قرأت أكثر من مرة رواية «البومة العمياء» للروائي الإيراني صادق هدايت، في المرة الأولى في مجلة «مواقف» المحتجبة، ثم كرت السبحة في اكثر من طبعة وترجمة منها ترجمة منشورات «الجمل». اسلوب الرواية السردي الكافكاوي التشاؤمي السوداوي كان ساحراً، ربما جعلني او جعل بعضنا ينسى بعض السقطات العنصرية ضد العرب والاسلام التي لم تكن مجرد تفصيل في كتابات هدايت، هي تخترق أعماله كأيديولوجيا ونظرية ومنها روايته المترجمة حديثاً الى العربية بعنوان «البعثة الاسلامية إلى البلاد الإفرنجية» عن منشورات «الجمل» ترجمة غسان حمدان….
كان هدايت كاتباً غزيراً، لكن «بومته» الرواية النجمة، طغت على أعماله الأخرى اذ كتب حولها الكثير من المقالات والدراسات والكتب التي تناولتها بالدراسة والتحليل من زوايا مختلفة ووجهات نظر متنوعة سواء من خلال تأويل اقنعة المرأة أو تفسير شبحية الموت وقتامته، وترجمت الرواية الى لغات مختلفة، باعتبارها فاتحة المسيرة الروائية الجادة في ايران. النافل ان هدايت نشر «بومته» للمرة الأولى عام 1936 بخط يده في بومباي في الهند ولم تطبع في إيران إلا بعد انتحاره بسنتين خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لا يختلف الإيرانيون على مكانة صادق هدايت ودوره الكبير والريادي في تحديث النثر الفارسي في مرحلة كانت تعاني فيه التيارات المعاصرة من تمسك كتابها ومثقفيها بأساليب النثر الفارسي الكلاسيكي ويغلب على ثقافتها الشعر ونظمه، فهو أول من كتب رواية حديثة في الفارسية، لذا استحق ان يعتبر مؤسس الرواية الفارسية الحديثة، كما كان محمد علي جمال زاده مؤسس القصة القصيرة الحديثة، لكن الاختلاف يدور حول مكانة صادق هدايت ودوره في الحياة الثقافية الإيرانية، التي عاصرها. فقدر صاحب «البومة العمياء» أنه قدم للأدب الفارسي أعمالا هي في قمة «الواقعية النقدية» وفرت له إمكانية التعبير عن أفكاره بجرأة و«مبالغة»، ورغم انه كان على تلاق مع النظام البهلوي السائد في ايامه في أحلام «الأرينة» والنقاء العرقي لكنه كان على تصادم معه على المستوى الفردي.
و«بومة» هدايت الساحرة والمتوترة ترجمت إلى معظم اللغات الحية، تمثل نسجاً قصصياً ذا سمات متميزة مقلقة. ربما تمثل الإنسان المقهور أو المتشائم في الشرق الاوسط أو المتفائل في فرنسا. وكثرت الأسئلة حولها، هل هي أرستقراطية هدايت ورفضه للأوضاع الاجتماعية والديكتاتورية السياسية التي كانت سائدة في إيران، فضلاً عن انطوائيته ووحدته التي انعكست آثارها بشكل أو بآخر في «البومة العمياء»؟ أم أن ذلك يعود إلى تأثره بالأدب العالمي خصوصاً الكاتب الامريكي إدغار آلن بو والتشيكي فرانز كافكا؟ أم أن هذا التأثر يعود إلى تلك العوامل مجتمعة؟
ورغم فنية الرواية التي لاقت رواجاً كبيراً في أوروبا وعُدَّت عملاً فنياً ناضجاً، لكنها مليئة بالصور السلبية عن الاسلام… وأفكار هدايت في هذا الاتجاه استقت مادتها من الكتابات الغربية التي تأثر هدايت بآدابها، وتندس في قصصه على شكل تداعي سردي خاص بإيضاح موقف هدايت من العرب والاسلام. يقول بعض نقاد هدايت ان أي قراءة حديثة لمنجز صادق هدايت وسيرته الحياتية ستكون تعسفية ان لم تضعه في سياق المناخ الثقافي والاجتماعي السائد في ايران، مضافا الى ذلك تأثره بالمناخ الثقافي والايديولوجي الأوروبي في إقامته الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي إذ تأثر هدايت بـ«الفكر القومي» الذي انتعش في أوروبا في السنوات ذاتها، خصوصاً وان في هذه السنوات تحديداً كتب هدايت أغلب أعماله القصصية وأهمها…
ومثَّل صادق هدايت انموذجاً متطرفاً تبنى من خلاله نظرة عنصرية مغالية في تطرفها تجاه الآخر العربي، متأثراً على نحو صريح بالايديولوجية النازية في ألمانيا. تخلص هدايت من التأثير النازي الا انه لم يتخلص من افكاره اليمينية المعادية للعرب وكذلك صديقه المقرب مجتبي مينوي الذي بقي اسير الافكار المعادية للعرب والأتراك معا. وكتب هدايت عام 1937 الى مينوي (من بمبي الى لندن) قائلا أنه يجب البصق على غوبلز وهتلر معا.
وحول انتشار نظرية افضلية العرق الآري بين مثقفين من امثال صادق هدايت. يكتب الباحث محمد علي كاتوزيان قائلا: «اثناءها كانت أوروبا مشغولة بوضع النظريات الايديولوجية العرقية العنصرية ومقارنة مع استلام السلطة من قبل النازيين انتشرت نظرية افضلية العرق الآري على نطاق واسع وقد ترافق ذلك مع سنوات سفر صادق هدايت إلى أوروبا والذي كتب خلالها رواياته ذات الطابع القومي الرومنطيقي وفي الحقيقية نرى ان صادق هدايت يطلب عام 1931 (في رسالة بعثها من طهران الى باريس) من رضوي ان يبعث له كتابا معتبرا وموثقا حول القومية الجرمانية وذلك تزامنا مع ادعاءات النازيين على افضلية العرق الآري، في الوقت نفسه تزايد الحديث في ايطاليا من قبل الفاشيين عن عظمة وقوة الحضارة الامبراطورية الرومانية القديمة، ويبدو أن الإيرانيين تبنوا «أفضلية العرق» من النازيين ووجود مرحلة من الحضارة الامبراطورية العظيمة من الفاشيين».
إرث النازية الثقيل، لم يقتصر على هدايت والإيرانيين، لنراجع ثقافة بعض الاحزاب العربية في هذا المجال، لنراجع بعض الافكار القومية العربية. المحنة أن الفرس استوردوا الشبح القومي من الغرب طمعا بالنقاء الرومنطيقي والعرب أيضاً، تلك هي الهويات القاتلة التي صعد نجمها قبل الحرب العالمية الثانية بسنوات وبعدها بسنوات أيضاً، ربما انتهت الهويات القاتلة ببعدها القومي (العربي، الفارسي، التركي) لتتجلى ببعدها المذهبي خصوصا في السنوات الأخيرة، وهذا موضوع آخر.
عاشت معظم القوميات أوهام كثيرة أبان صعودها، من القومية العربية الى القومية السورية والقومية اللبنانية، كل قومية كانت تخترع أساطيرها باعتبارها الأفضل الأنقى والارقى والأعرق. تحت مسمى القومية اللبنانية جرى تمجيد فنيقيا، وتحت مسمى القومية الفارسية، جرى تمجيد إيران ما قبل الإسلام على أيدي النظام البهلوي، ولُعن العرب والمسلمون لتسببهم في انحدار إيران من العظمة والامبراطورية التي كانت عليها في مرحلة ما قبل الإسلام. وسعى النظام البهلوي إلى تغيير الهوية الإثنية للشعوب غير الفارسية في إيران، بهدف جعلها جزءاً من الأمة الإيرانية الحديثة، واتبع سياسة تفريس إيران، من خلال إصلاح اللغة و»تنقيتها» من المفردات ذات الأصول العربية.
وموقف صادق هدايت من العرب والاسلام، هو امتداد لموقف «الانتلجنسيا الإيرانية» في عهد رضا شاه تحديدا- من التيار الديني. وكانت الخطاب القومي الشغل الشاغل لهدايت حتى شكل المضمون الاول الذي يتكرر في كل آثاره وكتاباته، وتحولت هذه الكتابات الى كليشيات مستنفدة وغير مجدية. وبجملة واحدة، يمكن القول ان الفكرة التي ركز عليها هايت تكمن في العبارة التي ذكرها في مقدمة كتابه عن رباعيات الخيام والذي سمّاه بـ«أناشيد الخيام» حيث يقول «إن الرباعيات هي ثورة الروح الآرية على المعتقدات الساميّة».
وفي كتاب «صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث» لجويا بلندل سعد (ترجم لدى دار «قدمس») نقتفي الصورة الشاملة حول الواقع الإيراني في زمنه القومي، يقدم الكتاب هدايت في صورته القومية المعادية للإسلام والسامية في ايران. كان هدايت يرى أن العدو الحقيقي للثقافة الإيرانية وسبب مشكلات إيران كلها هو الإسلام والعرب. ثم يضيف اليهود ودينهم وعاداتهم إلى قائمة أعداء إيران. فمن وجهة نظره إن العرب واليهود، والإسلام واليهودية، ينتمون جميعاً إلى «العرق السامي» ذاته وهم في الجوهر متشابهون. يذهب هدايت إلى أبعد من ذلك في وصفه القصصي ممعناً في الحط من «العرق السامي» على صعيد الشكل وعلى صعيد العيش. تبدو الصور القذرة جاهزة للإلصاق باليهود والعرب. ففي قصة «الأخ أكول» يصف اليهود كالآتي: «خرج الملا إيشاق بقلنسوة نوم قذرة ولحية كلحية الماعز وعينين جشعتين وأطلق ضحكة. أما ابنه وهو طفل يدل مظهره على أنه مريض ووسخ بمعدة منتفخة فقد أخذ يحدق إلى الأخ أكول. كان قد نسي فمه مفتوحاً لينساب لعابه من شفتيه». تنتمي الأوصاف السابقة إلى الأرومة ذاتها التي يستخدمها صادق هدايت في قصة «طلب الغفران» لكن هذه كلماته في وصف العرب: «عربي حافي القدمين بوجه أسود وعينين متقدتين ولحية نحيلة، يضرب فخذ البغل الذي يقطر دماً بسلسلة حديدية غليظة. ومن حين إلى آخر يستدير ويحدق إلى وجوه النسوة واحدة واحدة. كانت هناك نساء عربيات بوجوه موشومة قذرة وعيون متقدة (…) دفعت إحداهن بثدي أسود إلى فم طفل قذر كان بين ذراعيها. وأمام المقهى جلس عربي ينظف أنفه وباليد الأخرى كان يخرج الأوساخ من بين أصابع قدميه. غطى الذباب وجهه ودب القمل فوق كامل رأسه». وكما في كتاب «أصفهان نصف العالم» مثلاً حين يتحدث هدايت فجأة عن أن «العرب، على وجه الخصوص، الذين كانوا يركضون حفاة خلف السحالي، ليس بإمكان المرء أن يجد في رؤوسهم أي فكر فني، وما يعرف بأنه فنهم يعود في الواقع إلى شعوب أخرى».
أن صادق هدايت وقع وعلى غرار مفكرين ومثقفين آخرين في فخ «الأصولية التاريخانية» التي ربطت النهضة الحديثة بالعودة إلى التاريخ الفارسي القديم والعصر الساساني تحديداً، وكانت بمستوى من الوهم أنها لم تتواصل مع العربي باعتباره يخوض ذات الأسئلة المشتركة تجاه الدين في مسيرته النهضوية. وبحسب كتاب «صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث» انقسم الأدباء الإيرانيون إلى اتجاهين وانضوى تحت الاتجاه الأول عدد من الأدباء الرجال، محمد علي جمال زاده وصادق هدايت ومهدي أخافان الأصالي ونادر نادر بور الذين رسموا صورة قاتمة للعربي والاسلام، وحملوا العنصر العربي والدين الإسلامي تبعة التخلف عن الركب الحضاري الغربي.
أما الاتجاه الآخر الذي اتسم بالعقلانية فسيكون موجوداً، في كتابات النساء، فروغ فرخ زاد وسيمين دانش فشار وطاهرة سفر زاد، وبطبيعة الحال لا تعد مواقفهن متماثلة ومتجانسة تماماً، ولكنها في الجانب العام منها تعد أكثر عقلانية وتفهماً للقضية برمتها وتبدو انشغالات صاحباتهات بعيدة عن التشنج والتعصب الذي ميز كتابات الرجال. لم يكن الموقف من العرب والاسلام خاصاً بالأدباء الحديثين بل إن له روافد أساسية في التراث الفارسي فكتاب الشاهنامه وسفرنامه وهما من الأعمال الكلاسيكية الهامة في الأدب الفارسي يحتويان على العديد من الصور السلبية للعربي، والتي تنحصر في صورة البدوي الجلف، القادم من الصحراء، آكل الجراد، مقابل الفارسي سليل الساسانيين المتنعم بحضارة متقدمة على عصرها. بعد «الفتح الإسلامي» ولمدة قرنين عاش الفرس تحت هيمنة الثقافة والأدب العربيين وقد وصف البعض منهم هذه الفترة بـ«قرنين من الصمت».
ولم تمت اللغة الفارسية عقب انهيار الإمبراطورية الساسانية لأسباب تاريخية، وقد انطلقت هذه اللغة أدبيا أول الأمر في ولاية خراسان ومن ثمّ توسعت في ولايات أخرى، إن أول من أحيا اللغة الفارسية وأنقذها من الاندثار هو أبوالقاسم الفردوسي، صاحب ملحمة «الشاهنامة» (رسالة الملوك) وهو ديوان شعر ضخم، ألفه بتشجيع من الشاه محمود الغزنوي مقابل دفع مبالغ معينة. وينشد الفردوسي في الشاهنامة، حكايات وأساطير الفرس القديمة شعرا. وكان الفردوسي ينتمي للحركة الشعوبية المعادية للعرب في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي. وهذه نماذج من أشعار الفردوسي العنصرية المعادية للعرب: «من شرب لبن الإبل وأكل الضب
بلغ الأمر بالعرب مبلغا
أن يطمحوا في تاج الملك
فتبا لك أيها الزمان وسحقا».
و«العربي، عدوّ لي على أيّ حال
متعصب، غاضب وشيطان
فلما غلب العرب على العجم
فقد جال الظلام على الإيرانيين».
وملحمة الفردوسي «شاهنامة» تنتهي بقدوم العرب المسلمين والقضاء على إيران الساسانية واحتلالها، وصورت العرب على أنهم قوم أقل مدنية وأقل ثراء من الإيرانيين، ومع ذلك فلا يمكن اعتبار الشاهنامة عملاً معادياً للعرب بكليته.
انتحار
على أن الهجوم الذي شنه صادق هدايت على الثقافة الإسلامية سرعان ما فقد بريقه مع صعود نخبة دينية حملت على عاتقها مهمة التحديث والعصرنة ولكن من خلال التصالح مع مكونات هوية المجتمع الإيراني بما فيها المكون الديني، رغم أن هدايت ينادي بـ»الرومنطقية الإيرانية» وينتمي إلى الأوساط الارستقراطية في إيران إلا أنه عاش مكتئباً متشائما ومات منتحراً وقد عثر على جثته في نزل فرنسي صباح التاسع من نيسان 1951. كان ممدداً على الأرض مرتديا بدلته وربطة عنقه وبدا كأن ابتسامة ترقد على شفتيه، أما الغرفة نفسها فبدت نظيفة ومرتبة كأنها مهيأة لاستقبال ضيوف. رائحة الغاز كانت تملأ هواء الغرفة ما أدى إلى خنقه. إستقبل هدايت الموت بأناقة وهدوء وابتسامة. أدار مفتاح الغاز وجلس في وداعه ينتظر الموت بصمت. يقول على لسان بطل راوية «البومة العمياء»: «أحس بأن هذه الدنيا ليست لي. إنها للمتملقين، المنافقين، الوقحين، النهمين أبداً. مثلهم مثل كلاب واقفة أمام دكان قصاب تتوق إلى قطعة عظم ترمى لهم». ولم تكن هذه المرة الاولى التي حاول فيها هدايت الانتحار، فقد سبقتها محاولة اخرى حيث القى نفسه في نهر «مارن» الفرنسي إلا ان مرور زورق هناك أنقذه من الموت. ويعزى سبب اقدامه على الانتحار إلى أنه أحس بالاحباط لأنه لم يلق ناشراً لكتبه، او لأن ناشريه غبنوه… وتدور كل هذه التبريرات والتفسيرات حول الكتابة والنشر. لكن هذا التفسير غير مقنع بحسب ما يبين التقديم لرواية «البعثة الاسلامية الى البلاد الفرنجية» (منشورات الجمل)، فقد بلغت كتبه وما كتب عنه، ما يصعب عدّه. ويكفي القول أنه كتب منذ 1928 الى سنة 1951 اثنين وعشرين كتابا، كما أن له خمسة كتب بلا تأريخ. وشملت كتاباته القصة القصيرة والمونولوج الغنائي الساخر والمسرحية، والمقالة الادبية، كما كتب في التاريخ والتحقيق العلمي والترجمة من التراث البهلوي فضلا عن كونه رساماً. ولكن مأثرته المهمة تبقى مجال الرواية. كان في أدبه يجرب، لذا يجد القراء تأثير الأدب الألماني واضحاً في كتاباته. والمفاجأة التشيخوفية شاخصة في قصصه، وعدا عن الخطاب المعادي للعرب الذي شغل معظم كتابات هدايت، كان لديه نزعة تشاؤمية طغت على أعماله وقادته في الانتحار.
محمد الحجيري\
\ كاتب من لبنان