ظاهرة مراجعة الكتب واستعراضها ملخصة في مقالة، هي ظاهرة حسنة ومفيدة تختصر على القاريء الوقت، وتوفر عليه الجهد للاطلاع على الكتب التي تنتشر بغزارة متلاحقة في هذا العمر المتسارع العصيب الذي سيملأ حياتنا بمتطلبات تتزاحم على نهب أعمارنا دون رحمة.
ولهذه النافرة مساوئها، بل أخطارها أيضا. فعندها سيكون المراجع غير مقتدر على استيعاب المادة المعنية والاحاطة بأبعادها الدلالية، فينقص منها أو يزيد فيها نتيجة قصور إدراكي، أو تصور مسبق عن الكاتب أو الكتاب، يكون قد أساء – من حيث أراد أو لم يرد – الى الكاتب والقاريء معا.
في العدد الثاني عشر من مجلة "نزوى" بتاريخ في أكتوبر 1997، نشر الأستاذ محمد عفيف الحسيني، الذي عرف نفسه في الهامش بأنه (كاتب عربي يعيش في السويد)، مقالة تحت عنوان "شيركو بيكه س في مضيق الفراشات".
استهل الحسيني سقالته بتمهيد مقتضب عن الترجمات الكردية الى العربية في سورية بقوله: "في السنوات الأخيرة نشط المترجمون في ترجمة الأدب الكردي الى اللغة العربية، خاصة في سورية فظهرت عشرات الكتب هنا وهناك في الشعر والرواية والقصة والأساطير. وجاءت هذه الترجمات عشوائية وأحيانا رديئة جدا لكتب هي في الأصل سياحية مثل كتاب اليوناني "أدونيس بودوريس": "حديث مع كردي" أو روايات لا تمتلك أية مقومات للفن الروائي مثل روايات محمد أوزون الوعظية السياحية. وأذكر واحدا من هؤلاء المترجمين وهو الدكتور محمد عبدو النجاري الذي ترجم دزينة من نوعية هذه الكتب".
في مقدمته هذه، جار الأستاذ الحسيني على الأدب الكردي، وترجماته الى العربية بحكم غير واقعي، وغير دقيق أيضا. وهو حكم مذل على عدم اطلاع الكاتب على مناخات الأدب الكردي عموما، وترجماته الى العربية خصوصا. وبالتالي هو حكم ارتجالي انطباعي، اعتمد حالات المزاج الذاتي والاسقاط النفسي.أسلوبا في رؤيته الى المادة المفقودة، دون أن يتوافر لديه الحد
الأدنى من منطقية البحث النقدي وموضوعيته فهو بنفسه يناقض نفسه:
1- كتاب "أدونيس بودوريس " حديث مع كردي"، الموسوم من قبل الحسيني برداءة الترجمة وسياحية المضمون في أصله اليوناني، هو شاهد على تعسف الأحكام النقدية لدى الحسيني. فالكاتب لم يترجم من الكردية الى العربية، كما توهم (الناقد)، بل ترجم من لغته اليونانية الى التركية، ومن التركية الى العربية. وهو لم يترجم الى الكردية أصلا. فكيف يستشهد به الحسيني على سياحية الترجمات الكردية الى العربية ؟! وكيف يحكم على أصل الكتاب بالرداءة وهو لم يقرأه، لا باليونانية ولا بالتركية ؟
لعل عنوان الكتاب "حديث مع كردي" ومواضيعه المتعلقة بالهم الكردي هي التي أغرت الأستاذ الحسيني فاستدرجته الى هاجس الترجمة من الكردية الى العربية.
2- روايات محمد أوزون الكردية، التي حكم عليها محمد عفيف الحسيني بالسذاجة والوعظية هي الأخرى جار عليها (ناقدنا) بعدم الموضوعية في حكمه النقدي.
محمد أوزون من أشهر الروائيين الأكراد (باللهجة الكرمانجية)، وهو عضو في اتحاد الكتاب السويديين، وعضو في عدد من المنظمات الأدبية الكردية. كتب أوزون نحو سبع روايات باللغة الكردية، اضافة الى مجموعة من المؤلفات باللغات الكردية والسويدية والتركية وبعض رواياته مترجمة الى السويدية،. بعضها الى التركية. كما ترجمت له روايتان الى العربية، وهما:
أ – "ظل العشق"، ترجمة الأستاذ توفيق الحسيني. وهي ترجمة عليها بعض الملاحظات من حيث الدقة والأسلوب. وكان من الممكن أن تكون ملاحظات الحسيني محل نقاش لو أنه اتخذ من ترجمة هذه الرواية نموذجا للترجمات الكردية الى العربية في سورية.
ب- "ليلة من ليالي عفدالي زينكي". ترجمة الأستاذ محمد نور الحسيني. وهي ترجمة لا غبار عليها لغة وأسلوبا.
وعلى الرغم من أن الأستاذ محمد عفيف الحسيني يتحدث في مقدمته عن الترجمات الكردية الى العربية فإنه لم يتناول هاتين الترجمتين، بل تجاوزهما الى التحدث عن أصل روايات أوزون فوصفتها بالوعظية والسياحية، وهو وصف غير دقيق. فالحسيني لم يطلع على نتاج أوزون الروائي باللغة الكردية، وإطلاعه يقتصر على الروايتين المذكورتين أعلاه، فيما إذا كان قد أطلع عليهما.
3- أما بخصوص الدكتور محمد عبدو النجاري (الذي ترجم دزينة من نوعية هذه الكتب)، فقد اتخذه الحسيني نموذجا للمترجمين الكرد الذين ينشطون في ترجماتهم (الرديئة) الى العربية، وحكم على ترجماته بالرداءة والسياحية، دون أي وجه حق، لا من المنظور النقدي الفني ولا الواقعي الموضوعي.. وذلك لسببين منطقيين.
– أولهما: أن جميع الكتب التي ترجمها الدكتور النجاري (وهي كثيرة فعلا) هي في معظمها مترجمة من الروسية الى العربية، باستثناء كتابين تجرمهما مؤخرا (بعد اقامته في كندا) عن الفرنسية. ولم يترجم كتابا واحدا من الكردية الى العربية، بما في ذلك الكتب ذات المضامين المتعلقة بالشأن الكردي مثل "بائع السلال" و"من الفولكلور الكردي"، فقد ترجمهما من الروسية أيضا. فكيف يعيب الحسيني على الدكتور النجاري ترجماته الكرية الى العربية والرجل لم يترجم أي كتاب من الكردية ؟!
– ثانيهما: ان الكتب التي ترجمها الدكتور النجاري ليست من نوعية تلك الكتب السياحية الرخيصة (كما نعتها الحسيني). إنها كتب مختارة بدراية، وهي لكتاب لهم شهرتهم ومكانتهم الأدبية على المستوى الوطني والمستوى العالمي أيضا، من أمثال "ليف تولستوي، شرف أشريان، ميخائيل بولغانوف، شيفينتكي، وفاسيلي شوكشين..).
واختيار النجاري لكتبه المترجمة هو اختيار أكاديمي، من موقع التخصص في فن الترجمة. فما الذي دفع الحسيني الى اطلاق هذه الأحكام العشوائية ؟! أهو مزاج وموقف ؟! أم أنه قصور ثقافي؟!
بعد مقدمته تلك، ينتقل محمد عفيف الحسيني الى عرض انطباعاته عن "مضيق الفراشات"، ملحمة الشاعر الكردي شيركو بيكه س، وعن ترجمتها العربية، وعما اشتملت عليه من حشد إضافي للطاقات الابداعية في مجالي اللغة والأسلوب الشعريين، مستشهدا بمقاطع مختارة من القصيدة، ذاكرا بعض الأسماء التاريخية لشخصيات وأماكن تركت في نفس الشاعر أثرها العميق، فأتى على ذكرها في قصيدته المطولة، ليعبر من خلال استحضارها عن حجم معاناته بشفافيته الشعرية المعهودة.
يتوقف الحسيني عند ذكر "الجبل" المتكرر في القصيدة، وذكر ما يتعلق به من مفردات حسية، لها شأن معه، معللا ذلك بقوله:
"لكن وفي نفس الوقت يبقى بيكه س وفيا لتقليد شعري كردي أخر وهو استخدام مفردات الجبل وما تحمله من دلالات ريفية: الطير، الشجر، المغارة، الصقر، العاصفة.. الخ ومن بذلك لم يتأثر بحالة المدينية المعاصرة بالرغم عن إقامة الشاعر في استوكهولم. فهو مازال متمسكا بالذاكرة".
في هذا النص المقوس من مقالة الحسيني استوقفتني فكرتان على قدر كبير من الأهمية في منظور الاستقراء الدلالي، وقد استنطقهما الحسيني بشكل سطحي وساذج.
أ- التأويل الدلالي لـ "الجبل" وفهمه في النص الشعري عند "بيكه س" على أنه مجرد مكان جغرافي يدل على الريفية غير محمل بالترميز والاستدلال المكثفين، ولم يتجاوز كونه موقعا وعرا، تسكنه رموز كالطير والشجر والمغارة والعاصفة.
ب- ثبات الحالة "الريفية" في ذاكرة الشاعر، دون أن يستطيع التخلص منها رغم اقامته في أكثر عواصم العالم تمدنا وحضارة (استوكهولم). والشاعر "بيكه س" بتمسكه بتلك الحالة وفي للجبل (الريفي)، وفي لتقليد عند الشعراء الأكراد، الذاكرين "الجبل" في قصائدهم. وهذا الوفاء من الشاعر حال دون ولوجه في الحالة "المدينية".
أولا – للمكان بشكل عام أهمية قصور ني تشكيل بنية النص الشعري، وتحديد أبعاد الصورة الشعرية بالتناظر المتخيل بين المجرد والمحسوس. ومن جهة أخرى، فالمكان يساعد المتلقي على توضيح الرؤية الشعرية المنبعثة في النص، ويضع في يده مفاتيح الاستقراء النفسي والاجتماعي والفني للشاعر، والمكان يقود المتلقي الى استنطاق النص الشعري والفرص في أعماقه ليتلمس في الداخل غير المرئي الأبعاد المختلفة للرموز والدلالات اللفظية باستعمالاتها غير المألوفة، ومراميها المعنوية غير العادية في إطار النسق الذهني العام للنص المستقرأ.
وتختلف الأبعاد الدلالية للأمكنة ني النص الشعري باختلاف مستوياتها (عالي -أفقي – منخفض). وهو اختلاف سيميائي، يوحي به المستوى الى المتلقي، فيجد فيه سبيله الى ولوج المغيب أو المعتم في النسق الابداعي. و" الجبل" هو أعلى المستويات على الأرض، وله أبعد الدلالات وأثرها من بين كل المستويات الأخرى. في شعر "بيكه س " لم يذكر "الجبل" عبثا أو نافلة تكميلية للوحة الجمالية في المشهد الشعري، ولم يأت بهذا التكرار المكثف لمجرد الدلالة الطبيعية على "ريفية" الشاعر وجبليته (كما ذهب الى ذلك الأستاذ الحسيني). الجبل هو أهم المواقع الأساسية في مستويات المكان العام، ودلالاته هي أغنى الدلالات المكانية وأبرزها سموا في تشجرها الفوقي، وأثرها للنص من حيث الشكل والمضمون و"الجبل" في بروزه العلوي يوميء بملامح ودلالات الأمكنة الأخرى، التي تقع في مستوى "التضاد" منه، كالنور والسهل والصحراء. وبذلك يستقري، المتلقي أوجه الدلالات المستنبطة من مستوى المرقم ونقيضه (عمودي –أفقي) وبالتالي (علوي – سفلي).
وقد أدرك شيركو بيكه س ما للجبل من ثراء سيميائي، وما له في حياته الشخصية وحياة قومه الكرد عامة من أثر حيوي تاريخي فشحنه بالطاقة الشعرية على قدر ما يحتمل من رموز ودلالات، وأعطاه أولوية المكان الحيوي في شعره للاستدلال به على ثنائية التلاحم التاريخي بينه وبين الأكراد، فمنذ أن كان الجبل كان الأكراد مزروعين فيه كما الحجر والشجر. وما حديث "بيكه س" عن الجبل وأحزانه إلا حديث عن الكرد وأحزانهم، وعن مسيرة تاريخهم التراجيدي، المقترن بتاريخ الجبل:
"طويلة دموع هذه الجبال
أطول من دجلة والفرات" (ص 30).
وحديث الشاعر عن الأكراد ومآسيهم في حملات الابادة عليهم، هو في الوقت ذاته حديث عن الجبل:
"هاهي الخناجر تهطل مع الريح
ثانية
إنه وابل المشارط
فقد فصد الشريان التاجي لهذا
الجبل العظيم
ويسيل الدم من
مغارة جرح الحجر
هي السكاكين تهطل مع الريح
ثانية
تخطف الريح رأسي
وتتعقب روحي أثره. (ص31).
و"الفوق" في وجه من وجوه الدلالة المكانية، يعني الاقتراب من الأزرق السماوي، الذي هو في الميثولوجيا البشرية مسكن القدرة المبدعة للكون. والجبل "فوق". وهو بهذا الاقتراب السيميائي يكون بالنسبة للمستويات الأخرى "التحت" مركز الابداع "الأعلى".
وفي دلالة "تضاد" المكان يكون "السهل – الصحراء صفحة مستوية، مهيأة لتلقي ما يمليه "الفوق" المبدع وما تمليه أقلامه (أشجار الجبل) من فعاليات ابداعية (شعر). لكن وفي الحالات الاستثنائية، كحالة الأكراد الذين "لا أصدقاء سوى الجبال" (1)، ما الذي يستطيع أن يفعله هذا (المبدع)، عندما يكون محاصرا بالموت.. مسكونا بالجمر..؟!:
"ماذا تفعل عندما يكون الموت
جنديا للدولة وأنت شجر
أقلام في الجبل ؟!
ماذا تفعل عندما يكون
مسرجك جمرا
ومستمعوك بنادق ؟!
كان عليك أن تفعل ما فعلته
تكتب الشعر بألسنة اللهب
وتوقد الجحيم لخوفك
وضمتك." (ص 32).
إن حسروا التلاؤم بين الساكن والمسكون، هي حدود بلا حدود… تتخطى النسق البلاغي بين لوحتي التشبيه التمثيلي، ليصب حنين الشاعر، في سياق الدلالة اللفظية، في جذره الجبلي ندف ثلج وهمسات شعر:
"يصغي الثلج الى الجبل ندفة
ندفة
وقصائدي لحنينك كلمة كلمة"
(ص 14).
ومن المنظور الدلالي ذاته، فإن الحديث عن أي علم (ساكن) جبلي هو حديث عن الجبل ذاته أو عن إحدى مفرداته. وبالمقابل فإن الحديث عن أي معلم جبلي هو حديث عن أناسه الأعلام أيضا.
وفي حديث للشاعر عن روحانية مولانا الشيخ خالد النقشبندي، ذلك النابت في جبال كردستان والثاوي في سفح "قاسيون" يشير الى ذلك الترابط الدلالي:
"إنه بلوط الجبل، على قدميه
يدخل كل يوم
غرفة الجمر والسعير
كلما احترق أكثر
ازدادت قامة وجده.
إنه جبل من الثلج
يسير صوب شمس الحق بنفسه
كلما غرزت قطرات ذوبانه
ازدادت سماء حوض عشقه
فيضا". (ص 24).
"هيبت سلطان"، هو أعلى القمم المنصرفة على "كوي سنجق" وله تاريخ حافل في حياة الأكراد النضالية. "وحاجي قادر كويي"، هو أشمخ القامات الشعرية الجبلية، انشقت عنه صخور "كوي سنجق". وله أيضا تاريخ شعري، نضالي حافل. فأي شموخ هذا الذي عقد بينهما الى حد التوحد، فإذا هو هو ؟! فإن رحل "حاجي" هام "هيبت سلطان".. وبهيامه وجف قلب كردستان واضطرب:
"وذاك هو "حاجي"، الشجرة
وبيدها الناقوس
إنه الناي على شفاه تاريخ
الجبل.." (ص 23)
"منذ أن ارتحلت هذه الغيمة
والجبال تبحث عنها
منذ أن هام "هيبت سلطان" على
وجهه
وكردستان مضطربة، تنتظر
بفارغ الصبر وتقول
متى تعود شمسي هذه ؟!"
(ص 28).
و"الجبل المعبر بدلالته المكانية عن ساكنيه الكرد، هو وهم معا، مطبوعان على حمل "التضا". في الموقف السلوكي لحالتي "الحرب والسلام" المتوافقتين مع دلالة تناقض الموقف الشعوري "رقة القلب وقساوته":
"لو لم يكن ساعد هذا الحجر
مفتولا
وقلبه قاسيا
لكانت العاصفة اقتلعته ألف
مرة
ولو لم يكن قلب هذا الحجر
رقيقا
كيف كان بوسع بذرة تأتي بها
الريح
أن تشق صدره؟!" (ص 28)
في الليلة الممطرة شعرا… تلك التي تحولت فيها روح "بيكه س " الى مضيق تعبره فراشات الذكريات الحمر والخضر.. القادمة أسرابا أسرابا من أفق الشق الليلي.. حاملة على أجنحتها الملونة تفاصيل وطن معمد بالدم. هو "الجبل" يتمثل – من بين ما يتمثل – بكل دلالاته المكانية المميزة، نمرا مخضبا بالدم والعشق، أمام غرفة الشاعر في صنفاه الاسكندنافي:
"أيا جبلي !
أيها المثل القديم الحجري
يا رقبة نمري المخططة بدمي
والمشتعلة بعشقي..
إني وبودي أن أمتزج بجذورك
بتاريخ سفوحك وهضابك"
(ص 37)
وفي مقارنة دلالية بين "الجبل" كموقع مكاني ونقيضه "السهل" يعبر الشاعر عما الى اليه نضال الأكراد الصلب (المرموزين بالجبل) ضد الانجليز، مقارنة بما الى اليه الحال في العراق "السهل" (المرموز بالنخلة) محاولا التفسير:
"كبوات هذا الجبل
لا تعود لجهل الفارس دائما
هل كانت "نخلة سوريا" (2)
المستعارة
أمهر من "الصخرة البطلة" (3)
ليس بوسع هذا الجبل الوحيد،
الخاوي البطن
أن يعدو أكثر من هذا" (ص54).
وبصرخة ألم موجعة يعبر صراحة عن السبب الحقيقي لماضي الأكراد وانكساراتهم، مقاربا حدود التجديف في صرخته:
لكن صرخات الألم الموجعة عند الشاعر، هي انفعالية آنية، لا تبلغ به حد اليأس والاستسلام، فالبرغم من تاريخ الحزن الطويل.. والكوارث المفجعة، التي تعرض لها الجبل وسكانه فهم باقون:
"لم يبق منشار زمان منذ أن وجد
الجبل
إلا ودخل دماء تاريخك.
لم يبق سيف سلطان منذ أن
وجد الجبل
إلا وأدار رأسك المتمرد على
نصله.
مات.. ولم يمت الحجر
مات السيف.. ولم يمت الريح"
(ص 55)
ثانيا: يذهب الاستاذ محمد عفيف الحسيني في تفسيره لظاهرة تكرار ذكر الجبل في شعر "بيكه س" الى الحالة "الريفية" المتجذرة في نفس الشاعر، والتي ظلت ترافقه الى منفاه، دون أن يتمكن من استبدال الحالة "المدينية" بها، عي الرغم من إقامته في "ستوكهولم".
بعد الذي أشرنا اليه من دلالات "الجبل" يعاودنا التساؤل: مم استنبط الحسيني دلالة الجبل "الريفية"؟! وكيف أطلق حكمه الجائر هذا عي الشاعر، وبهذه السذاجة المسطحة وبين يديه مترجمات الشاعر "مرايا صغيرة، مضيق الفراشات، ساعات من قصب"، وكلها توحي بغير هذا الحكم السطحي؟! وهل يجوز، في مبدأ النقد الموضوعي، أن يسقط المرء إفرازات مزاجه الذاتي المتحول، عي الآخرين فيقومهم من منظوره، ويحكم عليهم من خلال تحولاته المتبدلة، حسب الزمان والمكان عي ثوابت الآخرين الاساسية عي أنها عجز عن ولوج بوابات "المدينية" المعاصرة ؟! ومن "ستوكهولم"، التي سلخت جلود الكثيرين ممن التجأوا وألبستهم جلدها المدني، "حوض" تعميد بالضرورة أن يغتسل فيه كل مقيم، ليستبدل بذاكرته "الريفية" الشرقية ذاكرة "أوروبية" معاصرة ؟!
ويبدو أن هذا الطقس التعميدي يغرض على كل من مارسه مظاهر سلوكية تؤكد على (غسل الدم والدماغ) الخافيين تحت الجلد، وفي مقدمتها إطلاق الشعر واللحى والشوارب، حتى تعود مختلطة كجز (شعر) أو صوف تتهدل على الكتفين والصدر، تيمما بعظماء أوربا وعباقرتها في القرون الوسطى. وبدون هذا المظهر المواكب لطقس "التعميد" تبقى الحالة "المدينية" المعاصرة بعيدة المنال.
وشيركو بيكه س لم يطلق شعره أكثر مما كان عليه في "جبليته"، ولم يطلق لحيته أيضا..وما زال "الجبل" يوميء له من نافذة غربته.. ويصرخ في دمه المتوهج، المتمرد:
"أنت عرف حصان الجبال"
لهذا ولغيره أيضا، يبقى "بيكه س" منغلقا على ذاكرته "الريفية"، دون التحول الى الحالة المدينية بالرغم من اقامته في ستوكهولم التعميد!
لكن رأي "بيكه س" في الثابت والمتحول هو على عكس رأي الحسيني، الحياة عنده موقف، وبعض الثوابت في المواقف مقدسات:
"لن يكون الجبل جبلا
إن أقنعه لون
أو أسكنته عاصفة" (ص 36).
في ختام مقالته يرى الحسيني أن مطولة "بيكه س"،"مضيق الفراشات" قد فترت في نهايتها وفقدت بعض شاعريتها في استطراد النص المفتوح أو نثرية الترجمة المرسلة كيفما اتفق، معللا ذلك بطول النص الذي لا يحتمل المحافظة على الوتيرة ذاتها، سواء في الاستطراد الشعري أو مواكبة الترجمة. ويتحدث عن لغة المترجم بقوله إنها "سليمة تماما، ولكن جافة وصارمة، لا تحمل إلا القليل من نداوة الشعر ورهافة الألم".
ترجمة النص الكردي للقصيدة الي العربية للأستاذ آزاد البرزنجي. وهي – في نظري – ترجمة موفقة الى حد بعيد، ولغته شاعرية تلائم أجواء القصيدة الى درجة يلتبس معها الأمر على القاريء أحيانا، بين الأصل بالعربية والترجمة اليها.
أما الحديث عن الشاعر والقصيدة فسأتركه للشاعر العراقي كاظم السماوي، الذي قدم لهما بشاعريته المرهفة وأسلوبه الشفيف:
"في منفاه استوكهولم تنهال ذكرياته، ويتراءى له وطنه في اغترابه… أصداء، وصور المأساة الكردية، وفصولها الكابية الدموية، ورموزها شعراء وشهداء".
"قصيدته – ملحمته – مضيق الفراشات – تحلق عاليا لمعان ضوء ساطع وراء غيوم كردستان، هي في العراء.. وهو الآن أيضا في العراء، الواقف بين الوعي واللاوعي وقطباه الانسان.. وإصراره على منح الوجود – رغم العراء – للانسان وكردستان وهو يقرع الصمت، ويلج الطوفان والعيون العمياء، ويبارك مقبض الفأس ليهدم وليبني كل ما هو عنيف وباهر".
الهوامش:
1- (لا أصدقاء سوى الجبال): عنوان كتاب في الشأن الكردي، ألفه كل من هارفي موريس، وجون بلوج، ترجمه الى العربية روز الى محمد.
2- "نخلة سوريا": إشارة الى الملك فيصل الأولى، الذي جلبه الانجليز من سوريا ونصبوه ملكا على العراق.
3- "الصخرة البطلة": اشارة الى الصخرة التي احتقر بها الشيخ محمود الحفيد في احدى معاركه ضد الانجليز حيث جرح الشيخ خلفها، فسميت بالصخرة البطلة منذ ذلك الحين.
دحام الفتاح (كاتب من سوريا)