عندما يضع الكاتب في مقدمة عمله نصا يرتبط بالمخزون التراثي المقدس فإنه يوقظ في المتلقي حساسية دفاعية حادة، إذ لا يقبل منه عادة التعارض الصادم له، ولا يرضى منه بمجرد التوافق المندغم معه، بل يتربص به ليعرف كيف سيخرج من المأزق الذي وضع نفسه فيه.
والطاهر وطار الكاتب الجزائري الكبير الذي رضيت عنه _ حتى الآن ~ جماعات الإنقاذ، إذ عرف كيف يلاعبها حتى يمشي بحرية في شوارع وطنه، يستهل روايته الجديدة المنشورة مؤخرا في القاهرة بعنوان “الشمعة والدهاليز” بمقدمة طريفة تحت عنوان «طاسين الصفر والواحد” يقول فيها:
“إنما إبليس رفض الاعتراف بالتعددية، فتشبث بالا يسجد لفير الواحد، وبذلك أعطى للصفي قيمة تضاهي قيمة الواحد، بل أكثر من ذلك جعل الواحد يفقد قيمته إذا انعدم الصفر، وتحول كل ما عدا الواحد الى صفر، وكل ماعدا الصفر ال واحد. وبغض النظر عن صيغ القلب الأخيرة التي لا تضيف للدلالة شيئا ذد بال، فإن التفسير الذي يقدمه الكاتب لمعصية ابليس غريب، وإن اعتمد على تأويل صوفي للحلاج، فإذت كان رفضه السجود لآدم إنكارا للتعددية ~ وهي مصطلح حديث ينبغي إبعاده عن السياق الديني حفاظا عل مقبوليته، فمعنى هذا أن أمره بالسجود الرمزي إيذان بهذه التعددية، ثم كيف يستقيم في المنطق أن يصبح الرفض إعطاء للصفي – وهو آدم فيما يبدو _ قيمة الواحد بل العكس هو الصحيح، فرفض السجود هو الذي يعني بداهة عدم التسوية في القيمة وان اقترن بالمخالفة لكننا لا نستطيع أن نمضي في هذا الجدل الفكري مع الكاتب مهما كان مستفزا، لأننا لسنا بصدد خطاب فلسفي أو معرفي، وإنما نفتح رواية فنية نطالع فيها عالما متخيلا. أي كونا صفيرا يكون بمثابة تمثيل مجازي أو علامة على الكون الكبير، فإن عثرنا في عتبته النصية على عبارة ملتبسة كان أحري بنا أن ننتظر في تأويلها حتى تكتمل المطالعة ويتم المشهد الدلالي.
نور الأروقة.
ربما كانت كلمة “الدهليز” تلخص بطريقة أيقونية بارعة هذا العالم الروائي بسراديبه ومستوياته المختلفة، ففصول الرواية المتصلة، فيما عدا نجيمات خافتة، تقوم – كما ينبهنا الكاتب في تقديمه – بمثابة دهاليز بعضها للأحداث،وهي قليلة نسبيا، والآخر للحالات النفسية وعلائقها بتداخل واشتجار، ونموذج الدهليزالمكافيء مستقى من هيكل “أحد أضرحة بني أجد ار بقاهرت، حيث يجد الداخل قبالته ثلاث قاعات مفصول بعضها عن البعض بدهليز طوله بضعة أمتار، يتفرع من أول هذه القاعات عن اليمين وعن اليسار دهليزان متشابهان يفضيان الى هيكل ثان متركب بدوره من خمس قاعات.. الخ “. فنستشعر منذ البداية أن النص يمثل رؤية محصورة في نطاق الأضرحة تعاينها من الداخل، وتستعير نموذجها قالبا جماليا ووحدة معمارية، بحيث يصبح الزمن بدوره دهليزا هو الآخر، لكنه _ كما يقول صوت الشاعر في الرواية _ “دهليز كبير _ رغم ما نعتقده من أنه منار بشتى أنواع المعرفة فإنه مظلم، مظلم وغامض،غامض ومخيف.” والمشكلات الموضوعية التي يمتليء بها هذا الهيكل تحضر أيضا في وعي صوت النص بامحبارها متاهة “ذلك أن القضايا كها فيه، تحضر في الآن الواحد، ؤتشكر ما يشبه زوبعة متواصلة، تظلم كلما ازداد الحاحنا على تأملها، لأنها لم تعد قضايا عاما كلية.” فالرواية إذن تلج بنا عالم المتاهة في المكان والزمان والمعضلات لتقول شيئا، لتوقد شمعة دلالية، فما هي هذه الشمعة الرمزية وكيف يتسرب ضوؤها عبر الدهاليز الحالكة، والى أية مساحة ؟ بوسعنا أن نتتبع حركة النص لنرقب تجليات هذه الشمعة تدريجيا كما يشف عنها سطحه، ثم نؤجل الحديث عن الريح التي تطفئها الى النهاية.
ولأن الكاتب يلاعب الجماعات الدينية، وهو يعرف حاجتها الأيديولوجية الى التصريح المباشر دون مواربة أو حتى غلالة شفافة من الرمز الأدبي فإنه يلقمها المعادل الأول للنور منذ البداية في كلمات واضحة وان كانت تأتي على لسان الشاعر أيضا، قبل مصرعه وتحول صوت الرواية الى الغائب، “الإسلام هو الشمعة الوحيدة القادرة على إنارة كل الدهاليز والسراديب، الإنسانية في ظلمها الأخيرة، وشمعتها الوحيدة في انتظار هلول الهلال من جديد، هي الإسلام ».
بوسع أصدقائنا أن يكفوا عن القراءة عند هذا الحد، لأن الكاتب الذي يدين بالتعددية، سوف لا يكتفي بهذه الشمعة الوحيدة، ومنجد تجليات أخرى للنور ليست شديدة المباشرة مثل هذه، لكنها عميقة المفنزى والدلالة أيضا. من أهمها صورة المرأة التي تتمثل في شخصيتين في الرواية: احداهما شخصية العارم _ يا له من اسم _ وهي فتاة مجاهدة حسناء غررت بالضابط الفرنسي ابان حرب التحرير، وكانت خطيبة مختار القرية – فمنحت عدوها قبلة شهية وفكت أزرار سترته العسكرية لتكتفه بحزامه وتسوقه ذليلا للاسر، ومنذ ذلك الحين ظلت تتراءى في مخيلة الشاعر: في ثوبها العسلي الرجراج، وخمارها الأبيض الذي يلف رأسها، ويغطي عنقها الطويل، ثم ينحدر على كتفيها فيجعلها شبيهة بشمعة متقدة، يسيل الشمع على جوانبها”.
أما المرأة الأخرى فهي الخيزران، أو زهيرة كما تسمى في واقع الرواية، والتي سوف تسيطر على الجزء الأخير من الرواية حتى تستحيل الى رمز قوي ممتزج بجوانب أسطو رية كما سيأتي الحديث عنها فيما بعد.
لكن هناك شموعا أخرى أكثر إشكالية، احداهما تتمثل في الحضارة العصرية أدفي عيون المتفرنسين الذين دخلوا نمط الحياة الغربية وقرروا بينهم وبين أنفسهم أن هذا البلد انقسم مرة والى الأبد الى قسمين: الماضي والمستقبل، الماضي البعيد والقريب يتوجب الانسلاخ منه بكل ما فيه، تماما مثلما يفعل الثعبان وهو يتخلص من جلده، المستقبل هو إغماض العينين في الدهليز، والاستسلام لوهج نور موهوم، لشمعة تقود الى العصر» وهو نور موهوم لأنه أتى من الأ عداء، وان كان نور العلم والمعرفة.
أما التجلي الرابع للشمعة فيتم التعبير عنه بطريقة بالفة الجمال والإبداع، بالعلامة السيميائية على وجه التحديد، كما تتمثل في رقصة التعبير عن الشخصية الوطنية الجزائرية،وهنا يتخلى النص عن المباشرة الأيديولوجية الخادعة، ليقدم رؤية فنية لجوهر هذه الشخصية وتمثيلها لروح الفروسية، يتم ذلك في رقصة مدومة يقوم بها الشاعر في الاحتفال الختامي للثانوية الفرنسية الإسلامية يمثل فيها تاريخ قومه وحركة الحياة اللاهبة في عروقهم، عبر إيقاعات تصطحب الأنغام الفولكلورية، لكنها تطو عليها لتجعل الدهاء تفلي في عروق التلاميذ، فتتساقط أقنعتهم الزائفة، وتربيتهم المترفة كأبناء موظفين خانعين في ظلال الاحتلال لتهدر أصواتهم في.الحفل تحديا للسلطة الفرنسية «عاشت الجزائر حرة مستقلة” بفعل هذه الرقصة الجنونية المفعمة بالصدق والحيوية والطموح لصياغة المستقبل بشكل يستجيب لكل نزوعات العرق والجنس والدين والوعي واللاشعور، ممايجعل فن الإيقاع أقوى من الكلمات «ها هنا الجزائري ابن الجزائرية، شمعة في الدهليز».
واذا كان تعدد التجليات المختلفة للشموع ينبيه عن خصيمة محورية في شعرية الطاهر وطار الروائية فهي فعاليتها الدر امية وقدرتها على تفجير أشكال الصراع الداخلي في بؤرة النص الذي قد يبدو أحادي الدلالة واكتفينا بمراقبة سطحه فحسب وتعجلنا في قراءة مؤشراته المباشرة.
البنية المنفوخة:
سؤال حارق، يطرحه الشاعر وهو يطل من داخل ممواديبه، ليرى مصدر الهدير الذي يتناهى الى سمعه «لآلاف مؤلفة، يرتدون قمصانا بيضاء، ويضعون على رؤوسهم قلنسوات بيضاء متساوية الأحجام، مثلما هم متساوو السن والقامة، واللحى اهتد لية، لا يدري المرء إن كانت اصطناعية أم طبيعية.. كالمرج يتقدمون، يتقدمون ثم يعودون بنفس السرعة الى الوراء بينما أصواتهم تتعال في نبرة واحدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله. ثم يقول في نفسه: هؤلاء جماهير، جماهير كادحة، وسواء كانت على خطأ أم صواب، هل يجوز لمثقف ثوري مثلي كرس حياته لخدمة الجماهير والدفاغ عن قضاياها أن يقف ضدهم ؟”.
هنا تقرب المسافة بأكثر مما ينبغي بين المتخيل الروائي والواقع التاريخي، فالمشهد والسؤال ليسا سكنين فحسب طبقا لقوانين الاحتمال ولكنهما واقعان فعلا.
والمثقف التوري لا يفصله أي بعد جمالي عن الكاتب والقاريء غالبا، مما يطرح إشكالية إجرائية، أو لنقل منهجية في طرائق الإبداع، لأنه يغري بمزالق خطيرة في الإجابات المباشرة، لا عبر بنية النص ذاتها ومصائر الشخوص فيها، وانما من خلال النقاشات الفكرية المطولة التي يمتليء بها جوف النص وتنتفخ أحشاؤه.
من ناحية الصنعة القصصية هناك هيكل سردي يتمثل في مجموعة من الأحداث المتوالية أو المتبادلة، تمني في اتجاه متصاعد أو متغير، لكنها تنتظم في نسق جمالي متوازن، تحدث لشخوص تمتليء رؤوسهم بالأفكار والذكريات المتعلقة أيضا بأحداث هذه الخيوط الحركية من وقائع ومجريات تمثل الجهاز العصبي بعلاقاتها ومركز البؤرة في الالتها أي قلبها أو دماغها تبعا للبيولوجيا الحديثة، واذا كانت الأفكار هي الهواء الذي يتنفسه هذا التركيب العضوي فإن طريقة دخولها اليه عبر آلية التذكر أو جدلية الحوار من شهيق وزفير هي التي تحدد مدى تخللها للنسيج الحي، فإذا ما تمددت بأكثر مما ينبغي أخلت بتكوينه، وقد عمد المؤلف الى حشو روايته بعشرات الصفحات من الأفكار المتصلة بوضع المجتمع الجزائري وتركيبته الطبقية والثقافية، وقصة جبهة التحرير وتناقضاتها في احتواء المشروع الوطني بعد الاستقلال، وحتى يكون هذا ا لكلام قصصيا لابد أن يترجم الى أحداث بسيطة لأفراد محددين في لمحات خاطفة ودالة، أما أن يتضخم الخطاب الأيديولوجي داخل السرد هكذا فإن ذلك يعني التواء الطريق الإبداعي في دهاليز التجريد النظري، وسنكتفي بنموذج واحد لهذا الهواء الذي يضخم جسد الرواية ويفسد بداخلها،لأنه يتصل بمركز الثقل المعنوي في معدة النص بما لا يستطيع هضمه وتمثله وامتصا ص غان اته، إذ يطرح بعد صفحات مطولة من الثرثرة على لسان الشاعر – في حديثه لذاته، يطرح القضية على النحو التالي:”السؤال الذي سيخطر لفلاديمير لينين (عند رؤيته لجموع الثورة الإسلامية ) هو هذا: ماذا ستخسر الطبقة الكادحة إذا ما انتصر الفقراء وشيوخهم باسم ائه ؟ تخسر فقط حزبها الذي قد يمنع أو يضطهد بهذا العنوان أوزاك. لكن هل حزب الطبقة العاملة في وضع يمكنه من قطع أية خطوة الى الامام وإن كانت قصيرة ؟ لا أبدا، إنه أسير، تفعل به البرجوازيات الوطنية ما تريد، أضحى في مقدوره أن يفعل أي شي ء عدا قيادة الطبقة العاملة. ماذا ستربح إذن ؟ تربح وقوف ائه الى جانبها، تتساوى مع الجميع كأسنان المشط ىتمد يدها الى حقها، سيختل التوازن ومتقطع الجماهير المحرومة خطوة الى الامام من الجانب الخلفي”.
هذا هو منطق البطل، الماركسي القديم الذي يتخل طواعية عن هاديته الجدلية، وعن حتمية التاريخ، ويبحث عن تحالفات جديدة مع القوى التي كان ينكر حقها في الوجود من قبل، يسأل عن الربح والخسارة.لكنه لا يأخذ في اعتباره، ولا يدخل صوت آخر في الرواية يجعله ينتبه الى الضربة القا صمة التي يمكن أن تصيب فكرة الدولة المدنية التي تعتمد عليها الحضارة الحديثة، يتوهم بمثالية ساذجة أن الدولة الأوتوقراطية ستعمل لصالح الطبقات الكادحة، فاقدا ذاكر ته التاريخية، ومكرسا دعوتها للارتداد لنمط الحياة القروسطية في الانتاج والعلاقات، وعداء العلم والحضارة وبقية منجزات الانسان في مواثيقه الدولية، وعداء الحرية على وجه الخصوص، شأن أية أيديولوجية تزعم احتكار الحقيقة.
وأظن أن الرواية بهذا المنظور الفكري قد دخلت في دهليز حقيقي شديد الظلمة، بحيث أصبح الحل الفني الوحيد الذي لابد أن يسعف الكاتب هو مصرع هذا الشاعر على يد الشبيبة الذين تفنى بهم من قبل وداعب غرورهم وحلم بانتصارهم فى مشار كتهم السلطة، ولحسن الحظ فإن هذا المصير يعيد توزيع المواقف والدلالات بحيث تأخذ إتجاها مخالفا لمنطوقها المباشر بفضل النهاية الفنية الماكرة. ولأن الطاهر وطار فنان كبير فلا يمكن أن يكون كل الهواء الذي يعبق به جسد روايته فاسدا, فبعضه منعش الى أقصى درجة ! خاصة عندما يعمد الى البوح ببعض أسرار الانشطار الروحي في وجدان الانسان الجزائري، وذلك عبر الكشف عما يحدث في مخيلة الشاعر وهو يرقب العلاقة المتوترة بين تكوينه الثقافي الفرنسي ومشهد الحياة العربية من حوله. لنتأمل مثلا هذه الملاحظة المرهفة: “كان يتفادى التحدث عن المرأة إلا بما توحي به اللفة الفرنسية التي يكتب بها، والتي يحس أنها لا تستطيع أن تتنازل لملامح أمه أو خالته، أوحتي العارم، لأن عليه في الآن الواحد أن يستحضر وأن يستبعد _ المخزون المترسب من “لامارتين وواسين ورامبو وفيكتورهوجو”، يستحضره لأنه قرأه وأحبه ورسب في ذاكر ته وشكل وجدانا تجريديا في أعماقه، تظل أزميرالدا، العبارات التي سكنتها أزميرالدا، وهو يتخيل العارم، فلا ينطبق الوصف على الموصوف ولا الرسم على المرسوم، فيعدل عن ذلك ويتجنب الحديث عنها ليفرق في الحديث عن ذاته، عن رؤاه وأحلامه “. ومهما كانت حدة هذا الانشطار بالفة في سراديب الروح الجزائري فإن نموذج التوافق المشرقي في الثقافة الناضجة المتطورة، صور الشعرية العربية المتنانمة مع الايقاع الانساني الرفيع، كل هذا كفيل بخلق تيار متجدد من الرؤى المتسقة، يخفف من دراسية الوضع الجزائري والمغاربي بصفة عامة، ويبقى على بنية الوجدان تماسكها بما اعترافا من ترهل وانتفاخ _ مثل الرواية ~ في بعض المشاهد والحالات.
أسطورة «بولزمان»:
تنقسم الرواية الى فصلين فحسب، ينفرد في الأول منهما صوت الشاعر وهواجسه ورؤاه،حتى يلتقي في الفصل الثاني بفتاة يسميها الخيزران _ وهو اسم البربرية الحسناء التي تزوجت هارون الرشيد وقتلت أحد ولديها، فيما يحكي الراوي لتنصب الآخر أميرا للمؤمنين. يركب الشاعر الحافلة وراءها ويدير معها حوارا قبل أن تنفلت الى بيتها وعندئذ ينتقل اليها مؤقتا صوت الرواية، تأخذ في الحكاية لتقدم بعض الوقائع والخواطر من منظور المرأة، حينئذ يتعادل الصوتان للذكور والإناث في النسيج الحيوي للعالم، وهنا نجد مدخلا لابراز الوسائل الشعبية في ترميز الوقائع وتفسير الأحداث، فعندما تحكي الفتاة لأمها عن الشاعر الذي تعرفت عليه وعن آخرين تعرضوا لها في الطريق واقتادها أحدهم لصلاة العصر في المسجد ترد عليها الأم قائلة: إنه جدك بولزمان، حفيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، زامن السيد البخاري والسيد عبدالقادر الجيلاني وصلى بالأولياء والصالحين. لا أحد يعرف مدفنه ولا تاريخ موته، وما إذا كان ميتا فعلا، يتحدث عنه نسله جيلا بعد جيل، نفس الحديث. وينتظرون تجليه من جيل لآخر مع أنه لايبخل عن الظهور، لايظهر إلا على حافة الزمان – من أجل هذا اكتسب تسميته الجزائرية “بولزمان " – وحافة الزمان يا ابنتي وامئه أعلم هي التي تقع بين عصر وعصر، لقد ظهر في قرية أبيك غداة اندلاع الثورة، يظهر مرة شابا يافعا ومرة شيخا هرما.. تأملي ما يجري لقد نزع الرجال السراويل واكتحلوا وتعطروا ونزلوا الى الساحات يهتفون بالاسلام، لا شك أن جدك بولز مان هو الذي تجلى فيهم جميعا.
هذا إذن هو التفسير الأسطوري للظاهرة التاريخية، سيدنا الخضر متشكلا بعباءة جزائرية ومتلبسا بعض الشيء بمظهر الجان ومؤمني العفاريت يتجسد في أفراد جماعات،ويكاد يصل لدى بعض العجائز الى أسمى المقامات “الشايلله يا سيدي بولزمان، الذي ننتظر بثقة وأمان تحقيق ارادته فينا” فيضفي على الرواية المسحة الأخرى المضادة للعقل والمقابلة للتحليل الاجتماعي فيكشف عن الوجه الآخر لغيبوبة الوعي واللاتاريخانية، وبهذا يكتمل للوا قع منظور ان يجسدانه بكل عرامته على أن هناك ملمحا فنيا يتصل بتقنية روائية يستخدمها الكاتب بإلحاح خاصة في الجزء الأخير من الرواية وهو تكرار الأوصاف الثابتة لبعض الشخوص بطريقة منتظمة مثل الحديث الذي يرويه ست مرات متتالية في عدة صفحات يحاكي فيه بنية الأحاديث النبوية ليكون المتن مثلا «الرجل دهليز والمرأة شمعة “ ومثل الأوصاف التي يكررها للفتاة سبع مرات أيضا في صفحات قليلة، فتاة "وجهها غلامي، عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما لمومياء فر عونية، لنفرتيتي أو كليوباترا،أو كأنهما الغزالة،لهما مضاء حاد ولهما تودد سخي..الخ “.ومن المعروف أن تكرار الأوصاف بهذه الطريقة يفضي الى تخليق لون من الحس الملحمي المأساوي عندما يشتبك بالأحداث الحلمية المختلطة لتضيع معالم الفواصل بين الحقيقة والمجاز، بين الحلم والرمز، حيث تصبح المرأة علامة في الخاتمة تمثل الجزائر ذاتها وقد تلتمس الإذن لرؤية جثة حبيبها وابنها، بعد أن حسبته النبي الخضر وتعشقته ورأته يرضع من ثديها في الحلم قبل أن تقف ذاهلة أمام جثته. فإذا استرجعنا مشهد الدهاليز المرصود من داخله فحسب، وتجليات الشمعة حتى تنتهي الى صورة النبي الخضر أدركنا الطريق الملتوي الذي سلكته الرواية لاثبات التعددية، واكساب منطق الشيطان معنى معاكسا له، حتى تقوقع صوتها في صفوف الملائكة، وان جعلته يخر صريعا في نهاية الأمر ثمنا لهذه الملائكية التي لا يطيقها الفن ولا تحتطها الحياة.
صلاح فضل (ناقد واستاذ جامعي من مصر)