"رحلة الحلاج " إحدى المسرحيات التي تتخذ من التجريب مذهبا لها في مجال الإخراج والنص والإضاءة والديكور وغيرها من عناصر العرض المسرحي عبر أسلوب جديد يتجاوز الشكل التقليدي، ويهدف إلى الوصول للحقيقة الفنية ويتسنى ذلك عن طريق معارضة اللواقع والخروج إلى منطقة الخيال وأحيانا المبالغة وهذا ما حدث فعلا في هذه المسرحية التي عرضت على خشب مسرح جامعة السلطان قابوس .
المسرحية تدور حول فكرة فلسفية تعتمد على خلفية تاريخية هي شخصية المتصوف الحسين بن منصور الحلاج ، أحد أشهر المتصوفة في العالم الإسلامي، ومن خلال هذه المسرحية يبرز مؤلفها التونسي عن الدين المدني أراء الحسين في التصوف كمسألة حلول الذات الإلهية في الذات الإنسانية ؟ الرأي الذي أدى إلى نهاية الحلاج الحزينة . كما سلطت المسرحية الضوء على الجانب الفكري لحياة الحلاج وابتعدت عن الحقيقة التاريخية .
فكرة المسرحية الأساسية هي تناول شخصية الإنسان من ثلاثه أبعاد هي بعده مع ذاته وبعده مع مجتمعه وعلاقاته برجالات الدولة والبعد الثالث الناتج من خلال البعدين الأول والثاني وهو مناداته بالحرية ، وتعمدت المسرحية طرح وابل من التساؤلات : كيف يستطيع الإنسان التعامل مع الدين ؟ وكيف يكون التعامل مع المجتمع ؟ وكيف يتم التعامل مع الذات ؟ وكيف يتم التوفيق بين الدين والمجتمع والذات قبلهما. وكيف يستطيع الإنسان كسر المألوف في حياته ؟ ولم تقدم الإجابة على كل هذه التساؤلات من خلال المسرحية بل إن كل سؤال رئيسي طرح في المسرحية يتفرع منه عدة أسئلة فرعية وحتى هذه الأسئلة الفرعية يتفرع منها أسئلة أخرى وهكذا.
تهدف "رحلة الحلاج " إلى طرح فكرة الضمير الجمعي للحقيقة والتركيز على حياة الحلاج وتناولها من أكثر مز زاوية وذلك لكون الحلاج مثالا لأي ضمير جمعي متناقض باعتبار أنه يعيش في مجتمع كل فرد من أفراده له توجه خاص يختف عن توجه الفرد الأخر، كما هدفت المسرحية إلى تقديم شخصية عربية هامة وشهيرة ومثيرة للجدل سواء في حياتها أو موتها أو نهجها في التصوف ، وقد تعمد مخرج العرض ظهور الحلاجين الثلاثة كلهم في المشهد الثاني للتدليل على الشخصية الواحدة والاعتماد على المستوى الواحد ولتوضيح فكرة المسرحية من البداية وهي فكرة الضمير الجمعي .
المسرحية مأساة حقيقية وقعت فعلا ولكن المؤلف لم يقصد بل أغفل حرفية هذا الجانب التاريخي، وركز على الجانب الفكري، فكانت نهاية الحلاج في المسرحية في الجب بينما يسرد التاريخ غير ذلك .
إن تناول مفكر مثل الحسين بن منصور الحلاج يعد بحد ذاته فائدة كبرى لمن يقرأ هذه المسرحية أو حتي من يشاهدها ، ففي ساعة من الزمن يستطيع أن يلم بجواب حياة الحلاج ويستنتج من خلال شخص الحلاج طريقة تحديد تعامله مع المجتمع وطريقة تعامله مع الذات والدين ، ومن هنا تأتي قيمة العمل المسرحي.
وافتقد عنصر الحبكة في المسرحية لطبيعة الموضوع المطروح فالمسرحية عبارة عن دراما متقطعة أي بمعنى أن ثلاث شخصيات يؤدون شخصية واحدة وبمحاور ومناظير مختلفة .
أما الشخصيات فأفراد لا نماذج ولعبت كل شخصية دورا واحدا باستثناء شخص الحلاج الذي لعبه ثلاثة أشخاص ، تناول كل منهم جانبا مختلفا عن الثاني عبر رمز معين ، فحلاج الأسرار مثل الذات الإنسانية والحقيقة التي يبحث عنها هذا الإنسان من خلال ذاته ليخدم بها المجتمع ، ومن خلال هذه الشخصية يطرح السؤال عما إذا كان التصوف يعني البعد من الناس والانعزال عنهم في العبادة أم أنه يعني شيئا أخر، أما حلاج الحرية فكان يمثل المثقف الأديب في المجتمع الذي يحاول أن يغير من المفاهيم القديمة ويطرح أساليب جديدة في التعامل الفكري والأدبي ككسر المألوف الذي يعني في نظره تقليد السابقين ، والتشجيع على التجديد والتنويع أيضا في نفس الوقت ، أما حلاج الشعب فهو الإنسان الكادح الذي يسعى من أجل تحسين أوضاعه وأوضاع الآخرين وكسر الدائم والمتمثل في نوعية العمل وعلافا العامل بالمستعمل .
كذلك أدخل المؤلف شخصيتين متضادتين لينشأ منهما الصراع في المسرحية هما شخصية علي بن محمد الذي يبجل الماضي، والجنابي الذي يضع الماضي وراء ظهره ويفكر في المستقبل ، ولإظهار الفوارق الطبقية في المجتمع البغدادي في ذلك الوقت أدخلت شخصيات كل شخصية منها تمثل طبقة معينة أو بالأحرى فئة معينة كالجنيد الذي يمثل فئة المعلمين والشبلي الذي يمثل فئة التلاميذ بالإضافة إلى طبقة التجار والتي مثلها تاجر القطن وتاجر الحرير بالإضافة إلى القاضي والمتسول والطبيب .
الحدث المتصاعد لم يكمن في حدث درامي واحد تتصاعد من خلاله أحداث المسرحية بل كل حلاج انفرد بحدث صاعد ، فالحدث الصاعد عند خلاج الأسرار انطلق من مقولة الحلاج للطبيب الذي يصفه بالمشعوذ "إنكم أنتم المشعوذون تعملون من أجل مصالحكم الشخصية "، أما في تصاعد الحدث عند حلاج الحرية فكانت مند رفض حامد بن الحسن نسخ كتاب الحلاج ، ويرفض أبو الوفاء القومسي الذي كان يعمل أمينا لسوق القطن طلب حلاج الشعب وهو زيادة دينار للعمال الذي يعملون طيلة النهار كانت بداية تصاعد الحدث ، وكل هذه التصادمات مجتمعة قادت الحلاجين الثلاثة إلى المحكمة ومن ثم حكم القاضي بوضعهم في الجب ليموت الواحد تلو الأخر.
ولا نستطيع القول أن التنقل في حياة وتفكير الحلاج من مرحلة إلى مرحلة يعتبر تحولا بل هي فكرة الضمير الجمعي، وقد سار الحلاجون الثلاثة على وتيرة واحدة من بداية المسرحية وحتى نهايتها محافطين على مبادئهم وأفكارهم ، مما أدى إلى وصول الحلاجين إلى تلك النهاية المحزنة .
طبيعة الحوار الفلسفي المستخدم في المسرحية جعل مشاهد العرض أو قارئه تراوده فكرة تفكك النص ولكن الحقيقة غير دلك ، فطبيعة هذا الحوار المستخدم في المسرحية تتطلب التركيز من قبل القارئ أو المشاهد ليصل بالتالي الى الفكرة الأساسية للمسرحية .
وقد أتت الحادثة في "رحلة الحلاج " وهي وفاة الحلابين في الجب ، بعد طرح المشاهد سؤاله : ماذا سيكون مصير هذا الحلاج ؟ وقد أجيد على هذا السؤال في نهاية المسرحية بعد أن شوق فعلا ومن بداية المسرحية لمعرفة المصير الذي سيؤول اليه الحلاج ، وما زاد من أهمية الحادثة هو مرور الجمهور والبطل معا من حالة عدم المعرفة إلى حالة المعرفة .
لم يتجاوز عدد المشاهد المعروضة الثلاثة عشر مشهدا وقد راعى المخرج عدم التطويل في المشهد ، ذلك التطويل الذي يقود المشاهد للملل وأحيانا إلى تفكيك البنية الدرامية للنص وتجزئة العرض إلى مشاهد منفصلة لا يمت الأول إلى الثاني بشئ ، ولعدم حدوث مثل هذا الخطأ الدرامي قدم مخرج العرض الثلاثة عشر مشهدا متسلسلة بحيث يضيف كل مشهد إلى المشهد الذي يليه حدثا دراميا وبالتالي ولادة دراما فعلية ،فبداية المسرحية كانت بمشهد التقديم فلقاء الحلاجين الثلاثة فسوق بغداد والصومعة ومونولوج حلاج الحرية ومشهد أبو الوفاء يليه مشهد الجنابي وعلي بن محمد والسوق ودار الكتب والوراقين وعودة لسوق في المشهد الحادي عشر فالمحكمة ونهاية بمشهد الجب .
وعبر الديكور المستخدم في المسرحية عن تجريبية العرض من خلال اقتصاره على الرمز ووضع الرمز في وسط خشبة المسرح (استخدام رمز الميزان في المشهد الذي يحاكم فيه الحلاجين ، واستخدام رمز الريشة والمحبرة في مشهد دار الكتب والوراقين ، هذا عدا رسومات منظورية على قماش مما ساعد على تغيير الديكور من مشهد إلى أخر بكل بساطة وسهولة فالخامة الرئيسية المستخدمة كانت عبارة عن قماش خفيف لا خامة ثقيلة كالخشب وغيره من الخامات الثقيلة ) .وجعلت بساطة الديكور المستخدم المشاهد يركز على أداء الممثلين ويستلهم الجو العام للمسرحية من خلاله الديكور ، ومن الملاحظ أن اللونين الأبيض والأسود تم استخدامهما في ديكور المسرحية بشكل مكثف لإظهار الغموض المسيطر على جو المسرحية بل إن مصمم ديكور المسرحية تعمد وضع هذين اللونين كدلالة على أن الغموض سيطر في أحداث المسرحية أكثر من الوضوح، بل في بعض الأحيان قد رمز باللون الأبيض الحلاجين وباللون الأسود للشخصيات الأخرى والتي هي فعلا تغلبت على هؤلاء الحلاجين وهذا بدوره يفسر إعطاء مساحة للون الأسود أكثر من الأبيض .
لتمييز الحلاجين الثلاثة عن بقية الممثلين في المسرحية صممت لهم ملابس مختلفة حث خلت من البهرجة والنمنمة التي شاهدناها في ملابس الطبيب والقاضي وأبو الوفاء القومسي وتاجر الحرير وغيرهم ، كذلك أوضحت الملابس المستخدمه طبقات مرتديها من الوهلة الأولى ويعتبر هذا توظيفا جيدا من مصمم الملابس .
الإضاءة كانت أحيانا بمثابة الركيزة الأساسية للمشهد وأوضحت عدة معان مثلما حدث في مشهد الجب فقد تم تسليط الإضاءة الحمراء على كل مساحة الخشبة لتوضع للمشاهدين موت الحلاجين في الجب ، وأحيانا استخدمت الإضاءة كستارة لتغيير الديكور بين المشهد والأخر عن طرق الإظلام ، لتحل محل الستارة القماشية وتناسقت بدورها مع ألوان ملابس الممثلين والديكور.
الخلفية الموسيقية المستخدمة ساعدت كلا من المشاهدين والممثلين في احساسهم بالمكان الذي يجري فيه المشهد فعلى سبيل المثال عن طرق الموسيقى شعر الجمهور والمؤدون فعلا أنهم في سوق بغداد عندما عرض هذا المشهد ، وكذلك في مشهد الجب أيضا استخدمت خلفية موسيقية انبعث منها الحزن لتدل على وفاة الحلاجين .
استخدم البخور "اللبان " في المشهد الحادي عشر (السوق ) عندما تردد عبارة "الله حي الله حي» للتدليل على ارتباط البخور بالتصوف والطقوس الدينية في بعض الأحيان .
ويمكننا القول أن مسرحية "رحلة الحلاج " عمل يضاف إلى رصيد المخرج الشاب جابر الحرامي الذي سبق وقدم مسرحية "الغرباء لا يشربون القهوة " عن رائعة محمود دياب والتي شارك بها في مهرجان الماجستير بتونس قبل العام الماضي، وهي فرصة لشباب الجامعة للاستفادة مما يعرضه زملاؤهم من جماعة المسرح على خشبة هذا المسرح الجامعي الفتي، وفرصة ثمينة لطلاب قسم الفنون المسرحية لتطبيق ما هو نظري على خشبة المسرح ، كما أن هذا العمل إضافة إلى مسرح الجامعة وتجربة رائدة لدخول خضم المسرح المغاربي ومعرفة جديد هذا المسرح المتفرد بعد أن شاهدنا على خشبة المسرح الجامعي العديد من العروض الأجنبية المترجمة والعروض العربية والعروض العمانية والتي كتبت بأيدي أقلام واعدة تبشر بنهضة درامية واعدة مثل رحيمة الجابري ، والقاص سليمان المعمري .
محمد بن عبدالله القاسمي (كاتب من سلطنة عمان )