-1-
النص الشعري نسق من العلامات ، وهو بالتالي يمثل مشهدا دالا على ما مال اليه الشاعر من اختيارات استقاها من النظام اللغوي ، هذه الاختيارات بالطبع لا تتمظهر اعتباطا، بل إن وراءها طاقة تدفعها، هذه الطاقة تكمن في ذهن المبدع وفي بصيرته ، ولا يمكننا وصفها إلا بالنظر مليا إلى هذا المشهد، وبيان مدى قدرة الشاعر على الاختيار والتلقي الواعي – بمعني ما – من سلطة الجمالي الكامن في النظام اللغوي ، وحيث تدرج هذه القدرة في آفاق غير مألوفة أو منتهكة يكون انتظامها في رتبة أسمى وأعمق من تدرجها في آفاق مستهلكة منظمة ، معهودة .
إن علامات النص الشعري ، وهي إذ ذاك طرزه وأنساقه ، لا تتشكل من موقف انفعالي ، أو هاجسي عابر، انها تبقى في أخيلة الرؤية، وفي نزعها الأبقى دائما، نزوعها المكتنة للكشف والانبثاق والتجلي.
تتدافع علامات النص الشعري في شكل ايحائي ، متموج نحو غايات رمزية متعددة الانتشار والتشعب ، أعني ان هذه العلامات تمضي في خط رأسي عميق ، نحو مجهول رمزي ، لا نستطيع – بوصفنا متلقين – الوقوع على معناه القانوني ، هذا المعنى هو معنى نسبي ، وهذا الانتشار / التشعب دليل مبدئي على قدرة النص التخيلية ومقاصده الدالة،على فاعليات مستوياته واستقصاء اته ، ومن هنا ينشأ وعي شعري طريف تهبنا إياه حداثات شرية عدة، هذا الوعي ليس مخالفا – تمام المخالفة – لوعينا الشعري المعهود، الذي احتفى قرونا طويلة ببلاغة كانت لها فروضها، وانبثاقاتها التي صنعت حواسها الخاصة، وضمائرها المبررة، فالنص الشعري الآن طموحاته ، وايعازاته ، التي لا تكف عن طرح هواجسها واستشعار العالم القمي المخيوء في ليل الوضوح ، ووضوح الغياب اذا صح التعبير" ان أندريه بروتون – أحد رواد السوريالية – يروي : " ليليا – لدى دخوله الى النوم كان الشاعر سان بول رو يعلق على باب لافتة "ان الشاعر يكتب ". في هذا الليل ، يحتج النص الشعري بشاعريته ، وبتمظهره الفيزيقي ، وتصبح الصفحة البيضاء هي العالم ، والأبجدية هي الفضاء الذي تقطر منه الذات الشاعرة.
كما لو كان الليل ، الليل كله وأنت ملك الليل ، والصمت يرسم فمك المطبق المرسوم كما لو كان الليل حبيبي الوحيد وأنت متروك عذده ومحروس لأنك نائم وحياة تنبه حياتك تستدرجها، وتأخذها من الليل لتضيء بها ما تبقى ما لن يزول (1) هنا الليل – ليل الكتابة بالأحرى – هو الفضاء الدلالي المبدئي للنص ، ولنلاحظ التكرار، الليل – الليل كله – أنت ملك الليل ، كأنما الشاعر يوقظ مكامن ذاته ليلتقط ضياءها الأخير، يستدرجها ويأخذها من الليل ، ها هنا يصبح هذا المحسوس "الليل " قرين المجرد الذات / الروح ، الذات الصامتة التي تثوى فيها الوحشة ويكمن فيها النوم "الأنك ناثم – حياة تنبه حياة".
هنا الشعري يستدرج صوره لا بشكل بلاغي معهود، يتوزير فيها الوعي ما بين استعارة أو كناية أو تشبيه ، ولكن في شكل يصبح المكتوب جميعا في الصفحة استعارة كبرى تنتظم فيها حيوات الدوال ،وايماء اتها، النص يأخذ شكلا سرديا، منسجما وآليات الشعرية التي لا تدافع ولا تحتج إلا بما قي النص من نظام ، ومن تخييل ، ولعل الشعرية هنا تتأتى من كون الفاعل النصي – الشاعر – يخاطب ذاته في نوع من الالتفات الى ضميره الآخر، وهنا يصنع وعيه الجديد في الليل الذي ما يعده ليل تحت الليل أنت نائم وأنا أنزل إليك بالألوان ( 2 ) كان الليل الشعري ، زمن العتمة المؤقت ، يجذب الألوان جميعا إليه ، لحظات النوم مطياف ، يلملم هذه ا ألوان ويقتسمها مع الذات: إذن نحن في أمان الليل
ولهو الخضرة يرتج في المرايا(3)
هكذا يصبح الليل سرا، ومأمنا يرتاده الشاعر، لم يعد ذلك الليل القيسي الذي يبتلى الشاعر بأنواع همومه ، بل إن الشاعر هو صانع ليله الخاص ، ليل كتابته الأثير: الليل صوت لامع ومض على سيف تستبقيه ، اغماضة الليل خفقة في قلب ،(4 ) عبر هذه التفاصيل العميقة لليل ، الذي لم يعد محط إلهام الكتابة ووحيها بل أصبح هو المحتضن لها، هو الثاوي – النابض في آن ، هو خفقة القلب التي لا تتوقف الا بصعود الأبجدية في شرفاتها في الصفحة البيضاء، عبر ذلك يمارس الشاعر حريته التامة، قانونه الشعري هو التقاط شفرات جزئية صغيرة، الليل باتساعه البهيم الموحش ، يصبح مجرد ومض على سيف ، تستبقيه اغماضة، غفوة قصيرة، هنا يتمرد الوعي الشعري الجديد على النظرة المعهودة في الشعر، لم يعد الليل هو هذه المساحة السوداء التي تحط على المكان فتخفيه وتظلله ، مما يعطي نوعا من مخالفة السياق ، وانشاء شعرية جديدة، فهذا الوعي الضدي – كما يقول د. جابر عصفور – علامة فارقة من العلامات التي تؤسس الشروط الملازمة للحداثة، ذلك لأنه وعي مناقض لصفات الإطلاق ، اليقين ، التسليم ، النقل ، التقليد، الإجابات الجاهزة، القوالب المتكررة، الذات العارفة بكل شيء ، وهو الوعي الذي يستبدل بالمطلق النسبي ، وباليقين الشك ،وبالإجابة الثابتة السؤال الدائحم ، وهو يؤسس نفسه بوصفه وعيا اشكاليا، يرى في الشك علامة العافية، وفي السؤال شريط الوجود، وفي النفي دلالة الحرية(5 )
وهنا يتسنى للشاعر أن يصنع حريته غير المشروطة، وأن يدلف إلى أروقة كتابته فيتحول المشهد الليلي إلى مشهد موحش يرقبه الشاعر، وينتقل من ذاته إلى ذات المدينة، المكان الضاج بالحركة يغدو أكثر إيلاما وأكثر ألفة في آن ، فالشاعر لا يريد مغادرة المشهد ويغلق في نهاية نصه الستارة ليسكن المشهد الليلي في ذاكرته بدلا من أن تغيره نذر الصباح ، والاستيقاظ ، سيف الرحبي يصور لنا هذا المشهد في نصه: مدينة تتستيقظ:
تستيقظ آخر الليل ،تلقي نظرة على الشارع الخالي ، إلا من أنفاس متقطعة، تعبره بين الحين والآخر وحده النوم يمشي ، متنزها بين قبائله البربرية، تتقدمه فرقة من الأقزام وهناك رؤوس وهمية تطل من النوافذ على بقايا الثلج الملتصق بالحواف ، وكأنما تطل على قسمتها الأخيرة في ميراث الأجداد المصابيح تتدافع بالمناكب ، قادمة من كهوف سحيقة لا تحمل أي سر. السماء مقفرة من النجوم الجمال تقطع الصحراء باحثة عن خيام العشيرة القطارات تحلم بالمسافرين لا أحد .. لا شيء ..
أغلق الستارة، فربما لا تحتمل كشهد مدينة، تستيقظ . (6)
الشاعر يصف ليل المدينة، في آخره ، يجد لحظاته الأثيرة التي استيقظ فيها على هذا المشهد، الشاعر خال ، والنوم يتنزه ، والمصابيح تتدافع بالمناكب ، والسماء مقفرة من النجوم ، والقطارات تحلم بالمسافرين ، تتنقل عين الشاعر لتسرد المشهد الموحش كاملا، هذه الوحشة هي مأرب الشاعر، انها وحشة آهلة بأشياء خاصة، يستولد الشاعر منها عبق الشعرية، وكأنه استيقظ في الليل ليمتلكها وحده ، وهنا في خطابه الملتفت -إذا نظرنا إلى ضمير المخاطب – يطلب من نفسه أن يغلق الستارة لكي لا يتعكر هذا المشهد باستيقاظ المدينة :
أغلق الستارة فربما لا تحتمل مشهد مدينة تستيقظ . هل الهروب إلى الليل ، واحتضان الوحشة هو مقصد ماسقنا من نماذج سواء عند نوري الجراح أم سيف الرحبي ، إن ما ذكرت هو وجه أول من أوجه التأويل فالنصوص التي ذكرنا هي نصوص مفتوحة لتأويلات أخرى، ولقراءات متفاوتة، وهذا من طبيعة الوعي الجديد، الدي بادر إلى اعلان نواياه الشعرية عبر الايحاءات لا المعاني ، الايحاء مفتوح ، ناقص دائما، المعنى مغلق على مدلولات أوائل أو ثوان ، بيد أن القارىء يتملكه في نهاية الأمر، هنا الايحاءات تختلف ، وتدل دائما على معان بعيدة،
عميقة .
.. أيها الظلام
ياسيد الروح
تهب ليل الأرض صمتا يمتد في سلوة السهر حيث ريشة الحلم تغطي الكائنات بقطيفة الهجرة الظلام سيد الروح ، وملك الكون ، على حد تعبير فوزية السندي ، كأن النص ينتقل في وحداته الدالة من الصغير إلى اللامتناهي في الكبر، من الروح للكون ، أو الظلام هو الروح /الكون بايحاء ثان ، به تتحقق الرؤيا، وتغمر العطايا الذات الشاعرة، عطايا القول ، الكتابة ، الشعر:
ياملك الكون في ضراوة القول أسهو(7)
ختام النص هنا، ختام مفتوح ، الشاعرة لم تغلق نصها بمعنى ما، وتستنفد بوحها تماما، كما كانت تفعل النصوص الشعرية حتى وقت قريب ، انها تدنو من أسئلتها الخاصة، بلا يقين ، وبلا إطلاق ، بيد أن نقصأ ما يطرحه النص ، هذا النقص يتمثل في عدم معرفتنا بجنوح الظلام تماما إلى الذات أم إلى الكتابة أم إلى العمق الروحي ، أم إلى الكون ، 000 الخ هذه الهواجس المؤولة. لكن في يقيني أن الرضا الناقص الذي يناله المتلقي في جنوحه لفهم النص الشعري الآن ، وشيجة صلة لا انقطاع ، فاحساس المتلقي الدائم بأن ثمة شيئا ناقصا، خفيا في هذا النص أو ذاك يعمق داخله تساؤلات كثيرة، وهواجس متعددة تؤطر فاعلية تلقيه الجمالي والنفسي بركامات غير قليلة من التوتر والقلق واليقظة الذهنية، وتستحضر فيه ذاكرته المعرفية التي عاين عبرها نصوصا كثيرة من قبل ، كما يستنهض فيه مخيلته التي تمعن- من وجهتها الإيجابية – في تأمل النص ومحاولة العثور على مجازاته الغائبة،بغلالات رومانسية، سوريالية في آن ، بتحويل الإنشاد إلى تأمل ،والمعنى الى ايحاء، والكلي إلى جزئي ، والمحسوس الى مجرد،والصوت إلى كتابة، كأن الشاعر الغريق في خضم هذا الواقع القلق ،المضطرب ، لا تتبقى منه سوى كلمته .
رفع يده
كأنه كان يريد
أن يقول كلمة.(15)
لكن هذه الكلمة/الكلمات ، لا تضيع سدى، اذ تبقى مسموعة
جيدا، رغم تنظيف الأشياء منها، يقول وديع سعادة في "كلمات ":
الكلمات التي قالها على المقاعد، في الخزانة، على الأسرة،
والجدارجلبوا خادمة نظفت البيت نظفت الأثاث والأواني والحجارة،
جلبوا طلاء جلبوا أصواتا جديدة وظلوا يسمعونها. (16 )
هذه الكلمات الصغيرة – الكبيرة معا، التي يعانيها الشاعر، والتي تصهره في محرقتها، تصبح حياته الخصوصية التي يرتبها أنى شاء، ولنلاحظ أن وديع سعادة يعي تماما كيف يضيف كلمة إلى جوار كلمة، كيف تعلقان ببعضهما، يقول في "حياة":
كان تقريبا يبدد الوقت
رسم إناء
رسم زهرة في الإناء
وطلع عطر من الورقة
رسم كوب ماء
شرب رشفة
وسقى الزهرة
رسم غرفة
وضع في الغرفة سريرا
ونام
. . . وحين استفاق
رسم بحرا
بحرا عميقا
و غرق . ( 17 )
فالتداعي الدلالي هاهنا يتراءى لنا كسلسلة منظومة، الإناء ثم الزهرة ثم العطر، فسقي الزهرة، حتى يصل إلى الغرفة التي يرسم بها بحرا يغرق فيه ، كأنه بحر الرؤيا، استفاق من نومه ليرى كلماته التي نظمها، وكونه الصغير الذي أنشأه .
ومع تنظيف الكون ، واستشعار أفق المكان الطريف ، ينقلنا أمجد ناصر إلى فضاء خاص ، قريب مما ذكره وديع سعادة في "كلمات " حيث يبغي التخلص من الخطاب الشعري المعهود الذي كان ينهض على المواعظ والخطب والكلمات الطيبة والصوت المنشد، بحثا عن نقاء شعري خاص ، وصفاء فطري أثير، يقول أمجد ناصر في "أغصان مائلة"
أريد أن أنظف رأسي
من بقايا الموعظة والكلمة الطيبة
أريد أن أنظف قلبي
من حطام الحب الأول وشظايا الزجاج
الملون
أريد أن أنظف عيني
من شباك القمر الممزقة
وستائر النوافذ الموصودة
أريد أن أنظف صوتي
من أوكسيد الأغنية
أريد أن أنظف وجهى
من سيماء السلالة
أريد أن أنظف الأوراق
من هراء القصيدة
وعبث التداعيات
لم أعد أرغب في الأدوار الرمادية(18 )
الشاعر يروم العودة إلى براءة الذات ونقائها، وضوحها، وتجليها الفطري ، فهو يتخلص من ركامات الواقع ، وخبراته ، بنظافة الرأس والقلب والعينين والصوت والوجه ، ثم الأوراق ، وعبث التداعيات ، هلا التعبير يأخذ شكلا تقريريا تصميميا، لكنه قريب جدا من لحظة ازنفعال الشعري ، فلا مسافة متوهمة بين الشاعروكلماته ، بين وعيه الداخلي ووعي النص ومقصده.
لعل النماذج المسوقة آنفا تكون قد وقفتنا بشكل مبدئي على بعض الرؤى الطريفة التي ينفذها هذا الوعي الضدي المتمرد على أشكال الخطاب الشعري الجاهزة المعهودة، والتي يحاول أن ينفذ الشاعر عبر هذه الرؤى إلى صميم اللحظة الشاعرة، وأن يمتح منها بأبدية الكمة وجمالها الديمومي المائز الذي اكتشفه الشاعر الآن في ليل كتابته الواشي ، ليل أبجديته ، وفي تبصره بالأشياء وتأملها، وفي بوحه عن كلماته وهو بمعنى ما أحد تجلياتها، التي تبرق في سحاباتها ذاته الرائية التي تقدم عذاباتها المارقة ما بين البصر حينا، وبين البصيرة أحيانا كثيرة".
وهنا نقع على أسئلة جديدة، وبلاغية لها سيماؤها الدالة وملامحها الخصبة الشاعرة.
الهوامش :
1 – نوري الجراح طفولة موت – منشورات نجمة – الدار البيضاء الطبعة الأولى 1992 ص 7
2 – السابق ص 23
3 – السابق ص 37
4 – السابق ص 118 – 119
5 – جابر عصفور – هوامش على دفتر التنوير – المركز الثقافي العربي – بيروت – الطبعة ا لأولى 4 99 1 ص 1 6، 62
6 – سيف الرحبي "رأس المسافر" ومدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور –
المطبعة الشرقية ومكتبتها – عمان – الطبعة الثأنية عمان 89 19 ص 8 5 – 9 5.
7 – فوزية السندي: حنجرة الغائب – كتاب كلمات – البحرين الطبعة الأولى 199 قصيدة "وميض الروح " ص 35 1 / 3 4 1
8- قاسم حداد: عزلة الملكات – كتاب كلمات – البحرين – الطبعة الأولى 1991 ص 86
9- بول شاؤول: أوراق الغائب – دار الجديد، بيروت ، الطبعة الأولى 2 9 9 1 ص101
10 – السابق ص 47
11 – السابق ص 29
12 – السابق ص 89
13 – أحمد الشهاوي: الأحاديت "السفر الأول ،، – الهيئه المصرية للكتاب – الطبعة الأولى 1991 ص 129
14 – السابق ص 137
15 – وديع سعادة: بسبب غيمة على الأرجح – دار الجديد – بيروت –
الطبعة الأولى 1992 ص 30
16 – السابق ص 17
17 – السابق ص 27