرفة العمليات. أحسست بالمخدر يتسلل عبر الأنف. والرأس يندفع عبر الجرح الذي صنعه الطبيب دون إبطاء.. والماء الساخن يغمرني. كل شيء غائم الآن. الضوء الأخير قادم. من النيون الأبيض والهاجس الأخير: هل هي حقا
خمسون دقيقة الآن في غرفة العمليات. لا أسمع صوتا.. والصمت المطبق حول مقعدها يعزلني عن العالم. فوق الباب لافتة ينيرها ضوء أحمر خافت. غرفة عمليات محرمة. ثلاثة أطباء جاءوا الي. هي بخير. والطفلة؟.. ماتت. لم أبك.. انتظرت حتى أعرف المزيد.. وبدأ عقلي يعمل كالمطرقة.. رأيت زوجتي تخرج من مكمنها وكأنما لتودعني فقط. بروز وجنتيها ودوائر سوداء حول العينين علامات رحيل أكيدة.
ساعتان معها في الغرفة. الممرضة تروح وتجيء. تضع حقن الجلوكوز والدم في أوردة كل يد وتضرب الرأس بأصابعها ضربات خفيفة.. فتفتح هي عينيها وتطلق آهة قصيرة فقط (ما الذي يدور في هذا الرأس الصغير الآن؟) وجلد الوجه مشدود فوق عظام الوجنة البارزة. والعينان الجميلتان غائرتان في صمت موحش. والشفتان ذهب لونهما وصارتا بيضاوين بلون الموت.
طلبت من أخويها الحضور.. تأخرا.. ثم جاء الأصفر أولا.. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت.. بكى.. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيا كما أشار الأطباء الثلاثة..ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضا.. واتفقنا على تفاصيل أخرى.. لا أذكرها الآن. لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدا.
أحطنا جميعا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الأن لأن تضمها ذراعاي.. وربما أيضا.. غدا..
حين كنت أضم زوجي آخر الليل.. كانت تركله فيضحك.. صدى ضحكاته الآن يملؤني. وأشعر أن الرحم الخاوي يتحرك, مع انتظام أنفاسها، التي لم تملأ أنفي برائحتها المعطرة كرائحة الأطفال. لم يسمح لي أحد بأن أراها تتنفس.
اشتريت لدنيا زاد فراشا جميلا. ألوانه زاهية. يغطيه التل الأبيض والدنتيل.. واشتريت أيضا أشياء كثيرة تنتظرها في أحد الأدراج.مطرزة بألوان الطيف وبالانتظار. حذاء صغير وجوارب حجم الأصبع وضعتها في حقيبة المستشفى منذ شهر أو يزيد. أردت أن ترتدي بعضا من أشيائها بدلا من ملاءة الكفن المعهودة. لكنهم بالطبع.. قاموا بواجبهم كما ينبغي.
على شاشة صغيرة انقسمت نصفين, رأيتها مرتين. في شهرها السادس ثم في شهرها التاسع. رأس كبير، عظمة الفخذ.. قال الطبيب بنت بالانجليزية " قلت أسميها "زاد". ثم قلنا أنا وزوجي " دنيا زاد" مثل" الف ليلة وليلة " أمضت في المستشفى ليلة واحدة.. (والألف الباقية؟) أمضيها أنا في ذكرى وجه شاحب.. واسم لم أنطق به سوى مرة واحدة.. وربما مرتين.
أفيق من أثر المخدر على صوت زوجي ووجه أمي وضوء خافت يتسلل من حمام الغرفة. قالوا إنها بنت. وقالوا عندها نسبة عالية من " الصفرا" هي في الحضانة اذن. لن أراها الأن إذن.. انتظر إذن.. ثم قالوا لم يصل الأكسوجين الى المخ. وقالوا يحاولون. ثم في الصباح التالي: ان لم تمت عاشت " متأخرة " تنام في سكون كامل. وتنتفض بين الحين في حركات غريبة. سائل أبيض ينساب عبر فمها الصغير. قال أخي أن فمها يشبه رقم (8). وقال أخي الثاني (بعد ذلك )ليرحمها الله. ولم أصدق. كان كل ما علق بذهني هو أن الصفراء ليست مرضا قاتلا. أو هكذا ظننته.وقلت فليدفعوا ببعض الاكسوجين الى المخ. ولتنهض. ولأعطيها ثديي لتفطر. لم أصدق رغم وجه زوجي الشاحب. ورغم مواساة الجميع الصامتة. التي أدرك الآن مغزاها.
صباح الثلاثاء.. اتصلت بأمي هاتفيا. قلنا: لنذهب الان لاعداد المقبرة. أذكر آخر قصة كتبتها زوجتي. تبدأ هكذا:" اشترينا مقبرة ". ولم نكن قد اشتريناها بعد. ذهبنا الى مقابر الأسرة الكبيرة. في الطريق, لم تبك أمي. لكنها قالت أشياء كثيرة لا أذكرها. كنت متعبا. وكنت أراجع في ذهني تفاصيل دقيقة. حول ما أخبر به زوجتي كل يوم. عن حالة البنت. التي كانت ترقد منذ الأمس في ثلاجة المستشفى.
قلت: أخبرها في المساء أنها ماتت في الحضانة لنقص الأكسوجين. وقال الطبيب: صباح غد هذا أفضل جاء الجميع. وصرت أكذب حتى لا تبدو علي أحد آثار حزن سابق لأوانه. تناولت بعض الطعام وكذلك زوجتي. وكانت ترسل الجميع الى الحضانة للاطمئنان على صحة البنت. وكان الجميع يخرجون الى الممر. وينتظرون أمام النافذة ويعودون بوجه معتم. كذلك فعلت أنا فيما بعد. في المساء. أردت لها النوم. الذي جاء يحبو.
علمت فيما بعد أنها أفاقت على صوت جلبة في الممر.
هكذا نمت رغم كل شيء مساء الثلاثاء.. ساعتين. صحوت وبكيت. ثم عاودت النوم. كان الطبيب قد أمر لي بدواء أتناوله أثناء الطعام. علمت فيما بعد أنه يجفف اللبن في الثدي.
حين أفقت بين اغفاءة وأخرى كانت جلبة ميلاد جديد تعم ممرات الدور الرابع. وكان الطبيب يهنيء الجميع بمولودة جميلة. قال,: بعد ساعة ناتي بها الى, أمها. اختلطت أصوات كثيرة في الممرات. أدركت من بينها صوت الأب. وصوت طفل صغير يغار من تلك المولودة الجديدة. وصوت الممرضة الليلية. وضحكات كثيرة كثيرة. في الغرفة المجاورة فرح أكيد. الصمت يعم غرفتنا. كان زوجي نائما وارتسمت في فضاء الغرفة صورة غائمة " لدنيا زاد"التي لم أكن قد رأيتها بعد.
صباح أربعاء مشمس. فتحنا النافذة. وانطلقت أصوات العصافير. أعددنا حقائبنا للرحيل. وطلبت من زوجي أن يطمئن على " دنيا زاد". حذرني: ربما تكون قد ماتت الآن.. اتفقنا على أن أراها رغم كل شيء. بكى. قلت إنني أفضل أن تموت على أن تحيا عذابا لا يحتمله رأسها الصغير. ولكني لم أكن أصدق. كنت أحاول فقط أن أطمئن زوجي. وكنت أتمنى أن يكون رأسها هذا قد عاد الى حالته الطبيعية بعد تغذيته بالأكسوجين. انتظرت أن يأتي الي بها في ثوبها الأبيض المطرز.. ابتسمت واطمأننت الى هواجس. والى رقة الهواء القادم من النافذة. " يوم صحو.. لا أحد يموت اليوم "
جاء في تقرير الطبيب أن الوفاة قد حدثت داخل الرحم نتيجة انفصال تام في المشيمة. حملت الورقة في جيبي وذهبت الى مكتب الصحة القريب. حصلت على تصريح بالدفن وأسرعت عائدا. كانت تنتظرني كعادتها. الستائر مسألة. والغرفة غارقة في صمتها.. ينتظر الجميع خارج الغرفة 401. ويتجاذبون أطراف الحديث من وقت لآخر.. لم يكتب في الأوراق اسم للبنت.. لذا لم أستطع أن أنطق باسمها الذي أردته منذ سنوات.
"زاد"
" زاد الرمال" التي لم تكن عيناي قد رأتها بعد.
أتذكر.. أن زوجتي ذهبت لطبيب السونار مرتين. لم أذهب معها ولا أذكر الأن سببا لذلك. ذهب معها ابننا شهاب الدين. وشاهد صورا مختلطة نظمها في عقله الصغير. ويبدو أنه أحبها دون أن يعلم. ودون أن يدري صار الآن وحيدا من جديد.
تركني زوجي فأدرت وجهي صوب النافذة خائفة. أترقب وأنصت. عاد وحيدا – وجلس عند حافة الفراش. انتهى كل شيء. بكينا.. احتضنني.. كتمت صراخي. أغلقنا النافذة. اليوم كاذب والشمس كاذبة. والعصافير أيضا. لا صحو اليوم.قال الجميع: كنت مهددة بالموت المحقق. نزيف مفاجيء. ونصف ساعة أخرى في غرفة العمليات واحتمال تسمم وبضعة أكياس من الدم تتدل الى جواري. وجلوكوز وحقنة في الوريد. ولا أصدق. يزول الألم وتتهاوى احتمالات الخطر. ويبقى انتظار البنت التي جاءت رغم كل شيء.. تحقق حلما جميلا. تسعة أشهر مضت في ترقب واشتياق. ثم منحتها الحياة.. في الحضانة؟ نعم. ولكنها كانت تحيا. ولم يكن جوفي يوما مقبرتها.
بعد قليل, جاء زوجي وممرضات ثلاث. ولفافة بيضاء صغيرة. تم كل شيء في سرية تامة. ولا يجب أن ننتهك جسدا بعد ما ضمته الاكفأن. حذرني زوجي. قال:لا صراخ. أردت حملها بين ذراعي. رفضوا.. ومضوا بها دون أن أشعر أنهم قد فعلوا. ظلت معي أحدى الممرضات. ثم طلبت منها أن تتركني وحدي قلت: " أنا بخير".
كانت بخير حين تركتها. لم يعل صراخ في الغرفة. ولم أتركها تحمل الكفن الصغير. أردت حمله بنفسي ولم أفعل. أسرعنا.. أسرعنا وكان عقلي قد تدرب على الفعل. في الطريق الى المقابر. حملتنا سيارة الأخ الأكبر في هدوء. جلست الى جواره. بينما استقرت سلة الورد بجوار أمي في المؤخرة. موكب صغير لا يضم سوانا.. فكرت فيما سيفعله الصبية الصغار حين تبلغ المقبرة. وانتابني قلق مفاجيء لما يمكن أن يحدث لعرقلة مهمتنا.
جاءت حارسة المقبرة وأطفالها الأربعة. وحفاران. حدث كل شيء في هدوء غريب. المقابر خاوية. والطرق المتعرجة تثقل عليها نهاية ربيع حار. هبط الكفن وحيدا. وتركت سلة الورد للأطفال الصغار.
جاءت أم زوجي. ثم جاءت أمي.. فأعددت العدة لمغادرة المستشفى. يومان من عمر الزمن. وشبم موت محقق يطل من مسام الغرفة. موتي الذي لم يأت. وموتها الذي قتل حلمي بها. لم أضم الى صدري هذا الحلم. ولم أتشمم رائحته في أنفاسها. لم ألمس بأطراف أصابعي وجهها الناعم ولا يديها الشاحبتين. لم تفتح عينيها على ابتسامتي. ولم تعرف أني أحببتها. منذ تسعة أشهر ويومين.
عند باب الغرفة 401 انفلتت دمعتان… وعند باب المستشفى لمحت رجل الأمن بقميصه الأزرق منذ يومين كان يبتسم لي. وكنت أدور في رواق المستشفى أنتظر زوال الألم الذي لم يزل.
في السيارة التي تنتظرني الآن أقبع وحيدة. وأتذكر أني منذ سنوات أربع كنت أضم طفلي الأول. وكانت الشمس تطل على من النافذة. كانت فرحة طفولية ما تغمرني. تغمر وجودي بوجوده بين ذراعي الخاويتين الآن. يعتصرني ألم الرحم المنقبض والجرح الغائر والفراغ. وصمت كل شيء في الطريق المفضي الى البيت.
في السيارة شربت علبة عصير أخيرة. واتكأت الى وسادة صغيرة. وحاولت النوم ذهبنا لاصطحاب ابننا الى البيت جاء مع جدته واستقر في المقعد الأمامي. قال في قناعة سنواته الأربع " أخت شهاب رجعت بطن عاما.. علشان تكبر"… ثم أردف: " سلامتك يا حبيبتي".
وفي الطريق قلت لنفسي. أخبرها كل الحقيقة حين يحين الوقت. اشتريت علب عصير كثيرة, وبضعة أشياء أخرى رحت أفكر متى ولدت ابنتنا ومتى ماتت, حقا؟ قالت زوجتي: ولدت " دنيا زاد" في 15 مايو 1995 في الثالثة والنصف ظهرا تقريبا. وماتت مساء 16 مايو 1995. وقالت أيضا: لم يكن جوفي يوما مقبرتها. لكني كنت أعرف غير ذلك.
التفت اليها ونحن في الطريق وأربت على ساقيها. يلح على ذلك السؤال البغيض.. متى ولدت حقا ابنتنا تلك التي رأيتها منذ ساعات قليلة تتوارى في غرفة تحت الأرض, دونما سبب حقيقي. سوى.. ربما..
احتميت بفراشي من وجه أمي العابس.. ورحت في النوم دون أن أبدل ملابسي حين صحوت كانت الام الجرح تلح على.. وأسئلة كثيرة حخبطة. متشابكة تومض في رأسي. ثم سرعان ما تنطفي؟. بلغتني أصوات خارج الغرفة. خلعت ملابسي بطيئا، وطلبت من أمي أن تعود الى. بيتها مستاءة فعلت. هكذا لم يعد من أحد سوانا, زوجي وأنا وشهاب الدين. الذي كان رقيقا كعادته.. نتنجنب النظر في أعين بعضنا البعض ونكتم رغبة عارمة في الصراخ.
زوجي لا يفكر. مشغول بإعداد الطعام وموعد الدواء ومطالب الولد. احتفظ في قلبه بحموله. التي سرعان ما تخف وطأتها مع الوقت.
اتفقنا الا نستقبل أحدا بالمنزل. الاصدقاء يبكون, والمعارف ينتهزون الفرصة للتباكي. هكذا أمضينا الأسبوع الأول وحدنا. جاءت أمي رغم كل شيء تحمل طعاما وبعض الحكايات الجديدة. تحمد الله على سلامتي. أنا ابنتها التي خرجت بها من الدنيا (وماذا عن ابنتيا؟) وتدفعني الى حافة الجنون. وجاء أخي الأصغر يحمل ورودا وكثيرا من الحب كما عهدته. لم يبق كثيرا وعاد بعد يومين أيضا كاسرا حاجز العزلة. ثم جاءت صديقتي " نورا". التي رفضت لقاءها. وفي المرة الثانية قابلتها بابتسامة مطمئنة. لم أبك. تحدثنا كثيرا. أغترب عنها وأسألها عن ابنتها ذات الشهور الثمانية. وأتذكر يوم ولدت (ترى هل ولدت ابنتي حقا؟)ويوم حملتها بين ذراعي للمرة الأولى. وأبكي داخل حدقة عيني في صمت. ثم جاء أصدقاء آخرون. كثيرون حين مر الوقت وأصبح من الممكن أن أنظر في عيونهم دون أن يكون في ذلك دعوة للتذكر.
أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. مر يومان أو ثلاثة منذ غادرت المستشفى. حتى المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناء عليه التصريح بالدفن, أقرأ: " وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة ".
بكيت كما لم أفعل من قبل لم تعش خارج هذا الرحم المقبرة. كذبوا جميعهم. وصدقت لأني أردت لها الحياة يوما، أضاعفه سنينا في الذاكرة. خرجت من مقبرتي الى مقبرتها ولم تترك لي سوى ذكرى وجه أزرق اللون. أراه فوق صفحة السماء في الصباح. وفي تموج أغطية الفراش الى جواري حين يحل المساء. وجه نائم مختنق وجميل.
قال زوجي " كنت أنوي أن أخبرك حين تشفين ".
لم أكن قد شفيت منها بعد. وكان عقلي يعمل بانتظام. تعود الصورة الواحدة تلو الأخرى. وتحتل مساحات متباينة من رأسي. أعيد انتاج الأحداث وأسأله عمن كانوا يعرفون. كل هؤلاء الذين جاء والزيارتي ولم يسألوا عنها. كل هدايا الأطفال التي لم تصلني قط. وكلهم ينظرون الى وجهي الباسم في قلق. ويبكون خارج الغرفة.
على المنضدة, زجاجات عطر وورود كثيرة وفي الأركان نباتات ظل (لا تزين بحال قبر ابنتي). كلها لي. أنا الفارغة من عطرها ورياحينها وظلها الغائب.
ظلت زوجتي تبكي وحيدة في غرفتها كلما تذكرت,وحانت ترفض البكاء أمام الآخرين. حاولت اخبارها حقيقة موت ابنتنا، حتى اكتشفتها بنفسها. سألتني فأجبتها وندمت لأني تركت أوراقي هكذا. ثم أراحني احساس أنها تعلم الآن. كل شيء اذن ينتظم.
في عيني صورتان. عند خروج زوجتي من غرفة العمليات تيقنت أني أفقدها. وعند خروج ابنتي من المستشفى في سلة الورد تأكد لدى احساس الفقد. صورتان لوجه زوجتي ولوجه ابنتي الساكن مزروعتان في قلبي كالصبار. دائم التحدي. قلت لنفسي. أكتب عن ابنتي قصيدة. لكني لم أفعل. وقلت: " كيف أستبقي اللحظة وأستعيدها أنا الخائف المهزوم؟" وكنت قد دربت نفسي منذ سنين على الاختزان. وقلت: "اللحظة تفرض حزنها على الذاكرة. وتحفر لنفسها طرقا ملتوية في الرأس. وسوف تعود ان أردت استحضارها." (فهل أريد؟).
عندما جاءت أمينة (صديقتي) بكت زوجتي بين ذراعيها. ثم بكت بين ذراعي زوجها. كنت أشعر باحتياج طفولي لكل الأصدقاء والعائلة. وحتى بعض المعارف المتفرقين. احتياج حقيقي لأن يربت أحد ما على يدي ويمسح عن جبيني صور الموت القريب والموت الممكن والموت المحدق.
كانت زوجتي تسألني متعجبة. " لماذا لا تبكي؟" فأستغرق في ذاتي أمام نافذة بعيدة لا أطل منها على شيء سوى أحلامي. وكانت تقول: " ربما لم أعرفك بعد".
أستعيد لحظات الألم الأولى. كالمحارات. وأكتشف أنني نسيت طعم وشكل ورائحة الألم. ولم تبق لدي سوى تلك الرغبة القديمة في إعادة تشكيل العالم, وفقا لقانون الغياب, عدت الى زوجي وابني الوحيد وبيتي الوحيد وبعض أصدقائي. ولم أجد بعد نفسي التي تصورت أني أعرفها. كثيرا ما كنت أشعر أننا أربعة أفراد في الأسرة فلا أجد غير ثلاثتنا. منذ تسعة أشهر.كنت أعد العدة لاستقبال هذا الكائن الرابع الذي نما بداخلي, بتفاصيله اليومية. اليوم أفتقده في صورة ابنتي. وأستعيد حياتي بصورتها الأولى. عاد جسدي الى سيرته الأولى. وعاد كل شيء الى نقطة البدء.
لكني أجاهد لازلت كيلا أنسى. أسمي الأشياء من جديد كل حين.
كانت اذن " دنيا زاد". أو لن تكون بعد اليوم سوى تلك الأسطر القليلة. أتذكر الآن صورتها حين رأيت للمرة الأولى عظمة الفخذ على الشاشة عند الطبيب. تلك التي يقيسون عليها عمر الجنين. ثم حين رأيتها ثانية. ونقاط كثيرة تمتد لقياس طولها. كل شيء كان كما ينبغي له أن يكون غير أن عظام الفخذ الآن ترقد عارية داخل لحفن أبيض تسجن عمرها كله الذي لم تعشه. الذي لم يتحقق.. أتذكر الآن أيضا.. أشياء كثيرة لم أقلها.. فربما ولدت لي حقا " دنيا زاد"..وربما.. لم تولد بعد.
الاثنين أيضا
مر أسبوعان… والمساء يأتي بغصة في الحلق.. والدوائر السوداء حول العينين أمام المرآة تقول. وجهي تكسوه زرقة الموت خنقا في الرحم. ويداي يلطخهما ذنب ما لم أرتكبه عن عمد. ماتت " دنيا زاد" مساء يوم:ثنين… مختنقة في جهد خروجها الى العالم. لم أستطع إعادة لصق المشيمة بجدار الرحم النازف وكنت أيضا.. أحاول ربما.. البقاء لكلينا.
مر أسبوعان الآن. افتقد ملمسي جلدها القطيفي.. وانسدال الثوب الأبيض حتى الأطراف, الياقة المطرزة بالورود الصغيرة.. وانفراجة الشفاه في غفوة النوم. يتدلى ثديي بلا فائدة.. فسدت ضروعي وصرت مثل عنزة عجفاء. الآن أخلع ثوبي مديرة ظهري للمرآة.
كل ما تبقى صورة باهتة لوجه باهت مغمض العينين وصورة أخرى لعظمة الفخذ.. خيط من الحزن دائم الانسياب بين الحلق والقلب.
مي التلمساني (كاتبة من مصر)