هدوء ثقافي متثاقل ،ورغبة أليفة للخروج من إرث مرحلة سابقة ، خلخلت اليقين الثقافي ، ودفعت بالعادة الثقافية إلى التكرار وعدم الثقة والركون الى القائم مع محاولات للخروج الى حيوية مفترضة ومرغوبة.
كل شي ء في صنعاء يجاز طموحها الثقافي ، ويجعل منه حالة عائمة ، هي بين الترقب والانطلاق ، وقت من ارتباك ودهشة ، سيجعل صنعاء بظلال مدينة خارجة من حال حرب طارئة على يقينها الثقافي، حرب لم تخلخل ، فحسب ، القيم الثقافية من حيث هي فائض على وجدان الإنسان اليمني الباحث عن قيمه الجديدة في إطار تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية مضطربة ،بل حطمت الثقة بدور الثقافة والإبداع ، في هيكلية لم تستثر دوافع الثقافة في البحث عن ثوابت اجتماعية ، دخلت بالضرورة في إطار تقلبات اقتصادية اضطرارية ، صارت تقود الى خلل في الوجدان الاجتماعي والسلوك.
لقد مر على صنعاء وقت كانت فيه محطة رئيسية للمثقفين والمبدعين العرب. إذ أسهمت جامعتها من خلال نشاطاتها وبرامجها الثقافية ودأب مديرها الأديب العربي المعروف د.عبدالعزيز المقالح ، في لم شمل أصحاب الشأن الثقافي العربي، حول هذا الموضوع أو ذاك ، أو هذه القضية أو تلك من قضايانا الثقافية العربية ، ولا أظن أن مثقفا عربيا أو مبدعا لم يجد في هذه العاصمة العربية وقتا للقاء الثقافي من خلال ندوة أو مؤتمر أو جامعة صنعاء أو فروعها ففي صنعاء لأ سواها، كان المؤتمر الثقافي المساند للثورة الفلسطينية. ولقاء الثقافة العربية – الفرنسية وأسبوع الثقافة العربية – الأسبانية ، وأسبوع الثقافة العربية الألمانية ، وأسبوع راهبو الذي حضره رئيس الوزراء الفرنسي ووزير ثقا فتها، وكل هذه النشاطات كانت تساهم في ترسيخ علاقات ثقافية جدية من حيث هي تنظيم لمجهودات فكرية وثقافية ، تجد طريقها ال الناس من خلال نشرها في كتب أو مجلات.. الخ. وكان مفترضا لهذه المجهودات أو تستمر، من خلال أسبوع الثقافة العربية – اليابانية ،لولا الحرب -الكارثة ، وآثارها التي ما زالت تعاني منها الهيكليات الاجتماعية بكل أشكالها ووظائفها وحياتها اليومية.
أما الآن ونتيجة للظروف المعروفة ، فان الثقافة مثلها مثل الحياة العامة، تسير على هدى اضطرابها، وتحاول استعادة دورها المرتبط بامكانات لم تعد متاحة ، في ظرف يحتاج فيه هذا البلد الخير الى مساندة مادية ومعنوية كمثال يليق بحالة الخروج من نمطه القديم ، الى أفق جديد في العلاقات الاجتماعية والسياسية.
ان بلدا شعريا – أو شاعرا إذا جاز التعبير – يظل قول الشعر فيه من عادته اليومية ، يمكن أن يستثمر فيه فن القول الشعري استثمارا يدفع المنجز الشعري الى صدارة وسائل التعبير، ويعطي دليلا على تغلغل الشعر في الحياة العربية ، ويؤثر في نمه التفكير، ويسعى الى رفع الحس الإنساني بالفن والحياة الى سوية موازية لطموح العقيدة والشعر. وعلى الرغم من الحالة التي وصفناها بـ" الهدوء الثقافي " ويصفها غيرنا "بالتكاسل " تظل هناك ظواهر ترفع عن الحالة الثقافية الكثير من الصفات 0 المتشائمة منها : استمرار صدور مجلة " أصوات " مجلة الجديد والأجد في الإبداع ، والتي يشرف عليها الدكتور عبدالعزيز المقالح ، ويرأس تحريرها القاص خالد عبدالله الرويشان ، ونشاطات اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين ، وظواهر أخرى كمسرح المقيل ، ومقيل الدكتور عبدالعزيز المقالح ،ومقيل الاتحاد، وبعض الاصدارات.
ما زال مقيل د. عبد العزيز المقالح – مجلسه الأسبوعي في مركز.التحول والدراسات اليمنية – يضرب حجرا في ماء هاديء، في محاولته لتجسير الوقت – وهو عادة اضطرارية في حالة كالمقيل – لصالح مناقشة أمور ثقافية عامة وأقل عمومية ، والاستفادة من وقت المقيل ، وتحويله ، قدر المستطاع ، الى زمن مفيد، من خلال طرح بعض القضايا، ذات الصلة المباشرة ، بواقع الحال العربي، سياسيا وثقافيا، فقد ناقش المقيل في الفترة الأخيرة أوضاع الشعر العربي، من خلال قراءات ومتابعات ، مثلما ناقش علاقة المبدع بالمؤسسة وبالهيكلية الإدارية ، من خلال قضية أدونيس واتحاد الكتاب العرب ، وقضية الجواهري والبياتي وقضية مشاركتهما "بالجنادرية " وردود الأفعال على ذلك ، وقضية التطبيع الثقافي وغيرها وقد شكاد. عبدالعزيز المقالح من أن يأسا ينتابه ، في كل مرة يحاول جاهدا، مع من حوله ، لتحريك الحياة الثقافية في اليمن ،فلا تجد المبادرات إلا صدى ضعيفا عند المبدعين أنفسهم وإهمالا من دعاة الثقافة ذاتهم. والحقيقة ان مجلة مميزة وضرورية "كأصوات " كان يفترض أن تكون محورا تنشيطيا للنص الجديد وقضاياه ، من خلال شعارها الطموح والمتفرد "مجلة للجديد والأجد في الإبداع "، فهي، على الرغم من الصعوبات التي تواجهها كمشروع فردي، مؤهلة لأن تكون مشروعا ابداعيا يوصل ويؤرخ وينشه الواقع الثقافي من خلال تنظيم المساهمات في إطارها لتكون منبرا عربيا يصدر في موقع "للضاد" له خصف ميته. والحقيقة ان "المقيل "هو الذي أوجد، أيضا ظاهرة كان يمكن أن تقوم بدور مميز في الحياة المسرحية ، وتنشيء علاقة كانت مفقودة بين المسرح كعرض ، وجمهوره المفترض. ان ظاهرة "مسرح المقيل " خطوة مهمة نحو عروض تتلاءم نصا وأسلوب عرض وزمنا، مع خصوصية المقيل الجغرافية والنفسية ولكن هذه التجربة التي اتسعت في بداياتها ارتبكت وتوارت قليلا تحت ضغط تنافس لا ينسجم مع طبيعتها، بين العاملين في إطارها~ حول ريادة هذا النمط من المواجهة المسرحية ، وقد جرى حوار قاده المقالح نفسه ، وساهم فيه أدباه عرب ومسرحيون ، عل صفحات الدوريات ،حول طبيعة "مسرح المقيل " وضرورته ، وحول النتائج المرجوة منه ، وفائدة أن يأتي المسرح الى الناس ، لا أن يذهب الناس الى المسرح ، ورغم الإرتباكات التي تسببها البدايات عادة ! فقد ساهمت ظاهرة "مسرح المقيل " في ظهور بعض التجارب المميزة ، فقد قدم المخرج المسرحي الفلسطيني حسين الأسمر – مقيم في صنعاء منذ عشرين عاما – عملا مسرحيا عن حرية الشاعر في الوطن العربي راعى عند تقديمها طبيعة المكان ، والوقت والجمهور كما قدم أحد المسرحيين العراقيين الشباب تجربة قائمة على توليف نصوص شعرية لشعراء معروفين.. وبوصول أحد رجال الثقافة الوزير يحيى حسين العريشي ، الى كرسي وزارة الثقافة يأمل المسرحيون وسواهم بتنظيم الحياة المسرحية وتنشيط مفاصلها.. فقد تأسست ولأول مرة في اليمن "نقابة الفنانين المسرحيين ". وقام مثقفون ومسرحيون عرب من العراق ، فلسطين ، سورية ، السودان بتأسيس "جماعة المسرح العربي" التي تتخذ من صنعاء موقعا لها وتطمح لعروض عربية الشكل والغاية ، وعلى كثرة التجمعات المسرحية الخامسة والتجارية ونشاط المسرح المدرسي ، وعروض الفرق الخاصة ، يبدو أن المسرحيين ما زالوا يطمحون لتدشين مرحلة جديدة في حياتهم المسرحية والعمل على هديها.
أما اتحاد الكتاب والأدباء المشغول بمشاكله المستعصية قضية مقراته في عدن ، وأوضاعه المالية الصعبة ، كما يقول مسؤولوه ، فمازال يصدر مجلاته "الحكمة " مجلة فرع عدن ، و" المعرفة " مجلة فرع تعز، بآلية تقوم على المادة القادمة ، دون تكليف ، وفي ظروف مادية صعبة ، كالتي تعاني منها مجلة "المعرفة " التي تصدر بجهود شخصين يديرانها ويسعيان لتظل حية واللافت أن فرع صنعاء يحاول بعد مرور عام على الكارثة الوطنية. تنشيط فعالياته الثقافية ، إذ أحيا "مقيلة " الأسبوعي، ببرنامج ثقافي سعى واضعوه الى أن يكون منوعا وشاملا. ففي إطار اللقاءات المفتوحة كان الأبرز فيها لقاء الشاعر عبدالله البراوني مع جمهور في إطار مداخلته المعنونة "الثقافة بين سؤالين " واللقاء مع القاص والمسرحي شاكر جفناك ،مدرس مادة الجغرافيا في جامعة صنعاء،حول تجربته وذكرياته الأدبية ومواقفه ، وف إطار النقد، تنوعت أبعاد النص النقدي وتوجهاته في مسارات متعددة ، قدم الناقد العراقي عبدالرضا علي محاضرة عن الأسطورة وتأثيرها في تجارب الرواد وخصوصا السياب ، وقدم إبراهيم الجرادي موقفا نقديا استهدف مجموعة أحمد ضيف الله العواضي " ان بي رغبة للبكاء " الصادرة ربيع 1994 عن اتحاد الأدباء والكتاب العرب بعمان. وقدم الشاعر العراقي فضل خلف جبر قراءة للمجموعة نفسها، أما الشاعر والناقد السوري بيان الصفدي، رئيس القسم الثقافي بصحيفة "الثوري" فقد قدم قراءة نقدية في أربع تجارب شعرية ، لأربعة شعراء شباب مميزين هم محمد الشيباني،مختار الربعي، هزاع مقبل ، وعلي الشاهري، وفي أساسي المقيل الشعرية كانت هناك قراءات للعراقي علي جعفر العلاف والسوري ابراهيم الجرادي، المدرسين في جامعة صنعاء، ولليمنيين محمد الشرفي وأحمد عبدالله الشرفي ، رذ أمسية للقمة شديدة التنوع والتجريب كان لقاء مع محمد مثنى وأحمد غالب الجرموزي والعراقي جمال كريم ، أعقبه نقاش تميز بعمقه وحدته. ومن الظواهر الطيبة إقامة معرض عن اليمن للفنان الهولندي الدبلوماسي دانيل فان در مولن حمل عنوانا يشير الى مهمة صاحبه ،"بلوماسي هولندي يعيد اكتشاف بلاد العرب " واشتمل المعرض على أربعة أجنحة تضم صورا تاريخية عن اليمن ، كان قد صورها الفنان الدبلوماسي في الثلاثينات والأربعينات في هذا القرن ، عندما زار اليمن مع الجغرافي الألماني فيرمان فوت فيسمان في رحلتهما عبر منطقة حضر موت ووادي حضر موت وعدن في عام 1931و1939، وفي جولتهما في صنعاء عام 1942، والمعرض شهادة بصرية واستقراء لحياة المجتمع وعاداته في الملبس والحركة والتعامل وغير ذلك ،وقد جاء تنظيم هذا المعرض في إطار التعاون والتنسيق بين المتحف الوطني اليمني والمتحف الاقليمي في امستردام.
أما على صعيد الاصدارات ، فان كتابين قد استحوذا على الاهتمام ،أولهما كان حبيس الأدراج لمدة طويلة ، ثم افرج عنه هذا العام ، وهو الكتاب الصادر عن " مركز الدراسات والبحوث اليمني" بعنوان "ثلاث وثائق عربية عن ثورة 1948" وقد كتبها ثلاثة من العرب – كما تشير المقدمة التي كتبها الأستاذ أحمد حسين المروني – أحدهم من الجزائر والآخران من مصر، وقد شارك اثنان منهم في أحدث سنة 1948، أحدهما الأستاذ المرحوم الفضيل الورتلاني والآخر الدكتور مصطفى الشكعة أحد أعضاء بعثة التعليمية المصرية الى اليمن آنذاك ، وكان الأخيران ينتميان الى حركة الاخوان المسلمين بينما الثالث وهو الدكتور راشد البراوي كان ينتمي الى الحركة الاشتراكية ، والكتاب في فصوله الثلاثة " مغامرات مصري في مجاهل اليمن " للدكتور مصطفى شكعة و "الانقلاب الأخير في اليمن " لراشد البراري و "تقرير عن ليمن " للفضيل الورتلاني، توصيف شهود للحالة السياسية الاجتماعية والاقتصادية ليمن ذات الوقت ولأساليب الحياة لمحتشدة بما يدهش ويثير في إطار حقائق وطرائف وغرابة سجلها ناس من خلال المشاهدة الحية ، والتواصل مع بيئة كانت معزولة عن محيطها بفعل عوامل كثيرة كما تذكر فصول الكتاب.
أما الكتاب الثاني فهو مجموعة شعرية للشاعر الشاب أحمد ضيف الله العواضي، صدر عن الاتحاد العام للكتاب العرب بعمان ، قد استقبل بمحبة واضحة ،وأقيمت لمناقشته الندوات ،وكتبت عنه لمقالات ،الشي ء الذي أشار الى أهمية الشعر الأصيل ،الذي لا يبتعد من الناس وقضاياهم والذي يتحدث بلفة لا تتعالى على القاريء.لا تسرف في تجريب يتناقض مع الحالة الاجتماعية للناس ، شرائحهم المتعددة.
إن مجموعة العواضي في مسلكيتها اللغوية وفي أطرها ومضامينها،التي لا تستسلم للأعراف الشعرية القائمة كليا، ولا نبتعد عنها كليا، لتبني جسرا من الاستجابات المشروعة مع الآخر،.تمر مرورا شفافا على الوجدان ، فترسم ظل علاقة ودودة جارحة حزينة ، إنه شعر ينتمي للمياة فعلا:
أيما تسقط الآن رائحة الجند
كي فستعيد الطفولة
كي يخرج الآن في زبد الحزن
صوت القصيدة
كي نعرف الآن معنى النجوم البعيدة
وتظل الثقافة تبحث عن يقينها والابداع عن مساراته التي تنفر من العادة والتكرار، وفي صنعاء وعدن ومدن اليمن الأخرى حالة من رفض الركون الى القائم ، تجلت قبل الحرب بأنماط وتعبيرات مكتظة ومشحونة بقلق وتوتر مشروعين ، كالقصائد المشتركة والبيانات الإبداعية ، التي تشير الى رغبات في ركب موجة الحداثة ، والابتداء في نهايات سابقة لهذه البدايات الجامحة بالخيال ، واللغة النافرة ، ورفض القائم الثقافي الاجتماعي، بما يوازي منحة الإبداع الخاصة في مركب العموميات الهائم في يم الأحلام الكبيرة.
ابراهيم الجرادي (كاتب واستاذ جامعي سوري)