لم يعان فنان مصري مثلما عانى سيد سعدالدين – 50 سنة -، حيث واجه في شبابه الأول أزمتين عنيفتين كادتا أن تحطماه. الأولى أزمة صحية رهيبة، جعلته لا يغادر غرفته إلا قليلا لمدة عامين، وقد استلزم هذا الاضطراب الصحي، أن يعفى من إتمام واجب الخدمة العسكرية. أما الأزمة الثانية، فكانت نفسية، وذلك عندما التحق بمعهد ليوناردو دافنشي بالقاهرة لدراسة فن التصوير، حيث اكتشف إنه انتقل الى أوروبا داخل هذا المعهد، من أول طبيعة الدراسة ومناهجها، حتى اللوحات المرسومة والتي تزين الجدران مرورا بالأساتذة "الطليان" مما سبب له ارتباكا نفسيا جعله يشعر بفقدان هويته وقوميته، لولا تدخل أستاذه الفنان الراحل سيد عبدالرسول (1917- 1995). لقد عاونه عبدالرسول في اكتشاف مناطق الجمال في الواقع المصري، حيث نبهه الى أبهة المعابد وعظمة التماثيل وألق الرسوم الجدارية التي تركها لنا المصريون القدماء. بالاضافة الى ما يزخر به الريف وبسطاؤه وحياتهم الشحيحة من كنوز بصرية مدهشة. لقد تمكن الطالب من استعادة توازنه النفسي المفقود بهذا الاكتشاف الهام. ويجب أن نذكر هنا أن سيد عبدالرسول قد توسط أيضا لدى مدير معهد دافنشي من أجل أن يتم تعيين سيد سعدالدين كأول معيد مصري في هذا المعهد العتيد عام 1967م.
لم يكتف سيد بتأثير أستاذه فقط، بل راح يدرس ويتأمل أعمال الذين سبقوه من الفنانين المصريين والأجانب، حتى فتنته لوحات الرائد الكبير حسين بيكار – يرعى الله أيامه حيث أن عمره 85 عاما – التي تتسم بالدقة والأناقة واستلهام الموروث النحتي الفرعوني.
يجب أن نلفت الانتباه الى أن دراسة سيد سعد الدين في معهد دافنشي أوضحت له مدى إخلاص فناني ايطاليا موفوري الشهرة: "رافائيل، دافنشي، مايكل انجلو" في عملهم، واستشهادهم من أجل أن تخرج أعمالهم كاملة الأوصاف، حتى أن أحدهم استلقى على ظهره أربعة أعوام كاملة حتى يتمكن من رسم سقف إحدى الكنائس بناء على أوامر البابا.
بريق المرأة
حسب علمنا، لم يستطع فنان حتى الآن أن ينفلت من أسر جسد المرأة وسحرها الأخاذ، لذا فلا عجب ولا غرابة أن ينحاز سيد سعدالدين الى هذا العالم المشحون بالدلالات والأسرار والرموز، يصطاد منه اللآليء البراقة والجواهر الثمينة، ويقدمها لنا في سبائك باهرة تمتع العين وتسر الخاطر دون أدنى ابتذال، ففي لوحة "البنت والطوق " – تسمية اللوحات كلها من عندنا – تجذبنا هذه الفتاة نحو متابعة هذه اللعبة المنتشرة في الأحياء الشعبية، قسم الفنان لوحته الى مساحات هندسية متقاطعة ومتداخلة مثل المستطيل والمثلث والدائرة، واستلهم الوضع الفرعوني الشائع، حيث الوجه "بروفيل" والجسد في المواجهة بعد أن قام بتحويره قليلا ليناسب حركة القفز التي تمارسها البنت، دون أن يعبث بانضباط النسب التشريحية للجسد الانساني. وقد وفق الفنان عندما منح بطلة لوحته قدرا من الرشاقة لتتواءم مع لعبتها البهيجة.
أهمل الفنان التفاصيل الدقيقة في الوجه، وقنع بالبناء النحتي لفتاته، حتى إنه لم يسع الى ابراز كنوز الجسد المثيرة حتى لا تتوقف عندها العين وتعوق متعة الفرجة. في هذا العمل احتفل الفنان بالفورم "التجسيم"، من خلال براعته في توزيع الدرجات الظلية للون البني، أما المنظور "البعد الثالث" فقد تحرر من نفوذه بشكل كبير واكتفى بظلال الفتاة والطوق على الحائط والأرض، ليفاقم من الشعور بقوة الحركة من ناحية وبث الروح في المشهد كله من ناحية أخرى. وتبقى القطة التي اختارت أن تسكن أعلى يمين اللوحة لتحرس الفتاة وتكمل ضبط التصميم. لا جدال في أن ألوان الزيت التي نفذ بها الفنان لوحته، قد ساعدته على صنع هذا الملمس الناعم، وهذه الشبكة من الظلال الرمادية المتداخلة والمتقاطعة والتي صنعت إيقاعا بصريا خلابا.
يبدو افتتان سيد سعد الدين بالنساء بغير حدود. حتى وهن أثناء ورطة الانشغال في الأعمال المنزلية الرتيبة، أو عندها يبلغ بهن الانهاك حدا يستلزم قدرا من الراحة، ولعل لوحة "امرأة تستريح" تؤكد صواب ما نقول هنا نجد أنفسنا أمام مشهد مسرحي ساكن. في مظهره، ثري بالحركة الداخلية. بطلته نعمت بالاسترخاء وهي مستندة على طبق أو "طشت" الغسيل، بينما الملاءات المغسولة منشورة بكامل ساحتها على الحبال وفي مستويات متباينة.
التقط الفنان وضعا تشريحيا صعبا للمرأة، حيث لا نرى أي شيء من تفاصيل وجهها على الاطلاق بل يحتل شعرها المكوم للخلف مساحة الرأس كلها، ومع ذلك فنحن نشعر بمدى الانهاك
الذي أصابها بسبب هذا الوضع الذي استراح فيه الجسد!!
لم يترك سيد سمد الدين في هذه اللوحة أي شيء للمصادفة، فقد وازن بين جسد المرأة وليونته وانسياب الخطوط الخارجية المحددة له ولونه البني، مع إيقاع المساحات الهندسية وشبه الأسطوانية التي اتخذتها الأشكال المختلفة للملاءات، وألوانها التي تراوحت بين البني ومشتقاته، كذلك قدم ايقاعا آسرا لموسيقى الظل والنور، ذلك الظل الذي فرشه "الطشت" أمامه أو طيات ملابس المرأة والملاءات وكعادته. أبحر الفنان في أجواء الملمس الناعم، بضربات الفرشاة الهامسة، هذا الملمس الذي أكد حيويته، تلك الحفاوة التي يبديها الفنان "للفورم" مما جعل المشهد ثريا بالايحاءات الممتعة، خاصة وأنه استثمر وضع الملاءات في صنع منظور وهب لوحته بعدا مسرحيا يستوجب هذا المشهد المنتقى من أسطح أحد المنازل في أحيائنا الشعبية. وصل سيد سعد الدين في هذا العمل الى درجة عالية من الاقتصاد الممتع، ولم يلهث خلف التفاصيل والشوائب، فجاءت لوحته عامرة بالأناقة، والخيال الخصيب.
ومن عالم المرأة العاملة وأسطح العمارات، الى عالم السحر والرومانسية والذوبان في مياه النهر وألق الموسيقى تصحبنا "فتاة النهر" في رحلة مع الأنغام برغم أنها لا تعزف على ذلك العود المسترخي في صدرها. استراحت الفتاة في الوضع الفرعوني المشهور داخل قارب صغير، واتخذ شعرها المنساب للخلف شكل موجة ناعمة، توافقت مع قطعة الملابس الطائرة من فوق كتف الفتاة. في هذه اللوحة، وصل سيد سعدالدين الى أعلى مستويات الأداء الفني، حيث متانة التصميم ورسوخه في اللوحة، فمن خلال النخلات الثلاث التي تشكل الخطوط الرأسية في اللوحة نكتشف قوة الايقاع و انضباطه مع القارب والشعر، وقطة الملابس التي تمثل الخطوط الأفقية، والتي تحافظ على نغمة الاتزان المنشود.
ومن أجل إغناء الشعور بالعذوبة والحلم لاذ الفنان بالألوان الهادئة، واستنجد بالملمس الحريري، بالاضافة الى الشفافية المفرطة، والتي بدت في انعكاس القارب على المياه، حيث أوحت إلينا بشفافية الزجاج !!
لم يهمل سيد سعدالدين ألوانه المفضلة، وهي درجات من البني المستكين، والأصفر اللين، والأوكر المسالم، كذلك، اختزل الكثير من التفاصيل وقنع بالكتل المعمارية النحتية للبنة والقارب، بحيث توحي هذه اللوحة بإمكانية الدوران حولها، كما يحدث مع العمل النحتي ثلاثي الأبعاد!! لقد كتب الفنان الناقد محمود بقشيش بحق في كتابه "البحث عن ملامح قومية" الصادر عن كتاب الهلال فبراير 1989:
(إن عالم سيد سعدالدين – بشكل عام – عالم سكوني… خال من المبالغات الانفعالية… خال من التجهم). ونحن نستطيع أن نضيف.. عالم ينشد الجمال.
سيد سعدالدين فنان صاحب خيال منهمر، وموهبة متقدة، يمتلك صبر بحار قديم، ومثابرة فناني عصر النهضة، استلهم الموروث الفني المصري بحس المهندس المعماري، وإخلاص الطالب المجتهد، انتخب من منجزات الفن الحديث ما يتوافق مع موهبته… قدم لنا قصائد فنية عذبة تخاصم النثر التشكيلي الرديء والمنتشر في قاعات هذه الأيام… وهذا يكفي.
ناصر عراق (كاتب من مصر)