ماريا كُوڤارو* -شاعرة وموسيقية قبرصية
ترجمة: عمر الشيخ-كاتب سوري
لا رجعة فيه
كان الجو ثقيلًا
قليلًا
هذا الغسق الذي مثل كلابٍ مسعورةٍ
ينبحون
بكلامٍ سريّ.
بدا كقناعٍ رصاصيّ،
ليلٌ لا يطاق،
أقدامٌ متردّدةٌ
انسحبت بحثًا عن الفجرِ.
مع أوّلِ ضوءٍ
جاءتْ الأخبارُ،
في مكانٍ ما على ضفةٍ أخرى
يدفعُ النهرُ
جسدًا ما.
أخطاءٌ ثقيلةٌ،
أضعفُ من أن تنجو من القاعِ…
الجوُّ ثقيلٌ.
الظلامُ كثيفٌ،
لن تسمعَ أحدًا يقولُ لها:
“ثمّة خطرٌ في الخارجِ،
وأنتِ ضروريّةٌ للغايةِ،
انتبهي
لا تخسري نفسَكِ”.
بحثًا عن الضوء
رفعتَ عرضَكَ في مزادٍ علنيّ
للآمالِ الكاذبةِ مُجدّدًا،
وحين انتهى البيعُ،
كانتْ تنتظرُكَ
على الحسابِ
سحّارةٌ خاويةٌ.
قلتُ لكَ: “لن يُضايقَ ذلك”
لكن كلانا على حدٍّ سواء
يعرفُ جيّدًا كم كان ذلك يُضايق.
كنتُ أقودُكَ باتّجاهِ النجاةِ…
مشيْنا برؤوسٍ مطأطئةٍ إلى زواريبَ مشبوهةٍ
وقلتُ لكَ: “على الأقلِّ نعيشُ بشكلٍ آخرَ…
تعالَ، نحاولُ مرّةً أخرى،
مرّةً سنجدُ فيها الضوء”.
نظرتَ إليَّ بتردّدٍ، متسائلًا: “سأكونُ بخيرٍ؟”
“ستكونُ بخيرٍ،
وكلُّ شيءٍ مرتّبٌ”
لكنّ لا وجودَ للترتيبِ في أيِّ مكانٍ،
وكلانا على حدٍّ سواء،
كنّا نعرفُ ذلك.
مرّتِ السّاعاتُ
وهكذا مرّتِ الأيّامُ،
مرّتِ الشهورُ
مرّتِ السّنينُ.
كنتُ قد غادرتُ،
وأنتَ تركضُ من مزادٍ إلى آخرَ
وقد هرمتَ.
ما زلتَ تُفتّشُ لتشتري أملًا
الأملُ الذي كان لديكَ منذورًا
وما زلتَ تمضي من حسابٍ إلى آخرَ
مع سحّارةٍ خاويةٍ
تركضُ باتّجاهِ المخرَجِ
بحثًا عن الضوءِ.
لكن لا تبحثْ عنه؛
في الضوءِ ستلمعُ الحقيقةُ
وحدَها
القسوةُ وحشٌ قديمٌ،
إنّها أولى ميزاتِ الإنسانيّةِ.
أغسطس
الجدرانُ التي حدّدتْ
تلك الأزقةَ الضّيقةَ
لن يخونَ الأسرارَ فيها أحدٌ
سوف تجلبُها قربَ السعادةِ
تمنحُها فقط دموعًا
تقطّرُ من آلافِ النفوسِ
التي وجدتْ وهي تنقّبُ عنها.
مع العيونِ المُسمّرةِ
عند الزاويةِ التاليةِ
تتقدّمُ دون أيِّ أملٍ
فقط باستثناءِ فكرةٍ؛
يا لقربِ ما ستعرضُهُ
ضبعةٌ أخرى
سوف تسدُّ لها الطريقَ
مرّةً أخرى
لكنّها لا تخافُ،
ولا يشعرُ بالخوفِ
كلُّ من ليس لديه شيءٌ مهمٌّ ليخسرَهُ.
إنّما فقط لديها أفكارها تأكلُها.
يا للتحمّلِ! ليس أمامها سواها، تصارعُها
وهذا الوقت في العِراكِ
سوف تخسرُه
سوف تحتفظُ بها بعيدًا كثيرًا
عن مكانِها الأخيرِ
قُبيل النهايةِ.
الأصواتُ معروفةٌ
في ذاك المكانِ المجهولِ،
في مقياسِ
زمجرةِ البحرِ الغاضبةِ
التي تصارعُ مع الأمواجِ
رافضةً
البحّارةَ المزيفين،
ونهبهَم المُفسدَ
ينتهكُ كلّ قطرةٍ حرّةٍ
ويتركُها شائنةً.
حريّة..
ذاكرة جميلة
الريحُ وحدها ستبقى دائمًا تُذكّرُها،
عندما تَجلدُ بأغصانِ الأشجارِ الجّافةِ،
تلك الأوراقَ
التي لم تبقَ فوقها
للحفيفِ
لتذكرَها
والمطرُ؟
أصبح وحلًا حقًا
قبل أن يتكئَ على الأرضِ
الزاويةُ التاليةُ لم تكن تخفي ضبعاتٍ أخرياتٍ
حتّى أولئك لم يتحمّلنْ،
بينما هي تبدو متجمدةً كثيرًا
وكيف لأوّلِ مرّةٍ تنامُ الثعابينُ
علاوةً على ذلك؛ جاثمةً معًا، لم لا؟
ماذا لديها، أتساءلُ إذا كانتِ الثعابينُ عندها ما تتشاركُه
فيما بينها؟
فقط بعض من الطيورِ المفترسةِ أبعد قليلًا
يتصارعون ليأكلَ بعضُهم البعضَ
ليس من جوعٍ
ولا من كرهٍ
لكن من حاجةٍ
أن يختموا اليومَ
مع مأساةٍ لا يمكن تصوّرَها
كذاك اليومِ
الذي كان فيه أولادُ الحارةِ
يغصبُ بعضُهم البعضَ دون نهايةٍ
ولكن أحدًا لم يكن مهتمًا حقًّا
لمثل هكذا أفعالٍ
طبيعتُها مقيتةٌ
لم يهتمّوا البتّةَ
مثل ما مرّتْ قربَهم عابرةٌ
لم تتوقّفْ
ليس بسببِ اللامبالاةِ
ولا حتّى من الجُبنِ
لكن من حاجةٍ وحيدةٍ
هي أن تهربَ من البردِ
الذي استرسلَ بلا رحمةٍ
الطريقُ المجمّدُ في القدمين
إلى ما تبقّى في جسدِها.
طريقٌ طويلٌ
وهي دون حكمةِ “إيثاكي”
في العامِ الماضي هُرستْ
بركامٍ خرافيٍّ من خياناتٍ بلا نهايةٍ
منذ أن أهدتْ الثّقةَ لهؤلاء.
وُجِدوا وهم يمزّقون
ما تبقى
من آخر الأملِ
ثمّ افترسوا كلَّ حقيقةٍ في روحِها.
أيّة حكمةٍ في “إيثاكي”؟
نُهبَ حقُّها
وبقيتْ كوخًا صحراويًّا
حيث حديقتُهُ هناك
قد امتلأتْ بأغصانٍ جافّةٍ
قصَّها البردُ من الأشجارِ.
منذ ذلك الحين امتضتْ كذباتٍ عديدةً
وعادَ المفتاحُ
ثم فتحتْ بابَها
دخلتْ وكانتْ تنظُرُ إلى مكانِها
كأنّها سوف تجدُ أحدًا ما
تشاركُه،
ولكن من سيكون هناك؟
فقط أثاثُ البيتِ
شيءٌ جوهريٌّ؛
امتيازان أو ثلاثةٌ
من القلاعِ التي اختُطِفتْ.
أشعلتْ الأضواءَ، أغلقتْ البابَ
– حاميةٌ رخيصةٌ ضدّ البرد-
ها قد أغلقتْ البابَ بإحكامٍ، أطفأتْ الأضواءَ
لا شيءَ أكثر تنوي معرفتَه.
لأنّ شهرَ أغسطس هذا كان موجعًا
يفوقُ كلَّ قدرتِها على التحمّلِ.
على منصّةِ المحكمةِ
بدأتُ مرّةً أخرى أُجنُّ
من تلك الأفكارِ التي أفعلُها
بدأتُ مرّةً أخرى أشكُّ
أنني سأموتُ باكرًا
بدأتُ مرّةً أخرى أعُدُّ
اللّحظاتِ التي تمرُّ
وأطاردُ الظلالَ
التي تعودُ من بيتي.
أريدُ أن أبكي
أفكّرُ أن أغادرَ مع قناعي
من دوامةِ عقلي
وأتلو صلاتي.
إذا كانتْ أفكاري مريضةً
عندئذٍ حاكموني
أو فقط على منصّةِ المحكمةِ
اتركوني مع الأشباحِ لتسكنَني.
غياب
يدخلُ الزمنُ
يخرجُ الزمنُ
وأنا لم أزلْ
أنتظرُ أنْ تظهرَ.
ومن كلِّ الكلماتِ
القادمةِ منك
لم أسمعْ أبدًا
غيابُك
بقيَ الأقوى.
الهوامش
* شاعرة وموسيقيّة قبرصيّة. اسمها باليونانيّة (Μαρία Κούβαρου)، وُلدت في «لارنكا»، درست الموسيقى في جامعة «الأيونيّة» في اليونان، أكملت الدراسات العليا وحصلت على الماجستير عن طريق البحث في «جماليات الموسيقى» من خلال جامعات قبرص واليونان والمملكة المتحدة. تكتب مقالات أكاديميّة في الأبحاث الموسيقيّة، وهي مؤديّة صوتيّة وعازفة بيانو وكاتبة أغانٍ. نشرت ثلاث مجموعاتٍ شعريّة باللغة اليونانيّة وهي: «ولادة السّاقطة» 2017، «أسفار الرّكود» 2018، و»33&3» 2023. صدرت لها رواية قصيرة بعنوان «قتال الظلّ» 2019.
تنشر «ماريا» قصائدها وأبحاثها الثقافيّة في عدد من المجلات والمواقع الإلكترونية القبرصيّة، واليونانيّة.