هكذا قررت أن أكتب لك علنا..
فما جدوى أن أسافر اليك عبر رسالة لن تصلك ؟ إذ لم أعد أعرف لك عنوانا.رسالتك الأخيرة حملت لي أكثر من خيبة وفجيعة ، غادرت الوطن مثلي ومثل الآخرين ، لم تجد عملا في الشارقة ، فعدت الى الجرح مديونا، ولكن لم عاودت السفر الى دبي، أنت الذي قلت لي «لن أحاثك عن الذي فعلته المطارات بطفولتي.. خلفي تركت مدينة لا تحتضن ، ولا تخلي السبيل : قسنطينة ».
أظن أن هذا كل ما حدث ، وقد قلته ، فهل مازلت تحبها؟ لقد خرجت من حقائبي أول ما وصلت الى بيروت ، باغتتني بوجودها الجريء بين أشيائي ، بتخفيها الذكي في القلب ، باغتتني حتى من خلال التونسي صابر… صابر الرباعي يا صديقي ، أتذكر، أنت أهديتني الشريط ، وأنا في غفلة عن شوقي وحنيني أردت الاستماع لشيء يكسر سكون الغرفة لا غير… كبست الزر، فانبعثت الذكرى، كنت أنت خلف الميكروفون ، وعبدالغني على العارضة التقنية ونعمون في الاخراج .
قلت له "اسمعها للجمهور يا نعمون ، مررها مباشرة إنها رائعة » وكنت قد ضايقته بإلحاحي ، وأنت تبتسم من خلف الزجاج وهو لم يتمالك أعصابه ، قال لعبدالغني: «مررها» ثم نظر الي بغضب قائلا :"ستأكلين صفعة من يدي هذه يا جشعة إذا لم تعجبني الأغنية ».
جمدت مكاني ، ورفع كفه التي تشبه قفازات «البيسبول » متأهبا لصفعي ، فيما قال صابر "تمنيت …» قال «الآه » قبلها ، فخفض نعمون كفه وابتسم . قفزت فرحا، وأشرت لي بإبهامك راسما علامة الانتصار.
قسنطينة أيها الصديق الغالي سكنت كل ما كنا نذيعه من أغنيات .. قسنطينة ، الأصباح المبللة بالغموض ، والأماسي القادمة في عجل ، والأصدقاء… مقهى بيروت .. والبوسفور .. ودنيا الطرائف ..
كنت أتأسف لشيء واحد دائما، لو كنت رجلا لاستمتعت بجلسة معك في إحدى هذه المقاهي، لكنني امرأة!! وكان مجرد مروري أنا وأنت على «الطريق الجديدة » نحو مبنى الاذاعة بـ "باب القنطرة » يثير التساؤل والشكوك :
– من تكون ؟ حبيبته ؟
ولا أحد كان يصدقني حين أقول إنك صديقي
"صديقي …. الحب العادي يموت يا ناس …»
من يفهم ما كان بيننا؟ من يفهم ما كنت أقول ؟
اليوم أقرأ وجعك :
"ما معنى أن أكتب لك ، ما معنى أن أواجهك عبر هذا البياض .. أنا الهارب دائما من شوقي اليك » ثم تقول :«لا لغة تقول شوقي» ما الذي يقول الشوق في رأيك ؟ الصمت ؟ أم ما تخزنه الذاكرة ؟
يحضرني وجعك في تلك الصبيحة المتوغلة في السنوات .
– ما بك ؟
– لن تصدقي؟
– لكنني دائما أصدقك ؟
– منذ شهرين فقط وجدت الحجر السري الذي أبني مليه روايتي ، كتبت فصلا كبيرا مص التعب والقرف والخوف معا، عدت البارحة من العمل لأجد الأوراق أمام مدخل العمارة ، بعضها يلهو بها الريح ، وبعضها يجلس عليه والدي وأصدقاؤه وهم يلعبون «الضامة ».
هممت بالبكاء عليك ، ولكني انفجرت ضاحكة فجأة ، «هم يضحك ، وهم يبكي» على رأي المثل ، واصلت الحديث .
– والدي رجل كبير في السن ، وقد فاته في هذه الحياة أن يتعلم «فك الخط » إنه يعرف علاقتي القوية بالورق ولهذا تفادى كومة الأوراق البيضاء، وأخذ المكتوبة ظنا منه أنها اتسخت . كنت تحسدني لأن والدي مثقف وكنت أقول لك :
– لا تصدق هذه الأكذوبة . إنه ديكتاتور مثل أي رجل عربي آخر له بنات .
أجد المتعة في استرجاع كل ذلك الآن ورسالتك بين يدي، لكنني لا أعرف أن أرسم لك شكل الغربة حين لم أعثر هنا على صديق مثلك .
استسلم لما غنته ماجدة الرومي للأميرة سعاد. «كن صديقي». فلا أراك إلا أنت تترجم تماما ما بداخلي : – إذا كانت الأميرات بحاجة الى أصدقاء فكيف بنا نحن؟
أغمض عيني استحسانا لما قلت . وأقول :
الله !
هل تعرف ؟ ذاك الذي اخترع مقولة :
– "البعيد عن العين بعيد عن القلب » مخطيء جدا فها هي المسافات تجعلني أفكر مثلك.
«كان من المفروض … وكان …!»
كنا منشغلين عن أنفسنا بما يحدث للآخرين وللوطن قلت لك ذات يوم :
– أشعر أن عمري لن يطول الى الغد.
فضحكت على سذاجتي ثم ناديت «هشام » من قسم المحليات وقلت له :
– احك لها الحكاية ، أثبت لها أن عمر الأشقياء يطول وراح "هشام » يسرد قصته مع صبي السجائر ، بأسلوبه المفعم بالبراءة :
– لم أعرف أنه ارهابي صغير، اشتريت منه علبة «ريم » ودردشت معه مازحا عن أحوال السوق كما يدردش مع الأطفال ، وقال لي إنه يتابعني عبر نشرات الأخبار ويعرفني جيدا، شكرته مسرورا ، ثم دفعت له ثمن علبة السجائر ، وأهديته باقة من أزهار «الميموزا» كانت بيدي ، وبعد يومين اختفت طاولته من قرب مبنى "ثانوية بن باديس» واختفى هو، وقد عرفت أنه أطق النار على شرطي يقطن بالجوار، أردأه قتيلا وفر.
– هكذا بكل بساطة ؟ (قلت له )
– هذا ما حدث .
– أهديت ارهابيا صغيرا أزهار "ميموزا»؟
– بالضبط .
– وقال لك إنه يعرفك جيدا؟
هز كتفيه وزم شفتيه دون أن يجيب فانفجرنا ضاحكين كنا نبلل خوفنا بالسخرية من أخبار الموت ، ونعيش تحت البلل بمظلات وهمية … نعيش حتى السأم ! هل تعرف ما فعلته بي قسنطية ؟
ما فعلته أنت بي بالضبط!
ستسأل السؤال مرة أخرى ، ولن أخبرك شيئا جديدا ستذكر حين كنت أخبرك عن قصة حب «مجنونة » .
– أحبه … أحبه …. يكاد يجنني.
وقد فتحت عينيك من الدهشة ، وأنا تخيلت شيئا من الفزع في صوتك وأنت تقول
من هو ؟ … من يكون ؟
فقلت لك وأنا أتفحص الشيء الذي أريده في عينك:
– أمين معلوف … لا أحد سواه في هذه الفترة ! يومها عرفت ..
لكن بقينا أصدقاء!
فضيلة الفاروق (قاصة من الجزائر تقيم في بيروت )