هذه بعض النظرات المتنوعة في عالم الرواية المصرية العربية المعاصرة، كتبها شاعر لا هو روائي ولا هو ناقد رواية. ولهذا فإن هذه النظرات تتسم بطابع الآراء الأدبية أكثر من اتسامها بطابع النقد التطبيقي المحترف. كما أنها تمزج بين التقييم الأدبي والانطباع الذاتي، وبين التعرض للأديب والتعرض لأدبه، وبين التداخل الشخصي الابداعي لكاتبها مع موضوعاتها أو صانعيها المبدعين.
ولأنها رؤى شاعر، فسوف تتضح من خلالها صلة الرحم العميقة بين الشعر والرواية، وسيتجلى فيها نبذ تفضيل نوع أدبي عن نوع أدبي، تحت مزاعم من نوع أننا نعيش زمن الرواية، أو غير ذلك من انحياز وتحزب.
السطور القادمة، إذن، هي رسالة محبة، من الشعر الى الرواية.
-1-
شاعر القصة القصيرة
عندما كانت الستينات المصرية تقرب من انتصافها، كان رعيل أدبي طويل، في سائر فروع الأدب من قصة وشعر ومسرح ورواية، قد طفق يتشكل – على أرض الواقع الأدبي والاجتماعي – بملامح حادة ووضوح مبين.
كانت اللحظة السياسية – آنذاك – تشهد الابرام النهائي لتلك "المصالحة التاريخية"، التي كانت حروفها الأولى قد وقعت فعليا خلف أسرار الواحات وأبي زعبل، بين معظم – ولا نقول: كل -قادة الفكر الجذري الاجتماعي وبين النظام الوطني، تلك المصالحة التي فتحت بوابة عريضة لاندياح الماهية الجذرية لفصائل ذلك الفكر الاجتماعي وذوبانها في الدولة.
ومن ثم، فإن صعود ذلك الرعيل الأدبي الستيني، كان يؤسس وجوده التاريخي على دعامتين جوهريتين، تكمل احداهما الأخرى، في جدل السياسي والأدبي
أولاهما: رفض ذلك الاندياح والتخالط، المذوب للحدود الفكرية بين ماهية القائم الراهن وماهية المقبل النقيض.
وقد يكون بإمكان المرء أن يرى – في إطار تداخل الخطوط بين المستويات المختلفة الأدبية والسياسية والاجتماعية – أن رفض ذلك الرعيل الأدبي لتلك المصالحة التاريخية التي خلفت الاندماج والتخالط الأنفين، كان هو "الصورة الأدبية" لرفض القطاعات العريضة من قواعد فصائل الفكر الجذري، لنفس تلك المصالحة التي أنجزها قادة ذلك النقيض، من وراء ظهر ومبدأ تلك القواعد العريضة.
وثانيتها: ادراك ضرورة الانتقال مسر بالقصة القصيرة _ خطوة جديدة على واقعها الفكري والفني الذي وصلت اليه مع الرعيل السابق، الذي يقف في الصدارة منه يوسف ادريس خاصة.
وقد وجدت هذه المتغيرات الجديدة لدى ذلك الرعيل الستيني تجسدها شبه التنظيمي في جماعة ومجلة "جاليري68"، التي كانت أولى التجارب الأدبية المستقلة عن الأجهزة والمؤسسات الثقافية الرسمية، والتي استلهمتها فيما بعد معظم التجارب الشابة المستقبلة التي ملأت سماء مصر لأكثر من عقدين كاملين بالثقافة الوطنية والديمقراطية الجادة، ومن بينها مجلة "خطوة" التي شارك يحيى الطاهر عبدالله أيضا في تأسيسها عام 1980.
كانت الهزيمة قد وقعت في 1967، لتؤكد لذلك الرعيل – ضمن ما تؤكد – صحة رفضه لتلك المصالحة الآنفة، بكشفها ضرر الفلسفة "الشمولية" التي قامت عليها، ولتؤكد دقة إدراكه لضرورة تجاوز المعطيات الفنية والفكرية للقمة الواهنة وللأدب عامة ساعتئذ، بكشفها لفساد سياسة الأدب "الهاتف" المتخم بالتبرير والتزويق.
في كلمة واحدة نقول:
لقد وقعت هزيمة 67 على رأس هذا الرعيل الأدبي مباشرة فصرخ. وكانت صرخته مجروحة، وجارحة.
مجروحة لأنها طفحت بالألم، والانكسار الحاد والمرارة التي كشفت غطاءها هزيمة مباغتة – وليست مباغتة – ليتضح لهم أن أساس ذلك البناء الضخم الشاهق كان منخورا بالسوس الاجتماعي والنزع الشمولي. وهو ما لخصه صلاح عبدالصبور قبل ذلك بقليل بجملته المرة "الدودة في أصل الشجرة".
وجارحة لأنها طفحت بالادانة والتعرية القاسية والتشريح الجراحي الحاد، إذ كشفت الهزيمة لهم ضلال نهج الاصلاح التبريري والترميم ودهن المتصدع المنهار.
على أن الأكثر نزيفا في المجروحين الجارحين، كان ذلك الصعيدي النحيل.
حينما كان يحيى الطاهر عبدالله (1978- 1981)، يستقل قطار الصعيد من قريته "الكرنك القديم" في أواخر عام 1964، موليا وجهه شطر القاهرة – وربما رحل اليها مشيا على القدمين – كانت اللحظة السياسية والأدبية مؤهلة لنشوء واستقبال "قول" جديد في الحقل الأدبي:
المصالحة المذكورة كانت تتم، وكان أبطالها وضحاياها يخرجون زمرا زمرا الى ساحات العمل السياسي والثقافي.
يوسف ادريس كان – على الصعيد الفكري السياسي – قد وضع نفسه بين قوسين إزاء مجمل الحركة التقدمية المصرية، حينما بدأ ينشر روا يته "البيضاء" مسلسلة على صفحات جريدة، "الجمهورية"، وهي الرواية التي حفلت بالتشهير بالتقدميين وتشويههم أخلاقيا، بينما هم في باطن السجون. وكان – على الصعيد الفني الجمالي – قد بدأ يستنفد ريادته القصصية ويستهلك اضافته التي قدمها على سابقيه الكلاسيكيين من كتاب القصة القصيرة كمحمود طاهر لاشين ومحمود تيمور ويحيى حقي وعبدالمنعم الصاوي وغيرهم، على تباين درجات التفاوت الفني والفكري فيما بينهم جميعا.
وفي جملة نقول. كان الواقع الثقافي المصري محتاجا الى رعيل مجدد، في القلب منه كان يحيى الطاهر عبدالله، ينفرد ويتفرد.
وقد شهدت حياتنا الأدبية صعود ذلك الرعيل عبر موجتين متلاحقتين متداخلتين: شكل الأولى منها كل من: إدرار الخراط وغالب هلسا وصنع الله ابراهيم وبهاء طاهر وكمال القلش وجميل عطية ابراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم. وشكل الثانية كل من ابراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي وابراهيم مبروك وسعيد الكفراوي ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم من أولئك الذين كان عليهم مهمة تجسيد الرافد التقدمي الشبابي الجديد، الذي كان قد بدأ يشكل ملامح الحلقة الثالثة من حلقات تاريخ الفكر التقدمي المصري، ذلك الرافد الذي كانت مظاهرات 1968 الطلابية العمالية شهادة عنيفة لميلاده العنيف.
كانت القصة القصيرة قبل ذلك الرعيل تدور على الصعيد الفكري الاجتماعي حول بعض المفاهيم الجديدة التي يزرعها مجتمع يوليو 52 في مواجهة قيم العهد السابق الاقطاعي الاحتلالي، وحول تصوير الواقع الريفي وصراع القيم الاجتماعية فيه.
بتعبير آخر: كانت القصة تخوض أدبيا معركة الحلقة الأخيرة من حلقات صعود الطبقة الوسطى الوطنية ضد الاقطاع والاستعمار العسكري والاقتصادي.
وكانت تدور على الصعيد الفني والجمالي، حول محور "الحكي السردي" الأحادي عبر صوت القاص الفردي، وحول التقابلات الثنائية المنفصلة (الخير والشر، المحتل والوطن، الاقطاع والفلاح، الأبيض والأسود) وحول المباشرة الزاعقة التي تنصر الخير على الشر، وتنصر قيم الفضيلة على قيم الرذيلة.
بتعبير أدق: كانت القصة تصدر عن نزع "رومانسي" ذي صبغة اجتماعية ووطنية. ولم تكن الروح الواقعية التي وسمت بعض القصص حينها بفجاجة وخطابية صاخبتين سوى وجه من وجوه ذلك النزع الرومانسي زي الصبغة الاجتماعية والوطنية.
واذا كانت تلك القصة بالخصائص التي سبقت قد نهضت في حدود شرطها بدور تاريخي عظيم، على المستوى الفكري وعلى المستوى الفني، فإن الواقع – حين بدأ الرعيل القصصي الجديد يصعد – الى عمق المشهد – كان قد بدأ يتغير، وشرطا جديدا كان قد بدأ يقوم: فلم تعد الطبقة الوسطى في لحظة صعودها لفتى، بل صارت تتهادى صوب انهيارها المنتظر ولم تعد تلك الرومانسية المترهلة، بقضاياها الجزئية وأشكالها الفنية المباشرة مناسبة.
كان على جيل يحيى الطاهر عبدالله، إذن، أن ينتقل – على المستوى الفكري – من الموقف "النقدي" السابق الى الموقف "النقضي" الناهض على الادانة الكاملة للراهن المريض، والتبشير بواقع قادم ينتفي فيه القهر الاجتماعي والانساني. وأن ينتقل – على المستوى الفني – الى خلق قصة تعتمد (البناء) الدرامي المتشابك، الذي تتعدد فيه الأزمنة وتتداخل فيه المستويات الشعورية متنوعة متفاعلة، ويستفاد فيه من المنجزات التكنيكية للأشكال الفنية الأخرى: السينمائية والمسرحية والشعرية.
صار المحور الموضوعي الأساسي لقصة جيل يحيى الطاهر عبدالله هو التعبير عن (أزمة) الواقع المصري في السنوات الأخيرة على شتى الميادين: أزمة الديمقراطية وحرية الفكر والوطن والانسان. أزمة التناقض بين الشعار الرسمي والواقع المعاش اليومي. أزمة تحلل الواقع الاجتماعي وتفسخه تحت ضربات الطفيليين والمرابين وملوك الانفتاح الاقتصادي والسماسرة.
إن شعورا عميقا بالخيبة والاستلاب والاغتراب يهيمن على مناخات قصص ذلك الرعيل، يرفده شعور عميق أخر بأن انتفاء ذلك الواقع المجهض هو الصورة الوحيدة لتحقق انسانية الانسان.
على أن يحيى الطاهر عبدالله قد تميز عن أبناء جيله الأدبي وهم ينجزون معا مهمتهم بمستوييها الفكري والفني، بسمتين كبيرتين تفرد بهما بين صحبة القصاصين:
السمة الأولى: هي خصوصية "اللغة" في أدائه القصصي، تلك التي أولاها عناية فائقة، فهو يستعين بلغة الأداء الشعري لاقامة بنيان قصصي، مما حدا بنقاد عديدين أن يصفوه بأنه شاعر في القصة القصيرة.
وقصته "انا وهي وزهور العالم" نموذج ناجح لتجسيد هذه السمة: الجهد اللغوي الرفيع عند الكاتب. فاللغة الشاعرة هنا لا تقتصر على اقتصار العبارة وانحباك اللفظ باللفظ، بل تتعداه الى حيازة مجموعة من خصائص اللغة الشعرية بعامة:
حيث استخدام المفردة "النكرة" محل المفردة "المعرفة" مثل (ترف في الجو بأجنحة)، وحيث استخدام التكرار الشعري الايقاعي الذي يخلف إيحاء بسيطرة معنى اللفظة المكررة على المناخ الكلي مثل "كان للشجر رائحة، وللأرض رائحة، وللحشائش رائحة، ولغمي رائحة"، ومثل "زهور سوداء بالعالم. زهور سوداء. زهور بيضاء بالعالم. زهور بيضاء"، ومثل "طيور الربيع عند عين الماء تطلب الماء وتغتسل، وتنفض عن ريشها الماء". وحيث استخدام التقابلات الشعرية اللفظية والمعنوية، مثل "الربيع – الحياة – سوداء / الخريف – الموت – بيضاء"، ومثل "كنا بالحديقة" في بداية مقطعها الأول، و "بالحديقة كنا" في بداية مقطعها الثاني.
واختلاف موضع كل من كلمتي "كنا" و "بالحديقة" في الموضعين ليس يؤدي غاية لغوية شعرية فحسب، بل هو يتسق مع مضمون كل حركة من الحركتين:
في الحركة الأولى، حيث الربيع والحياة، عين الماء المليئة بالماء، كانت الفاعلية والحضور الأساسي للانسان، للذات لوجود العاشقين المتواصلين، ولذا جاءت "كنا" في الصدارة. بينما في الحركة الثانية حيث الخريف والموت، عين الماء القاحلة من الماء صارت الفاعلية الأولى للأشياء، للمكان لا لشاغل المكان، للانفصال والذبول بين العاشقين المستلبين، ولذا جاءت "بالحديقة" في الصدارة.
على أن النسق الشعري، هنا، لم يأت نتيجة الصياغات اللغوية الشعرية، بخصائصها المختلفة المشار اليها فحسب، بل جاء ويجيء في معظم قصص الطاهر عبدالله من الموقف برمته، من "البناء" الشعري الذي يقيم به عمله القصصي.
فقصة "أنا وهي وزهور العالم" تنهض على حركتين متقابلتين كأنهما القرار والجواب الموسيقيان، تقابلا فنيا وتقابلا معنويا: في الأولى حياة وتواصل وازدهار، تحقق يشربه خوف الاستلاب أو اتصال يشربه خوف الانقطاع، ربيع تحترقه زهرة سوداء. وفي الثانية موت وذبول وانتهار، استلاب يحبل بسعي للتحقق والانسجام، أو انقطاع يحبل بوجود الاتصال، خريف تخترقه زهرة بيضاء.
جدلية ثلاثية: حياة – موت – حياة. والحركتان تكادان أن تكونا متطابقتين في بنائهما التصويري، لا تختلفان الا في مواضع بعض الألفاظ والصفات، على الطريقة الشعرية في تقديم متناقضات شعورية وموضوعية عبر سياق من متناقضات المفردات اللغوية.
واذا كنا استندنا الى "أنا وهي وزهور العالم" في الاشارة الى الجهد اللغوي في تكنيك الطاهر عبدالله القصصي، فلابد أن نوضح أن ذلك الجهد اللغوي قد تجلى بصور أكثر رقيا وأخصب إيقاعا وحنكة في قصص غير هذه كثيرة، وخاصة في مجموعته الأخيرة "حكايات للأمير" لم يمنعنا من الاستشهاد بها سوى صعوبة استخلاص فقرة من قلب سياقها الفني الشائك للتدليل.
كانت تلك أولى السمتين اللتين تميز بهما يحيى الطاهر عبدالله بين أبناء رعيله الأدبي. أما ثانية السمتين فهي النسيج الاسطوري الذي يلف معظم عمله القصص.
وإذا كان بعض فلاسفة الجمال المحدثين يشيرون الى أن ثمة طريقتين ناضجتين للتعامل مع (المعطى الأسطوري) في الابداع الأدبي، أولاهما هي صهر ذلك المعطى في مصهر العمل الأدبي ليخرج في سياقه ذد دلالة جديدة معاصرة تصب في مجرى الفرض العام للعسل الأدبي، وثانيتهما هي خلق أسطورة كاملة جديدة بالعمل الأدبي، فيصبح كل على أدبي عظيم أسطورة عظيمة، فإن يحيى الطاهر عبدالله قد اعتلى صهوة الطريقتين معا.
وقاريء قصص الطاهر عبدان القصيرة سيجد معظمها يصدر عن تلك الطريقة الأولى: جدل الموروث والمعاصرة من منظور يرفد النزع التقدمي للأدب عنده برافد تراثي أصيل. وسيجد أن الطريقة الثانية "خلق أسطورة جديدة بالأدب، هي الرحم الذي خرجت منه روايتاه "الطوق والأمورة" (1975) و "الدف والصندوق" (1977)، وقصته الطويلة "الحقائق القديمة ما تزال صالحة لاثارة الدهشة" (من مجموعة "حكايات للأمير" 1980)، ففي هذه الأعمال لم يقتصر الطاهر على الاستلهام العصري والجدلي للمعملى التراثي -الأدبي والشعبي والديني – بل صار الى صنع أسطورة أدبية كاملة.
كان ذلك البعد الأسطوري واحدا من المنجزات الفنية في أدب الأديب، التي شدت التفات واحد من النقاد الذين درسوا أدب يحيى الطاهر عبدالله، هو الناقد فاروق عبدالقادر. ومن أسف أن أدب يحيى الطاهر عبدالله لم يحظ – في حياته – إلا بثلاث دراسات يتيمة، احداها للروائي والناقد إدوار الخراط في تقديم إحدى روايات الطاهر، والثانية للناقد رضا الطويل في العدد الأول من مجلة "الفكر المعاصر" المصرية الوطنية المستقلة، والثالثة للناقد سامي خشبة في أحد كتبه النقدية.
يلفت فاروق عبدالقادر انتباه القاريء في معرض حديثه عن مجموعة "حكايات للأمير" الى أن الطاهر قد بلغ في هذه المجموعة مستوى لم يحقق قبلا من حيث تنويع وسائله في القص، والاستفادة من المأثور الشعبي للراوي القوال (الحكواتي)، إذ يكرر ألفاظا بعينها تقوم مقام الرقي والتعاويذ بالحديث الى جمهور المتلقين أميرا كان أو جماعة واستخدام الحكاية داخل الحكاية والأسماء ذات الدلالة، وتعمد البساطة الظاهرية في سوق الأحداث الهامة والخطيرة، والاحالة الدائمة لعناصر الطبيعة وتوظيفها في الوصف أو الكشف عن مشاعر الشخوص والاستفادة من معرفة تفاصيل الحياة في قرى الصعيد ومدنه الصغيرة، واللجوء الى ضرب الأمثولة والحكاية ذات المغزى، والاتكاء على الخبرة الشعبية الموروثة وانتقاء عناصر كثيرة من "ألف ليلة وليلة" ينطلق بها ويمزجها بعناصر من عالمه هو في كل واحد متساوق. بل إن مجموعة كاملة مثل "حكايات للأمير" تستلهم في شكلها الروائي وأدائها طريقة الحكي والأداء في "الف ليلة وليلة".
العالم في قصص يحيى الطاهر عبدالله انتقل نقلتين كبيرتين في المرحلة الأولى من رحلته الابداعية كانت القرية المصرية الصعيدية بخاصة، هي مدار التجربة الأدبية. وفي المرحلة الثانية من رحلته الابداعية كانت المدينة هي مدار التجربة الأدبية.
على أن (طبيعة العلاقات) في العالمين واحدة القهر الطبيعي والاجتماعي والانساني.
قدم يحيى الطاهر. في مرحلته الأولى – رؤية متميزة للحياة على أرض الصعيد المصري. واذا كان نصيب الصعيد حيث عراقة مصر وأنقى صور الانسان نصيبا قليلا في الأدب المصري الحديث بالمقارنة مع نصيب ريف الدلتا أو أحياء المدن الصغيرة والكبيرة – كما يلاحظ فاروق عبدالقادر – فإن يحيى الطاهر بتصوير الخصب للصعيد المصري في مرحلته الأولى يكون قد سد شفرة مفتوحة في أدبنا، بتفرد رفيع.
لم يختلف جوهر القهر الطبيعي والاجتماعي والانساني في القرية المصرية الصعيدية عنه في المدينة (القاهرة) وان اختلفت مظاهره: فإذا كان عالم القرية الصعيدية (في "الطوق والأسورة" مثلا) يصطحب بشهوات محاصرة متوثبة للتحقق لكن الواقع يعوق تحققها ويضع لها العقاب الصارم، وتلعب فيه الأسطورة (الموروثة) دورا هاما كجزء من تراث المجتمع المغلق من جانب وكمعادل إنساني لهذا الواقع من جانب ثان، فإن بطل الطاهر في المدينة هو كائن صغير مسحوق ضائع بين الجدران والأبنية واللوائح والقوانين وهو مطارد مغترب في عالم يستلب الانسان ويحوله الى شي ء من أشيائه الجامدة (فانتا زيا العنف القبيح، من مجموعة أنا وهي وزهور العالم).
حينما نقول إن جوهر القهر في أدب الطاهر عبدالله واحد، في القرية والمدينة وان اختلفت مظاهره، فنحن لا نقصد أن ثمة تطابقا تاما بين القهرين يمتنع على التباين والاختلاف. فإذا كان القهر في شتى صوره ذا جوهر اجتماعي، فإن مفتاحه في قرية الطاهر عبدالله غير مفتاحه في مدينته.
هو في القرية ذو مفتاح قدري طبيعي في قشرته الخارجية حيث الناس فيها أسرى يضطربون في واقع قاس، تحكمه علاقات حديدية صارمة محددة سلفا، تنتظم طقوس الحياة اليومية حتى أدق تفاصيلها، وهي محفورة في وجدان الناس وعقولهم، تجعل كلا منهم قيما على الالتزام بها لنفسه وللآخرين. مجتمع محاصر منغلق، السيادة فيه للرجل، ولكبار السن منزلة خاصة، والعلاقات الأسرية فيه هي البنية التي تنتج العلاقات وتحدد الأدوار. يطفح بالحرمان النفسي والجسدي عبر تقاليد ذات قداسة وديمومة (فاروق عبدالقادر – نزهة قصيرة في صحبة قصاص). في كلمة واحدة: القهر هنا ميتافيزيقي إقطاعي.
وهو في المدينة ذو مفتاح مدني فيزيقي، في قشرته الخارجية، حيث مجتمع لا يملك المرء فيه أن يدفع عن نفسه الشعور الواقعي الذي يداهمه بأنه مستذل مهان (تلاوة ماسونية – من مجموعة أنا وهي وزهور العالم)، وحيث تحاك مؤامرة خفية دائمة قاهرة للبطل المسحوق والمستلب، فيردد مونولوجه الذاتي:
"الى متى يسرقني الجرسون، ويدس لي صاحب المطعم الحصى في الطعام ؟ لم لا يرن جرس التليفون لما أطلبها؟ وان رن لا أسمع ردها؟ ولو رد أسمع من أريدها تقول إنها ليست هي؟".
مجتمع ضاغط ينضح بالانقطاع لا الاتصال، ويفتقر الى الانسجام والتناغم، حافل بالسارقين وتجار السوق السوداء والبيضاء، يجسد بدقة أخلاقيات طبقة تنهار بقيمها وقوانينها الدنيئة. في كلمة واحدة القهر هنا مادي رأسمالي.
أليس ذلك العالم الذي تصوره قصص يحيى الطاهر عبدالله هو – بدون مغالاة – الترجمة الابداعية الأدبية للتحليل الذي قدمه المحللون العلميون حينما شخصوا المجتمع المصري باعتباره مجتمعا شبه إقطاعي شبه رأسمالي ؟ فيكون يحيى الطاهر بذلك قد كشف ببصيرة الفنان الناقدة ووعي المثقف السليم طبيعة الواقع الاجتماعي المصري (والعربي عامة) فاضحا علاقات القهر السائدة فيه، مردفا ذلك بفضحه تنامي الشرائح الطفيلية الجديدة به.
يلخص إدوار الخراط دراما يحيى الطاهر عبداللة في كلمات قليلة بقوله: "إذا كانت حياته كلها حكاية، وقصيدة، فإنه مع ذلك عرف كيف يسوغ لنا الحكاية والقصيدة، أو – على الارجح – القصة / القصيدة. وكان ذلك هو ما استلهمناه في هذا النسق الذي نضع فيه كتاباته الكاملة".
في ابريل ولد يحيى، وفي ابريل مات. تراه كان يريد – بحياته وموته – أن يمنح معنى عربيا راهنا لبيت إليوت الشهور "أبريل أقسى الشهور؟
-2-
الليل وروميش والرحم
صارع سرطان الدم بضعة شهور قليلة حتى صرع. هذا هو الكاتب الأديب محمد روميش (1933-1992) الذي غادرنا، منذ خمس سنوات، بعد أن ظلت أوراقه في مكتب رئيس الوزراء المصري شهورا تنتظر التوقيع عليها بتأشيرة السماح للأديب بالعلاج في الخارج على نفقة الدولة.
ولأنه أديب – مجرد أديب – وتقدمي، ولا سلطة له، ولأنه ليس راقصة ولا انتهازيا ولا لاعب كرة، ولا قريب محافظ أو نسيب وزير، فقد ظلت أوراقه مركونة في مكتب رئيس الوزراء (برغم وساطات مكرم محمد أحمد ولطفي الخولي ومصطفى الفقي وغالي شكري) الى أن جاء الموت أكثر سرعة من توقيع ورقة وأرشق حركة من إنقاذ كاتب.
ومحصد روميش واحد من أبرز كتاب جيل الستينات في الأدب العربي بمصر، فهو رفيق يحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم وابراهيم أصلان وجميل عطية ابراهيم وعبدالرحم الأبنودي وصبري حافظ وعبدالرحمن أبو عوف وصنع الله ابراهيم وغيرهم من أبناء هذا الصف المتميز الذي صعد كالشهاب في حياة الأدب المصري فيه من الشهاب لمعته البارقة وفيه منه اختراقه المباغت.
صدرت لمحمد روميش مجموعة قصصية واحدة بعنوان "الليل – الرحم" في عام 1969، ضمن سلسلة "كتاب الغد" فهو من الكتاب قليلي الانتاج كبيري القيمة. وترجع قلة إنتاج روميش الى أنه قد أصيب – مثل معظم أبناء جيله – بصدمة قارعة 1967، فكان أثر صدمة الهزيمة عليه قاصما، إذ آثر الصمت عن الكتابة إلا في أنذر النذر.
وجمعية "كتاب الغد" كانت جمعية أدبية مستقلة أسسها في عام 1968 مجموعة من كتاب اليسار المصري الشبان، لتكون منبرا اللأدب الملتزم والكتابة الواقعية النابهة من آلام الشعب وآلامه، في مواجهة الكتابة المائعة المتعالية على هموم الفئات الفقيرة من ناحية، وفي مواجهة هيمنة السلطة السياسية (الوطنية المهزومة) على المؤسسات والمنابر جميعا من ناحية ثانية.
وقد ضمت الجمعية بين مؤسسيها ابراهيم فتحي ومحمد سيف وخليل كلفت وعبدالمنعم تليمة ومحمد روميش وعزت عامر وعز الدين نجيب وزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب الدين وغيرهم من كتاب ومبدعين ونقاد عصفت بهم الهزيمة المدوية فراحوا يتلمسون سبل الخلاص. على أن أغلب مؤسسي جمعية "كتاب الغد" كانوا من التيار المتشدد في الثقافة المصرية، ولهذا فقد سيطرت على رؤاهم في الأدب والفن النظرة الميكانيكية الجامدة للواقعية الاشتراكية بما تشتمل عليه هذه النظرة الجامدة من توجيه متعسف للفن والأدب لخدمة أغراض التغير الاجتماعي والتقدم، كما سيطرت على لقاءاتهم الحوارات السياسية المباشرة حتى توارى الأدب خلف السجال الفكري المشتعل. وقد انتهى الأمر بالجمعية عام 72-1973 باعتقال معظم أعضائها ومؤسسيها، مع بدايات الثورة الطلابية التي اندلعت في الجامعات المصرية.
وقد خلف رحيل محمد روميش حالة من الأسى المر في الحياة الثقافية المصرية، وحالة من الحزن الغاضب بين عامة المثقفين. قال مصطفى نبيل – رئيس تحرير "الهلال" -أن روميش كان نموذجا للمثقف المصري الواعي بهموم مجتمعه وقضاياه وأحلامه، وكان يتمثل حياة وهموم وأحلام الفلاح المصري والقرية المصرية، ويكاد يكون أكثر من عبر عن أحلام الفلاح ومعاناته الشديدة في ظروف مختلفة، إذ كان دارسا متعمقا للتاريخ المصري القديم بالاضافة الى كونه من أهم دارسي فكر عباس العقاد.
وكتب د. صبري حافظ _ ابن جيل روميش يقول إنه برحيل روميش يفقد جيلنا آخر كتاب القرية الأفذاذ. فقد سبقه يحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم، اللذان كرسا عالمهما القصص مثله للتعبير عن القرية المصرية وتحويل تفاصيل الحياة اليومية فيها الى عالم من الابداع الشفيق القادر على الارتفاع الى آفاق الشعر الانساني العظيم.
ويرى د. صبري أن "الليل – الرحم" هي درة روميش النادرة، إذ حرص عليها كما يحرص الصائغ على أغل جواهره، فنقاها من أي أثر للحوشية أو النمنمات الرومانسية، وصقلها بالتشكيلات الجمالية الفنية في التعبير عن التجربة الانسانية الفريدة عنده وبلور ملامحها الصلدة في بناء القصة المتميز لديه، ونحت تفاصيلها من أديم الحياة الريفية ودقائقها الخاصة، وصاغ لغتها المتميزة العذبة بمفرداته التي تحمل في كل لفظة عبق الريف وتوهج صوره وايقاع حرفته، فأسس من خلال صلابة التجربة وعمق الوعي الرهيف الساري في كل انحاء المجموعة قيمة مغايرة للقيمة السائدة: قيمة الكيف القليل الذي لا يصمد في مواجهة الكم والاسهال الكتابي فحسب، ولكنه يكتسحه أمامه بصلابته وتماسكه وقدرته على إضاءة التجربة وارهاف الوعي وامتاع القاريء.
والواقع أن "الليل –الرحم" ليست كل ما كتب محمد روميش، فقد تبين من الحديث مع بعض أفراد أسرته أن لديه مخطوطا تحت الطبع – لم ير النور – لمجموعة قصصية بعنوان "الشمس في برج المحاق"، وهي المجموعة التي تحدث عنها د. صبري حافظ في ندوة التأبين التي أقامها أتيلييه الفنانين والأدباء بالقاهرة بالتعاون مع مجلة "أدب ونقد" < التي كان روميش عضو مجلس تحريرها – بعد أسابيع من رحيله.
في هذه الندوة تحدث الناقد ابراهيم فتحي عن اللغة الفطرية في قصص روميش، التي يمزج فيها مزجا طبيعيا بين العامية والفصحى، وعن التصنيف الفني الذي يمكن أن يندرج تحته بعض قصص مجموعته الأقرب الى القصة القصيرة الطويلة.
وقال د. صبري حافظ أن كل جيل من الأجيال الأدبية كان يشهد دائما أديبا موهوبا من أبنائه يتوقف عن الكتابة. وأن روميش كان هو هذا الأديب بالنسبة لجيل الستينات.
أما فريدة النقاش – رئيسة تحرير "أدب ونقد" فقد ذكرت أن روميش كان نموذجا أخلاقيا وسلوكيا وإنسانيا نادرا، وفيا لأصدقائه متسامحا عطوفا، وأبا ديمقراطيا بحق.
وفي دراسة نقدية لاحقة أوضحت فريدة النقاش أن الحب غير المتحقق هو موضوعة رئيسية من موضوعات عالم روميش الريفي الفني المفتوح على الرواية، لا بسبب استحالات ميتافيزيقية أو هواجس في النفس أو القلب أو دسائس العز ول، وانما بسبب قسوة الواقع وضغوطه المحكومة باستغلال يكاد يتخذ صورة قدرية. إن الحب غير المتحقق يترض للتدمير بموت الحبيب تارة وموت الحبيبة تارة أخرى، مرة موت مفرغ حيث يتكدس الميتون في زمن السخرة على الأحياء الذين ينتظرون الموت، وقد ألقى بهم جنود الاحتلال من فوق التل حين حل بهم التعب، ويسأل أحدهم بسخرية مرة: لماذا لا يخصصون جبانة للأحياء وأخرى للميتين ؟ أما الحبيبة فتموت في شوطة الكوليرا!
تساءل الروائي سعيد الكفراوي: لماذا يموت هذا الجيل في عمر افتراضي واحد؟ كأنها اللعنة. لم يصل واحد منهم لمنتصف الخمسين. لا أريد أن أعدد أسماء من مضوا في أكياس من عظام، فكلنا يعرفهم. قلب الوطن وضميره وأصفى مبدعيه يرحلون على عجل ويحصدهم الموت.
هل هو القهر والقمع اللذان نعيشهما على امتداد السنوات وحتى الآن ؟ هل هي خيبات الرجاء وتكرار الهزائم وقلة الفعل ؟ والواقع أن سؤال الكفراوي واجابته – في موت روميش – يثيران بقوة هذه الظاهرة اللافتة في حياتنا الأدبية: وهي ظاهرة رحيل عدد كبير من المبدعين بانقصاف عمر مباغت وهم في أنضج العمر وأزفاه. خاصة من أبناء جيل الستينات ومن الأجيال جميعا بعامة.
وهناك عوامل كثيرة يمكن أن تفسر هذه الظاهرة: أهم هذه العوامل بالطبع هو ما أشار اليه الكفراوي في سؤاله: القهر. أن القهر الذ ي يعيشه المبدعون – وخاصة جيل الستينات يساهم بقدر ملحوظ في انقصاف العمر. فلقد كسرت انهيارات الأحلام العظيمة أرواح الأدباء الذين كانوا قد عاشوا زمن الحلم الجميل وتصاعدت في عيونهم الأمنيات. وحينما جاءت الهزيمة وثقلت وطأة عسف النظام (الثوري) الذي احتكر الحكمة والحقيقة والوطنية. خاب الرجاء وانشرخ القلب، وصار مؤهلا للموت: بالمرض الخطير أو بالحادثة أو بالانتحار أو بالجلطة.
إن المناخ العنيف المتلاطم الذي عاشه أديب الستينات سواء في العهد الناصري أو في عهد الانفتاح الاقتصادي – جعله يعيش حياة غير طبيعية وغير صحية، مما يخلق نفسا قابلة للمرض أو قابلة للموت أو قابلة للحادثة، ويخلق جسدا غير طارد للمرض غير مقاوم للآفة أو الجرثومة أو الفيروس !
كما أن انعدام اعتناء الدولة بعلاج الأديب يساهم بدور فعال في الكارثة، حيث يفتقر الأديب لامكانيات قهر الرض، أو حتى تحييده أو تجميده، مثلما يحدث في حالات عديدة ينجح فيها العلاج السريع في هزيمة المرض أو في تمكين الجسد من الاستمرار به سنوات وسنوات.
إن الاحباط الذي يعانيه الأديب بسبب تراجع دوره وتدني سكانته وتأثيره – إذا قيس بالمغني والراقصة وتاجر الخردة – لابد أن يخلق بيئة مناسبة في جسده لكل آفة فتاكة، سرعان ما تقطفه بيسر وخفة. مع ما يعانيه الأديب من شعور بأنه فرد وحيد في مهب كل ريح وكل سلطة وكل خلل اجتماعي أو سياسي. فلا مؤسسات تحميه ولا حياة حزبية صحيحة تدافع عنه وترتفع به وترفعه، ولا جماهير غفيرة من القواء تسانده وتسنده وتمنحه الثقة والأمل والشعور بفائدته وجدواه.
إن كل ذلك الوضع المدمر لابد أن يخطف الاعمار الجميلة، وهي في أزهى اللحظات من النضج والعطاء.
-3-
زمن صنع الله ابراهيم
ليست جائزة العويس التي حصل عليها، منذ ثلاث سنوات، هي التي وضعته في بؤرة الضوء، فصنع الله ابراهيم في بؤرة الضوء دوما: بأدبه الجميل ورواياته الكبيرة. كل ما فعلته الجائزة هو أنها أعطتنا، في تلك اللحظة مناسبة إضافية نتحدث فيها – مجددا – عن صنع الله.
ولأني لست مؤرخا أدبياء فإنني لن أقول – مثلا – أن صنع الله ابراهيم يقف في القلب – ذلك الجيل التراجيدي العظيم. (يسميه النقاد: جيل الستينات) الذي حمل صخرتين هائلتين: الصخرة الأولى هي مهمة دفع القصة والرواية دفعة جديدة، بعد روادها الكبار في الجيل السابق: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم وادوار الخراط. والصخرة الثانية هي فجيعة تحطم الأحلام العظيمة في يونيو 1967 وما تبعها من انكسار القلب.
من هذه الجهة كان على هذا الجيل أن يخوض مقاومتين. واحدة ضد تقليدية الأجيال السابقة وما بنوه من اهرامات أدبية، حتى لو كان بعض الجيل السابق ظل يتجاوز نفسه: مثل نجيب محفوظ في بعض قصصه، وادوار الخراط في كل عمله. وواحدة ضد الاحباط الذي خلقته النكسة، وضد دواعي النكسة في "بنية" الحلم المزرق الجميل.
ولعل هاتين المقاومتين الشاقتين قد نجحتا نجاحا ننعم بثماره المبدعة من الفن المبدع.
وأنا كذلك، لست ناقدا روائيا، ولهذا فإنني لن أقول، مثلا أن قاريء أدب صنع الله ابراهيم سيلحظ الأجواء الكابوسية التي تدور فيها بعض أهم أعماله مثل "اللجنة" و "تلك الرائحة". وسيلحظ طابع السخرية والمفارقة الذي يغلف رواياته جميعا. كما سيلفت نظره حرص الروائي على تجسيد التجاور المستحيل بين الانجاز الاجتماعي والقمع السياسي. وهو تجاوز مستحيل لأنه سرعان ما يخلي المكان كله للهزيمة والانهيار والسقوط: في "نجمة أغسطس" كان العمل في السد العالي على قدم وساق، وكان العمل في مكتب المباحث – كذلك – على قدم وساق.
على أن أهم ما سيلحظ قاريء صنع الله – أو ناقده – هو ذلك التضفير الدقيق الذي يصنعه الروائي في معظم رواياته، وخاصة "بيروت بيروت" و ذات" و "شرف"، بين التوثيق التسجيلي من جانب، والواقع الروائي من جانب ثان. وهو تضفير يستحيل نزع جانب منه عن الآخر، والتعامل معه على انفراد – كما دعا البعض – لأن كليهما معا يشكلان التكوين العضوي للنص.
ولأنني لست مؤرخا أدبيا ولا ناقدا روائيا، فإنني سأقول بعض الكلمات، مصدرها الوحيد أنني محب للكاتب ولكتابته:
أما محب للكاتب، فلأنني قدرت عاليا تفرغه للكتابة والفن، وضنه بوقته وجهده وقلبه على أن تصنع شيئا سوى الابداع. وهو التفرغ الذي يمثل لي أملا معلقا، لست أدري متى ستواتيني شجاعة صنع الله حتى أحققه ؟
ولأنني قدرت عاليا إقلاله في الكتابة، فلم يكن تفرغه للكتابة استسهالا لها، فلم يفتح الصنبور على آخره كما يفعل آخرون غير متفرغين، حتى ليدهشنا أن صنع الله قد حقق مكانته العالية في أدبنا العربي الحديث من خلال ست روايات لا غير (حتى الأن) هي: اللجنة، تلك الرائحة، نجمة أغسطس، بيروت بيروت، ذات، شرف (إذا استثنينا بالطبع ترجماته وأعماله العلمية للأطفال).
كما أنني محب لبساطته وسعة قلبه وتواضعه الجم، حيث لا "ذات" متضخمة له، وحيث فرحه بكل جديد وجميل.
وأما محب لكتابته، فأمر شرحه يطول، ويكفيني فيه أن أذكر أنني حينما قرأت روايته الأخيرة قلت للزميلة فريدة النقاش ولبعض أصدقائي، بحماسة لم تعهد عني، وخاصة فيما يتعلق بالروايات: "هذه الرواية واقعة من وقائع مصر الحديثة، وأنا أشعر بالفخر لأنني أعيش في نفس الوطن والزمن الذي يعيش فيهما صنع الله ابراهيم".
ذات صباح رن جرس التليفون بمقر عملي، وكان المتحدث صنع الله ابراهيم، الذي بادرني بقوله: "كيف أتتك جملة: لم أشاهد عشيقة الضابط الفرنسي، لكنني سألمح المصاغ على الطوابق العليا، قلت: أربعة أجنة في خلاء معدني، وخلف هذه المقابض المعقمات خامسهم: مصيري".
كان إعجابه منصبا على تضميني لفيلم عشيقة الضابط الفرنسي داخل سياقي الشعري في قصيدة لي بعنوان المستوصف.
والحق أن روايات صنع الله وأعماله كانت مصادر لي في بعض قصائدي. وكان آخر مثل لذلك إشارتي له ولترجمته كتاب "التجربة الأنثوية" ضمن قصيدة "درجات في الأزرقات"، وهي إحدى قصائد ديوان "سراب التريكو":
"سنضع الرحمة بيننا في دائرة،
ثم ندور حولنا معقودتين،
واذا جاءنا صوت انهيار سقوف مجاورة،
سنسرع إيقاع الدوران،
مع ابتسامات متتاليات،
ونحن نصيح في توقيت واحد:
فضحنا صنع الله"
-4-
الحياة التحتية للجيش
"تصريح بالغياب لمنتصر القفاش" رواية يمكن أن تعد مثالا صحيا للكتابة الجديدة. فهي ليست رواية تقليدية من ذلك النوع الذي يحتوي على بداية ووسط ونهاية، أو من ذلك النوع الذي تتسلسل فيه الأحداث وتتعاقب فيه الأزمان، تسلسلا منطقيا وتعاقبا متتاليا.
وعلى الرغم من أنها رواية غير تقليدية، فهي مع ذلك تحفل بلغة متينة غير ركيكة ولا خفيفة. هنا لغة غير مترددة وغير مرتبكة، حتى وان عبرت عن التردد والارتباك والركاكة.
هذه هي المدرسة الكتابية التي اختطها الروائي الكبير إدوار الخراط: اللغة المتمكنة في رواية غير تقليدية، واستخدام هذه اللغة المتمكنة في تقصي لقطة أو تفصيلة واحدة تقصيا مشبعا مدققا، ولعل هذا هو ما فعله القفاش في وصفه التفصيلي المشبع لمشهد التقاط التلميذات لحبات التوت من الشجرة المجاورة للمدرسة:
"طالما التوت في أغصانه فلابد أن تتلاقى الأكف. تتناول الطالبات المتناثر منه أسفل الشجرة، الممتدة فروعها فوق السور المقام بين المستشفى والمدرسة. يلقين بكتبهن نحو الأغصان، ويتدافعن لجمع المتساقط منها، وتهرس حبات تحت أقدامهن فتمتزج بالرمل المفروش به الأرض ناحية المدرسة، أو تتساوى بالأسفلت من جهة المستشفى وتصبح رأس احداهن هدفا للأياي عند سقوط حبة، حبتين فوقها، ويصير الرصيف الضيق كراسي موسيقية يندفعن نحوها، ما إن يلمحن حبات تسقط فوقه. ويتقافزن نحو غصن يخايلهن بقربه من أيديهن الممتدة عن آخرها، فتتوامض أفخاذ، يجهد العساكر القريبون منها في صيدها بعيونهن".
والأهم من ذلك أن "تصريح بالغياب"، لا تستغرق – فتفرق – في الأحاديث أو الأحداث الجنسية، جريا على "التقليعة" التي يظن أصحابها أن الاكثار من مثل هذه الأحاديث والأحداث هو كسر "لتابو" الجنس، أو هو ملمح ضروري من ملامح النص المحدث.
وعلى قدر ما يذكر المرء، فلم تسبق "تصريح بالغياب" رواية كان مجال موضوعها كله هو "الحياة الداخلية في الجيش". لقد مرت بنا بالتأكيد روايات كان الجيش خيطا – رئيسيا أو ثانويا- من خيوط نسيجها الكلي، لكنه الجيش في مدلوله الحربي أو الوطني (حيث حماية الوطن ومحاربة الأعداء والانتصار عليهم أو الانهزام أمامهم)، أو الجيش في مدلوله الفوقي السطحي (حيث ممارسات أشكال التراتب والأداء الخارجي في العلاقات العسكرية).
"تصريح بالغياب" هي أول رواية تتخذ الجيش موضوعا لها، لكنه الجيش في علاقاته الداخلية أو في "بنيته التحتية" إذا صحت العبارة في الأمور الصغيرة للحياة العسكرية وهموم المجندين التافهة العابرة التي لا صلة لها بالخطاب الخارجي المعلن. فهنا لا محاربين ولا معارك يفتدى فيها الجنود الوطن ولا عمليات بطولية خارقة من أجل تحرير التراب. هنا جيش عاطل عن عمله. ولذا ليس هناك سوى الطقوس والشعائر والعادات: إجراءات رفع وخفض العلم، إجراءات الدخول والخروج من الحمام، أساليب ربط وفك "مخلات" الجنود، خطوات التكدير والعقاب وددا لتدوير الى المكتب"!
في هذا السياق (سياق الحياة الداخلية للقوات المسلحة كمؤسسة تبدو متماسكة ومهيمنة" ربما نتذكر – فقط – سلسلة أفلام اسماعيل ياسين (في الجيش، في البوليس، في البحرية…الخ). فهذه الأفلام هي التي كانت تقدم – الى جانب الجزء المعلن من الجيش، الجزء غير المعلن منه: الكواليس الخلفية لأفراده، بما تنطوي عليه من هزلية وسخرية وتهكم، أي: خلخلة الكيان المتماسك للمؤسسة المهيمنة. (مع الفوارق العديدة بين المثالين، بالطبع).
والواقع أن اهتمام الرواية باللغة (هو على عكس ما يدعي بعض الكتاب الجدد من أن اللغة محايدة لا دور لها سوى التوصيل الجاف المتقشف. فالقفاش واحد من عشاق اللغة (مدرسة إدوار الخراط مرة ثانية) الذين يتمكنون من خلق توازن رفيع بين اللغة، باعتبارها "ناقلة" للانفعال أو الحدث، وبين اللغة باعتبارها "جزءا" من الانفعال نفسه والحدث ذاته.
وهو في هذا قادر على أن يستخدم هذه اللغة المكينة استخدامات مختلفة، كأن تقدم بها صياغات تذكرنا بالطريقة الشعبية في الحكي:
"والبنات يجعلن الجيش فسحة، والفسحة لابد فيها من حكايات، والحكايات عند العساكر، والعساكر قدامه، وقدامه لا أحد ينطق بكلمة، والكلمة لابد أن ينطقها هو".
"ويصف البنات إنها بنات عفية، والمعفية عايزة راجل، والرجال في الجيل ده قليل، والقليل نادر، والنادر صعب تلاقيه، وتلاقي فين يا فندم حد زي ناس بتوع زمان".
إن أسلوب الحكي الشعبي، الدائري أو المتضافر، هو الذي يمنح – مع أساليب أخرى – الطابع الشعري لكتابة منتصر القفاش. ذلك الطابع الذي جعل إدوار الخراط يصف هذه الكتابة بأنها "كتابة عبر نوعية".
من تلك الأساليب الأخرى التي تمنح السرد طابعه الشعري استخدام "كأن" لوصف المواقف التي يلتبس فيها الواقع بالوهم أو بالحلم، أو لرصد تلك "المسافة" بين "الحقيقة" و "الحقيقة":
"كأنني مازلت في الخدمة الشنجي.. كأنني أداوم على النظر الى تلك المنطقة الحالكة في عمق الحوش.. كأنني نحو هذه المنطقة أسير.. كأنني نحوها أصعد درجات سلم السكن الحجرية".
تتكرر هذه الـ "دكأن" في أكثر من موضع، متجاوبة مع "تيمة الصدى" المتراوح مع الصوت، ليشكلا توجه الكاتب الى تصوير "المسافة" الغائبة بين حالتين أو واقعين أو "منزلتين".
وهذه "المسافة هي "منطقة" الشعر بامتياز. صدى الحوش، صدى الحمام، صدى مكتب السرية، صدى المخزن صدى الفصول، صدى الطرقة، صدى السكن، صدى مكتب المقدم).
هذه المسافة ليست هي الأشياء بالضبط، كما أنها ليست حضورها الكامل، وليست بالطبع انتفاءها الكامل، إنما هي "الفجوة" بين الحضور والغياب.
"تصريح بالغياب"، إذن، رواية مكتنزة بمميزات الكتابة الجديدة، ومتخلصة – في الوقت نفسه – من عيوب هذه الكتابة الجديدة، التي تنفضح مع بعض صغار الكتاب والمراهقين ابداعيا. وهي – بذلك – تتواصل مع المسار المجدد الذي نشأ في القصة المصرية والعربية، منذ سنوات غير قليلة.
-5-
هل هو زمن الرواية ؟
شاعت في الخطاب النقدي في السنوات الأخيرة مقولة مؤداها أن هذا الزمن صار زمن الرواية ولم يعد زمن الشعر. وقد ترسخت هذه الفكرة وأخذت قدرا من الثبات والرواج بعد صدور ثلاثة أعداد خاصة بالرواية من مجلة "فصول" الفصلية النقدية المصرية، التي يرأس تحريرها ناقدنا الكبير د. جابر عصفور. واشتملت هذه الأعداد الثلاثة على جملة من المقالات لنقاد كبار، يؤكدون هذه المقولة ويشرحونها باستفاضة ووضوح (مثل د. علي الراعي ود. محمد برادة وجبرا ابراهيم جبرا ونجيب محفوظ ود. جابر عصفور وغيرهم من كبار الكتاب والنقاد).
ولست أريد أن أدافع عن الشعر (بينما أنا أكتب هذه الصفحات عن روائيين وروايات) فأبدو كمن يدافع عن نفسه شخصيا، ولكنني أود أن أسوق بعض الخواطر التي يمكن أن تساهم في مناقشة هذه المسألة التي صارت قضية حية من قضايانا الثقافية الواهنة.
لا ريب أن الرواية، كنوع أدبي، قد اكتسبت مساحات كبيرة من أرض الابداع والقراء في السنوات الأخيرة. وأقصد الرواية في عالمنا العربي بالذات، لأن الرواية في العالم بأسره كانت مزدهرة منذ زمن طويل. اذ الشعر في بلاد العرب كان مازال ديوان العرب، بينما الرواية العالمية تصل الى أعلى الآفاق العالية، الى الحد الذي شغل كثيرا من المفكرين، وجعل بعضهم يفسر الأمر على أن "الرواية هي ملحمة الطبقات المتوسطة". وعليه فإن الاحساس بأن الرواية قد صارت هي الشكل الأدبي الأول ينبغي أن ينطبق أو ينصرف الى المجال العربي وحده لا المجال العالمي كله.
وحينما نأتي الى المجال العربي وحده، سنجد العديد من العناصر التي يمكن أن تدخل في النظر الى القضية:
فالانتشار "الكمي" الواسع الذي يستند اليه بعض النقاد – ضمن ما يستندون – في القول بازدهار الرواية عن الشعر، هو عامل "كمي" في النهاية، لا يصلح معيارا لتحديد ماهية "الزمن" بالقول إنه زمن الرواية. ولو كان هذا المعيار "الكمي" صالحا لمثل هذا الحكم لكان الأجدر بنا أن نقول إن هذا زمن الأغنية الشبابية التافهة أو زمن كرة القدم أو زمن التليفزيون، أو غير ذلك من مجالات تستقطب الأعداد الهائلة من الجمهور.
كما أن علينا – من ناحية أخرى – الا نمزج بين ازدهار "نشر الرواية" وبين ازدهار الرواية". فالحاصل أن حظ الرواية في النشر أوسع من حظ الشعر بمرات عديدة. وفي – مصر، على سبيل المثال، سلاسل كثيرة شهرية ونصف شهرية لاصدار الروايات، بينما لا توجد سلسلة واحدة، نصف شهرية أو شهرية أو فصلية أو سنوية، تختص بنشر الدواوين الشعرية. وهذا الوضع يعطي بلا شك انطباعا برواج الرواية على الشعر أو بتقدمها على الشعر.
لست أهدف، هنا الى تقرير أسبقية نوع أدبي، على نوع أدبي، ولا تفوق شكل على شكل، والا وقعنا في نفس مزلق التفضيل والاعلاء الذي ننكره ابتداء. إن هدفي ببساطة هو القول إن الشعر مازال مزدهرا كما كان، ومازال في صدارة أنواعنا الأدبية.
إذن، ما الذي حدث ؟
الذي حدث، في ظني أن علامات ازدهار الشعر في عالمنا العربي هي نفسها العلامات التي يتخذها آخرون مظاهر لأزمته الواهنة، ومن ثم يتخذونها قرائن على ازدهار الرواية كيف ؟
من علامات ازدهار الشعر العربي الراهن – في رأيي – أنه لم يعد "ديوان العرب". لقد كان الشعر يقوم بدور "ديوان العرب" حينما لم تكن لدى العرب مؤسسات وهيئات للاخبار والتعليم والاعلام والتوثيق والتربية والتأريخ والتوجيه المعنوي والدعوة وغير ذلك. فكان الشعر ينهض – مع مهمته الشعرية – بكل هذه المهام. وعندما بدأت الدول العربية، مع الشعر الحديث تنشيء هذه المؤسسات المدنية المختلفة، راح الشعر يعود الى "شعريته" يستقل بها وينفرد.
كانت مقولة "الشعر ديوان العرب" تعني أن الشاعر مدرس ومخبر ومؤرخ وحكيم أخلاقي وغيره. ومع تطور الشعر وتقدم نظريات طبيعته ودوره، ومع تطور المجتمعات الحديثة التي قسمت العمل والأدوار والنشاطات البشرية، لم يعد الشاعر هو ذلك المدرس أو المؤرخ أو الحكيم، ليصبح مجسد تجربة يعود الى "شعريته" يستقبل بها ويتفرد.
وعلى ذلك فإن انتهاء كون الشعر ديوان العرب هو علامة من علامات ازدهاره وتقدمه، وليس علامة من علامات اندحاره لأن ذلك يعني تخلص الشعر من الوعظ والارشاد والخطابة، ليضرب في آفاق جديدة. ومن عجب، أن تكون هذه العلامة بعينها – هند بعض المهتمين – قرينة نكوص للشعر وتقهقره، ليرى فريق منهم أن الرواية هي "ديوان العرب الجديد"، بدون أن يدرك ما في هذا المعنى من مغزى سلبي، وهو المغزى السلبي الذي طرحه الشعر عن كاهله في أطواره الحديثة والواهنة.
كذلك فإن من علامات ازدهار الشعر: تعدد مدارسه وتنوع اتجاهاته وتياراته المبدعة. في هذا الصدد، فقد تخلى الشعر عن "الكلية الواحدية" السابقة، التي كانت تحصر الشعر – بل تحاصره – في شكل واحد ونظام فني واحد وموضوعات واحدة. كأن الشعر قد فتت البللورة المركزية فيه الى نثار كثير من شظايا ملتهبة، أو كأنه قلب أمثولة "الكل في واحد" الى "الواحد في الكل"، لتصبح ترجمة هذا التحول في مجال الشعر هي:
الانتقال من "ينبغي للشعر كله أن ينصب في شكل واحد، سابق وفي موضوعات واحدة"، باتجاه الذهاب الى "إن كل تجليات الابداع الشعري وتنوعاتها وروافدها تصب جميعا في نهر واحد هو الشعر".
وبدلا من أن نرى ذلك التحول الكبير، من "الكل في واحد" الى "الواحد في كل"، انتصارا هائلا للشعر، باعتباره مغامرة انتقال كبرى من النمط الواحد المفروض الى الاقتراحات الكثيرة المفترضة، فإذا ببعض المختصين يرون في هذا التحول دليلا من دلائل التخلي والتراجع !
في هذا الضوء كله، ينبغي أن نلاحظ أن الشعر بات عنصرا من عناصر الجمال في شتى الأنواع الأدبية – وقد مر علينا شيء من ذلك – وهو ما صرح به الروائي إدوارالخراط نفسه. حينما أشار الى أن الشعر قوى ومعافى، وأنه يغزو الأنواع الأدبية الأخرى من قصة ورواية ومسرح وغير ذلك من فنون راحت تطعم نفسها بشذرات منه حتى تضفي على نفسها شيئا من الجلال ومسحة من السمو. والحق أن مثل هذا التداخل علامة إضافية من علامات ازدهار الشعر، لا تعني بحال – كما رأى البعض – أن الشعر بات يتحلل "ويتفرق دمه على القبائل" بحيث لن يبقى منه لنفسه إلا أقل القليل.
على أن المعضلة – فيما نعتقد – تكمن في أن مثل هذه القرائن العديدة على ازدهار الشعر وتناميه، ليست بعد مستوعبة أو مقبولة من قبل كثير من القراء والنقاد، ولدى القائمين على النشر، في الدور العامة والخاصة على السواء. فمازال هؤلاء وأولئك قاعدين في أرض التصورات السابقة للشعر وللشعراء، منتظرين نفس الأدوار، حاملين نفس المقاييس التي لم تعد صالحة لقياس قيمة الشعر وطبيعته ورسالته.
والواقع أن انفجار الطرائق الفنية والجمالية الشعرية عن سبل ودروب غير مسبوقة، وكثيرة بعدد شعر ائها تقريبا، قد أصاب القراء والنقاد التقليديين بحيرة لا يحسدهم عليها حاسد ولم يكن هناك مفر، لتبديد هذه الحيرة، من اتهام الشعر بالتراجع والنكوص عن المعهود المألوف، في حين أن هذه الحرية المدهشة في الطرائق بثرائها المتنوع، برهان ساطع على اتساع الشعر وانطلاقه من الأقفاص. ولم يحقق الشعر هذا الانفجار الكبير إلا لكي "يلتقط الأنغام المتباعدة المتنافرة المركبة لايقاع عصرنا" كما يقول النقاد عن الرواية. تلك الأنغام المتنافرة المركبة التي لم يكن الشعر ليستطيع أن يلتقطها لو ظل على قيمه التتنكيلية واللغوية والموسيقية القديمة.
على أن الأ هم من ذلك كله أن اعتقاد أهل القول بازدهار الرواية على الشعر، إنما يقوم على أن "ازدهار القص كان قرين الاحتجاج على القهر" – كما يرى د. جابر عصفور – كما لو أن الشعر قد هجر هذا الاحتجاج، أو كما لو أن هذا الاحتجاج لم يكن من مهام الشعر الجوهرية على الدوام، وحتى لحظتنا الحالية.
والحقيقة أن التجارب الشعرية العربية الواهنة بانفجارها المروع في اللغة والموسيقى والصورة والرمز والموضوعات جميعا – ربما كانت أشد صور الاحتجاج ضد القهر والتسلط عمقا وعنفا وأصالة.
المشكلة التي لم يعطها الكثيرون التفاتا كافيا هي أن الشعر لم يعد يوجه معظم احتجاجه على قهر السلطات السياسية المباشر فقط، كما كان الشعراء يفعلون فيما قبل، لأن هذا القهر أخف وأهون ألوان القهر. إنما هو اليوم يوجه احتجاجاته الرئيسية الى أنواع أخرى من القهر، هي بلا ريب أعمق أثرا وأشد خطرا: ونعني قهر الأقانيم الثابتة والجمود الفكري، قهر منظومات الاجتماع والتربية، قهر السلطات الجمالية واللغوية السائدة.
إن هذه الألوان من القهر، التي يمكن تسميتها البناء التحتي للقهر، هي الأرضية المكينة التي تقيم عليها السلطات السياسية القاهرة قهرها المباشر، وهي الأرضية التي تثبت هذا القهر وتديمه.
وهكذا فإن الشعر كان ولا يزال نشيد الحرية، لكنه لا يطلق هذا النشيد على طريقة "أغاني الزاحفين" كما كان يفعل، ولا بإعلان صريح أن للحرية الحمراء بابا بكل يد مضرجة يدق، كما كان يعلن ولكن بممارسته الحرية نفسها في تشكيلاته الفنية من ناحية، وبمناهضته العضوية العميقة للثبات والتكلس والتسلط. وعلى ذلك فإن دعوته – وممارسته – لاطلاق المخيلة هي دعوة وممارسة لاطلاق الانسان فهل يمكن – مثلا – تحرير الانسان من قبضة السجون أو من
والجماليات القديمة ؟ ولعل ذلك هو ما يجعلنا نفهم المغزى الايجابي في قول الشاعر الأ سباني روبابينا حول "فقدان معنى القداسة" في الشعر، كما جاء في أحدى مقالات "فصول". هذا المغزى الايجابي الذي به نرى أن هذا الفقدان هو علامة أخرى من علامات ازدهار الشعر لا اندحاره، كما أراد قائل العبارة.
إن اقتران الشعر بالقداسة كان عاملا من عوامل تعويق تطور هذا الشعر، لأن مس هذا الشعر (بالتعديل أو بالتجديد) كان يحسب على أنه مس للقداسة. ومن ثم ظل صعبا لفترات طويلة خلع هذا الشعر من أطره أو من لغته أو من دلالته ذات المسحة السماوية.
وفك الاشتباك بين الشعر والقداسة هو انجاز العصور الحديثة وانجاز الشعراء أنفسهم معا. ولذلك فإننا نعد هذا الفك علامة على تحرر الشعر ونزوله الى أرض البشر: يسعى بين الناس، يتقلب بتقلبهم، يتطور بتطورهم، يتنوع بتنوع مساربهم ومشاربهم الكثيرة. وهذا هو ما يفعله الشعر الراهن. وهو بالضبط ما لم يلاحظه الكثيرون معن لا يزالون ينظرون الى السماء بحثا عن الشعر فيها فلا يجدونه، فيهتفون "لقد اضمحل الشعر وراح"، بينما الشعر منتعش حواليهم، بسيطا عاديا، يقعد على المقاهي، وينام في الخرابات، ويتجول في الأزقة، ويجرح كل سيد وسائد.
ولذلك كله، فإن الزمن كان وسيظل زمن الفن والحلم والجمال، واذا قلنا "زمن الشعر" فنحن نعني ضمنيا "زمن الرواية" والمسرح والموسيقى والسينما والنحت، لأن الشعر في كل الفنون كامن ومتجل.
الروائي ملهم الشعر
علاقة الشعراء بادوار الخراط ورواياته علاقة ابداعية خصبة تنطوي على جدل وتضافر قلما شاهدناهما في الصلة بين الرواية والشعر.
من ناحية: فإن الخراط غالبا ما يضمن رواياته قطعا من صلب متنه الروائي هي في ذاتها نصوص شعرية باهرة. كما أن رواياته نفسها تعد – من زاوية خاصة – نصوصا شعرية طويلة، أو مفعمة بروح الشعر. بل إن الرجل نفسه قد مارس كتابة الشعر المستقل في فترات مختلفة من سيرته الأدبية، وقد راح مؤخرا يصدر هذا النتاج في دواوين شعرية قائمة بذاتها،منها ديوانه "طغيان سطوة الطوايا" وديوان "لماذا" وديوانه "ضربتني أجنحة طائرك: الى أحمد مرسي".
ومن ناحية ثانية: فإن شخصيته الفنية ورواياته المكتنزة كانتا مصدر استلهام شعري لدى عدد غير قليل من شعراء الحداثة في مصر، مثل أمجد ريان وعبدالمنعم رمضان وماجد يوسف وكاتب هذه السطور وغيرهم.
"سبع قصائد في المريمات" هو عنوان القصيدة التي استلهمت فيها شخصية الخراط ورواياته، وسوف أوردها الآن للعلاقة بين الشعر والرواية، وصورة من صور التراسل الحي بين الأنواع الأدبية، ومثال على استفادة الشعر من عالم الرواية في صلة قربى حميمة:
سبع قصائد من المريمات
وسيلة
وهبت لنقش السقف طائرها المخفف، ثم راحت عند قوس الكورس الخلفي تحص خصرها والكاهن ارتفعت أنامله بوجه الصبوة البكر. اختفى زمني على صوتين فانسابت قناديل. انخطفنا والنحور وسيلة للرب.
حساسية
بوغت أصرخ جنب روحي كلما تركت قميصا عند عازفها المنحف، وانثنت قرب اليدين، احترت في جسدي وقلت: كان أبيضها المرهف ضد شعري. ثم مست ركبي.
كشفت صديريا
خليلي ينحني للرمز، لكن عاجها المبيض لي كشفت صديريا وغابت في الشفاه الحرة. انزاحت غلالات فمات فتى يسمي نفسه البدن المضيع، وانزوى جنب الاله.
خطفن كمثرى
المريمات خطفن كمثرى من الروح المقدس، ثم أطلق الضفائر قرب عظمي فانجرحت، ولم يكن ادوار مثل حمامتين يخب في الوله العتيق. فكان يبكي ساعة، ويعود ثانية الى خطافه اللغوي، كي يصل التويجة بالتويج.
اقتربت يداي
كانت تبدأ الانشاد من وجعي المغلف بالبطاقات المباركة. استدارت في صباها لفتتين، وأقبلت في الشجر، تمنح نفسها لشفاهها المخصومة. اقتربت يداي من الوضوح، وكان انجيل قديم يشرئب على رخام انثوي، وهي تفتح نهرها للنهر، كي ينحل ماء فوق ماء.
مسافة
يترتل النص المؤلف في الأعالي للعلاقة بين ردف والأصابع فانتبهت. العازفات صنعن معجزة مبسطة لقلبي ثم خضن به المسافة بين عمري والنصوص. هنا الهواء يمس كعب الفتنة المجلو، فارتاح الروائي الشجي لبرهتين، ومال صوب حروفه العليا: المسافة ما تزال.
بلاغة أخرى
وتر خفي، هذه الأنثى تسرب صوتها لي في الوصايا، يومي، الترتيل للغيبوبة الصغري بخطوي، ثم يخفت في المدى يصف التقارب بين خصري والولي. الضارعات وضعن كعكا في نهود الضارعات. بلاغة أخرى سرت فوق الرؤوس: تمجد الجسد الكريم. وكنت أجمع ما تبقى من دلالات، وأمضي نحو عمري. إن هذا النحر ذاكرة ولكني أزول.
الرواية عن كتابة الرواية
ربما عرف البعض نورا أمين، في مسرحية "ماكبث زيرو" بمهرجان المسرح التجريبي، وهي تشكل بجسدها الطيع كممثلة مفطورة – تكوينات جمالية فائقة الحساسية والرفعة. وربما عرفها البعض الآخر مترجمة لبعض الأعمال الأدبية، المسرحية خاصة. لكن نورا طلعت علينا جميعا كقصاصة مكتنزة بوعد حار وبكتابة مرهفة.
نورا أمين، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية بجامعة القاهرة 1992، تعمل معيدة بأكاديمية الفنون، مركز اللغات والترجمة، صدرت لها عن مهرجان المسرح التجريبي ترجمات عديدة، أهمها: "الفضاء المسرحي"، والمسرح: ثقافة وثقافة مضادة".
ابداعيا: صدرت لها مجموعتان قصصيتان: الأولى "جمل اعتراضية"، والثانية "طرقات محدبة" أما درتها – حتى الآن – فهي روايتها الأولى "قميص وردي فارغ".
في تجارب نورا القصصية عوالم جديدة ومحاولة صادقة لوضع الذات تحت المجهر ولوضع النفس البشرية بنوازعها الغفل تحت عين الحقيقة وعين الابداع. قد يلاحظ بعض المتابعين أن امتلاك كاتبتنا لأدواتها الحرفية (بكسر الحاه) لم يصل بعد الى نضجه المرجو، لكن قليلا من التأمل في خصوصية عالمها ودقائقه الداخلية سيجعلنا نوقن أن سيطرتها على هذه الأدوات قادمة بلا ريب.
وقد بدأت هذه السيطرة أولى تجلياتها بالفعل في رو ايتها الجميلة: قميص وردي فارغ. وهي الرواية التي تجادلت فيها خيوط عدة: خيط العلاقة العاطفية المجهضة، وخيط السينما (حيث الحبيب مخرج سينمائي)، وخيط القناص مع رواية "العاشق" لمرجريت دوراس، وخيط الكتابة عن كتابة الرواية داخل الرواية نفسها.
ولذلك فقد جاءت "قميص وردي فارغ" – كما قال بعض النقاد بحق – نصا يقرأ صاحبته ويمتص أيامها. يستعير هواجسها وشطحاتها وانكساراتها لتتحول جميعها الى شذرات من كيان بللوري، يعكس الضوء بعيدا عن قلب القلب.
يتحقق النص باكتماله ويكتفي بانغلاقه على سره المكنون ويحطم دوما توقعاتنا المستكينة الى ملاحظات يومية مكرورة عن معنى الحب وطبيعة الرغبة. نص يبتدع هوية كاتبته ويعكس بعض ظلالها على شاشات الانتظار: انتظار "العاشق" الذي لا يأتي وانتظار التحرر من أسر الرواية.
أما خصوصية عالم نورا فتأتي من البساطة الشديدة، ومن العودة الى أحلام الطفولة المهدرة ووقائعها، ومن التعبير الطازج عن حالات من انعدام التحقق في الروح والجسد والمجتمع، ومن الاجتراء على تصوير كواهن بشرية يجفل الكثيرون – وبالأحرى الكثيرات – من التطرق اليها، خشية استنفار العقل التقليدي.
هذه إذن كتابة الصبوات المحرمة والأشواق المغلولة في النفس. ومثلما شكلت صاحبتها بجسدها التعبيري -أشجان الانسان ومكابداته الدفينة، تشكل "بلغة الأدب" لواعج الروح وتقلق البدن.
رسالة قصيرة
صديقي وائل رجب:
حسدتك أكثر من مرة:
مرة حينما وجدتك جميلا رقيقا يانعا في السادسة والعشرين، تستقطب حولك نخبة نادرة من أدباء وأديبات التسعينات، يحبونك ويحبون صوتك الخفيض.
ومرة حينما كتبت روايتك الأولى (والوحيدة) البديعة "داخل نقطة هوائية". صحيح أنني لم أتمن كتابتها، فأنا فخور بكوني شاعرا، لكنني حسدتك بسبب قدرتك الجسورة على الاجتراء في أول عمل روائي لك، وأنت لم تتعد ربع القرن من العمر: (ولعلي رأيت فيك بعضا من صباي الأول).
ومرة حينما جذبت مني الوردة الجميلة التي كانت قريبة من وجهي، وكنت أظن أنني قادر على الاحتفاظ بها بقوة أسبقية جيلي. لكنك شددتها الى حفل الموسيقى بالأوبرا، ثم الى لعبة البلياردو، فخرجت أنا من المشهد، متعريا بأن لدي نبل الفرسان.
حسدتك مرات كثيرة، لكنني غضبت منك مرة واحدة، هي هذه المرة الأخيرة: حينما فاجأت الجميع بطيرانك النهائي المفتوح، بصحبة السرطان، من غير أن تستأذنني وتستشيرني، كأني لا لزوم لي، كان لابد أن تستشيرني، لاشخط فيك بحق سلطة الأب: ابق معنا قليلا أيها الولد الصغير الجميل.
حلمي سالم (شاعر من مصر)