يمكننا القول بأن البدايات الأول للتحليل السيميائي، ظهرت في صورتها الجزئية من خلال تناولها لهيكل النص كبنية ذات مستويات متعددة، ثم ما لبثت أن تجاوزت ذلك الى التجليات الباطنية التي لا يبديها النص، ولا يمليها على المتلقي، وإنما يتمظهر من خلالها كخطاب ممكن، يحتمل أكثر من بعد دلال، ويتراءى في أبعد من امكان تأويلي.
وفي ظل هذه الحركة النقدية مالت الدراسات العربية في الحقبة الزمنية الأخيرة الى استلهام النظرية السيميائية كتصور نقدي شامل يجمع بين رؤيا النص بوصفه دالا لمدلول أول، ورؤية القراءة النقدية بوصفها مدلولا ثانيا، أو لغة تعيد إنتاج لغة أخرى.
وقد امتدت هذه الرؤى الى النصوص الشعرية متسائلة عن أدبيتها (خصائصها الابداعية) إذ ليس النص هو ما يشكل موضوع الشعرية، وإنما هو مجموع الخصائص العامة أو المتعاليه التي ينتمي اليها كل نص على حدة (1) ومن ثمة صار البحث في هذه الخصائص، باعثا على مزيد من الكشف، ودافعا الى عالم الاحتمالات والافتراضات،وقد وجدت تجسيدا لها في هذا العالم لأنه أصبح في مقدورها مقاربة النصوص وفق منظور رؤيوي تأويلي يتعامل مع النص بوصفه متصورا ذهنيا غائبا، وليس معنى جاهزا. ولعل هذا ما أفضى الى انحسار بعض المقاربات النقدية التي كانت رائدة في رصانها والتي لم يعد في امكانها اليوم احتواء الفيض الدلالي للنصوص الشعرية.
وهكذا فقد اتخذت المقاربات النقدية المعاصرة من القراءة مدخلا تأمليا تحاول من خلاله تفكيك النصوص وما تنطوي عليه من رموز ودلالات توحي بغموض مدلولاتها وتحيل بدورها, الى ما لا نهاية من الدلالات المتوالدة، فيما تشكل شبكة من العلاقات بين وحداتها تجعل من النص
مجالا أو فضاء لإخصاب خلايا الدلالة.
ولعل التشاكل بمفهوما السيميائي الحديث، يمثل أهم اجراء نقدي بوسعه الاحاطة أو الاقتراب من هذه التعالقات الغامضة لما يمتلكه من قدرة على تجميع الرموز المبثوثة على امتداد نسوج النص المتوارية وإعادة تفكيكها.
غير أن هناك تساؤلات جمة، لا مناص من الخوض فيها تتمثل بالأساس في ماهية التشاكل كمصطلح ثم كأداة ثم كإجراء نقدي.
1- فصن حيث المصطلح فإن الدراسات العربية الحديثة أجمعت على أن المصطلح وارد عن المدرسة الغربية (غريماس) مع اشارات طفيفة الى مجهودات بعض البلاغيين الذين حاموا حول هذه المسألة دون أن يلامسوا جوهرها "حيث ظلوا ينظرون اليها، لا على أساس أنها ظاهرة أسلوبية كلية، ولكن من حيث هي جزئيات وأطراف مشتتة تحت مصطلحات مختلفة أهمها: الطباق والمقابلة واللف، والنشر والجمع.." (2)
لكن يبدو أن هذه النظرة لم تظفر بالعمق المعرفي للتراث العلمي العربي الذي أضفى على هذه المسألة أبعادا شتى تتجاوز من خلالها المعطيات اللغوية في حدود تقابلاتها المعنوية والمفرداتية، والصوتية الى تخوم المعرفة الفورية بالوعي الانساني المحلق على حد ما جاء لدى العلامة "عمر بن مسعود بن ساعد المنذري" "وأعلم أن الأشياء المتشاكلة على ثلاث مراتب. احداها أن تكون متشاكلة في الكيفيتين أعني الفاعلة والمنفعلة معا كالحار اليابس مع الحار اليابس وهذا أقوى أنواع المشاكلة. والثانية أن تكون متشاكلة في الفاعلتين فقط مثل الحار الرطب والحار اليابس. والثالثة أن تكون متشاكلة في المنفعلتين فقط مثل اليابس الحار واليابس البارد وهذه المرتبة دون المرتبة الثانية لأن المنفعل يكون أضعف في الفاعل. وأما الأشياء المتقابلة أيضا على ثلاث مراتب. فالأولى وهي أقواها أن تكون متقابلة في الكيفيتين معا مثل الحار اليابس والبارد الرطب، والثانية وهي أوسطها أن تكون متقابلة في الفاعلتين مثل الحار الرطب.. وأدناها أن تكون متقابلة في المنفعلتين معا مثل الحار اليابس والحار الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب " (3) ولنا أن نوضح ذلك أكثر في هذه الرسمة.
من شأن هذه الرؤية التي تنظر الى المشاكلة والمقابلة على أساس من مشاكلة المتنافيات بين ما هو حسي وما هو مادي، وما هو سماوي، وما هو أرضي.، وما هو باطن (أي ما يؤسس جوهر الانسان في علاقته بالكون)، من شأن هذه الرؤية إذن، إن – هي أحيطت بالتفحص،وحظيت بالتأمل التفكيكي والتأويلي – أن تتحول الى اجراء نقدي في ميدان سيمياء التشاكل وليس مجرد أداة لترجمة المعاني الى رموز ودلالات لا عمق دلاليا لها.
2- أما من حيث الأداة فقد ألفينا مجموعة من الدراسات التحليلية لدى بعض النقاد سنأتي على ذكرها في حينها لكننا نشير هنا فقط الى أن هذه الدراسات استطاعت في مجملها أن تقارب النص من منظور رؤية تشترك من حيث اتفاقها على اتخاذ التشاكل كأداة اجرائية تسعي الى فض النص من مستويات عديدة، وتختلف من حيث تباين المنظور الدلالي العام الذي يوجه كل رؤية على أنواع العلاقات التي تربط استعمال النص بمفاصله المتنوعة.
الهوامش:
1- ينظر جرار جنيت: مدخل لجامع النص ترجمة: عبدالرحمن أيوب، دار طوبقال المغرب 1986، ص5.
2- ينظر: عبدالملك مرتاض: شعرية القصيدة قصيدة القراءة تحليل مركب لقصيدة أشجان يمانية، دار المنتخب بيروت ط 1/ 1994، ص 33.
3- العلامة عمر بن مسعود بن ساعد المنذري: (كشف الأسرار المحنية في علم الاجرام السماوية والرقوم الحرفية) مخطوط والنص مختار من المخطوط نشر بمجلة (نزوى) العدد الأول 1994، ص 150.
خيرة حمر العين (كاتبة من الجزائر)