لم تكن الرحلة استثنائية في انطلاقها، فالطيران الذي يمخر عباب السماء بأجنحة حديدية وأخرى من ريش منخفض، هو نفسه، في كل مقصد، سواء كان إلى بحيرات الطيور الغافية على أطراف الغابات، أو الى باريس او جنيف او إلى آخر نقطة في مجاهل افريقيا، فخريطة السماء متشابهة في تضاريسها و في الشعور بقلق معانقة المجهول وشغف الوصول الى مكان مختلف.
حين وصلنا مطار (ديماديدوفا)، بدأ الفرق يتضح، فهذا المطار وهو أحد مطارات كثيرة في العاصمة موسكو وحدها، تراءى مثل تحفة فنية، أو أيقونة من الزخارف تستقبل عين المسافر، (المظهر البهي لأي مطار، ضرورة ليست حضارية او سياحية فحسب انما نفسية كذلك، وذلك حتى يستطيع المسافر ان يصرف ويسرب جرعات كافية من الهلع التي تجرعها في دمسة الظلام الخارق وهو في طريقه الطويل فوق السحب).
كان المطار يشبه سفينة عائمة تتردد في رحلة بين الآن والتاريخ وذلك في جمعه بين رؤية فلوكلورية روسية خالصة وانجذاب تنظيمي غربي متقن.
استطعنا الفكاك من الأعين المتفحصة لفتحات ختم الجوازات، وهم يجاهدون في عقد مقارنة بين صورنا المعممة في الجواز، وبين هيئتنا العصرية أمام اعينهم، كانت الوقفة طويلة بالفعل فالجميع أنهى اجراءاته بسرعة ودخل.عدانا نحن الذين تطلب منا الوقوف للتأكد طويلا، اخبرنا فيما بعد بعض الطلبة بأننا محظوظون مقارنة بما يحدث لبعض العمانيين، من تعقيدات تتعلق بالمقارنة بين الوجه المعمم الذي في الصورة وبين حامل الجواز الذي أمامهم، وخاصة أولئك الذين يكونون في الجواز ملتحين وفي رحلة السفر غير ذلك، (ألايمكن مثلا واستجابة للظروف الحالية وما تمر به من تشكيك للعرب وخاصة أولئك القادمين من الجزيرة، أن يترك موضوع اختيار ملابس صورة الجواز لصاحب الجواز نفسه، وذلك لأن الأشخاص الذين تعودوا السفر كثيرا ليس في صالحهم صور الجواز في هيئته الحالية، كما أن الخصوصية لم تعن يوما اللباس الا في بعده الفلوكلوري فقط)
لم يكن طقس موسكو حينها قارسا كما كنا نعرفه في أدبياتنا الجغرافية ، بل بدا الأمر وكأن الشمس تهطل مطرا دافئا، مطر لايمكننا سوى الاحساس به، دون ملامسته او التبلل به، كان شعورا يصعب التعبير عنه بسهولة، شعور كأنما ينتمي الى نقطة بعيدة من خيال الذاكرة.
كان احمد الرحبي، او (احمد موسكو)كما يسميه البعض،في استقبالنا، وقد خيرنا بين أخذ تاكسي او الركوب في مترو الأنفاق الذي يخرق احشاء موسكو الساطع والمظلم منها، فاخترنا الحل الثاني.
يمتد الميترو في مجموع مساحته ستمائة كيلو متر مربع، موزعة محطاته في خمسة طوابق، تجري مساربها الحديدية تحت الأرض وفوقها وخلالها، متلويا بعد ذلك – كأنما قطار ليلي- حول الغابات والأنهر ثم صاعدا جهة مشاهد الأسواق والبنايات الضخمة التي تتميز بها موسكو.
وفي كل محطة كانت تخرج دفعات بشرية لتحل محلها أخرى، فيتغير المشهد وتتجدد رؤية العين العطشى. ولكن الشيء الذي لايتغير حقيقة، هو مشهد القراءة بين الجميع، فمن النادر ان لا تجد بين كل خمسة اشخاص،ثلاثة ينحنون على كتاب، وفي مختلف الأعمار، حتى أولئك الواقفين الذين لم يجدوا كرسيا فإنهم ما يلبثوا وأن يفتحوا كتابا وينكفئوا عليه وظهورهم لايسندها شيء.
كان هذا المشهد فريدا، و ربما من بين بلدان العالم كله.
حين وصلنا الى الفندق ذي الخمسة والثلاثين طابقا، سألتنا امرأة الاستعلامات ما هو عملنا، فأجابها احمد، بأنهم كتاب، فقالت إذن هم تجار، ففسر لنا احمد فيما بعد بأن الناس في روسيا يعتبرون الكتاب تجارا، فهم يملكون اموالا ما أن يصدر الواحد منهم كتابا، وذلك لأن اقل طبعة لأي كتاب هي مائة ألف نسخة، ناهيك عن الكتاب الكبار، وهناك معلومة اخبرتنا بها فيما بعد المستعربة الروسية فكتوريا، بأن ريع روايات دوستويفسكي وحدها في العالم بلغت المليارات، هذا الكاتب الذي نذر حياته في رصد دقائق الشقاء البشري يرحل عن الأرض ومليارات كثيرة تتوزع رصيده الوهمي المتناثر في أرجاء العالم.
في طريقنا الى الساحة الحمراء، وهو المعلم الأهم في موسكو، كان بصحبتنا طالب عماني ظريف، وحامل نكتة حقيقي، اسمه يحيى البوسعيدي، وحين اقترب بنا من تمثال ضخم للغاية، سألنا هل تعرفون من هذا، ثم اجاب ضاحكا قبل أن يسمع ردا على سؤاله (انه شيخ تميمة الرفاق).
كان تمثالا ضخما للينين، الذي يحتل مكانا معنويا كبيرا في صدور الروس، حتى ان ضريحه في الساحة الحمراء، يغص بالزوار وفي طوابير طويلة تحتاج احيانا الى عشر ساعات من الوقوف قبل رؤية جثمانه المحنط في صدر الساحة الحمراء.
كان مشهد الساحة الحمرء مبهرا، قبلها كان المبنى الشاهق للكرملين، فالعين تصاب بالحيرة لطبيعة الضخامة التي يبني بها الروس معالمهم.
كانت الساحة مستطيلا ضخما محاطا بالأبنية، وكنيستين ضخمتين، ملئتا بالمصلين والمصليات اللائي ترتدي كل منهن حجابا للشعر ما أن تدلف حرم الكنيسة.
ولكن كان اكثر ما استوقفني في الساحة الحمراء هو ذلك النهر الاصطناعي، المرصع بمجسمات للحكايات الأسطورية الخالدة، كحكاية سندريلا والأقزام السبعة، وحكاية الأمير والضفدع، وحكاية الأميرة والوحش وغيرها من الملح الإنسانية المعروفة. كل ذلك كان منحوتا من الصخور التي تعوم فوق بحيرة منقوشة أرضها بفسيفساءات زرقاء.
موسكو التي تعتبر ساحة ضخمة للمتاحف، حيث يوجد بالقرب من الساحة الحمراء ضمن المتاحف، متحف (تريتوكوفسكي) والذي يعتبر ثاني أكبر متحف في روسيا كلها، بعد متحف (الأرميتاج) الذي يوجد في بطرسبورج، وتوجد فيه معظم لوحات الفنانين المعروفين، كان مرصعا بجدارياته الضخمة، وبأقسامه وأروقته التي تحتاج الى ساعات طوال. فزيارة متحف في موسكو يصعب أن تتم في ساعات قليلة، وذلك لأن جناحا واحدا بتفرعاته الخفية، يمكن أن يستغرق منك أحيانا نصف يوم وهذه حقيقة لا مجاز عليها.
وبالقرب من الساحة الحمراء، يتصدر تمثال الروائي الروسي الأشهر (دوستويفسكي) بوابة مكتبة لينين، ثاني أكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة الكونجرس في الولايات المتحدة، فقد كان الوجه الملتحي لصاحب التمثال، يختزل، أمام زحمة السائرين حوله، تاريخا طويلا من السرد العميق الذي ما زال يفتن العالم حتى اليوم وخاصة في عمليه الكبيرين (الجريمة والعقاب) و(الأخوة كارامازوف).
في طريقنا الى اتحاد الكتاب، مررنا بجامعة موسكو العريقة، فكان المبنى من الضخامة بحيث يجعل الناضر ينسى رقبته مرفوعة، ولا ينتبه سريعا لنداءات الألم. كان مبنى تلك الجامعة بحق تحفة فنية يصعب حتى تخيلها، محاطة بحديقة لأشجار عملاقة يتنزه بينها الطلبة بدراجاتهم الهوائية، او بالكراسي المعلقة في الفضاء بأسلاك تنقلهم من جانب الى آخر.
الناس يمتازون بلطف مضمر غير واضح، ويصعب تبينه بسهولة، اذكر اننا سألنا بالصدفة سيدة كانت مقتعدة امام مبنى جامعة موسكو تقرأ كتابا، عن تاريخ بناء هذه الجامعة، فما كان منها إلا أن أخذت هاتفها واتصلت بزوجها، الذي يعمل أستاذا في نفس الجامعة، وقطعت معه حديثا طويلا وهي تلتقط منه معلومات دقيقة عن الجامعة :
((تحكي القصة أن أحد العلماء الروس الذي جاء مشيا من بطرسبورج، لمقابلة زوجة القيصر، هو من اوحى بالفكرة، وكان غرضه من ذلك أن تكون الجامعة في متناول جميع افراد الشعب، اعجبت الملكة بالفكرة واقنعت الأمبراطور، فتم بناء المرحلة الأولى من الجامعة في ظرف خمس سنوات، أكملت مراحلها فيما بعد في العصر الستاليني، الآن هذه الجامعة لاتستقبل الا اصحاب النسب الكبيرة من جميع الجمهوريات الروسية))
حين وصلنا اتحاد الكتاب الروس، كانت في استقبالنا مائدة بشرية مستديرة، يؤمها أليغ بافيكين مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد الكتاب، اخبرنا في البداية عن اعتذار رئيس الاتحاد عن الحضور لأنه في اجازة خارج موسكو وكان يتحدث بلغة عربية متقنة وسليمة من الأخطاء، كما كان يترجم للذين معه.جلسنا طويلا وكان الحديث يدور بين كل واحد فينا، عرفنا منهم ان هذا الاتحاد هو مستقل في إدارته المنتخبة دوريا، وان ثمة اتحاداً آخر غير مستقل وهو ذو طبيعة ليبرالية، مدعوم من أوروبا ويخضع لشروط دعائية كما أخبرونا.
كما عرفنا ان لديهم جوائز تحمل اسماء كبار الكتاب الروس (بوشكين، دوستويفسكي، تولستوي، مكسيم غوركي، تشيخوف، ليرمنتوف…..الخ) وفي كل عام تأخذ الجائزة إسما من أسماء هؤلاء العمالقة – اساتذة العالم في السرد – وتعطى عادة لكاتب مبتدئ، فتتحول حياة ذلك الكاتب بعد أن يطبع له الاتحاد قرابة المائة الف نسخة.
كما اخبرونا بأنهم يطبعون لجميع الكتاب مجانا، وان ريع ميزانية الاتحاد يأتي من ما يتبرع به الكتاب انفسهم، وكان الشاعر (اناطولي اناطوليفيتش)، يمتلك جريدة يديرها بمجهوده وماله الشخصي، وهو شاعر حساس للغاية، فكان حين يتحدث تسبقه الدموع، وهو كثيرا ما يعقد مقارنات مؤلمة بين ما كانت عليه روسيا وما أصبحت عليه، كان يقول لنا مثلا ان الناس كانوا يقرؤون اكثر من الآن، وذلك حين ابحنا له عن إعجابنا بالظاهرة الحسنة التي عليها الناس بقراءتهم للكتاب في أي مكان.
الروائي المعروف لديهم (بافكين) والحائز على جائزة الدولة، جاء متأخرا، وقد بدا مرتبكا وهو يعرب لنا عن أسفه، فما كان منه الا ان دخل مكتبه واخرج حزمة من مؤلفاته وسألنا ان كان احدنا يقرأ الروسية، فأعطى الكتب جميعها لأحمد، ثم دخل مرة اخرى الى مكتبه وأخرج كاميرا رقمية وأخذ يمطرنا بالصور ولوقت طويل. بعد ذلك ادخلنا مكتبه المليء بالصور والرفوف، وقال لنا أنا احب العرب، قبل ان يستطرد: لا لشيء سوى لأني أكره اليهود.
فالغريب ان صورة العرب واحدة لديهم، فهم لايفرقون بين لبناني ومصري ومغربي وجزائري وعماني ويمني، فكلهم عرب ينضمون في خريطة نفسية واحدة ولغة واحدة، حتى انهم اخرجوا لنا قائمة لروائيين عرب، حوالي أربعين كاتبا، وقد اختاروا بالتعاقد مع اتحادات الكتاب في الوطن العربي أهم رواية لكل كاتب، كان الاختيار موضوعيا إلى ابعد الحدود فأشهر الروايات العربية كانت موجودة في القائمة وغيرها من الروايات الأقل شهرة وأهمية وقالوا أنهم سوف يوزعون هذه الروايات على مختلف أفرع الاتحاد في الجمهوريات الروسية حيث يوجد في كل منها مترجمون من العربية إلى الروسية وقد بدأوا فعلا بالانتهاء من خماسية مدن الملح لمنيف وبعض روايات نجيب محفوظ ورواية الخبز الحافي لمحمد شكري.
اخبرنا فيما بعد الدكتور ميثم الجنابي المفكر وباحث التاريخ المقيم في موسكو،، بأن معظم الروس يكرهون اليهود لأنه ثبت بالأرقام والاحصائيات انهم السبب الأكيد لانهيار اقتصاد روسيا، كما أنهم يقفون عثرة لتقدمها وذلك بامتلاكهم لمفاصل الإعلام والاقتصاد فيها.
كانت رحلة قصيرة – ستة أيام – ولكنها مذهلة، بتفاصيلها التي يصعب أن تفارق خريطة الرأس سريعا.