زينب عساف تنتمي الى جيل المغامرين الشباب الذين ادركوا وعيهم الشعري وسط فوضى الاشياء، فوضى المعارف والهوايات والمغامرات، اقترحت لنصها شكلا آخر ومزاجا آخر، لم تتوطأ مع النصوص المهيمنة وشعارات المغامرين الاباء، لكنها تواطأت مع ذاتها، تلك المهووسة بالكشف والحفر والبحث عن الشهوات الساخنة..
سعت زينب عساف وبدأب شديد العناية بالبحث عن لحظتها الخالصة وسط عالم يمور بالتكرار والتشابه، حاولت عبر مغامرة الكتابة ان تمنح اللغة روحا متدفقة، تندفع من خلالها الى تلّمس ماتراه، مشدودة الى شغف ما تكشفه هذه اللغة من اسرار ومتاهات، اذ تبدو لغتها الشعرية مهووسة باكتشاف العالم من حولها، تتخيله بواسطة الشعر، او افتراضه نصا مفتوحا، تتجوهر في غموضه، تختزله بسرية طاقته غير المبددة، تحاول ان ترسم عبره اشكالا اخرى للأشياء المباحة الساحرة، (الوقائع، الفجائع، اليوميات، الكلام المباح، الامكنة) تهجس (دويها الاندر) كما يقول هنري القيّم، من لحظة اصطدامها بدهشة ما تكشفه وتتلمسه، واذ هي لاتؤمن بوجودها الفيزيقي المباشر القابل للمحو والغياب، فانها بالمقابل تجترح لهذا الدوي رؤيا تدفعها نحو المزيد من التوغل، رؤيا ماوراء التلمّس، اذ تبدو غواية اللغة هي المولدة الباثة التي تمارس فيها لعبة المراودة، تلك التي تكشف كل بطولات الذات، مثلما تلامس كل مراثي الجسد والمكان، الجسد المتمرد، والمكان النافر عن طفولاته البعيدة، ورغم انها الشاعرة الجنوبية المكشوفة على سحر الغياب ومثيولوجياته، والتي ترث جينالوجيا الرثاء مثلما ترث اغانيه وصناديق عائلته، فانها تقترح عبر شهوة القصيدة شكلا من اشكال القراءة البصرية، تلك التي تتلمس من خلالها خطوط المكان العميقة والغائرة، ترصد تفاصيله وارتباك يومياته، توهجها، قلقها، تلصصها وهي ترصد عصابية الجسد، خوفه وشهواته الخبيئة، حمى المقدس الناتئة في طقوسه وايهاماته.
هذه القراءة/الكشف/التلمس تدفعها بحدّة نحو محاولة الايهام بالاستعادة، ليس استعادة التذكر عبر استحضار سيولة الاحداث، الاخطاء، الرعب، الاقصاء، وانما هي محاولة في استعادة الوعي خارج الخطيئة، والاندفاع بهوس نحو كتابة نافرة تستبطن توهجاته، كشوفاته، عبر الانخراط في اللعب الحر على السطح الشعري/كتابة التطهير/الاعتراف/الخلاص، الحنين، الكتابة في لحظة وعي حاد، باعتبارها كتابة مولدة، مستفزة، اذ هي تلوذ بها انزياحا وتمردا واحتجاجا لكي تمارس امتياز نفورها عن السياق، مثلما تمارس وظيفة اكتشافاتها القاسية بامتياز آخر، تصطدم عبرها بالغائر من اليوميات/الكلام والوقائع/المرويات، لكنها تعيد تشكيلها بدلالات اكثر تجاوزا واكثر قدرة في التمرد على سياق مورثات الجسد واللغة، ضاغطة في بوحهما واعترافهما وسخريتهما..
لغتها البسيطة المتقنة، تنحني بقدرتها البصرية تلك على اكتشاف رؤية حانية، لكنها حادة ازاء الاشياء الناتئة في النص والجسد والمقدس، توظف وعيها الحاد (وعي ما تكشفه الرؤيا) في اعطاء هذا اللعب المقصود/الحر/الكتابة المغايرة توصيفا يتجاوز الالفة والمعنى المتداول المحتشد بهوس في قصائدها باتجاه الكشف عن فيض لانهائي من الدلالات الخبيئة، تلك التي يختزن فيها وعي الانثى الساخطة، وعي الكائن فيها (من الكينونة) ذاك الذي يبصر العالم جيدا، يرى تحولاته، خساراته، هزائمه بروح مجذوبة للتمرد وتجاوز غوايات الانوية الاولى، الانوية العائلية التي ترى بعيون لجوجة، مرتبكة، خائفة. رغم مايشوب كتابتها تلك مع استبطانات وتأملات، تجعلها الاقرب الى انجذابات الانثى المغوية الصانعة التي تصبح (الذاكرة المجبرة على الامومة) كما تقول ..
ولاشك ان هذا النمط من الكتابة الذي تتجاذب فيه اللغة مع الذاكرة، تتجاوزه الشاعرة بوعي قصدي ومتوال، تحدس ازاءها بمفارقة السقوط في فراغ ما، باتجاه الوقوف عند حافة وعي آخر، او مكان صلب لايطمئن بسهولة الى الاشياء المباحة، الرخوة.
ولاشك ان هذه الكتابة بالمقابل تجعل قصيدتها في نوبة عاتية من النفور الدائم، عن وصفية الخارج والجسد والمرآة والبيئة المغلقة، عن تاريخ الارواح التي تسكن اللغة والمكان، تحرضها على البحث في معطف اللغة عن شقوق لهروبات استثنائية، يمكن ان تنزع فيها نحو استعارة شعرية الكثير من الاقنعة، والكثير من المباشرة في آن، ليس لتلغيم العالم لغويا، والتطهّر من الذاكرة، بقدر ماهو البحث عن طرق اخرى، سرية، غير مكتشفة، لكنها اكثر حميمية، اذ ان الانسان /الشاعر فيها لايستطيع ان يعيش خارج شرطه الحميمي /الانساني.
هذه الكتابة تذهب بالشاعرة بعيدا نحو الاستزادة من لذة الاكتشاف، لذة التحرر من طغيانات التاريخ والاثر ورائحة الامكنة، فضلا عن البدايات الغضة التي رافقت تجربتها الشعرية المكشوفة على عوالم وتجارب لها سيولتها المدهشة ولها اسئلتها المثيرة دائما..
واحسب ان الشاعرة قد تجاوزت مجموعتها (صلاة الغائب) اذ انها اضافت لنمط قصيدتها الكثير من الاشتغالات التي تكشف عن موهبة وغزارة، مثلما تكشف عن وعي متجاوز بتقنية الكتابة، حيث بدت هذه المجموعة وكأنها استشراف قلق لتجربة تتشكل، تجربة لها مزاج المغامرة، تلك التي تسحب نصها من العرض/الفرجة الى الخصخصة المهيبة،تكرر بوعي الحديث عن فكرة الاستعادة لكنها تتجاوزها في ذات الوقت عبر رؤيا فقهوية تضع صلاة الغائب (المستحبة) و(التعويضية) في سياق استعادي وليس في سياق الفرائض، أي ان الغائب يبقى مهددا بالزوال مقابل الحدس بفكرة الحضور..
لقد عمدت الشاعرة في قصيدتها الجديدة الى استخدام وحدات تركيبية/تعبيرية توازي ماهو نفسي مضطرب، قلق، مشغول باكتشاف الذات والعالم واللغة والامكنة، وكأنها تسعى الى اجتراح ما يجعل كتابتها نوعا من الاركولوجيا في تاريخية قمع الجسد والذات والمكان، تاريخية الحزن و(الصراخ الانثوي) بالقدر الذي تسعى فيه الى تشكيل بنية خاصة لكتابة النص، بنية تحاول ان تستعير لها المفردة والجملة بدون تشبيهات واضحة، حيث تبدو خاصية هذه الكتابة عبر عناوين القصائد المكثفة والمختزلة، والتي تعبّر عن شراهة الذات الانثوية المكشوفة على مساحات واسعة من الفراغ الذي تجفّ فيه الاستعارات والمجازات وتنزاح عن بعض وظائفها، تلك التي لا تريد ان تكرر معها الشاعرة لعبة الهذيان الوصفي الذي وقعت فيه العديد من الشاعرات، اذ يبدو هذا الفراغ في كتابتها وكأنه نوع من الايهام بالاشباع والتوصيل الذي قد تفسره بعض القراءات بنوع من التغريب البصري الذي تستعيد من خلاله الشاعرة وظيفة الايحاء واحيانا الخداع، فضلا عما يمكن ان تقدمه هذه القراءة/ الوظيفة من اشارات مقترحة الى استحضار بنية المحذوف، تلك التي توحي دائما باستعادة الغائب، واعادة قراءة ما تتركه طقوسه وشفراته من آثار وخطوط وغوايات ..
في قصائدها الاخيرة تقدم لنا مقترحا مغايرا للقراءة، فهي تقترح لنا نصا يتجاوز نمط القراءة النفسية الى القراءة البصرية/التشكيلية، تلك التي تقوم على تفكيك المستوى الافقي لقصيدة النثر عبر تقطيعات كولاجية تنتقل فيها (العين القارئة) من البعد الثلاثي للسطح ( اليمين /الوسط/ اليسار) الى البعد الإيهامي/الزمني (البداية…..الفراغ…..النهاية المفتوحة) اوتقترح لنا نصا يقوم على تقنية تدوير النثر، اذ تبدو هذه التقنية مغامرة جريئة في تشكيل وحدة النص، مثلما تقدم رؤيا جريئة لمفهوم شعرية النص، عبر كثافته واختزاله وتوتره، مقابل محاولة مقاربة هذا النص عالمه المرآوي الذي يحفّز شراهة مخياله، وكشوفاته، وتلمّس ما يبدو انفرادا عن تلك المرآة والذي يجعل الكتابة التي تتوغل فيها زينب عساف وكأنها لعبة كشف، ولعبة تلذذ، تلك التي تنفتح على مساحات تعبيرية لها طابع السيولة، حيث تمنح اليومي والواقعي والحكواتي طابعا ينفلت عن نصه الى نص آخر، هو ذاته النص الظاهراتي الذي يبدو اكثر اثارة واكثر تعبيرا عن شعريتها..
واذا كنا نعرف ان تجربة الشاعرة زينب عساف لم تزل في بدايتها، الاّ انها تكشف عن شهوة المغامرة، والتمرد، والاندفاع، والبحث عن لحظة التجاوز، وهذا بطبيعة الحال يضع هذه التجربة امام مؤشر القراءة، تلك التي تكشف وتبصر، وتحوم باتجاه وضع النص الشعري خارج التوصيف الانثوي، وداخل التوصيف الفني بكل مستوياته الصوتية والأسلوبية والرؤيوية..
هذه القراءة ليست معابثة بالشعر والايهام بالمغامرة المجردة او التلويح بها كما تبدو عند بعض التجارب الشعرية الجديدة، لكنها تعكس رغبة عميقة لحيازة وعي الكتابة، ليس في كتابة النص كظاهر دلالي لشكل الكتابة، وانما في التعاطي مع احد اخطر اشكالات بيان نسق الشعرية وتحولاتها النصوصية في الشكل والوظيفة، اذ ان البحث في اسئلة القصيدة الجديدة، يعني البحث عميقا في مستوياتها البصرية والرؤيوية التي تمت الاشارة لها، فضلا عن مقاربة حدوس ما يمكن ان تحمله (الانا) الشاعرة (صاحبة الخيمياء اللغوية) باعتبارها الساحرة الرائية والمتعالية والمتوهمة والقريبة من غابة اغواءات واسعة، تلك التي تهجس الجسد ايقونة، واللغة نصا في المراثي، والكتابة تدوينا للاسرار. ولعل نصها المتمرد المنفلت عن سياق الغابة الى سياق المرآة، هو الذي يتحول الى نقطة المغناطيس التي تضع الجسد والنص خارج سياق التوالي باتجاه ان يكون جوهرا قابلا للتمرد على ذاته، مفتوحا على التحول من بنيته اللغوية الخاضعة لسطوة المعنى الى بنية تعبيرية تهدد صميمه القديم، اذ يتوهج بالتحقق مثلما يتوهج باعادة انتاج فكرة الغائب اللامع والمولّد والحي ولبس الغائب الخاضع لقصدية الموت، وهذا الانزياح يجعل التوهج علامة على حيوية البنية اللغوية وقدرتها على حيازة الازاحة، والجريان، تلك التي تبدأ من القناعة بان الشعر هو كتابة تخيّل،وتنتهي بتصميم هذا التخيّل في التقطيع والايهام بالفراغ عبر العديد من الميكانزيمات التي تعبّر عن سلطة وعيها التعويضي (انا الفراغ) الممتد والمتوغل خارج سلطة المكان وسلطة الجسد، وهذه الانتقالة تحمل الكثير من الدلالات النفسية التي توحي بوعي الشاعرة المتمرد، مقابل قلقها البكر ازاء عالم متورم بالتاريخ/السرد والمهيمنات والغيابات…
الشاعرة زينب عساف تطلق للشكل حريته، وكأنه هو المرآة الذي تتجوهر فيه ذاتها، او انه مجسها الذي يتوغل في الخارج، او ربما هو ذاتها/عريها الذي يخصّب ما حولها، تمنحه صفة التركيب المقطعي(المفردة+الفراغ) وهذا يوحي بدلالته الى ايغالات استثنائية، حيث يتحول نصها البصري عبر تشكيل الجملة /المفردة/ الصورة الى مجموعة نصوص تتكثف في ذاتها لتشكّل في سياق هذا التركيب نصا متواليا وبما يوازي ايقاع التتابع النفسي الذي يقابله فضاء من المحذوفات/ الفراغات.. وهذه الخاصية الفنية تضاف الى مهارة الشاعرة في تخليق ما يميزها من اشتراطات بنائية في تشكيل ملامح خاصة تضفي على تجربتها الشعرية الغضّة نوعا من التميّز، بما يجعلها اكثر قدرة على الاندفاع بقوة باتجاه كتابة المغايرة او السعي الى صناعة القصيدة التي تشبهها في نوبات تمردها على غائبها القديم..
ومن هنا اجد ان بنية الفراغ البصري في اغلب هذه القصائد هي تعبير عن وعي يتجاوز، وعي يقف امام دالة المحذوف النفسي، تصطنع له برهانا يجد في الانزياح اللغوي/الاستعاري مجالا تعبيريا استعاديا تحاول من خلاله الشاعرة ان ترمم ذاتها المتوجسة، القلقة، الباحثة، وان تواجه العالم الذي يحوطها، المكشوف على بشاعات وحروب وذكورات هائلة. وطبعا هذا ليس لعبا في تجريد الصورة الشعرية، بقدر ما هو محاولة في هندسة صناعتها، منحها المزيد من الايهام البصري الذي يمنح القصيدة نوعا من السحر الذي يوهم باللذة، فضلا عن ان هذا النمط من الكتابة قد يسهم في اعادة انتاج مفهوم القارىء واقتراح موجهاته، أي دعوته للسيطرة على الفراغات من خلال الايحاء او التوصيل الذي تفترضه طاقة الشعر المتجوهرة داخل اللغة..
في قصائد مجموعتها الثانية (بواب الذاكرة الفظّ) تبدو هذه البنى واضحة، فالشاعرة مولعة بالاكتشاف، اكتشاف الاشياء والعلاقات حولها، تكتب قصيدتها الخالصة بنوع من شهوة (التعرّف) الذي يفضّ ما هو غريب، يوغل الى اعماق الذات، ذات الانثى القديمة الحاملة للجسد وظله والمعنى وتأويله، وهذا مايجعل تدفق كتابتها الشعرية اشبه بالاندفاع نحو شعرية الابصار خارج الذات القديمة، اذ تتلمس خارج هذه الذات عالما يتشكل، توهمنا بصيرورته، باحتجاجه، بريبته، بشهوته الدافقة، تجعله الاقرب الى سيولة المعنى، تقاربه بنوع من الرغبة الحميمة، تلك التي تقابل ابتكار كتابة تعويضية/لذوية يتخلط فيها نزوع الذات المرآوية، مثلما يتجلى فيها الكشف والاحتجاج وقسوة تجاوز الغائب السحري والمقدس..
أنا الفراغ الذي احتله جسد يوما
لو رأيت نسختي الاولى لما احتجت الى الموت
مذ قطعت اوردة النوم صرت غيمة
إلاّ على غسيل يجفّ
مذ قطعت حبال النوم
لم يعد يربطني بالفراش
سوى حبل احلامي الطويل
تبدأ المجموعة من دلالتي العنوان/الثريا(بواب الذاكرة الفظّ) ،والاهداء (الى ماهر دائما) واللذين يمثلان موجهين يحددان مسار الكثير من شعريتها، العنوان ذكوري والاهداء ذكوري، لكنهما متقاطعان تماما، فالاول هو مقاربة للقسوة والثاني مقاربة للالفة، ويبدو ان هذا التقاطع ظل باعثا على المزيد من الاكتشاف والتوغل والاستعادة ايضا، حيث دفعت هذه الثيمة (التقاطع) الى استحضار الكثير من الدلالات المتقاطعة، مثلما دفع الشاعرة الى المزيد من الانغمار في بنية التوالي التدويري الذي بدا واضحا في اغلب قصائد المجموعة، وكأن هذه البنية اكتسبت بعدا صوتيا مثلما هي البنية التصويرية، اذ جعلتها صوتها الخاص الذي يعبّر عن تحولات(اناها) المتحولة في الفراغ والمكان والحلم، وهذه الخاصية ذات ايحاءات نفسية تعبّر عن طبيعة الصراع الذي يعتمل فيها، فضلا عن ان استخدامها هذه التقنية يعدّ بمثابة نوعا من المواءمة بين صوتها الداخلي المندف في قلقه وشهوة انفلاته وبين الخارج (نسختي الاولى، حبال النوم، الفراش) وهذه الخاصية وجدت في هذه القصيدة مجالا للاستغراق الذي يبدو وكأن جميع قصائد المجموعة قد جعلها اشبه بالقصيدة الواحدة، انها قصيدة تدوير منثورة، اقترنت في نظامها البنائي الشكلي بنمط قصيدة التدوير التي كتبها الشاعر حسب الشيخ جعفر، لكنها لم تقترن بنظامه الصوتي التفعيلي الذي اعتمدته قصائده الشعرية خاصة في مجموعته(عبر الحائط في المرآة).
قصائد زينب عساف خرجت عن ايقاعها الصوتي/الغنائي (التفعيلي) الى ايقاع بصري يقوم على اساس تشابك الصور وبتدفق نثري تتكثف شعريته عبر هذا التوالي الذي تصنعه العين الرائية والمؤولة من صور تدور حول تحولات الانا خارج مرآتها وداخل ازمتها..
الانا الشعرية في قصائدها هي (ضمير المتكلم) الخارجة، القلقة، البحثة، تستثمر دلالة العنوان للكشف عن فظاظة البواب الذي يذكرنا ببواب الجحيم في المثيولوجيات، وتستثمر دلالة الإهداء للكشف عن لحظة التعويض الخصب/ الإرواء المناقض تماما للدلالة الاولى.. وهذا ما يضفي نوعا من التقارب بين اغلب قصائد المجموعة، اذ هي تتكثف لتعبّر عن الانشداد الى فكرة الخلاص، متلما تدور حول الانا التي ترى، والانا التي تعشق، والانا التي تحلّ في الفراغ، الانا التي تمحو الذاكرة، الانا (التي تلقي نظرة على النساء المنتحرات) وهي في هذا المنحى تقترب متأثرة بتجربة الشاعرة جمانة حداد التي تتلمس عبر كشوفاتها الشعرية شهوة الموت، شهوة الانوثة التي تكشف سريته عبر الانتحار.
في قصائد زينب عساف نجد تأثراتها الشعرية، لكننا ايضا نلمس اناها الصاخبة المندفعة نحو تمردها وخلاصها، باعتبار ان هذه الكثافة الانثوية هي التي تبصر، وهي التي تتجاوز توترات الرغبة الايروسية الى استحضارها عبر رغبات انسية (الامومة، تليين ارصفة العالم، التمرد على الحكاية، تدوير الكرة اكثر) وهذه الرغبات هي رغبات استعادية، قد يفسرها علم النفس بالنزوع النكوصي، لكنها هنا تمثل رغبات تعويضية تقترح لها مستويات تعبيرية، تبدأ من محاولة وضع الانا كقناع للأنثى التي تكسر مرآتها وتتجاوز حواءها وتنتهي عند المرأة اليومية التي تبصر تحولات اليومي وفجائعه، وهذا لايصنع مجالا متخيلا، بل يقترح رؤيا حادة، باحثة، مستعادة، تكشف عن مجازات المكبوت عبر تفجرات شعرية اللغة، تلك التي تتكثف في قوة الاستعارة البصرية.
في قصائد المجموعة التي توحي عبر عنواناتها الثانوية عن رغبة متدفقة للشاعرة بالحضور، نهجس رغبة الشاعرة للتفلت عن لحظتها القلقة باتجاه قلق اكثر توهجا، لكننا نكشف ايضا عن رغبة قصدية، ترتبط بمحاولة تلميع السطح اللغوي الذي يفتقد الى وضوح الجملة عبر وضوح الكلمات، اذ تبدو الكلمة هنا وكأنها بنية بصرية مكثفة توحي بالحضور الذي يؤشر حيوية ما تراه وما تكتشفه، وما يمكن ان تضفي عليه من التماعات، تسعى من خلالها لإضاءة اليومي والحسي، ليس تذكرا وانشدادا الى ايهامات فكرة الغائب الطقوسي والغائب العائلي، وانما محاولة للتملص من ربقة الوجود المهيمن بواسطة اللغة، تلك التي تتحول الى مجس او تطهير او مرآة، وهذا كله يبدو وكأنه محاولة للانصات الى صوت آخر، ينسل من لغتها المرآوية، مضمخا بالاحتجاج ودافعا بها نحو محاولة نزع صورتها من مرآتها، واللحظة من زمنها المتصل السائل في شقوق الوقت، والجسد من ازماته وفخاخه واشتعالاته المكررة..
كل هذا يجعل الشاعرة في نوبة من الصراخ، الكتابة احيانا تشبه هذا الصراخ، بحثا عن توكيد رمزي لاحتجاجها ولخلاصها والرغبة الحميمة للتجوهر في حريتها، تلك الحرية التي تبيح المزيد من الاكتشاف والمزيد من التطهّر، والمزيد من الجنّات الارضية، والمزيد من الحميمية، اذ تغدو (الاوردة، الامومة، الاقفال، النوم، وغيرها) موجّهات للكشف عن (وعي تجاوزي) تنمو فيه الدربة والخبرة لتكوّن منظومة من المجسات التي تشرعن حيوية الشاعرة وهي ترى وتبصر وتكتشف وتؤول وتنعتق وترحل وترمي حجرا على مرآتها، تطرد صورتها القديمة، وتخلق صورتها الشعرية بوعي قصدي يختزل العالم في اللغة، ويتجاوز عتبة نكوصه من خلال انطلاق شراهته اللغوية، تلك التي تبادل من خلالها العالم والامكنة والآخر والمقدس والذكوري والانثوي نصها الشخصي المؤنسن الذي يغدو نافذة او سريرا او رفضا او لحظة احتجاج عاتية او غيابا لا عرفان فيه سوى حضور الانا الواحدة، العارفة، المتعالية..
نز عوا الاقفال
ذاكرتي عمياء وغير لطيفة
ها اني انزف امي
وابي
واخوتي الصغار ابدا
لم ينقض الوقت
فقط هربت من طفولتي
واستعجلت كسوفها
لم ينقض الوقت
لكني بيدي هاتان هززت اضرحة الاولياء
حتى خرجوا ناقمين
بيدي هاتان مزقت وجهي
في مرايا الحانات
شعرية زينب العساف وتدفق صوتها بكل ما هو حميم وساخط، يؤكد رغبتها في ان تضع هذا الصوت خارج الفته القديمة، وداخل صراخه الجديد، اذ ان انحيازها نحو الاستعادة وتفكيك خرجها القديم(الرمزي والصوري) هو اصرارها على شرعنة تجاوزها لكل ازمات وعيها المحبطة في الجسد والمكان واللغة. ولعل بحثها الدائب عن تقنية صوتية خالية من الحداء والنداء والايقاع المكرر والرتيب وتأوهات المكان يمنحنا الاحساس بقدرة هذه الشاعرة على (صناعة الحرية) وترميم الجسد في ضوء شروطها، اعادة انتاج تاريخ الامكنة تبعا لما تفضي اليه من تعريات تمنح تلك الامكنة صورا مغايرة ودلالات جديدة ومعاني اكثر توهجا وربما اكثر اثارة للالم والفجيعة..
واحسب ان تجاوز شعرية زينب لنفسها، وخصوصيتها في ان تكون شعرية خالصة لتجربتها في الكشف والتي يمور فيها اليومي بما واكثر إدهاشا وحراكا واندفاعا، اذ يبدو ان لعبتها اللغوية هي مواجهة حادة لاتساع حيوية هذا اليومي (رغم عدوانيتها احيانا) تسعى لإعادة قراءة تشكلاته، عوالمه الباطنة والظاهرة، تلك التي تصنع من البنية النفسية اكثر اقترابا من البنية النثرية باعتبارها بنية توصيفية، تتكثف فيها الجملة وتتسع الفكرة، مقابل ان يتسع الفراغ فيها ليكون هو جزءا من البنية الشعرية بدلالته الحاضرة الموحية، مثلما هي الكلمة المكثفة المرتبطة بما دونها والتي تشكل الجزء الآخر من شعرية القصيدة، وهذا ما يجعل قصائدها لا تعنى كثيرا بالاشتعالات المجازية والاستعارية التقليدية التي اشبعتها الشعرية العربية كثيرا، فميزة هذه الشاعرة هو قدرتها على تهييج اليومي ليكون مولدا، صاخبا، شهيا،فضلا عن حيويتها في تخليق تصادمات داخل هذا اليومي، تصادمات تقنية وتشكيلية/لونية، وبما يجعل القصيدة وكأنها كتابة تأمل واستعداء ومراقبة ومفارقة واكتشاف آخر،تطارد فيها الشاعرة لحظتها الهاربة، جسدها القديم المرآوي والعائلي، او انها تدفع ذاتها العارفة للمزيد من الاحتجاج والسخط واحيانا المحو على الكثير مرموزاتها اللغوية والطقوسية والوجودية والذكورية التي تتجمهر احيانا امام نوبة الشعر العاتية.
انها تشرع نحو كتابة فادحة، كتابة باتجاه التعرّف المغاير، باتجاه اعادة تأهيل الفراغ/الوقت المسفوح امامها، كتابة باتجاه الجسد الخالص، الجسد الشخصي، وباتجاه تجاوز عقد المثيولوجيا التي تركت على لغتها وذاكرتها وجسدها ندوبا، ربما تكون اللغة ترياقا رمزيا لتطهيرها او نوعا من الحريق الذي يطهر الذاكرة من آثامها العتيقة..
سأترك للاسود
ان يهجر شعري الى ثيابي
صحراء من الوقت تمتد امامي
ورحمي غير دافئة
كم ارغب بحرق البنطلونات الرجالية
المعلقة في ذاكرتي..
علي حسن الفواز كاتب من العراق