أربع خصائص ستحدّد المجموعة القصصية الرابعة: «خذيني إلى موتي»، للقاص الفلسطيني زياد خداش: الاستجابة لنثر المكان؛ التحرر من الموانع بأشكالها وأسبابها الظرفية، المركزية، والاجتماعية؛ التحيّز للسخرية كأسلوب وكمرافعة؛ وتداخل الأنا وتحولاتها الأسطورية في المكان. ستشكل هذه الخصائص مدخلاً لعبور الكينونة، والتواصل مع المكان وعليه. وقد قدر للقاص أن يكون ابن الإشكالية بالغة التعقيد بالتقدير السياسي الثقيل والجارح؛ ألا وهي: الضفة الغربية، بتضاريسها ومسالكها الجغرافية ومهالكها العسكرية. إزاء هذا المصنّف والمؤكّد، سيندفع القاصّ للكتابة المتحررة مهووساً بالمفارقة والسخرية والجنس الصريح الفضّاح. فليس من البذاءة أن يحضرَ الجنس حضوراً موازياً لأعمال الجيش على الطريق إلى الحياة، حول البيت والغرفة التي تستضيف شاباً شبقاً وامرأةً يأتمران ليحميا وجودهما من فضيحة الجنود المنتشرة في أعين وألسنة النافذة والمسالك والأنحاء.
الجنس، إذاً، في النصوص هو المواجهة، هو التحرر. وفي المقابل، أعمال الجيش هي إخماد رغبة الحياة، وكبت فضيلة السيرورة. فنجد على امتداد النصوص تواجداً مكثفاً تصويراً ومجازاً، لأجزاء الجسد: الرأس، الظهر، البطن، القدم، الكتف، اليد، الوجه،.. تعمل في بنية السرد كمحددات جسمانية وكمجازات عاملة على نطاق المكان والنطق بها كحالةٍٍ؛ حيث صور العقاب وأشكال (أجزاء) التعذيب؛ تقابلها المرأة كمفردةٍ من جسد، وكمجاز واسع.. كلا الحضورين للمرأة في بنية النصوص سيشير إلى تذرع الشاب بالجنس، كأحد الأولويات على طريق تطوير الوجود ومقاومة الموت. وأما السخرية، فتشكل ملاذاً وأسلوباً يتعمّد القاص عبرَه إزاحةَ الصور والممارسة الظرفية إزاحةً كاريكاتورية: «أراني غريباً، وغير مبالٍ بصرخاتها، وأتخيل الجنود الغزاة وفداً أجنبياً يعبر عن إعجابه بمدينتي على طريقته الخاصة، أو أراه فريق كرة قدم لدولة مجاورة، يستعرض مهاراتِه قبل المباراة بنصف ساعة» (ص 18، بعينين باردتين ).. «هناك أشياء كثيرة تضحك إلى درجة الوحشية في هذا الوطن، ثم إنني أدعو دائماً في كتاباتي ومواقفي إلى حرية الصراخ والجنون والضحك والكتابة والجنس والحب والسفر..» (ص73، مدينة تضحك.. رجل صامت). فمن حرصه على المعالجة الساخرة للموضوع العام، راح يجعل الكاتب من شَعر رأسِه، أي من الشّخصيَ، مادةً للسخرية، وحقلاً لإنماء رمزية العقدة التي ستنسحب من الشخصي على المظهر العام. وهذا نجده يأخذ طابع القضية في قصة: «شتاء في قميص رجل», حيث نقرأ: «منذ تلك الظهيرة الحارة وأنا أتحسس حقل شوك فوق رأسي وأقترب كثيراً من البكاء، مازلت حتى اليوم أتردّد كثيراً في تمشيطه خوفاً من جراح قد تصيب أصابع يدي..»( ص8). هذا الشيء، إذاً، يتعلق بالإرادة ومقدار وقوفها إزاء قضية تنطوي على مطلب التهذيب. فالتردّد يؤدي إلى الإحجام عن الترتيب، وهذا ماله أن يدخل في سياق نقد الإرادة الذاتي الموجه للفوضى في مرآة الواقع، في ظل غياب الحكمة والعقل. ولعلّ قضية الشكل، شكل الشَّعر، هي ما يمكن أن نصفها بقدرية المعاناة الواضحة وضوح الظهيرة الحارة. ويأتي تدخّل الأب واقتحامه الغرفة على ابنه بوصفه الضمير والعقل والحكمة، وتلك هي الكلمات التي لا تعدو كونها صوتاً منفعلاً هائجاً وصارخاً وحسب: «مشّط شَعْرَك: مثل الخلْق: فضحتنا»(ص9). إذًا، نحن أمام ثلاثة أسبابٍ للفضيحة: الجنس، الجيش، الشعر، ثلاثة أشكال بمضامينها.
ينسحب الجنس ليشكلَ ثيمة المجموعة الرئيسية، ثيمة الهزيمة باللذة. وفي المقابل: بقاء الجيش والشَعر كموت وكفوضى يُهددان الحياة، ويحولان دون ترتيب هوية الشكل والمضمون.
القصة الأولى: «شتاء في قميص رجل»، تذكّرُ أجواؤها بالأغنية أو الحكاية التي تغنيها السيدة فيروز: (أنا وشادي). تدور القصة الأولى بنفَسِها السردي في ثنائية تقسم المكان إلى مكان غريب جديد، ومكان حميم قديم. وتبادر الأنا بنقل نواتها، كاستجابة فنية، بين الراهن: كمكان، وكيومي، وكشخصي؛ تتمرّسه وتغترب عنه في لحظة سوف تفضي بها للتواصل مع الماضي بالحنين إلى الصورة القديمة الحميمة: كمكان، وكيومي، وكشخصي: «أندس في شقوق حنيني القديم، أتسلّل إلى جرحي في عز الضجة، عزّ الوضوح، تهرع النافذة إلى عيني، الأمكنة نفسها، من زاوية أخرى، هنا هنا بالضبط بجانب سور المدرسة، كنتُ أمشي معها ومعه، إلى تلك التلة العالية، في أصياف بعيدة، حرة ومجنونة، طفلان في العاشرة من عمرنا، بنت حلوة في الحادية عشر، كنا نسكن حيًّا مجاورًا، نأتي هنا في عطلات المدارس، نتسلق الشجر، نرمي بعضنا البعض بالحصى والثمار… نصعد التلّة، نلهث، نلهث، اسمي زياد، اسمه سامر، اسمها هيفاء، كان هو وسيما جدّا، كنت أنا عاديّا جدّا، كانت هي ساحرة وغامضة، كأنها صدى الوادي أو كبرياء الجبل، كأنها هدير الماء في الماسورة، هل كنّا نحبّها معًا؟ هل ننسى ملمس باطن قدمها وهي تطبعهما على باطن أقدامنا ؟؟؟ في لعبة غريبة ابتكرتها هي، يهزم فيها من لا يستطيع تحمل لذة تلامس بواطن الأقدام، مرة من المرات جلسنا معها على العشب، فاجأتنا بحديث غريب: حين أصبح بنتًا كبيرةً سأواظب على المجيء، هنا، أنا أحبّ هذا المكان، عندما أتزوج سأخبر أولادي عنه، هل ستأتيان معي؟
– طبعاً سنأتي، ومعنا أولادنا وزوجاتنا ؟(ص8)
وإذًا، ثمة فرق بين اللعبة التي ابتكرتها هيفاء، والتي يهزم فيها من لا يستطيع تحمل لذة تلامس بواطن الأقدام؛ وبين مهمة الجنود، الآن، حيث فيها من لا يدوسون على الأقدام والبطون، حيث السارد هو الفلسطيني الذي يدوس الجنود على أجزائه – من غير عمد – ذلك لأن هذه الأنا بحساب الجنود هي غير موجودة. وفي الوقت ذاته، فالحياة معرضة للموت بنيران الفدائيين، نيران صديقة، وبذلك يكون الفلسطيني في وضعه المأساوي مُحاصرًا من نفي الجنود له والدوس عليه، ومن أخطاء الأخ والصديق بالتزامن: «يدوس الجنود على قدمي أو بطني، من غير عمد، كما أحسست، ويصفع سلك أجهزتهم الطويل وجهي وجسمي، يا جندي، يا جندي، ما الذي يجري؟؟ حرّرْ عيوني وأعدك أن ألتزم الصمت ولا أحرك ساكنًا» (ص14، الطيون والجنود وأنا).. «هناك مطلوبون، سيمرون بعد قليل من هذا الشارع الترابي الموحش، سيلقى القبض عليهم أو يعدمون، يا إلهي، سأموت ميتة غير متوقعة أبدًا. أهكذا كان القدر يرسم نهايتي بمخالبه المجرمة، سأكون في مرمى نيران فدائيين من شعبي، سيقتلني رصاصنا، لم أتخيل أن نهاية مسيرة خطواتي وأنفاسي ستكون بهذا الشكل العبثي المحزن» (ص14) وثمة، أيضًا، علاقة ماهرة وفذة نجدها بين شَعر الرأس الذي يشبه حقلاً، وبين الحركة السردية الواعية المرئية في ممارسة «جندي أمسك برأس السارد شائكاً وأحناه باتجاه الأرض»، وهذه العلاقة ستنتقل من الرأس الشخصي كمجاز مرسل، للمكان. ويتجلى الصراع في قصة: «الطيّون والجنود وأنا »، في اللحظة التي كان يمشي بها المواطن إلى بيته ببطء؛ تخلّل المشي مكالمة مع صديقه مالك، مضمونها ساخرٌ ومثيرٌ للضحك بصوت عالٍ؛ في تلك اللحظة التي أنهى فيها الضحك «سمع صوتًا غريبًا يبزغ كالبرق من عتمة جانب الطريق. (هو) صوت غريب، لا ينتمي إلى أية لغة أو وطن، صوت وحيد وبارد وخائف، لجنود إسرائيليين ينبطحون على بطونهم ويصوبون بنادقهم تجاه العائد إلى بيته ويشيرون له أن يتقدم إليهم.. كانوا متوترين جدّا أحدهم أمسك برأسه وأحناه باتجاه الأرض وآخر أغلق هاتفه الخلوي..(ص12) وهنا يتجلي الصراع على الوجود بين الجنود والأنا الفلسطينية، وذلك من خلال النظر في مقابلة الجملتين التالية:
1. «بين الحين والآخر يدوس الجنود على قدمي وبطني، عن غير عمد، كما أحسستُ».
2. «صوت غريب، لا ينتمي إلى أية لغة أو وطن، صوت وحيد، بارد وخائف».
وثمة مفارقة رائعة، وهي عَقْدُ القاصّ السببيّةَ بين الهزيمة واللذة، وهذا شكلٌ من أشكال تَعاقدِ وتَضامنِ الأنا الجمالي مع المكان الحميم والأصيل؛ تعاقدًا يَرفعه القاصّ برافعة اجتماع الطفولة. وفي المقابل، هناك التعاقد الفجّ بين المكان الغريب الجديد وبين الصوت الغريب؛ فهذا هو المؤلمُ المَحمول على سياسة الأمر الواقع، وهذا الغريب الجديد هو الذي يَسرق الحب والمكان. ولكن، يعد القاص، باسترجاعهما عندما يدور الحوار بروح اجتماعية وطنية (عمرانية) بين هيفاء وسامر وزياد:
«عندما أتزوج سأخبر أولادي عنه، هل ستأتيان معي؟
طبعًا، سنأتي، ومعنا أولادنا وزوجاتنا.»
يضمّن زياد خداش بعضَ النصوص بعبارات النقد العملي كقوله: «قررت أن أبحث عن سرّها، ككاتب قصة مجنونة تبحث دائمًا عن الغريب والوحشي والمدهش والممتد خارج حدود الأرض..(ص35، المرأة التي هربت ذات خريف). هذه القصة وغيرها، تقوم على تفاصيل أسرية وأمومية تثير فضول السارد، ليحولَها، بعد قليل، من ثرثرة عادية ذات طابع اجتماعي أسري، إلى لغْزٍ غامض مثير؛ سوف يأخذ أهمية القضية الغريبة. فيجعل المرأة (الزوجة) المطمئنة الهانئة المرفهة في بيتها، والتي تحظي بزوج تحبه ويعبدها ولا يخونها، زوج يوفّر لها الحماية ومقومات العيش والرفاهية. الزوج، عمّ الشابّ، يَعمل في الفرن: «يسبح في عرقه وطحينه، يقف، الآن، على حافة اللهب، لا يجرؤ كما يفعل هو (ابن أخيه) أن يَمدّ يده، أحيانًا، رأسه إلى داخل لهب الفرن، كما يحلو له (للشاب) ذلك ،وكم يستغرب عمه منه هذا الجنون، ألا تخاف أن يَحرقَ رأسَك اللهبُ يا ابن أخي؟ يبتسم ويُشعل سيجارةً، ولا يجيب. » (ص39). وهنا، تظلّ إشارة الفرن للجنس ضعيفة وغير مناسبة، ومثلها السيجارة المشتعلة؛ وإنْ كان الظاهر يحتمل ذلك في سياق العام. لكن، فالفرن الذي يضطلع بمهمة إنتاج الخبز لحياة الناس، سيأخذ دلالته العقابية من اقترانه بالعم الذي سيشار به إلى (الهولكست). ما يفعله الشابّ من تماد بِمدّ يده ورأسه يَحمل المعنى على الجرأة وتحمل مسؤوليات اللعب الذي سيقبض على جزء من أجزاء الجسم ويلقي به في دلالة الفرن العقابية. كذلك، مدّ الرأس داخل الفرن سيعني التسبب في إنتاج الفوضى التي تُولّد الفوضى؛ فلا ننسى، هنا، «عُقْدة الشَّعر»، التي يُعاني منها الشابّ. وهنا، نرى إلى الزوجة بوصفها (الدولة)، هي (أم الطفل) التي حلّت محلّ أم الطفل الذي أصبح شابًّا. لذا سيبتز هذا الشابّ زوجة عمه، فهو يرى أمومَته في خيرها (نهدها)، بعد أن حرمَه القصفُ المدفعي العنيف من أمه. وهنا يدير القاص الصراع إدارة موفقة بخلق التوتر والمواجهة بين الشابّ وزوجة العم؛ فالزوجة المرفهة والتي تتمتع بزوج يعبدها ولا يَخونها؛ فضلاً عن تمتعها بلياقة وصداقات وسفر للعمل وللترفيه.. هذه المرأة الذكية والتي لها طفلان وبيت سعيد تخرج منه، تهرب تاركةً الزوجَ، باحثةً عن شيءٍ غامض. لتبدأ القصة بالسؤال والبحث في أسباب هروب الزوجة المرفهة؟ وإذا ما دققنا النظر في اهتمام القاصّ بهذه المرأة، بمعزل عن الجنس، فإننا سنجد أنّ ذلك الاهتمامَ ما هو إلا (القضية) التي تتحدّد بها كينونة الأنا الساردة. لذا سيجعل القاص النهايات مسدودةً أو مفتوحةً على الغموض، مثلما هو الحال في قصة (المرأة التي هربت ذات خريف)؛ لنكونَ أمامَ نهايةٍ هي بمثابة نشيدِ عطش: «ماء ماء ماء» (ص37)، ليواصل القاصّ خداش في قصة: ( خذيني إلى موتي ) نشيدَ الجوع إلى المرأة، وتصويره لمشهد الإرضاع هناك. غير آبه بالمحرم الاجتماعي، فهو يريد زوجة عمّه التي أرضعته صغيرًا بعد أن ماتت بقصفٍ مدفعي عنيف. في البداية تمانع زوجة العم، وتدهش وتنفعل أمام مطلب الشاب غير المكفول، المحروم الجائع إلى أمه. ولكنها تضعف أمام إصراره وإلحاح الطفولة البادية في مطلب الشاب: «انهارت المرأة بين يديه.. وصرخت آه يا ابني، انفجر لهاث العالم في جوفه، وراح يمزّق قميصَ نومها الأزرق، كأنه يُمزّق وجهَ قائد الدبابة التي قصفت نهدَ أمه»(ص42)، حيث لون القميص يشير إلى علم الدولة العبرية. وهنا يُسجّل الشابّ انتصارًا (سياسياً) أو ( حلاً مؤقتاً ) لعطشه ولجوعه. ولكن زوجة العم لا تتركه يتمادى، فسرعان ما تَصفه بالمجنون، في الوقت الذي ما يزال يتمسّك بها، مُرددًا ولاهثًا: «نفس الشفاه، نفس الجوع، نفس الوطن يا أمي» (ص42). تَغضبُ، بدورها: « أخرجْ من بيتي. تلملم أشياءَها المبعثرةَ وتنهضُ كعاصفةٍ. أخرججججج، أيها الوقح. تطارده في غرف بيتها الأربع بصحون مطبخها وأحذيتها وزجاجات عطرها. تدفعه بيدها عن درج العمارة وتعود إلى شرفتها تنظر إلى أفقها المسدود وهي تتكئ بصمت» (ص42). إنّ اعتداء الشابّ على المُحرّم، زوجة عمه، تنقلنا لنفسّر هذا التصرف، أمام المجتمع، كاحتجاج وكردة فعل منحرف، على ما صار، بدوره، محلّلاً بنظر المجتمع الدولي لهذا القائد الإسرائيلي الذي اعتدى على الشابّ بأن قتل أمَّه بقصف مدفعي عنيف، وبالتالي حرمانه الآن، وعندما كان طفلاً، منها.
ينجح القاصّ في عمل حلحلة ساخرة حين هو يظهر زوجه العم في موقع الشعور بالذنب؛ فـ «في الليل وزوجها نائم، الطفل في سريرة، الصمت غارق في الحارة، اللهب هامد بالفرن، مشتْ باتجاه الباب فتحنه، هبطت الدرج (أي قدمت تنازلات مؤلمة) للشابّ الذي كان هناك ينتظر متكورًا وحده هائمًا على برد أقدامه بلا أم بلا بيت، تمسك رأسه، وتقربه من نهدها الأيمن (اليمين الإسرائيلي المتطرّف)، وقبل أن يعيد ارتشاف قطراته القديمة سمعته يهذي: «اللهب اللهب، خذيني إلى موتي» (ص42). ولكنها، سرعان ما تنهض فزعة على صوت بكاء طفلها، وتروح ترضعه هناك في غرفته«. إنها في هذه المرة تفعل عكس ما كانت فعلته في المرّة السابقة، وقت ضعفت وانهارت بين يديّ الشابّ؛ ففي المرة الأولى هي التي منعت تمادي الشابّ معها وحملته على الخروج بعد أن طاردته بأِشياء البيت. أما في هذه المرة، فإنّ صوت بكاء طفلها، أي حاجته لها، هو الذي منعها من التمادي في إرضاع الشابّ الطفل الغريم. كما أنّ هذا الصوت هو ما حملها على النهوض فزعة، مثلما نهضت كعاصفة، في المرة الأولى. وتبع النهوض دخولها لإرضاع طفلها في غرفته، تركت الشابّ في الخارج وحيدًا بلا أم بلا غرفه. هنا يتجلى التقابل والصراع بين الطفل والشابّ. مثلما هو الصراع بين الشاب والعم، بين الشاب وزوجة العمّ. ولكنها مرّة جديدة تخرج بعد أن ينام الطفل والبيت والحارة والعالم، تفتح باب الشقة، تهبط تخرج إلى الشارع، وحدها في الشارع، في الهدوء والليل الأسود الطويل عمّ تبحث هذه المرأة المجنونة؟ تتذكر المرأة أن كل شيءٍ ينام إلا اللهب وحده يبقى صاحياً وعارفًا بنهدين هائلين وحرين مخبأين بخبث وإهمال مقصود تحت قميص نوم أزرق بلا أزرار تمشي المرأة الغريبة باتجاه مكان ما.. (ص43 )، ويريد القاصّ أن يؤكد أن الذي وحده يبقى صاحيًا وعارفًا هو ذاته الرجل الذي بدأ القصة الأولى في المجموعة: «شتاء في قميص رجل» بهذه الجملة البداية: «مكان غريب، كأني أعرفه هل أعرفه؟(ص5).
أما النافذة التي تتكرر في بنية السرد، فهي ركيزة بنيوية مفتوحة على الداخل والخارج من مكان مرتفع؛ تبدو عينًا رائية وساردة لما تراه بنظرة واحدة مزدوجة؛ نظرة على ممارسة الجنس في الغرفة (الحماية)، ونظرة، في الوقت نفسه، على قيام الأم بدور إرضاع طفلها في الغرفة، وهو الدور الذي سيكفل نمو ممارسات الجنود كَقُوّاد خارج الغرفة. وهنا، سيكثر التداخل والاشتباك السردي والانزياحات الساخرة، وتبادل الأدوار، وتنقّل المراكز السردية وتلاحق العناصر وتجاور الأطراف والأضداد بأسلوب درامي في مسيرة الاحتكاك: الجنسي، بين الشاب والمرأة؛ والتعسفي بين الشابّ والجيش. وفي نقطة ما يحصل التعايش بين اللذة والألم، وينفصلان عندما ينفضح عنفوان الجنس متحولاً من كونه فضيحة إلى كونه ضرورة وإغاثة للحياة المهددة والمعرضة في عين النافذة للبطش والعماء الوحشي من قبل الجنود والدبابات فـ «روعه الجنس تأتي من أمكنته الغربية والخطيرة.. هل الجنس هو المكان»(ص19). هذا الإصرار على السؤال ينطوي على مرافعة، مثلما يشير إلى حالة التوازي؛ ونجد ذلك في قصة «جنون القمر» كمتلازمة بين: الدبابة والبيت، وفي الوقت ذاته، بين الشاب والبنت: «الدبابة تقترب من بيتها، شابّ جائع يختبئ خلف نافذتها، نافذتها المخطوفة المضاءة بشكل جيد، الشاب يلهث وهي لا تسمع أنفاسه، وهي غريقة أنفاسها وحشرجات ستارتها، الدبابة خلف البيت والشاب يتكور بجسد حزين وهزيمة منتظرة خلف نافذتها بالضبط، لا أحد يسمع أحدًا، كل دائخ بسجنه ومصيره، يدان لا تعرفهما حول السُّرّة، الدبابة حول بيتها، الشابّ حول موته، تتحرك اليدان الغريبتان بانخطاف مروّع تجاه الشق المختبئ البنفسجي، ذلك الإله المخذول المعذّب منذ حضارات عديدة، بطرف إصبع واحد يتحرك سكرانًا ومذعورًا إلى جنته الموعودة، السماء ضوء غامض يلغي الدبابات والطائرات ويخترع سماوات جديدة والصيف لم يعد صيفًا، صار رعدًا، تداخلت الفصول، خان الشتاء أمطاره ووقع في غرام الصيف، واشتبكت الحواس في تبادل مهووس لأدوارها ومواقعها..» (ص26، جنون القمر) وهذا التطبيق يتكرر على نصّ: «رقصتها الأخيرة».
مجموعة «خذيني إلى موتي» أداء فني عارم، يتخذ الجنس كمدخل لفهم الصراع على الوجود؛ فثمة سطوة تَهْزِمُ حين يكون الموت هو الجنود المؤدون لأدوارهم. ثمة هزيمة بالاختيار، هزيمة جمالية، تَعِدُ بِتجدّد الحياة، تلك المرأة التي ستأخذ الشابّ إلى موته، انبعاثِه، تهزمه باللذة لتعوّض هزيمته واغترابه.
ولعلّ خير نموذج للاغتراب نجده في قصة: «حشرة عمياء يقودها رجل»؛ فيها يسلط القاص السرد على شخص سبعيني أو على مشارف الثمانينات؛ عَرِفَ اسمَه «أبو الياس». وأبو الياس هذا حالة لأنا موجودة في عين السارد الذي يبدأ القصة بمدخل فيه يصف المكان وصفًا دقيقًا؛ مشيرًا إلى أنه هو، أيضًا، وحده مثل أبي الياس؛ أنا موجودة ومغتربة عن كل ما هو متغير وغريب ومتبدل ومهمل. لكنه من موقعه كمغترب عن الناس والمكان سوف سيقوده اهتمامه لرصد المسنين وتحركاتهم، سيسمع وينظر إلى عاداتهم وملهاتهم وبذاءتهم، من زاوية المقهى حيث يجلس وحيدًا مختبئًا خلف إحدى الطاولات. وكذلك أبو الياس ذلك الشخص المهمل، يجلس في طرف الطاولات، مهملاً تمامًا، لا مسموع ولا مرئي، غير موجود بالنسبة للمسنين المنشغلين عنه بلعب الشدة. ولعلّ من أسباب اهتمام السارد بهذا العجوز المهمل، هو أنه نموذج مماثل لأنا القاصّ المهتم بحضور المماثلة كقضية، وجدواها في تعرية ما يعتريه ويهدده في أربعينيته. هذا ما له أن يشيرَ إلى تقييم الموجود لوجوده، وما له أن يشير، أيضًا، لحالة الارتداد والنكوص والخسارة في سنّ النبوة هذه. شيء آخر كان جديراً باهتمام الأربعيني بأبي الياس؛ وهو أنّ الأولّ يعاني من كابوس قديم كان السبب في اهتمامه بالعجوز المهمل؛ فهذا العجوز هو «الحارس القديم لمخازن وكالة الغوث في الخمسينيات» (ص28). إذن، الكابوس هو «الحارس» ككلمة وكوظيفة أمنية، ستشير، على الدوام، لعقدة في نفسيّة الرجل الأربعيني؛ الذي يحكي قصته، الآن، مع حارس الجامعة الذي منذ سنين طويلة وهو يلاحق ويراقب ويطارد وينقض على الطالب الجامعي، في قاعات المحاضرات والكافيتيريا، وحتى حين دخوله المرحاض لدلق بوله وغائطه! وعند تخرجه ومغادرته الجامعة كأستاذٍ يكلفه مديره بالمشاركة في جامعة أخرى في مؤتمر حول ادوارد سعيد. سؤال الحارس الذي يتكرّر في كل موقف: «ممكن الطاقة من فضلك؟»، بهذا الشكل الساخر يُعِيدُ السارد نفسه إلى حظيرة الاهتمام. ولكن هذا السؤال المتكرر ككابوس بات يزيد من اغتراب الأنا التي تعيش، أساسًا، اغترابًا وجوديًّا وإهمالاً، وقلقًا داخليًا، ورفضًا لمظاهر تتعلّق بالشخصية، كشكل شَعر الرأس الذي يشبه حقلاً شائكًا. ويتعلق بالأمكنة الغريبة، القاسية، والثقيلة بتحولاتها الإسمية والجوهرية: (كالفندق الصغير الذي تحوّل لاحقًا إلى مقهى شبابي غريب الاسم(ص27)). حيث الامتعاض من التصرفات التي يقوم بها الشبان الثلاثة المجاورون له، بضحكاتهم الوقحة والغريبة كالتي «صدَرَتْ مِن أحد الشباب الثلاثة، ضحكة مقزّزة من النوع الذي يقودك فورًا دون أن تدري إلى الاعتذار للمزهرية المجاورة، أو اللوحة المقابلة، نيابة عن فظاظة البشرية، التي تنتمي إليها أنت»..، ولكن.. «عذرًا للشاب ضحكته المعادية، التي قد يكون أجبرَ عليها، فهناك أشياء كثيرة تضحك إلى درجة الوحشية في هذا الوطن (ص73). أما الحارس، من جديد، فهو شبح الأمن، هو اختزال لآخر يمارس على الأنا هوسه ووسواسه القهري، هو اختزال لإسراف وتعسّف الحارس الوطني والعربي. إذ أصبح هذا الحارس يشكل خطورةً، على النفسية والحياة المعرضتين لاستفزازات وخيارات العدو؛ بالقدر الذي شكلته الخطورة التي مر بها المواطن العائد إلى بيته، حين وقع في قبضة الجنود، وعندها خشي أن يموت بنيران فدائيين من شعبه (حراس وطن) بطريق الخطأ. إذن، هناك الطرفان ضد المواطن المسالم، العدو والحارس الوطني الذي «تفخر به إدارة الجامعة لأنه استطاع أن يكشف متسللين من القوات الخاصة الإسرائيلية» (ص30). وقد رَسَم القاصّ نفسه ككائن مشتبه به لغرابة مظهره، لفوضى شعره؛ معمقًا اغترابه وانبتاته. هذا التصرّف القاسي على الذات يحملنا على القول برفض الوجود، الآن، رفضًا وجوديّا محضًا مُشبعًا بالنظرة العدمية للعالم. ولكن مثل هذا الموقف لا يلقي بالوجود والمصير الوطني إلى الإهمال والعدم. فالنصوص القصصية، كما بيّنا، تُعالج الصراع معالجة فنية راقية، وتدافع عن القضية بأغنى الإمكانيات السردية الجمالية. أخذةً بخيارات وركائز جوهرية في الحياة كالجنس والسخرية والخرق الاجتماعي؛ دعمًا للأفكار المطروحة. إذ تقوم السخرية على موضوع فاجع يتحول العادي فيه إلى وحشي، والوحشي إلى عادي؛ يتحول فيه التوازن إلى اختلال واضطراب، والاختلال إلى ضرورة فنية: «صحوت فجأة على اضطراب غريب في رؤيتي للأشياء، فمثلاً حين قدّمت أمي لي فنجان القهوة الصباحي، ارتعبت، ركضت بعيدًا عنها، صائحًا: قنبلة يدوية..» (ص54، غرف للانتظار). هذا الاختلال في الرؤية، هو التحوّل عن وهم الاتزان إلى الإخلال، عن عمدٍ، بالهدوء، وذلك بملء الأفق بالسخرية: «ضحكات ضحكات ضحكات»، بدلاً من أن تظلّ الكلمات على أوهامها وادعائها بالتغيير. فالكلمات الأخلاقية لا تغيّر الواقع مهما بلغت صعودها الأخلاقي الرأسي، المثالي. لا بدّ، إذًا، من الذهاب للأفقي، والامتداد الساخر، ولابدّ من رفض العادي والمكرّر، لأنه مخيفٌ: «أنا ذاهب إلى مقهى، بيدي حقيبة كتب وأوراق ولاشيء غير عادي أبدًا، بالعكس تمامًا، فقد بدا هذا اليوم عاديًّا أكثر من اللزوم، وهذا ما أخافني» (ص74، مدينة تضحك.. رجل صامت).. «أحس أن الضحكَ العنيف هو آلية دفاع غير واعية ضد عنف غير متوقع، أو خوف دائم من خطر ما، يحسه الضاحك قادمًا لا محالة، ولكن هل يعني هذا أنني لا أعاني خوفًا ما من خطر قادم؟ وإنني خارج قانون النفس البشرية، وخارج تأثير أوضاع البلد؟ »(ص75). بهذه السطور القليلة يلخّص القاصّ ما يمكن أن نعتبره كلامًا سارتريًا أو سوريالياًّ أو عراقيًا وفلسطينيًا.
نصر جميل شعث
كاتب من فلسطين