في البدء، يمكننا القول: ان تقنيات المجموعة بأكملها، تنتمي الى ما أسماه الناقد والمبدع – متعدد المواهب – ادوار الخراط بالحساسية الجديدة، تمييزا لها عن الحساسية القديمة في أسلوب السرد القصصي. ذلك اننا نجد أنفسنا أمام توظيف فني مبتكر ومدهش لمجموعة من التقنيات المستحدثة والجريئة على مستوى استخدام اللغة الخارجة عن اللغة القاموسية المكرسة، كما يبدو ذلك منذ القراءة الأولى لقصص المجموعة. وكذا على مستوى استخدام الأفعال والمصادر المبتكرة وغير المألوفة. الى جانب استخدام العبارات القصيرة، ذات الايقاع السريع. كأنما تركض شخصيات المجموعة باستمرار. وكأنما هي شخصيات مطاردة باستمرار من قبل كتلة من القوى القمعية المتخلفة التي تظل تلاحقها وتتتبع سير خطواتها. ومع ذلك، فلا غرابة من أن تقصر عبارات القصة القصيرة ما دامت "القصة القصيرة جنسا أدبيا، يعايش الواقع كغيره من الأجناس الأدبية، من حيث ان هذا اللون هو فن اللحظة الحاسمة. واللقطة السريعة، والفرض الواضح، يتم التعبير عنه من خلال الحدث أو الموقف أو الانفعال (1) وما دامت القصة القصيرة هي الجنس الأدبي الأكثر مناسبة وتعبيرا عن عصرنا اليوم عصر السرعة، بتغيراته المتلاحقة ومخترعاته المتتالية. وعلينا- اذن – أن نسرع في تطوير أنفسنا وتغيير أوضاعنا، ان أردنا أن نواكب عجلة الزمان وايقاعه السريع، حتى لا يفوتنا قطار التقدم والازدهار. وعلى الرغم من التوظيف الفني المبتكر وغير المألوف للسائد من التقنية، فان القاص يوهمنا فنيا، بالتزامه بالاطار الخارجي للوحدات السردية الثلاث، ذات البداية والوسط والنهاية. وهو ايهام يهدف من وراء توظيفه الى اقناع القاعدة الواسعة من القواء بموقفه الفني، اقناعا يتخذ فيه موقعا وسطا، فلا يبدو متمردا- كل التمرد- على السائد الثقافي، ومنه السائد الفني. وان على مستوى البنية الخارجية التي سرعان ما يتهدم حضورها في ذهن القارئ، بقوة التقنيات ذات الحساسية الجديدة، التي تسيطر الى حد كبير على البنى الداخلية للنماذج القصصية في المجموعة.
ذلك ان الهدف من توظيف تقنيات الحساسية الجديدة، ليس مجرد احداث الانقلاب أو التمرد على السائد الفني والسائد الثقافي، بقدر ما تهدف الى التغيير من أجل التنوير. وبحسب " ادوار الخراط "الذي يقول: "وليست هذه تقنيات شكلية، ليست مجرد انقلاب شكلي في قواعد "الاحالة على الواقع "بل هي رؤية وموقف. وان كان ليس ثمة انفصال ولا تفريق بين الأمرين بطبيعة الحال ".(2) وفي قصة "يهبط أدراج غور ويغيب" التي نتوقف عند شعرية السرد فيها، المنطلقة من تقنيات أسلوبها الفني، نلاحظ أن القاص فيها، يوهم القارئ- بالفعل – بالتزامه بالترتيب السردي التقليدي، زي البداية والوسط والنهاية، ايهاما يحاول من خلاله اقناع الوعي العام، الذي اعتاد على التنميط والرتابة. لكنه لا يقف عند حد الاقناع الفني فحسب بل يمزج ذلك بأشكال تمرده عل السائد من اللغة (مثلا) فيستخدم لغة مبتكرة وغير مألوفة الاستخدام من قبيل قوله (متخاشنا، يتهادن، يبيسة، ينفرط، تنفلت، تتقاطر، يتفازز، يتحاشرون، تتباسق، حاذا، متصادئة، تتقايض، هائشا، تتراعش…). وهي مصادر وأفعال لم تعتد على استخدامها عين القارئ ولا أذنه. غير أن القاص ابتكرها ابتكارا، ونفض الغبار عن نادرها الموجود في متون المعاجم والقواميس العربية القديمة. ذلك النادر الذي أصبح في حكم الميت بسبب عدم استخدامه، ثم اصبح حيا، منذ اللحظة التي استخدمه القاص فيها. وحين نأتي الى مقاربة العناصر الفنية المكونة لبنية السرد الداخلية، في هذه القصة القصيرة، نجد أنها عناصر مستمدة – في الأساس – من فلسفة "التشيؤ" المسيطرة على نمط حياة انسان هذا العصر- عصر السلعة والمصالح المتبادلة بين الناس – وهي الفلسفة التي تعرف الانسان بأنه مجرد شيء وسلعة تنضاف الى بقية الأشياء والسلع التجارية التي تخدم المصالح وتجعل العلاقات الانسانية محض علاقات نفعية. ولذلك، لم يعد للانسان في ظل هذه الفلسفة، قيمة أو دور فاعل في التغيير وفي التنوير. واصبح دوره هامشيا، وشيئا كماليا، لا اساسيا. ومادام الأمر كذلك، فقد عمد القاص، بتمرده الفني، الى قلب الآية. وذلك بأنسنة الأشياء، بدلا من تشيؤ الانسان، كأسلوب من أساليب الثورة على فلسفة الواقع، اللاانسانية. وكتعبير عن الرفض التام لمسألة تشيؤ الانسان، ومن ثم تهميشه وتهميش دوره الفاعل في تغيير العالم من حوله. ولأهمية قيمة الانسان التي ينبغي أن تعود من وجهة نظر القاص فان أنسنة الأشياء من شأنها ان تشير الى ضرورة اعادة القيمة – كل القيمة – الى الانسان، والى سيادته التي ينبغي أن تكون مطلقة على الأشياء من حوله. ومن هنا كانت الشخصية المركزية في القصة هي "السور" وليس (س ) من الناس أو (ص ). فالسور هو الشخصية التي تصفها أفعال السرد وتتتبع حركتها، منذ أول السرد القصصي حتى نهايته. والسور هو الذي استلقى متخاشنا يتلوى فوق الأرض ويتهادن ويمشي بخطوات مرتبكة ويوقظ تكاوم التراب… الخ. والسور يحمل صفات فسيولوجية كالانسان تماما. من حيث ان له أنفا، يقوم هو بحاسة اللمس لديه، بلمس ثقبيه. كما ان له ذاكرة تنهمر عبر تيار الوعي واللاوعي وله أصابع ومراجع ورأس وقامة وعيون وأرجل تركض خوفا من المطاردة التي تبدأ منذ اول القصة الى أن يهبط بأناة أدراج غور عقيم في الأرض ويغيب، في نهاية القصة بحسب ما تشير الى كل ذلك لغة السرد القصصي نفسها. واذا تأملنا في لغة القصة، فاننا سنجد أنها لغة وصفية، تستعين بالمجاز الاستعاري، بشكل مكثف يشمل بنية القصة بأكملها ويجعلها تقترب مما يسميه "ادوار الخراط " في الكتابة عبر النوعية بظاهرة "القصة – القصيدة " والكتابة عبر النوعية، هي المصطلح الذي يستخدمه ادوار بدلا من اصطلاح "النص المفتوح على الأنواع " وهي الكتابة التي تشتمل على الأنواع التقليدية، تحتويها في داخلها وتتجاوزها لتخرج عنها، بحيث تصبح الكتابة الجديدة في الوقت نفسه "قصة – مسرحا- شعرا" على سبيل المثال، مستفيدة أيضا، أو احيانا، من منجزات الفنون الأخرى من تصوير وموسيقى ونحت وسينما ومعمار. أي أن هناك نوعا من التملك الشعري للبنية السردية في القصة – القصيدة، ولكنه لا يسود ولا يجرف أمامه عنصر السرد".(3) وتتحدد ظاهرة "القصة – القصيدة " لدى ادوار الخراط، بأربعة شروط "أولها: الوجازة. اذ ان شق القصيدة في "القصة – القصيدة " يتطلب قدرا من الايجاز أو ضيق المساحة الزمنية (..) وثانيها: الكثافة والتركيز.، وهي قرين الوجازة والزهد في الحشو والاسهاب. وثالثها: ايقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب على السواء. أما أهمها وافعلها ولعلها المعيار، فهي في النهاية، سيادة السردية ".(4) حتى لا تنسحب "القصة – القصيدة " الى جنس الشعر، بالدرجة الرئيسية. ولذلك لم يسمها بظاهرة "القصيدة – القصة " (مثلا) فقدم مصطلح القصة. كمؤشر على اننا في الأساس، امام قصة، لا قصيدة. والوجازة والتكثيف والتركيز أمور لا تتحقق الا بالتوظيف الفني للمجاز "فاللغة المجازية هي لغة تميل نحو الكثافة، او باختصار هي لغة كثيفة "(أ) كما يعرفها البنيوي الفرنسي "تزيفيتان تودوروف ". ولغة القصة التي بين أيدينا لغة كثيفة، منذ أول السرد حتى نهايته. وهي لذلك قصة موجزة تكاد تكون عبارة عن صفحة واحدة(اذا ما حذفنا مساحة البياض ) وهي قصة تنبني لغتها على المجاز الاستعاري، منذ أن يتأنسن السور (على سبيل التشخيص ) ويتخذ صفات انسان، خائف من مطاردة الماضي الموروث له. وهو المتمرد على كل ما تنسجه الحكايات والخرافات وتلقنه للأجيال تلقينا، ترفضه الذات التواقة للبحث عن الحقيقة المغايرة – كل المغايرة – لزيف الحكاية ولزيف الخرافة. ولذلك تنفلت ذاكرة السور المؤنسن: عابثة بالأشياء القديمة التي تتسرب لمحا من شريط الذكريات، قبل أن تنشب مخالبه في لحمها، كتعبير عن محاولة الفرار منها والفكاك من أسرها وقيد سلاسلها، كما تقول لنا لغة السرد القصصي المكثفة. فالسور (الرمز) كائن متمرد- اذن – على الماضي وعلى الموروث وعلى كل ما في ذلك من حكايات خرافية، لا يقبلها العقل ولا المنطق. ولذلك يفر من الذكريات، بعكس اولئك الذين "يصفون، يصفون فقط ". للحكاء الراوي، الماضي، الموروث، السائد الاجتماعي والسائد الثقافي بوجه عام. وهو لذلك كائن مطارد، مرفوض، أرهقه الفرار حتى انتهى به المطاف الى السقوط في عتمة الهاوية وهي نهاية قبل بها السور (الرمز) مادامت ثمنا للرفض وللثورة وللتمرد. ولذلك كان السور هو الشخصية المركزية في القصة، دون سواه من الأشياء الأخرى. على اعتبار ان السور في حد ذاته رمز للعلو والاحاطة والسيطرة، بحسب هندسة شكله الخارجي. غير أن الذي حدث هو العكس، حين أصبح مجرد شخصية مطاردة بقوة الماضي والذكريات والموروث، وحين أخذ يفر خائفا خوف المتمرد الرافض، لا خوف الجبان المستسلم حتى سقط من قمة علوه وشموخه الى أعماق الارض، بعد أن أحاطت به قوى الماضي، بدلا من أن يحيط هو بها ويطوعها لصالح وعيه وقناعاته الجديدة، ثم اطاحت به في تلك الهاوية المعتمة. وهكذا.. يهبط السور الرامز للانسان الشهيد في سبيل وعيه المتفرد وقناعاته الجديدة وقيمه ومبادئه.. يهبط بأناة ادراج غور عقيم في الأرض ويغيب. كما تقول لنا نهاية السرد القصصي. وهي النهاية التي يجتزئ منها القاص عنوان قصته القصيرة، لأهميتها. على غرار أهمية النهاية في القصة التقليدية، باعتبارها "لحظة التنوير" مادام القاص مصرا – كما أشرنا- على ايهام القارئ فنيا، بالتزامه بالترتيب التقليدي للوحدات السردية الثلاث، ذات البداية والوسط والنهاية، المكونة للاطار الخارجي أو البنية الخارجية من السرد القصصي. وربما أدى هذا الايهام الفني وظيفة بنيوية من شأنها ان تحفظ لعنصر السرد (في ظاهرة "القصة – القصيدة " التي افترضنا انتماء القصة اليها لم سيادته المطلوبة على الأسلوب القصصي، حتى يشعر القارئ ببقاء اسلوب الحكي القائم على التسلسل المنطقي للزمان السردي. وان كان ذلك على مستوى البنية الخارجية على الرغم من توافر العناصر الفنية الاخري، كالمجاز الاستعاري المؤدي الى الوجازة والتكثيف والتركيز. تلك العناصر التي من شأنها أن تجذب القصة الى أي جنس أدبي آخر، كالشعر مثلا. لولا الايهام الفني ببقاء الوحدات السردية الثلاث، ذات الترتيب التقليدي، الذي أسهم في الحفاظ على سيادة عنصر السرد القصصي وسيطرته.
والجدير بالاشارة اليه، أننا أمام موقف تحريضي وتثويري للسور الرمز والسور الشهيد. وهو موقف وظفه القاص فنيا، بأسلوب غير مباشر وغير تقريري. فمادام السور (الشيء) في الأساس، وليس الانسان، قد أعلن عن شورته ورفضه وتمرده، وقبل بأن تكون حياته (على سبيل المجاز) هي الثمن في سبيل كل ذلك.. فالأجدر بالانسان، الكائن الحي، مالك العقل ونواة التغيير الفاعلة (أو التي ينبغي أن تكون فاعلة) أن يثور هو ويرفض ويتمرد على الخرافة والثبات – ثبات الحكاية. ولن يتأتى ذلك الاباعادة النظر في الماضي، وفي الذاكرة وفي الموروث، بغربلته واتخاذه نقطة انطلاق نحو الحاضر والمستقبل، لا مجرد القبول به والاستسلام لقيوده واغلاله. واذ نتحدث عن تقنيات الحساسية الجديدة في القصة، وعن مدى نجاح القاص في توظيفها الفني، نشير الى تقنية الكاميرا السينمائية المرتبطة بعنصر الوصف، المرتبط من جهته بعنصر اللغة، منذ أن قلنا: ان لغة القصة في الأساس لغة وصفية.
فالى جانب الوصف عبر المجاز الاستعاري، هناك وصف لا ينفصل عن المجاز، لكنه ينطلق مما يطلق عليه النقاد بتقنية تحريك الكاميرا السينمائية أو "الترافلينج" حين تتتبع عينا الراوي الخارجي، المحايد، الشبيهة بعدسة الكاميرا السينمائية، المشهد الماثل أمامها متابعة تصويرية، تلتقط من خلالها الصورة والصوت، التقاطا سينمائيا، يصبح فيه دور الراوي بمثابة دور المخرج السينمائي، الواقع خارج المشهد والمكتفي بمجرد المتابعة التصويرية. وفي القصة، يظهر ذلك الالتقاط التصويري، من خلال توالي الأفعال – أفعال السرد. وكذا توالي العبارات القصيرة، المتلاحقة، بسرعة خاطفة، تبدو معها الوظيفة البنيوية لمثل هذه الصورة السردية المستعينة بتقنية الكاميرا المتحركة، وتتبلور هذه الوظيفة في مجرد التسجيل – تسجيل المطاردة التي كان عليها حال السور، باعتباره الشخصية المركزية في القصة. وهو تسجيل يختلط فيه الحسي بالمعنوي عبر توظيف التراسل الحسي الذي فرضه استخدام المجاز الاستعاري، كتحول معاني الذكريات والخوف والحكاية والنظرات والظلام.. الى محسوسات، تتابعها كاميرا الراوي التسجيلية، من قبيل قول القاص في المقاطع المختلفة – مثلا-: "تنفلت ذاكرته "،.في لحم الذكريات"،.الحظة تتقاطر الحكاية رعبا"، "فيدلقون الخوف بين أرجلهم "، "تسايلت نظراته في جرح البوابة "، "تساقط خيط وضيء على شجر الظلام " وهكذا.. تمتزج الصورتان: المجازية الاستعارية بالصورة السردية المستعينة، بعدسة الكاميرا السينمائية، في بنية هذه القصة القصيرة، ذات اللغة والوصف، المكثفين، الموجزين. الأمر الذي من شأنه أن يؤكد مسألة سيطرة الوصف، او الصورة بنوعيها الاستعاري والسينمائي على لغة السرد القصصي سيطرة تامة، تمنح التقنية حضورا قويا، يكون لحساب البنية الداخلية، ويفتت من ثم، الحضور الايهامي للاطار الخارجي أو البنية الخارجية ذات الوحدات السردية التقليدية، وهو حضور يمكن مقابلته بقوة حضور السور الرامز للوعي الممكن الذي ينبغي ان يكون عليه حال بني الانسان، في مقابل الحضور الهش للوعي الفعلي أو الوعي القائم للماضي والموروث. مع سيطرة هذا الأخير سيطرة تظل خارجية يمكن تفتيتها وانهيارها من الداخل الأقوى على مستوى التغيير والتجديد، شريطة ان يتبلور موقف ثوري واضح وناضج لدى الفئة المتزعمة للوعي الممكن.
وفي بنية هذه "القصة – القصيدة " نلمح ايقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب لمحا، لا يكون فيه القاص قد قصد اليه قصدا بل جاء عفويا. وفي عبارة واحدة فقط. ذات ايقاع موسيقي غنائي واضح عند القراءة وعند السماع، حين قال "رقص الأصابع في الهواء يشدهم ". وهي عبارة غنائية خالصة، ذات ايقاع شعري يؤكد حضور الشعر، كما يؤكد عدم تعمد القاص اليه، بسبب مجيئه مرة واحدة عابرة، مع بقاء عنصر السرد مسيطرا على البنية القصصية وعلى ايقاع النثر في لغتها.
أضف الى ذلك، ايقاعا آخر مرتبطا بأصوات الأحرف أو بالتراسل الصوتي بين الأحرف، فيما يسميه الناقد ادوار الخراط "تقنية المحارفة او الاماتة أي استخدام الحرف بشكل متكرر".(6) وهو ايقاع نلحظه منذ عنوان المجموعة القصصية بأكملها "أسلاك تصطحب" وهو عنوان يكتسب شعريته من توظيف هذه التقنية الصوتية المحرضة على اصدار صوت الصخب المرافق للثورات والرفض المنطوق والمعلن عنه. والأمر نفسه بالقياس الى عنوان القصة المختارة في هذا الصدد "يهبط ادراج غور ويغيب "، حيث يتكرر حرف الباء وحرف الراء وحرف الغين. وحيث تتكرر مجموعة من الأحرف الأخرى منذ أول القصة حتى نهايتها، محدثة تناغما ايقاعيا تطمئن اليه الأذن وينجذب الوجدان ويتأمل التفكير ويقتنع أخيرا العقل بالمنطق الذي يعرضه عليه القاص عرضا فنيا هادئا ومتميزا، لا يصدم وعي القارئ ولا يؤدي الى نفور ذوقه المشدود الى ما يقرأ من كتابة جديدة.
وأخيرا.. فالى جانب ما ذكرنا من شعرية العنوان المستمدة أساسا من التوظيف الفني لـ"لحظة التنوير" في القصة، تجدر الاشارة الى ان استخدام الجملة المركبة في التسمية، قد أكسب العنوان جدة جعلته يختلف عما ألفناه من التسميات التقليدية المختزلة لمضمون القصة مثلا، او تلك المأخوذة عن اسم من أسماء الشخصيات القصصية. او حين يكون العنوان عبارة عن كلمة واحدة مفردة او مضافة او موصوفة. وبخاصة، حين نعلم ان العنوان ليس مجرد تسمية، بل عتبة من عتبات النص القصصي، والأدبي بوجه عام. "وما دام العنوان عتبة من عتبات النص، فهو ممتلك لبنية ولدلالة، لا تنفصل عن خصوصية العمل الأدبي. ولذلك فحينما يتم اعتبار النص مجموعة من العناصر المنظمة، فان العنوان الذي يعتبر جزءا من تلك العناصر، لا يمظهر فقط خاصية التسمية، فالعنوان يتضمن العمل الأدبي بأكمله، مثلما يستتبع هذا الأخير، ويتضمن العنوان، ايضا. والعنوان يعلن ويتركب من عدة عناصر حين يتقدم كجملة مكثفة تسهم كل مركبات الخطاب في صنعها".(7) ومن هنا، كانت الوظيفة البنيوية التي يؤديها استخدام عنوان القصة "يهبط أدراج غور ويغيب " تتبلور في الاشارة، منذ العنوان، الى النهاية الحتمية والمأساوية، المعروفة سلفا، التي سوف يصل اليها السور (مجازا). وهي نهاية سوف تلحق – اذن – بكل من خرج من السائد الموروث والسائد الثقافي، عموما، لأنه عندئذ سوف يسقط حتما في هاوية الموت أو يغيب في ظلمات لا قرار لها، من وجهة نظر القاص الفنية.
الهوامش
1 – أحمد المعلم، الواقع والظاهرة الفنية في القصة القصيرة، ص 9.
2 – ادوار الخراط، الحساسية الجديدة، مقالات في الظاهرة القصصية، ص 12.
3- ادوار الخراط، الكتابة عبر النوعية، مقالات في ظاهرة "القصة – القصيدة " ص 13- 14.
4 – المرجع السابق ص 15.
5 – تزيفيتان تودوروف، الأدب والدلالة، ص 15 ا.
6- ادوار الخراط، الحساسية الجديدة، ص 30.
7 – عبدالفتاح المجمري، عتبات النص: البنية والدلالة س 17-18
X ملحوظة:
(أسلاك تصطحب) مجموعة قصصية للقاص اليمني المغترب، صدرت عام 1997م ط 1، عن دار أزمنة للنشر والتوزيع.
آمنة يوسف (كاتبة من اليمن)