منذ الصباح الباكر، الصباح المضبب. والغبش الملوث بالطين خرجت أو عدت لا أدري، ربما كنت الاثنين معا. أخرج من الضباب لأدخل في الظلام، ثم أخرج من الظلام الى الغبش الملوث بالطين، أشياء كثيرة تحدث بين الدخول والخروج ولم أكن لأعيرها أهمية تذكر، لكن هذه المرة اختلفت الأمور، بحيث انها غيرت مجرى حياتي، حدث الأمر هكذا فجأة، اثر حكة أسفل ظهري، تصورتها في البداية لدغة حشرة نجسة، فاكتشفت أنها حبة حمراء لها رأس مدبب، خلال أيام قليلة كبرت الحبة بشكل عجيب بحيث انها برزت من خلفي كحدبة انزلقت من فوق الى أسفل ظهري، فشعرت بالحرج حتى أنني آثرت الاعتكاف في البيت والاضراب عن الخروج ففي غرفتي المظلمة وقفت أمام النافذة الضيقة، أتأمل العالم فأرى الصباح المضبب مازال كما هو والغبش الملوث بالطين يطلي أجساد الخارجين والداخلين دون أن يعوا شيئا مما يحدث خلف ظهورهم، ظللت طيلة الأيام الصعبة تلك أعاني من نوبات حمى عنيفة انهكت جسدي، في اليوم الأخير كنت طائفا على بقعة ساخنة عبن الدم الذي غطى ظهري ولوث الأفرشة تماما، لقد انفجرت تلك الحبة اللعينة، وفي الحمام حينما كنت منحنيا على صنبور الماء لأغسل الدم سمعت ضحكة لأحد أطفالي الذي وقف خلفي وهو يصيح:
– بابا يحمل ذبلا..
فأخرسته زوجتي بضربة على فكه، ضحكت في سري من عبث الأطفال وسخريتهم لكن زوجتي اقتربت مني قائلة:
– لماذا تجعل من نفسك سخرية للأطفال !!
– ما هذا الشيء الذي تحمله خلفك؟
مددت يدي الى مكان الحبة القديم وإذا بذيل طويل يمتد من أسفل ظهري الى ربلة ساقي، وقالت زوجتي – كيف استطعت أن تلصق هذا الشيء…؟ يا للغرابة !!
قلت لها: لكنني لم أخطط لشي من هذا القبيل !
حين سمعت زوجتي جفلت وتراجعت فزعة الى الخلف وقد وضعت يدها على فمها خانقة صرخة هلعة وهي تنظر الى ذيلي الذي بدأ يتقلص ويمتد، حاولت أن أتألف مع ذيلي هذا الذي فرض حضورا طفيليا على حياتي وعائلتي حتى صار الأطفال يعبثون به من خلفي حين يريدون أن ينبهوني الى أمر ما، فأصرخ بأعلى صوتي:
– اترك الذيل أيها الوغد.. لا تعبث به…!
خلال أيام قلائل انتشر خبر الذيل كالنار في الهشيم فصار الأطفال يأتون الينا بحجة أنهم يريدون المذاكرة مع الأطفال. والنساء تأتي بحجج شتى، أما الرجال فهم يدخلون ليقدموا لنا مساعدات وأشياء أخرى وحين لم يروا شيئا غريبا يهمس أحدهم بصوت كأنه المواء فيقول:
– آه.. احم… أريد، أقصد آه.. صحيح وكيف حال الذيل معك ؟
وبمرور الوقت تحول ذيلي الى علامة ودليل، وصار الناس اذا أرادوا أن يصفوا مكانا، يقولون مثلا: انه يقع خلف الشارع الذي يسكنه الرجل ذو الذيل، وليت الأمر مضى على هذه الشاكلة لكن ثمة مشكلة أخرى برزت الى الوجود، وهي أن الذيل بدأ يتحرك كثيرا ويشاكس كأفعى مراهقا، فصار يعبث بأوراقي وكتبي ويدلق الأخبار على الورق ثم يتسلل الى الأطفال اثناء نومهم فيأخذ بضربهم والالتفاف على أجسادهم ووصلت مشاكساته الى زوجتي التي أخذت تنفر منه وكلما مقترب منها تصرخ بي:
– أبعد ذيلك اللعين عني !!
ليس هذا فقط وانما بات يثبت حضوره الثقيل في الشارع وفي السيارة والدائرة. ذات مرة كنت في سيارة عائدا الى البيت واذ بذيلي ينتصب خلفي كيد ثالثة ليجمع الأجرة من الركاب وبدل أن يعطيها لي أو للسائق قذفها من النافذة وأدخلني في ورطة أنا في غنى عنها، أما عن التحرش بالنساء فشيء خارج عن الحد فكثيرا ما يخرج ويمتد الى السيقان والاكتاف والظهور فيداعبها بنعومة وحنان، وما إن تلتفت المرأة حتى تصفعني صفعة مدوية وينبري لي كثير من الركاب فيساعدونها بالركلات واللكمات وفي النهاية أقذف خارج السيارة كخرقة بالية ممزقة الأوصال، حتى صارت حياتي لا تطاق مع ذيل مجنون يقودني الى التهلكة، ورغم أن الناس في الشارع والدائرة والسيارة أخذوا يألفون ذيلي ويقابلون مشاكساته بطيبة قلب لكنني قررت التخلص منه الى الأبد لأعود رجلا سويا الى مكاني في المجتمع، ففي ليلة كثيفة الظلام يحيطها كون من الغبش الملوث بالطين، أمسكت بالساطور والمناشف التي وضعتها تحت الذيل الذي أخذ يرتجف ربما من البرد أو الخوف وبعد أن خدرته تخديرا موضعيا ضربته ضربات قاصمة لا أدري كم عددها فانبثقت الدماء كالنافورة واذا به يقفز على الأرض منقبضا كأفعى تحتضر، ثم هدأ تماما.. ضمدت جرحي وحملت ذيلي ودفنته في الحديقة. في اليوم التالي اقتربت مني زوجتي لتداعبني لأول مرة، قلت في نفسي لابد أنها علمت بالأمر، ثم قالت فجأة:
– وما أخبار ذلك المشاكس الخبيث ؟
قلت: من تقصدين ؟
قالت.. الذيل طبعا.. يا إلهي انه يبدو في بعض الأحيان أليفا ومحببا.
وفي الليل مدت يدها خلسة تبحث عنه، فأمسكت بها بشدة، لكنها قالت جملة غريبة:
– ولكن يا حبيبي دعة قريبا مني فإذا اجتمع بصاحبه فسيشكلان معا ثنائيا رائعا..
لم أفهم ماذا كانت تعني زوجتي، ربما كانت تسخر مني أو تجاملني حتى لا أشعر بالغربة وأنا في بيتي وعلى سرير الزوجية لكنني صعقت حين أحسست بذيل يمتد الي ويحيط بي كالحزام، فهرعت خارج البيت مرعوبا فزعا اتلفت خلفي بحثا عن ذيلي الذي بعث موته كالعنقاء..
فاكتشفت انني بلا ذيل..
في الصباح وأنا في السيارة ذاهبا الى الدائرة أصر أحد الركاب أن أخرج ذيلي كي يجمع الأجرة بينما أخذت النساء يلتصقن بي محاولات بذلك أن يبعثن الهمة في الذيل، وايقاظه من سباته الأبدي وحين لم أحرك ساكنا صاح أحد الركاب بعصبية:
– يا أخ لماذا تخنق ذيلك هكذا أخرجه يا رجل ودعه يتنفس الهواء الطلق.
في هذه الأثناء، أخرج أحد الركاب شيئا لم أره جيدا فارتفع بمستوى رأسه من الخلف واذا بي أرى ذيلا شبيها بذيلي، عند ذاك فقط وأنا بين اليقظة والحلم رأيت ذيولا كثيرة تتحرك خلف الركاب وهي تتسلق على الكراسي ثم تتهامس وتتصافح وتجمع الأجرة بينما الأيدي سكنت الى الأبد واذا بي أتحول الى رجل أبتر ضاع في غابة من الذيول الشرسة، ذيول في البيت ذيول في الدائرة ذيول في الشارع حتى عاد الجفاء القديم ثانية واقصيت من مجمع الذيول المحترمة لأنني رجل أبتر فقدت عضوا مهما من جسدي لقد صارت الذيول تفعل كل شيء فهي التي تعمل وهي التي تكتب وتصافح وتمسك بالسجائر وتمسح على الأكتاف وهي التي تصفق، اذن كيف سأعيش أنا الأبتر في كون مذنب من جميع الجهات لكنني رغم كل شيء عاودت الخروج في الصباح ذلك
الصباح المضبب والغبش الملوث بالطين لأنني بدأت أعي ما يحدث بين الدخول والخروج ولأنني عرفت ذلك قررت الخروج والبحث عن عالم أخر عالم لا تسكنه الأذناب أو الأيدي الميتة.
حميد المختار (قاص من العراق)