لن أدخلَ – وأنا أتكلم عن الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة- في متوالية التوصيف المعلبة، الجاهزة دائماً في حقائب النقد، تلك المتوالية التي شاعت، ولا تزال تشيع مفرداتها في خطابنا النقدي العربي استجابةً لعوامل عدة لا يتسع لها المقام الآن.. المتوالية التي تنتقل من الحديث عن النص إلى تتبع سيرة صاحب النص أي الدخول إلى النص من خلال صاحبه، وهو ما يمكن ان أسميه بين قوسين « النقد السيري» الذي يستفيد في تأويله النص من سيرة صاحب النص، فيرجع بنا إلى مفاهيم بالية مثل «جو النص» أو «مناسبة النص» الأمر يجعلنا نقيد النص المفتوح بخصوصية حدث أو خصوصية سيرة.
هنا – في هذه الدراسة – سأجرب الدخول إلى عالم الشاعر من خلال اكتناه نصه، وليس الدخول إلى النص من خلال اكتناه السيرة والحدث الذي يحرك النَّص أو ينتجه.. كما سأبتعد عن أي توصيفٍ نقديٍّ مُعلَّبٍ أصف به صاحب التجربة موضع الدراسة، إذ إن التجربة الشعرية لديه تضعه فوق العُلبِ النقدية الجاهزة المصنوعة من مفردات « شاعر كبير» أو شاعر متفرد أو « علامة شعرية بارزة »في تجربة الإبداع الخليجي خاصةً، والإبداع العربي عامةً.
وقد حاولت الدراسةُ هذه أن تتلافى الدخول في مثل تلك التوصيفات الجاهزة حول النص والمبدع لسببين:
– الأول:
إن وجود تلك التوصيفات المعلبة هي دليل فقر، وأنيميا نقدية تتوسل بالمعلب كثيراً لتقي نفسها عناءَ الاكتناه والاكتشاف والمغامرات القرائية المغايرة.
– الثاني:
أمَّا السَّبَبُ الثاني فيكمن في النقطة التي تسعي هذه الورقة إلى إضاءتِها في تجربة علي عبد الله خليفة الشعرية ألا وهي «العلاقة بين ترسيم المشهد الشعري لدى الشاعر، وسؤال الدهشة الذي ينبثق منه ذلك المشهد، وكيف تُنتِجُ تلك العلاقة منظومتها الدلالية المفتوحة».
وقبل الدخول في تفاصيل تلك العلاقة نطرح أسئلتنا القلقة عن لحظة الإبداع:
١- من أين تبدأ؟
٢- ما باعثها؟
٣- ما المثيرات التي تحركها؟
٤- هل تصدق الرؤية النسقية الثابتة في وجدان الكتابة النقدية حول لحظة الإبداع؟. تلك الرؤية التي تجعل من المعاناة الباعث الأكثر حضوراً وتأثيراً في تلك اللحظة.أم أن هناك رؤية مغايرة لا تعول على المعاناة قدر ما تعول على الإحساس أيَّا كان نوعه في ميلاد اللحظة الإبداعية؟.
وتبدأ الورقة بالإجابة على السؤال الأخير كونه يتعلق بفرضيتها، إذ تميل ناحية الرؤية الأخيرة المغايرة على حساب الأولى النسقية، معتبرةً إياها فرضيتها الرئيسة التي تسعي للتأكد من صحتها.
أما فيما يتعلق بالإجابة على بقية الأسئلة (١، ٢، ٣) – التي سبق طرحها على عدد غير قليل ممن جمعوا بين ممارسة النقد الأدبي والعمل في مجال الدراسات النفسية وعلم النفس- فتكمن في أن الإحساس بصوره وأنواعه المختلفة هو الباعث الأوحد على اللحظة الإبداعية، ونقطة بدايتها إذ إن أحاسيس البشر جميعها يحركها الفرح كما تحركها المعاناة كما تحركها الدهشة. وعندما تنفجر براكين الإحساس داخل الذات المبدعة (الذات التي تمتلك مقومات التصوير والتعبير عن ذلك الإحساس في شكل من أشكال الخلق والإبداع..) تتفجر استجابةً لها طبقات الوعي، ومن تفجر طبقات الوعي يتولد الإبداع.
يأتي سؤالُ الدهشةِ المنفجر من الوعي المصدوم بلحظة الدهشة عند خليفة في ختام مشهده الشعري- وأحيانا في بدايته، أو منتصفه أو ممزوجاً في المشهد إلى حد الذوبان وطرح السؤال القلق لدى التلقي:
ما الذي يسبق الآخر سؤال الدهشة؟ أم المشهد الشعري المختزل المكثف في ذلك السؤال؟».
ويأتي سؤال الدهشة لدى خليفة لأغراضٍ سنفصلها لاحقاً.ولكننا قبل ذلك نودَّ أن نستخلص فرضيةً نقديةً عامة مفادها أن سؤال الدهشة عند خليفة يأتي لاختزال المشهد الدلالي لديه في معادلةٍ محبوكةِ المتغيرات تدشنُ لنفسها ميزتين مهمتين تصر عليهما عبر معظم – إن لم يكن كل – المشاهد المكثفة،المختزلة في شكل أسئلة:
– الأول: تكثيف المشهد من حيثُ اللغة إلى أقصى الحدود الممكنة.
– الثاني: فتح المشهد ذاته على مصراعيه أمام التأويل والدلالة بعد التزاوج الذي يتم بين ذلك المشهد وسؤاله المندهش.
ففي حضرة المعشوق يأتي سؤال الدهشة لدى خليفة في نهاية مشهده الشعري لينتصر للميزتين السابقتين:
فهو (أي سؤال الدهشة) يقدم مشهداً عاماً مكثفاً مختصِراً لجزيئات مشهده الشعري الموزع عبر مفردات المقطع، ويفتح الطريق أمام التلقي للدلالات القابلة للانزياح حسب درجة الصدمة التي يخلفها ذلك السؤال المندهش في الذات المتلقية للسؤال ومشهده:
فاجأتني رجفةُ النقشِ على الصخرِ/ دماءً سالت الأحرفُ منها،فتأملتُ/ دمائي تشهقُ العبرةُ فيها/ وأنا أجمعُ في البحرِ شتات الأرخبيل/ فاستويتُ، وثبَّتُ على الحق يقيني/ ويح روحي!! أيُّ نارٍ تصطليني/ وأنا في حضرة المعشوقِ/ مصلوب ومن كُتْبي وقودٌ لحريقي؟!(١)
ولم تقف استراتيجية تكثيف المشهد الشعري في هذا المقطع عند سؤال الدهشة وحسب، لكنها- وقبل الولوج في سؤالها المندهش قدمت لهذا السؤال بعلامتي تعجب تقاربان – بشدة – لحظة الحيرة والقلق والألم والتحسر التي تقود المشهد:
«ويح روحي!! أيُّ نارٍ تصطليني» (٢).
كما أكدت (إستراتيجية تكثيف المشهد) لحظتها تلك بختم المشهد والسؤال بعلامة تعجبٍ أخرى تفتح الفضاء الدلالي أمام التلقي استجابة لإحساس الحيرة العاجز لدى الشاعر عن وصف ناره التي تصطليه.
ويأتي سؤال خليفة – أحياناً – مباغتاً لسائر عناصر مشهده الشعري التي تلي السؤال. ففي قصيدته«على رصيف المحطة» تباغت الأسئلة عناصر المشهد الشعري الأخرى إلى الحد الذي يمكن معه التسليم بفرضيةٍ مؤداها أن السؤال هو الذي يصنع المشهد ويحرك الدلالة في شكل استباقي مباغت لكل دوال المشهد التي تلي ذلك السؤال الحائرِ المندهش:
قطار الحب يا قلبي تراه فات أم طوَّل؟/ أم الساعات خانتنا فما عادت كما الأول؟/ هل الأحزانُ عرتْنا/ فجُنَّ الشوقُ ملهوفاً ولم يَكْمَلْ؟/ أمِ القضبانُ قد حملتْ / قطاراً مرَّ من زمنٍ، فلم نرحلْ؟/ متى نرحلْ؟/ فهذي الوقفةُ الخرساءُ قد ضاقت بأيامي/ وهذي الوحشةُ الصماءُ ترهقني../ وتزرع في الحشا المسلول/ وخز الشوكِ في المقتلْ/ خريف الوحدةِ الظامي، يؤنبني../ وبردُ الليلِ مشغولٌ بإيذائي، وإيلامي/ أحاسيسُ الهوى لهفى مُجَنَّحَةٌ../ تلوبُ وتشتكي حيرى، فهل تقبلْ/ جفافاً موغلاً في جدْبِكَ النَّامي/ يحطم توقَ أحلامي،/ ويدميني؟ ( ٣ ).
فمشهدُ الوحشةِ، والوحدةِ، والحيرةِ، الذي تشكلَّ لاحقاً من:
(الوقفةُ الخرساءُ/ تلوبُ وتشتكي حيرى/ خريف الوحدةِ الظامي / وبردُ الليلِ /أحاسيسُ الهوى لهفى / الوحشةُ الصماءُ) ثمَّ أكدَّ الشاعر وحشته واغترابه بسؤاله الراغب في الرحيل عنه ( متى نرحل؟) كان قد تم اختزاله في مففتح المقطع بالأسئلة المباغتة الحائرة:
قطار الحب يا قلبي تراه فات أم طوَّل؟ / أم الساعات خانتنا فما عادت كما الأول؟/ هل الأحزانُ عرتْنا
فجُنَّ الشوقُ ملهوفاً ولم يكملْ؟/ أمِ القضبانُ قد حملتْ/ قطاراً مرَّ من زمنٍ، فلم نرحلْ؟
وكثيراً ما تتفيأ أسئلة خليفة ظلال الانزياح- متوسلةً في ذلك بعنصر المباغتة الذي سبقت الإشارة إليه – لترسم لحظتها المفتوحة بفرشاة التداول بعدما يكتفي مشهدها الشعري بوضع الدوال الأولى التي تشكل أساساً لذلك الرسم. ففي قصيدته« أمام جدار الصمت» تتجلى الأسئلة وميضاً من الانزياح،ويتحول المشهد إلى فلاشات ضوئية تغازل التلقي وتفتح أمامه الطريق إلى أقصى درجات ذلك الانزياح:
حبيبتي../ أقولها؟.. أُحاذِرْ؟/ أأرقُب اليمينَ والشَّمالَ، أم أخاطرْ؟/ فإنني مغامرٌ جبانْ/ يخيفه الظلامُ إن أتى/ وإن بكَتْ على الجدارِ نخلةُ الأمان/ وإنني مكبَّلٌ على مشارف المصيرْ/ بألفِ حلقةٍ قويَّةٍ كبؤسٍ يومنا الفقيرْ/ فكيفَ أصدمُ الجدار عنوةً،/ وكيفَ أن أطيرْ؟/ وان أكونَ في الخضمِّ سابحاً، و لا أكونُ في القرارِ غاطساً كما الغريق؟( ٤ )
ويمكن رصد معالم الانزياح في هذا المقطع من خلال الدوال (أقولها؟/أحاذر؟/ أأرقُب/اليمينَ/ والشَّمالَ/ الظلامُ / مكبَّلٌ / الجدار/ حلقةٍ قويَّةٍ)/مشارف المصيرْ) إذ نرى أن المشهد الشعري هنا جاء مؤسساً على مفردة «أقولها» التي تقود لعبة الانزياح الدلالي من بداية المقطع وحتى آخره فا« القول»- هنا- منسوب إلى دائرة المعنوي المتمثلة في الفكر، والكلام والأخلاق، والعقيدة، والايدولوجيا والحلال والحرام والخطأ والصواب أكثر من كونه منسوباً لدائرة الفعل المجرد (أي الفعل بمعناه الحسِّي/ الصوتي، وحسب)، وهذا ما يعضد انزياح الحذر والرقابة في قوله (أحاذر؟/ أأرقُب) إلى دلالات منزاحة إلى الدائرة ذاتها،وكذا انزياح المآلات الدلالية لمفردتي (اليمين/ الشمال) من اليمين/ الشمال الجغرافي الحسِّي إلى اليمين/ الشمال المنضوي تحت دائرة المعنوي المتمثلة في الخطأ والصواب، أو الأخلاق المحافظة، ونظيرتها الليبرالية المتحررة.
وتستمر لعبة الانزياح- وبالدرجة نفسها- لتشمل الدوال: (الظلامُ / مكبَّلٌ / الجدار /حلقةٍ قويَّةٍ).
وقد يأتي السؤال لدى خليفة في بعض الأحيان ممزوجاً ذائباً في المشهد الشعري من خلال صياغة المشهد والسؤال المندهش في آنٍ ، ليخلق بذلك فضاءين دلالين يتحركان بالتوازي جنباً إلى جنب، مما يحمل المشهد الشعري لديه على التخلي عن تراتبية الدلالة لصالح منظومات دلالية متوازية المسار تشكلها جدليات فرعية متوازية مصاغة بحرفية عالية عن جدليةٍ أمٍّ تقود المسار الدلالي برمته كما في قصيدة «يحْدُث فينا»:
ما الذي يمكن أن ننسى، وما/ ذاك الذي يبقى مقيماً نابضاً في الذاكرة؟/ لماذا تظل رائحة الياسمين حيةً/ منذ فجر الطفولةِ الأولى/ عندما شممتها على جدارٍ في زقاقٍ عاطرةْ؟!
لماذا تموتُ روائحُ أخْرى/ وأخْرى تعيش في ضياءِ نجمةٍ مكابرةْ؟/ وما الذي يجعلُ الأماسيَ والأماكنَ/ بعضها يشع حاضراً/ وبعضها يغيبُ.. يخبو مطفئاً منائرهْ/ وما الذي يحدثُ فينا..؟!/ ما الذي يدعو وجوهاً ان تظلَّ مقيمةً
تسكُبُ في أيامنا البشْرَ/ وأخرى عابِرة؟/ ما الذي ينعش في الخاطرِ أحداثاً/ تظلُّ ماثلة وأخرى داثِرةْ؟/ أيُّ حَبٍّ يمكن أن يُطلعَ نبتاً من حبوبِ السنبلةْ؟/ ولماذا نبذرُ في الأرضِ بذوراً
بذرةٌ رابحة وأخْرى خاسرةْ؟ ( ٥ )
فجدلية «التذكر والنسيان» التي حملها سؤاله« ما الذي يمكن أن ننسى، وما/ ذاك الذي يبقى مقيماً نابضاً في الذاكرة؟» تحضر في القصيدة بوصفها جدلية ودالةً أمًّا، لتسحب وراءها جدلياتٍ، ودوالاً فرعية تنبثق عنها مثل:
– جدلية الموت والبقاء
– جدلية الوجود والعدم
– جدلية الحضور والغياب
– جدلية المكوث والعبور
– جدلية الانتعاش والاندثار
– جدلية الفوز والخسارة
ولا تنتهي تلك الجدليات الفرعية بانتهاء القصيدة/ الأسئلة، وإنما تفتح على جدليات ودوالٍ لا نهائية تتخلق في رحم التداولِ، بعدما يصيغُ الشاعرُ سؤالهُ المندهش، في لحظةٍ قلقةٍ تستجيب إلى كون اللحظةِ الشعرية (في هذه الحالة المندهشةِ ) لحظةً فلسفيةً ترمي بسؤالها الذي لا ينتهي شرره، وإنما يفتح على متواليةٍ لانهائية من الأسئلة يبدأ حدها الأولُ بالجملةِ الفعليةِ المستمرة « يحدثُ فينا» التي يجعلها الشاعر عنواناً لقصيدته، ويبقى حدها الأخير ملكاً للتلقي.
ونادراً ما تتوكأ أسئلة الدهشة لدى خليفة على غرضها البلاغي الأقرب، وحسب . وإذا حدث ذلك فإنما مرده الرغبة في توصيف لحظةٍ شعوريةٍ ما كانت لتُوصفَ لولا حضور الاستفهام بغرضه الأول(وغالباً ما يكون النفي) وسيطرته على المشهد:
تكوَّرا، وارتعشا رغائباً، وأضمرا/ بوْحاً يهزُّ ألفةَ الكلامِ جارياً على اللسان../ يستفزُّ ظامئاً،/ جرى فطامُهُ قبلَ الأوانْ/ أيُّ شرابٍ كوثريٍّ قبل هذا يُحتَلبْ؟/ أيُّ حياةٍ دون هذا تُحتسبْ؟ (٦).
فاللحظة الرومانسية اللذيذة المعاشة في هذا المشهد لم يكتفِ ترسميها بالدوال التي سيقت في مقدمة المقطع، وإنما تم استدعاء الاستفهام (أيُّ شرابٍ كوثريٍّ قبل هذا يُحتَلبْ؟) بحضور غرضه البلاغي الأقرب، وهو النفي في هذه الحالة للانتصار للذة اللحظة وجمالها بنفي أيةٍ مسببات أخرى تدعي خلق لحظة مشابهة. ثم جاء الاستفهام الأخير (أيُّ حياةٍ دون هذا تُحتسبْ؟ الذي أكد مآل الاستفهام الأول من خلال نفي الحياة بأكملها متى خلت من مشهد اللذة هذا.
لا يقف خليفة عند المآلات البلاغية المتعارف عليها للاستفهام إلا نادراً كما ذكرنا، بل يتجاوز – في أغلب مشاهده الشعرية – تلك المآلات لينتصر لمشهده الشعري المتطلع إلى النقطةِ الأبعد في حركة الدلالة بعدما يوظف المآل الأقربَ لاستفهامه الحائر المندهش توظيفاً يجعل من ذلك المآل أساساً لمآلاتٍ أبعد في متواليةٍ من الدلالات المفتوحة. ففي مطلع المقطع الثاني من قصيدته« ذلك الهارب مني» يتخذ الشاعر من النفي (الغرض الأقرب للاستفهام) أساساً لمتوالية الدهشة. تلك المتوالية التي انتظمت على إيقاع العلاقة بين الغرض البلاغي من الاستفهام في قوله« ما الذي يُجدي وخطو الريحِ إيقاع الثواني وفرار الأزمنة؟» ومفردات المشهد الشعري الذي يلي ذلك الاستفهام. فقد جاءت كلها تصبُّ في دائرة الحيرة والدهشة لا لتؤكدَ الغرض البلاغي من الاستفهامِ وحسب، وإنما لتشكل حدوداً أكبر، وأعمق من حدِّ النفي في متوالية الدهشة التي يُدشِّنُها المشهدُ الشعري بجزأيهِ: (سؤال الدهشة، والتعقيب الذي جاء رداً على ذلك السؤال):
ما الذي يُجدي وخطو الريحِ إيقاعُ الثواني/ وفِرارُ الأزمنة؟
أنا لا أمسك شيئاً أتملاه/ ولا وقت لأفضي شَجَنَ القلبِ لأشجار الطريقْ/ كيف تمضي كما اللقطةِ في الحُلم / كما الومضِ لشيءٍ لا يبينْ؟!/ ثمَّ تَبْقى، ولا تَبْقى، سوى تلك الوجوه النافرةْ/ لأناسٍ طيبينْ/ باركوا خطوكَ../ أوصوا شَجَرَ النبْق وطيفاً لملاكْ/ ودعوا اللهَ/ لا شمسَ يوماً دون ظلٍّ تعتريكْ/ لا ولا وحشةَ المُدلجِ فرداً تقتفي إثر خطاكْ/ أيها الهاربُ مني/ يستحثُّ الخَطوَ في غير اكتراثٍ.. للهلاك.(٧ )
جاء سؤال الدهشة في مستهل هذا المقطع مرتدياً زيَّ النفي (الغرضَ البلاغيَّ الأقرب لسؤال الدهشةِ)، ومفتتحاً المشهدَ الشعريَّ على اللحظة العاجزة عن الإمساك بذلك الشيء الهارب المنفلت إلى أقصى نقطة على حدود السراب. وقد صيغت مفردات لحظة العجز تلك – التي جاءت تعقيباً على السؤال المندهش- بحرفية عاليةٍ استلهمت مفارقة لحظة المطاردة إلى الحد الذي يصور طرفي تلك اللحظةِ وكأنهما يسيران في اتجاهين معاكسين، بما يحيل المحصلة النهائية لعملية المطاردة إلى صفرٍ كبير، بعدما يفقد الشاعر كلَّ مقومات إدراكِ شيئِهِ الهارب، ويصبح مشهد الفقد عنصراً مسيطراً على المشهد الشعري كله بعد الاستفهام المباغت في مستهله. ذلك الفقد الذي يعبر عنه المقطع باستدعائين:
١ – الأول:
استدعاء دوال الهرب والأفول التي تؤكد صعوبة إدراك الشاعر شيئَهُ الهارب:
(كيف تمضي كما اللقطةِ في الحُلمِ/ كما الومضِ لشيءٍ لا يبينْ؟! / ثمَّ تبْقى، ولا تبْقى، سوى تلك الوجوه النافرةْ)
فيما لم يمسك الشاعر سوى بدوال العجز عن إدراكه
٢ – الثاني:
استدعاء «لا» النافية التي يتوكأ عليها المشهد الشعري أكثر من مرة لتأكيد لحظة العجز حتى عن البدء في رحلة إدراك ذلك الشيءِ الهارب:
(أنا لا أمسك شيئاً أتملاه/ ولا وقت لأفضي شَجَنَ القلبِ لأشجار الطريقْ) (٨)
(لا شمسَ يوماً دون ظلٍّ تعتريكْ/ لا ولا وحشةَ المُدلجِ فرداً تقتفي إثر خطاكْ) (٩)
ولا تكتفي أسئلة خليفة بترسيم ملامحها المندهشة وحسب، وإنما قد تأتي لتدلي بقولها في مشهد الحيرة المنبثق عن روعة المحكي عنه في قصائده لتفتح عين التلقي على احتمال كون الباعث وراء تلك الأسئلة:
عجزاً، وحيرةً عن ترسيم صورة المحكي عنه. وقد قصد الشاعر إلى الاعتراف بذلك العجز ، وبتلك الحيرة لتبقى مشاهد الوصف والترسيم مفتوحةً أمام التداولِ ليرسم ويوصفَّ نيابة عن الشاعر:
لها الله تلك العيون التي قطَّرت خمرها/ وجاءت بكل الفتونِ/ وأوحت لنجمٍ توهج أن يرتمي/ عندها وهو صاحي/ لها الله في محراب لألائها عسلٌ ؟!/ أم كوثرٌ؟! أم نبيذٌ حبيسٌ طليقُ السِّراج؟!/ تصبُّ من روحها قطر وردٍ/ بكأسٍ تضوَّرَ بين يديها
وشعَّ ما بين طلَّةِ فجرٍ/ وما بين لون الأقداحِ./ تمدُّ بالكأس كلتا يديها إليَّ/ وتبسمُ هاتفةً: هذه الكأس نخبُ نجاحي.
لها الله تلك العيونُ التي/ أسرجت في دمي عُنوةً فرساً/ مُجنَّحةً في هبوب الرياحِ ( 10 )
فبعدما يقترح القول الشعري بعض كلمات في وصف المحكي عنه، يعود ثانيةً إلى لعبة الأسئلة المتبوعة بعلامات التعجب التي تقيه وهج الدهشة وتفتح القول ذاته على مزيدٍ من الدهشة ذاتها لدى التلقي، ليتحول المشهد الشعري برمته إلى لوحةٍ يشرع التلقي في رسمها بأدواتٍ يستحضرها له النص المؤسس على أسئلة الدهشة المفتوحة التي جاءت منتصف القصيدة (لها الله في محراب لألائها عسلٌ ؟!أم كوثرٌ؟! أم نبيذٌ حبيسٌ طليقُ السِّراج؟!).واهبةً نفسها ملكاً للتداول.
ومن أسئلة الدهشة لدى خليفة ما يتوكأ( في غايته الرامية لفتح الدلالة وتحريك أجنة الانزياح لتستمر في نموها الذي لا يتوقف عند لحظة المخاض وميلاد الأسئلة بل يستمر مستجيباً للعبة التداول) على استراتيجية التدمير والهدم من خلال إشعال الأسئلة ذاتها في لحظة عدمية تدميرية تحيل ما سبقها من مشاهد الدهشة التي كونها الوعي المصدوم بلحظة الدهشة إلى نفايات من الممكن للتداول أن يعيد استخدامها من جديد في بناء مشاهده الموازية المفتوحة مهتدياً بــ«الفلاش» المنبعث من تلك النفايات:
خلسةً تَنبُتُ في القلب/ وتمتدُّ جذورٌ لك في النبضِ/ فلا نبض سواكْ/ ملءُ روحي أنتَ، لكني بالكادِ/ أُنمي لك في الترتيلِ صورةْ/ وأصيخُ السمع للنَّأمَةِ في الكونِ
فالمشهد الذي يرسمه الشاعر في هذا المقطع من قصيدة «الشيء»(١١) هو محاولةٌ للرؤية تتمثل الاجتهاد قدر ما تستطيعُ للقبض على ذلك الشيء، وتوصيفه. لكنها (المحاولة) لم تكن لتبدأ حتى أعربت عن عجزها التام عن القبض على الشيء وتوصيفه مستدعيةً كلَّ ما من شأنه أن يكون سبباً وراء ذلك العجز:
ولكنك لا تُبدي حراكْ/ وحفيفُ الشجرِ الطاعنِ في الهمِّ / فضاءٌ سرمديٌّ لرؤاكْ/ كيف يرتجُّ بك الوجدانُ حُرقةْ؟/ أنت في النأيِ سحيقٌ../ ومضةٌ أفلتها نحمٌ وتنهيدُ ملاكْ/ وتُغافلْ/ وهجَ العمر، وتطفو/ فإذا الهوجُ، مع الأيامِ، طُعْمٌ وشراكْ/ من يناديك فتأتي/ تجْلدُ الساعاتِ ما شئتَ/ وتفضي بالليالي للهلاكْ؟
٭ ٭ ٭
أيها الشيءُ البعيدْ،/ أيها الشيءُ القريبْ،/ كيف بالله أراك؟!
فمشهد «الشيء» الذي رسمه الشاعر مجتهداً في مطلع قصيدته عاد فدمره ثانيةً محيلاً إياه إلى نفاياتٍ لا ترى إلا بالكاد.وقد تمت إستراتيجية التدمير على مراحل ثلاث:
– الأولى: استدعاء دوال العجز المستمدة من صفات الشيء نفسه، الممثلة في سكونه ونأيهِ ومروره كما الومضة التي يصعب الإمساك بها (لا تُبدي حراك / طُعْمٌ وشراكْ/ النأيِ/سحيقٌ / ومضةٌ / فضاءٌ سرمديٌّ لرؤاكْ).
– الثانية: استدعاء الاستفهام التعجبي الذي يؤكد قدرة «الشيء» على المراوغةِ والإفلات وجعل المحصلة النهائية للساعات المستهلكة في إدراكه وتوصيفه صفراً كبيراً( من يناديك فتأتي/ تَجْلدُ الساعاتِ ما شِئْتَ/ وتفضي بالليالي للهلاكْ؟).
– الثالثة: استدعاء الاستفهامِ الختامي( كيف بالله أراك؟ ) ذي القوى التدميرية الأكبر الذي يحيل رفات المشهد التي أبقت عليها المرحلتين: الأولى، والثانية إلى نفاياتٍ لا ترى إلا بالكاد، ولكنها ترسل فلاشها للتداول الذي يبدأ في الترسيم نيابةً عن الشاعر/ الرسام الأول.
الهوامش
(١) من قصيدة «زبرجدةٌ في إنَاءِ الوقت».. علي عبد الله خليفة: ديوان « لا يتشابه الشجر» المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 2005م، ص١١
(٢) الديوان السابق نفسه ص ١١
(٣) ( من قصيدة على رصيف المحطة.. ديوان أنين الصواري ط ٣ دار الغد المنامة 1994م ص 116,115)
(٤) من قصيدة «أمامَ جدارِ الصمت».. الديوان السابق نفسه .. ص 127، 128)
(٥) قصيدة « يحدث فينا» علي عبد الله خليفة: ديوان « لا يتشابه الشجر» المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 2005م،ط ١ ص 15 ، 16
(٦) من قصيدة أزواج.. ديوان حورية العاشق ط ١ .. المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2000م ص 103)
(٧) مـن قصيـدة «ذلك الهـارب مني» .. ديــوان «لا يتشابـه الشجـر» ص 19، 20
(٨) الديوان السابق نفسه ص 20
(٩) الديوان السابق نفسه ص 20
(10) من قصيدة نُخَب،الديوان السابق نفسه ص ( 103)
(١١) ديوان «في وداع السيدة الخضراء.. دار الغد – المنامة ط١ 1992 ص116:114