كنا ثلاثة، أنا وطارق وبدر نجلس في الحانة على ذات الطاولة، التي سبق وجلس عليها سيف ومحمد وعبدالله وخالد ومحمود وسالم وحمد وسعود وفيصل، فيصل لم يدخل هذا المكان من قبل، وكنا نلتقي في مقهى صفير شاحب الضوء، يحتسي فيه باستمرار فنجانين من القهوة، يغمض عينيه ويزم شفتيه بعد الرشفة الأولى، ويعلق ذات التعليق "قهوة أمريكية مرة".
اقول كنا ثلاثة، أنا أشرب مياها غازية، وطارق علبة البيرة الأولى، وبدر يدخن سيجارته بشرود، لم تكن هناك رغبة في الحديث، بدا كل شيء راكدا، ابتسامة النادلة البلغارية، صحون الفول السوداني، الوجوه المعلقة في فراغ المكان، وحتى ألوان الزجاجات على الرفوف الخلفية، بدت باهتة ولا علاقة بينها وبين الرف والساقي.
ربما كنا ننتظر شخصا ينقذنا من كسل الحوار الميت، شخصا يثير قضية، أي قضية حتى لو كنا تداولناها من قبل وقلبناها ساخنة بين أيدينا وخضنا فيها حتى يبست، القضية هنا غير مهمة، المهم الحديث، الخيوط التي تقودك عبر تعرجاتها لاكتشاف جانب آخر ربما لم يكن خفيا، ثم ذلك التسلل الى ساحة نقاش أخرى وقضية مختلفة، ثم نختلف، نعم مهم أن نختلف، وكما يقول فيصل المليء بمرارة فناجين القهوة إن الخلاف وحده وربما الصراع هو غاية أي نقاش وهو في ذات الوقت وسيلته، ويا حبذا لو علا صوت اثنين في نقاش محتد، عندها ستبدأ الليلة في خلع سترها.
ووصل رابعنا، شد الكرسي في قبالتي وجلس، كعادته لم يلق التحية، بل اكتفى بابتسامة فارغة من عينيه الضيقتين، وهز رأسه للنادلة وطلب كأسا من الفودكا، ثم التفت الى طارق وعبر عن ازدرائه لصنف البيرة التي يشربها ووصفها بأنها "بيرة سواقي التكاسي".
كان يعرف أن تعليقا كهذا سيثير نقاشا من نوع:
– وما العيب في سواقي التكاسي؟
– سواقو التكاسي هم أيضا من مستحقي المتعة المرخصة.
– الفودكا الروسية هي الشراب الحقيقي، أما البيرة وخلافه فهي شغل حريم.
– حريم وأنت من أول قوطيين تبول تحتك؟!!
– ثم أن سواقي التكاسي أشرف من روسيا مالك، يكدون طوال النهار ويشربون بعرقهم طوال الليل، وما ينتظرون مساعدات، ويمسحون أحذية الامريكان.
– لكن بدر الذي لم يطلب شرابه بعد، والفارق في دخان سيجارته، يصفر بشفتيه لحنا حزينا، فينصت الجميع، ثم يبدأ في الغناء، ويردد بعض الشباب وراءه بعضي المقاطع، ويشتمه البعض، وقد تطفر الدموع من أعين معلقة في وجوه ثملة، أو يجهش في البكاء من بدأ شرابه مبكرا تلك الليلة، وعندما يتوقف بدر عن الغناء، يسكن البار للحظة ثم يبدأ صخب الحديث، هنا رأيت فيصل وقد سكب فنجان القهوة الثاني على جريدته المفروشة على طاولته في أقصى المقهى الشاحب، وبدأ هو أيضا في النشيج.
أما رفيقنا الرابع الذي لا يحب غناء بدر ولا حزنه، وبالتأكيد لا يحب البيرة، فانه أول من يبدأ في الحديث عن قضية ساخنة جديدة تأخذ منحى جديا يختلط هزلا ويسير الى حيث يجب أن ينتهي.
أقول صرنا أربعة وبدر لم يطلب أي شراب لكنه التهم دخان باكية كامل من السجائر، وطارق أجهز على خمس زجاجات بيرة كاملة، وأنا لم أشرب الا زجاجة المياه الغازية، وكنت مترددا بين بيرة سواقي التكاسي والفودكا الروسية، ورابعنا الذي اكتفى بالفودكا كان نجم الليلة، راقصا من الدرجة الاولي، انتقل ما بين ثلاثة مواضع، منزلقا بين الطاولات الصغيرة وصحون الفول السوداني، متخطيا أجساد الآخرين وآراءهم، كان الضوء والصورة، كان العازف والمنصت، كان هو الجسد والفراغ، وربما لم يكن شيئا من هذا، إلا أني لمحت عيني فيصل تفيضان بالقهوة التي انسكبت عبر شفرات الطاولة ولونت أرضية المقهى بالسواد.
نعم كنا ثلاثة ولم تكن سهرة سيئة، ولكني تمنيت وأنا أرى الرابع يهوي في آخر الليل في حضن النادلة التي طلبت منا توصيله الى بيته، تمنيت حقا لو بقينا نحن الثلاثة يقتسمنا حديث راكد.
بشرى خلفان (قاصة من سلطنة عمان)