محمد الحجيري
كاتب لبناني
عندما اشترى سمير عوّاد ثمار الجوافة، وحملها معه إلى منزله الزوجي المتواضع والضيق الغرف، لم يكن يعلم، أنها ستأخذه إلى زمن لا يحبّه ولا يستسيغه، وعاش قهرًا حتى أخرجه من دماغه وصار من أطلال حياته… فسمير المشّاء والمتسكّع وهاوي شراء الفواكه على أنواعها وفي مواسمها، كان يعتبر أن جنّة الحياة في طعمها اللذيذ. في ذلك اليوم الخريفي، انتقى حبّات الجوافة البيضاء الناصعة من أحد دكاكين البلدة الساحلية، ولحظة وصوله إلى البيت وضعها في البراد من ضمن فواكه أخرى… كان منهمكا في عدة أمور وأشغال وقراءات، وبعدما نسي لأيام على غير عادة، تناول الجوافة وتذوقها، قالتْ له زوجته بما يشبه العتب: “تشتري الفواكه ولا تأكلها، وهذه الجوافة رائحتها ملأت المطبخ، أنا لا أحب طعمها، لكنْ من إيجابياتها أنها تعطّر البراد بسبب الانقطاع الدائم للكهرباء”، فرائحتها الآسرة تطغى على روائح العفونة والتحلّل والتخمّر، وتقلّل من الشعور بالاشمئزاز والغثيان، بمعنى أنها كانتْ تعطّل الرائحة الكريهة.
بدا أن حديث الزوجة عن رائحة الجوافة أخذ سمير عواد إلى عالم آخر كان نسيه أو تناساه، في لحظة توهّم أنّ رائحة الجوافة شيء من أشباح العود الأبديّ، فقبل أن يتزوّج بسنوات عجاف، كان تعرّف إلى زميلته سارة عوّاد، في يومٍ من أيام ربيع بيروت، وبعد مراحل من الصداقة والألفة، صار مسكونًا بأشباحها، أصبح رأسه علبة فارغة يتردّد فيها صدى صوتها البعيد، يعيش في حالة استيهامات لا تنتهي وبلا حدود، يشعر أنّه كائنٌ فيتشي تجاهها، يحتفظ بمنديلها الأحمر الموشّى بحديقة فراشات ملوّنة، وبصور أرسلتها له وهي بثياب النوم ذات الألوان الربيعية الحميمة الدافئة، كانتْ تشكّل تجسدًا لروض عينيها وملمسها وغيابها وطيفها الواسع وحتّى سرابها، في مرات كثيرة يسأل نفسه ما الذي يجعلها تشغل خياله ووجدانه طالما أنّه يشاهد صورًا لفتيات أجمل منها بكثير ويعود ينظر إليها مثل طفل فقد أمّه، ولماذا يضجّ منديلها بروائح رغبات مكبوتة وهو بلا رائحة أصلًا. ولم يكنْ يشعر بالفيتشيه تجاه منديلها وروائحه الافتراضية الاستيهامية فحسب، بل يتذكّر أنّه كان فاقدًا لليقين ويعيش أسير الشّك ومشغول الذهن بين النفي والإثبات ولا يستطيع الحكم على أفكاره. فمنذ أنْ قالتْ له إنّ رائحة ثمار الجوافة فيها شيء من رائحة العشق والرغبة، راوده الشّكُّ والوسواس في مسار سيرتها وحياتها وأنماط عيشها، بين النقاء والشهوات، وراح يسأل ويطرح أسئلة في قرارة نفسه ووجدانه، كيف لها، وهي الفتاة التقليديّة، ابنة العائلة المحافظة، أنْ تعرف رائحة العشق وقد تحدّثتْ مرارًا في جلساتها المقهوية والجامعية وتنقلاتها على أرصفة المدينة وكورنيش البحر، أنّها لم تقمْ يومًا علاقة مع أحدٍ، ولم يقبّل شفتيها المرسومتين المكتنزتين فم شابٍ في حياتها، وبقيتْ حتّى وقت متأخر لمْ تعرف مسميات الأعضاء الجنسية، ويوم سمعتْ لأول مرّة شابًا من زعران الحيّ القريب من بيتها، يلفظ اسم العضو الذكري كشتيمه لصديقه، وأخبرتْ والدتها بهذه اللفظة الجديدة في حياتها، قالتْ لها “عيب”.
كانا في منتصف الخريف، يعبران جسر المشاة تحت المطر الخفيف، في ذلك السهل الغضّ القريب من البحر عند أطراف المدينة… بستان الجوافة الباقي على جانب الاتوستراد والمبلل بالندى والمطر، دفع سارة إلى قولِ ذلك الكلام، وجعل سمير يصمتُ قليلًا ويسرد، لكن لم يجرؤ أن يسألها من أين لك أن تعرفي رائحة العشق أو الجنس… ذلك الشغف الذي به تجاهها كان كافيًا ليجعله يمحو كل صورة “محرّمة” و”شيطانية” عن حياتها، يريد أنْ يبقيها صورة نقيّة له وحده، خالية من طيف “الخطيئة”، هو الجبان المتوهّم أنّه لنْ يجد مثيلًا لها في الكوكب، أو هكذا تقول مشاعره وذاته التي كانتْ في فراغ مدقع وفي حلم كبير، كان يعي أنّ ما يفعله يشبه الحبّ العذري، ومع أنّه يسخر من هذه التجارب لكنه كان يعيشها على أكمل وجه. تذكّر قول باتريك زوسكيند في روايته “العطر” بأن “لعبق الرائحة الطيبة قدرة فائقة على الإقناع، أقوى من الكلمات، ونور العين، والشعور والإرادة، وإنّ هذه القدرة على الإقناع لا تُقاوم، وهي تتغلغل فينا، كما الهواء في رئتينا، إنّها تملؤها، تتعشّق فينا، وليس من وسيلة لدرئها”.
كان يتأمّل أشجار الجوافة ذات الأوراق الخضراء الفاتحة، ولم يجرؤ أن يسألها كيف تعرف رائحة العشق والباه وهي لم تمارس علاقة من قبل، وصار يجرّب أكثر من مرة أن يستنشق ثمار الجوافة فعلًا ليتأكّد أنّها تشبه رائحة العشق، “في فعل الرؤية يبقى المرء نفسه، في الشَّم يتحلل” (ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو). وهو منذ العبور فوق جسر المشاة، صار يبحث عن رائحة الشمّ وأصلها وفصلها، ويوم قرأ “الخمُّ والنرجس- حاسة الشم والخيال الاجتماعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” لمؤلفه الباحث الفرنسي آلان كوربان، انتبه إلى أمر لم يكن في باله، وعلى الرغم من أنه عاش ردحًا من طفولته وحياته في البوادي والسهوب، إلا أن جنس الحيوانات له معطيات شمّية لأغراض البقاء والتكاثر وحفظ النوع، وفي ما يتوصل إليه كوربان فإن للإنسان معطياته أيضًا، فرائحة السائل المنوي (مؤشر لحيوانية الفرد). قرأ أن فلوبير كان يُمعن في الحديث عن الروائح كتحفيز للمتخيّل، يعطي حيّزًا لحاسة الشّم على عكس الكثيرين الذين ازدروا الروائح، فقد حمل أفلاطون على العطور حملةً شعواء، واعتبرها أدوات للتخنُّث واللذة الجسدية، بينما كان سقراط أكثرَ عقلانية، وربَطها بالانتماء الاجتماعي والوضع الطبقي للفرد. وتمثل قول سقراط “لا حاجة لاستخدام العطور لأن أجساد المتزوجين تنبعث منها أطيب الروائح” هو إلهام علمي لتتبع المادة الانجذابية المؤلفة من جزئيات صغيرة تنتشر حول الرجال والنساء وتحدث الانجذاب بين الجنسين وتوقظ مشاعر الحب، هو تقدّم علميّ بيّن دور الروائح الطبيعية في الإنسان للانجذاب الفطري الطبيعي.
تذكّر كتاب “رائحة الجوافة” وهو مجموعة من “المحادثات” بين غابرييل غارسيا ماركيز وصديقه بلينيو أبوليو مندوزا وقد قال فيه ماركيز “بإمكان المرء أن يحول كامل غموض المدارات الاستوائية إلى رائحة جوافة عطنة” … ظنّ أنه قد يرشده إلى لغز ما قالته سارة، لكن أصيب بخيبة أمل… وحين صادف أن قرأ في أحد الكتب عن الجوافة في المنام، مرّت أمامه عبارة “رؤية الجوافة في الحلم قد تعني أن الشخص طيب الخلق وأن رائحة الجوافة مرتبطة برائحة الحلم”، وهنا أصبح أمام لغز آخر، ما رائحة الحلم، ولم يصل إلى مكان، وفي كلّ مرّة يشتري الجوافة، يحسب أنه يشتري رائحة الجنس وطقسه، بل يتخيّل جسد سارة كما لو أنّه الجوافة بين يديه، مع أنّه لم يخطر في باله يومًا أنّ للجنس رائحة، ولا يعرف ما المقصود برائحة الجنس، لكنْ في لحظة انتبه أنّ هناك رائحة العلاقة ما هي رائحة الجسد أو الجسدين، وكل علاقة لا تشبه الأخرى، تلك العلاقة المضمّخة بالعطور في غرفة وثيرة لا تشبه تلك العلاقة العابقة بالقاذورات والأزبال في مكان سفلي، وانتبه أيضًا للحظة أنه كان يشمّها من دون علاقة، ويتمنى لو تذهب أو تذوب في صدره. لوهلة تذكّر دخول المبغى ذات مرة في مراهقته، يومها سقطتْ كلّ الروائح وغلبت رائحة موت المدينة، وانتبه أكثر أنّ معظم مروجي العطورات في الإعلانات المتلفزة، يوهمون الجمهور بأنّ العطور محفّزة للعلاقات، والسحر الشمّي.