في الشرفة وحيدا.. الأوراق الصفراء أتت ورحلت.. في أعالي السطوح، أو من شرفة وحيدة، تبرعين، تمشط مساحات صامتة وبيوتا كثيرة أرهقها التعب. وبعد أيها الصديق اللطيف. من أين لك الدم الثائر هذا؟ في أعالي السطوح، لا زالت العيون الكثيرة تفتش عن صور جميلة وذاكرة عذبة ومساحات لهو وحياة جميلة.
لم تكن الوجوه تحلم بالدخان الليلي يغلق فتحات الهواء المنعشة، الفتحات الوحيدة في غرف مليئة بالأرق. ولم تكن أنت كذلك.
منذ مدة وأنا ألمحك غاضبا من شيء لا أفهمه، أوزع في وجهك ابتسامتي التي تحبها، فتهديني غضبك وظهرك وتتصرف.
ما الذي حدث؟
حين احتجتك قي الليالي الماضية، كان وجهك يشرق متهللا، تقعد معي لنحكي معا عن أشيائنا الصغيرة والكبيرة.
وحين احتاجك ا لآن اجد فراغا خاويا.
أنده عليك فأجد في وجهي صمتا متعبا ومراة تأمرني أن أنظر في الوجه الذي تعبره السنين العصيبة، وحين أنظر لا أرى سوى صورتي القديمة.
وتحدثني سيجارة عن مشوار البداية وحديث الأصدقاء الذي جف والديانات الكثيرة ورحلتي معك.
ويلمع كاس في منتصف الليالي، ليحدثني بشكل مستفيض ولساعات كاملة عن الرؤوس المشردة بين أبواب الحانات السكرانة وبين التعريشة القديمة حيث زفر الأجداد نفسهم الأخير في عود غليون ورحلوا، ويحدثني عنك ورحلاتنا الجميلة، وتشردك الآن بين صمتك العميق وفوضى الحانات.قبل ليال بسيطة، ناشدتني الظلمة لأخفف عنها وحدة طويلة، كنت أنت نائما بعد ليلة سكرانه، وكنت منذ فترة طويلة قد عزمت ألا ألوث دمي بحرقة التعابير، تصطف بلهاء أمامي ولا تساعدني.
وكنت قد عزمت بان تبقى الأحلام في قلاعها السماوية، حيث تنظر ان تهبط للأرض فتفاجأ بريش غراب ينتشر في الغابات والصحراء
والبحار.
وكوب الشاي رأيته جامدا في البعيد تتحلق حوله الصراصير الصغيرة.
لا أدري ما الذي كتبته في تلك اللحظات المسجونة بدم الوحدة، تقطع الشرفة وتملأ الغرفة والرأس.
لكنني حين استيقظت في صبيحة اليوم التالي، لم أجد ما كتبته، ولم أجد ورقة ولم أجدك، فجزمت بأنني ربما كنت أحلم أو أن شيئا من الذي كتبته لم يعجبك حاولت بعدها ان أتذكر ما كتبته، وحين يئست ارتديت ملابسي وخرجت.
كان الصباح كالعادة، حزينا بمعطف غامق، ينتظرني عند باب الغرفة ليرافقني نحو تجوال قصير عند بحيرة هادئة يعوم فيها أوز جميل،
وعلى بعد أمتار تقعد الصبايا الجميلات يغنين عن الحياة البعيدة ويحلمن بأطفال يملأون الساحات الفاضية حيث يلزم عليهم بعد ذلك أن يقوموا بدور القادة العظام في إدارة حرب طويلة نهاب!ها مألوفة.
حيث – كعادتي – تناولت سيجارة ومددت نظري للبعيد.
وصعد نظري، طرق منا!ل عديدة ورأى وجوها قديمة، وتمنيت أن
تتحول السيجارة الى غليون والبحيرة الى واد والصبايا الى أشجار، حيث آخذ نفسا عميقا من الغليون وأموت، حينها تنبح الكلاب بشدة وتولول النساء كالعادة.
الليلة الماضية، حين كنت تغط في سبات عميق، فيأتي شخيرك مزعجا، انتابني الهاجس ذاته، لكنه كان ملحا أكثر من ذي قبل، فكتبت كثيرا وتخيلت وأنا أفرغ بانك غدا ستكون سعيدا وأنت
تقرأ تعابيري الأخيرة. وتخيلت وأنا آخذ نفسا طويلا من سيجارتي الحادة، أننا قد وصلنا لأشيائنا الجميلة التي تقاسمناها معا منذ زمن بعيد، وأن الأحلام في قلاعها السماوية سترى لأول مرة غابات خضراء وبحارا صافية وجبالا، وتخيلت وجهك السعيد في الصباح الباكر، توقظ منامي
وتدعوني لوليمة غداء دسمة وسهرة جميلة.
لكنني، حين استيقظت، وجدت كل ما كتبته قد اختلط بالبول وبقايا السجائر في المرحاض.
هذه الليلة.، بداية العطلة الأسبوعية، راودتني الهموم نفسها، لكنني خشيت أن يذهب كل ما أكتبه ضحية هوسك الغريب. تعودت دوما، في مثل هذه الليلة، على شراء قنينة نبيذ حاد،اقعد معه حتى الفجر حيث السماء هادئة بديعة هنا، عدا أحيانا بسيطة حيث يعبر قطار أو تمخر طلقة مسدس عباب السكون. وحيث أطل من شرفتي فأرى الغابة تتحول الى سحرة وكهنة يتناوبون في اصدار الأوامر للكلاب الكثيرة كي تنبح، فيبقى
الليل مشمولا بأشياء غريبة في الرأس. أو ترى الغابة فجأة تتحول إلى نار هادرة فينطفيء معها الهدوء وأنام.
هذه الليلة، مسكون أنا بك، أحاول أن أتلصص في ممرات حالكة السواد لا بحث فيها عن سر تمردك الأخير، وعن سر الغضب العاصف في
عينيك، وغيابك في الليالي، وشكرك المستمر حتى أنني لم أعد أراك الا نائما.
وحين غص الط ون في صمت ثقيل ومع رشفتي الأولى من الكأس الرابعة كنت قد بدأت الملم كل أفكاري عنك، وكل ذكرياتي القديمة معك.
تذكرت حين كنا صغارا، كنا نتسابق بلهفة غريبة لصعود نخلة صغيرة، أو سدرة، وكثيرا ما سقطنا فاشلين فتتقاذفنا سياط الآباء التي لا ترحم، وتذكرت عيون الجوعى التي تترصدنا في سوق الظلام أيديهم التي تضغط على مؤخراتنا وتمضي.
وتذكرت فرحاتنا الصغيرة في المدرسة وكيف كنا نلهو معا دون ان ننتبه للمدرس يقص علينا الحكايات المختلفة عن الجنة والنار وآخر نظريات الطبيعة وأصل الانسان وتكون الأجنة في أرحام النساء ومشاكل الاقتصاد العالمي والنظريات الرياضية، وننصت بعمق ورغب الحكايات "دون كيشوت " المجنون، سخريات المازني، والكاتب الذي انتحر فجأة، وجنون "هتلر" وهزائم الحروب التي الية، وقصائد الحب الجميلة، وكبرنا معا بعد ذلك، فأصبحنا نستمع لحكايات الجنس، ونعاكس امرأة في الشارع، ونتصيد النظرات في الأسواق المملوءة أيام الاعياد، ونهرب بوجباتنا الصباحية خلف الجبال في نهارات رمضان وندخن السجائر في منتصف الليالي دون أن يعلم أحد.
إن أشياء كثيرة تعبر اللحظة مرفقة بصور أصدقاء أحببناهم، وأخرى مكثنا ليال طويلة نشتمها حتى احترقت.
ومرة حين كنا نهم بسفر فجائي دون ان نعلم أحد، وجهزنا الحقائب والجوازات، ولملمنا كل ملابسنا الجميلة وبقايا الصور واصوات الأصدقاء الذين نحب، وجدنا الوجوه القبيحة بانتظارنا عند مدخل المطار بابتساماتهم الساخرة، فتطايرت حقائبنا في الهواء.
وحيث مساءاتنا الغريبة بعد ذلك، شاي النعناع الفجري والسجائر الكثيرة، والافكار المملوءة بجنون الكتب التى قرأناها سويا عن النهايات والأهداف النبيلة وقصائد الجنون، وأصل الحكايات القديمة؟ ومتاهات الكأس حين انتبهت، كانت السيجارة الأخيرة تعلن موتها في المنفضة والكأس الثامن ب -شك على الانتهاء، وبقي الكأس الأخير ينتظر دوره في القنينة.
تجرعت ما بقي في الكأس دفعة واحدة، وسكبت ما تبقى من القنينة وشرعت في الكتابة.
كتبت صفحة أو اثنتين أو ربما أكثر لا أذكر ما الذي كتبت.
ربما عن طفل تحداه صديقه لصعود جبل وحين فعل ذلك سقط ومات.
أو عن الفتاة الجميلة في الشقة المجاورة.. أو عن الساحر الغريب وكلابه النابحة في الغابة.
أو عن قوانين "ويبرز" السخيفة عن دهاليز الذاكرة…
وبعدها نمت
كنت واثقا من أن شيئا من الذي كتبته سيعجبك..
لكنني حين استيقظت في صبيحة اليوم التالي، وأنا مملوء بصداع غريب، وجسدي يرتعش بشدة، وجدت كل أوراقي وقد تحولت هذه ا لمرة الى بقايا رماد وتناثرت مع أعقاب السجائر في الطاولة.
في حين تحولت القنينة الفارغة وكأس إلى اجزاء صغيرة تناثرت قي الغرفة الصغيرة وثمة دماء توزعت في الأرضية وعلى حافة سريري. بقيت مرتعشا حزينا بما حدث أو كيف.
حاولت أن أتذكرها كتبته ودفع بك نحو غضب عارم عنيف، لكنني لحم أستطع. مكثت هكذا حزينا صامتا فوق السرير، كومت جسدي ودفنت وجهى بين راحتي يدي وبقيت على حالتي تلك فترة طويلة قبل أن أهم بالبكاء.