منذ سبع سنوات وأنا أتلقى التعازي ، لقد مات أنفي.
لست حزينا الآن ، ربما فقدت متعة تشمم أشداد النساء، لكن لا بأس ، فالملايين أيضا لا تزال أنوفهم على قيد الحياة ولكنهم لا يتذكرون شيئا عن الوهية تلك الرائحة .
منذ سبع سنوات اكتشفت وجوده.. نظرت في مرآة المغسلة ، فلاحظت نقطة سوداء في تجويف أذني اليمنى بحجم رأس القلم .
ظننتها شامة عادية ظهرت بمناسبة حرب الخليج ، وعندما انتهت الحرب لاحظت أن النقطة السوداء أصبحت بحجم محيط غطاء القلم .
لست قلقا ولا أرغب في رؤية الأطباء ليكن ما يكون سأعيش ما يكفيني من الوقت .
كنت أفكر في شراء مرآة جديدة . لست أدري كيف اعتقدت أن مرآة المغسلة مشروحة . أتقدم بالشكر الى مجبوبتي (سهام ) لأنها جعلتني أوفر قيمة المرآة الجديدة . عندما صارحتني همسا بأن في وجهي شرخا يمتد من جبهتي وحتى أرنبة أنفي.. يرحمه الله !
بين زلزال وآخر كانت ثمة شظايا دقيقة الحجم جدا تهل من وجهي زي الاصفرار الخريفي. لا أحد يدرك مقدار الهلع المروع الذي ينهش انسانا ما بدأ يفقد ملامح وجهه تدريجيا..
آخر مرة تسكعت بشارع (حدة ) كانت قبل سبع سنوات . أذكر أنه ترك عندي انطباعا غموضيا عن نوعية الجلد الذي يرتديه سكانه .. ما زاد في شكوكي أن الهواء كان مشبعا بالرغوة ! كانت المحلات التجارية تلعب ليلا (القفز فوق الحبل ) وتستخدم الشريط الاسفلتي حبلا. كانت الشقق السكنية ساحة شطرنجية عظيمة الأبعاد ، وكنت أشاهد المباراة وأنا جالس في استوديو تصوير منخفض كجحر على الهواء مباشرة .
أملت أن أشاهد وجه امرأة حسناء، لكي تهبني فألا حسنا قبيل ولوجي الى بيت صاحبي الذي أنا بصحبته الآن . لكن حاستي السادسة افترسها اضطراب شديد، عندما شاهدت امرأة لها جمال صارخ يجعل القلب يثب بين الضلوع لوعة ، الا أن نصفها السفلي كله كان هيكلا عظميا، جعل قلبي يثب فعلا من بين ضلوعي ويفر الى أحد الأزقة الخلفية ولم أعرف بعد ذلك
الى أين ألقت بي المقادير. استفزني احساسي بأن عرائس البحر، قد نقلن نشاطهن الى البر، وأن مصائرهن تأدلجت منذ أتقن اللعب بذلاقة الاقيال وأصبح اسمهن الحركي (عرائس القبر ).
حاولت التخلص من دعوة صاحبي، يا اته لقد كان في تلك الليلة أشبه بقفل ضاع مفتاحه في جوف كلب اصطادته أحدى الأرامل لتبحث عنه في سريرها.
كان يسكن في فيلا فخمة ، ادخلني ال الديران العربي ثم غادر مرة أخرى بعد مكالمة هاتفية مقتضبة وتركني وحيدا. كان دفتر مذكراتي ملقى بإهمال عند أرجل المداعة المتأنقة ذات الفتحات السبع وكأنها لعبة هوائية في مدينة الملاهي فكرت بمقدار المتعة التي سأجنيها من قراءة صفحات صاحبي المحدث النعمة حول مغامراته النسائية .
بتلهف قلبت صفحات الدفتر ، ولفت انتباهي تمعن واضح لبضع صفحات ، حزرت انها كانت أثيرة لديه ، فصممت على قراءتها:
(.. انها نهايتي . هذه السطور وصيتي الى الموت ، لقد استنفدت كل وسائل المقاومة ولم يبق أمامي سوى الكتابة .
ربما لاتسل ، ربما لاخفي رعبي من اننا، حياتي.
… أليس لديك شيء ما تندم عليه مثلي ؟ أليس ثمة سر صغير تود دفنه في ركن قصي من ذاكرتك ؟ ذلك السر الذي في يوم من الأيام قلب حياتك رأسا على عقب وجعلك تغير نظرتك للحياة برمتها؟ أنا أيضا عندي سر صغير جدا، يخصني وحدي، لايزال ، حتى الآن يؤرق حياتي، أود أن أبوح به ولكن .. أنا الآن أكتم السر بداخلي وكأنه مارد بداخل قمقم وأمي، ولكني اذا سمحت له بالخروج ، في لسوف يحتويني هو وأصبح أنا الحبيس في قمقمه الذي كان له !
أن اثقل شيء حمله الانسان هو السر. وأنا صرت طريح الفراش محموما على وشك الانهيار. والاطباء لاحظوا الاعراض الغريبة التي انتابتني ، وخصوصا استشراء البقعة السوداء في الجزء الأيمن من وجهي، ونصحوني بأن اتخلص من سري بأسرع ما يمكن قبل أن يسبب لي الوفاة .
لمن أفشي هذا السر وأضمن انه لن يفشيه ابا ان هذا السر اذا ما ذاع وانتشر فسيقتلونني بالرصاص .
هكذا اتخذت قرارا بتجريب علاج مشكوك في قدرته على ايقاف زحف البقعة السوداء على جسدي . وقبل سبع ساعات فقط من لحظة كتابة هذه السطور عزمت على كتابة سري في هذا الدفتر برغم المخاطر في عثور أحدهم عليه .
وما إن وضعت رأس القلم لأكتب سري وبالكاد أثبت نقطة سوداء صغيرة حتى كانت البقعة السوداء تفر هاربة الى ركن غرفتي ، تنهدت بارتياح وكأنما أخرجت جنيا من جسدي. ثم فكرت فيما لو أني واصلت كتابة سري على الورق فانها أي البقعة السوداء ستتضاءل حقي تختفي تماما حينما أنتهي من اعترافي .
وما إن كتبت كلمة (أعترف ) حتى شاخ القلم في يدر وانحنى ظهره . ثم توكأ على سبابتي بعد فقدانه البصر. ظللت مشدوها دقه ثق عديدة اراقب ما يحدث لقلمي من ظواهر مرعبة بذهول عميق ، ما لبث بعدها أن أطلق تأوهاته الأخيرة مختنفا بسري، وصار في يدي جثة هامدة . كانت يدي ترتعش وعروقها ترسل نبضات غريبة ، ووجهي محتقن يكاد يتفجر بالعرق، وأنا لحظتئذ أشعر بدوار رهيب جعلني أهذي.. كنت على وشك الجنون !
وقبل الجنون بلحظة ، حانت مني التفاتة أضاعت مني أخو فرصة في النجاة.
اتسعت عيناي بشدة وأنا أبحلق بخوف هائل في ذلك الشيء الرهيب الذي انتصب أمامي. كانت البقعة السوداء قد تضخمت واستطالت حتى أصبحت في حجمي تماما. وقد برزت منها سبه أذرع لا تكف عن الدوران البطيء.
تبخر الدوار وكل اعراض الجنون ، وابتعدت مذعورا حينما رأيت البقعة السوداء تريد الانقضاض علي ، قذفتها بالكرسي ، فغاب الكرسي في المجهول ، عندئذ شعرت بالرعب الشديد من تلك البقعة السوداء المسطحة تماما كحد الجنبية ، فأين اختفى الكرسي وليس ثمة جوف لهذه المصيبة المخيفة ؟ رحت أقذفها بكل ما تقع عليه يدي من أثاث الغرفة ، رميتها بأشياء حادة ثقيلة غابت كلها في واد سحيق ولم أكبر أسمع أي صوت ارتداد لها.
كانت تتحرك ببط ء يمكنني بسهولة من مراوغتها وبعد فشل كل محاولاتي لهز يمتها، انهارت شجاعتي وقررت أن ألوا بالفرار.
أحسست أن خازوقا بطول (وادي حضرموت ) يخترقني عندما لم أجد باب الغرفة ، هرولت الى النافذة ، هي الأخرى لم تكن موجودة .
انهمرت الدموع من عيني عندما أيقنت بأنني مسجون في غرفتي ، مرت سبع ساعات وأنا أهرب من ركن الى آخر في مطاردة مضنية بطيئة ، أصابتني بالانهاك الشديد جراء الضغط العصبي المدمر الذي تعرضت له أكثر مما هو خور جسدي.
هأنذا استسلم ، اتكوم في أحدى الزوايا ووجهي الى الجدار وأنا أتنفس بصعوبة شديدة . وقد أصبحت مبللا تماما بالعرق . ممسكا هذا الدفتر بيمناي، وأنا أخط بدمي النازف من ابهام يسراي التي أبصم بها تفاصيل اختفائي ،وحين مازلت أؤمل أن بامكان الكتابة تغيير ميكانزم الاختفاء أو على الأقل جعله يحدث في عالمين !
رويدا رويدا، راحت البقعة السوداء تبتلعني من أخمص قدمي بهدوء قشعريري، ولاحظت اختفاء جسدي البطيء للغاية في شيء مظلم يصعد من تحتي الى أعلى .. أعلى .
يداي مرفوعتان لتواصلا الكتابة . الحياة ، هاهي ذي البقعة السوداء تلتهم عنقي.. عما قليل سأصبح محبوسا في القمقم الذي كان لسري ، الذي سيحتويني ويحرص جدا على أن أبقى، أنا سر خاص به لا يمكن أبدا أن يبوح به لأي كائن من كان .
لذلك أحذرك منه عندما تقابله ، لكيلا تلقى ذات المصير السوداوي، وينجح سرك في الانقلاب عليك فيتسيدك ! متأكد أنا من أنه سينتحل شخصيتي وسيعاشر زوجتي بدلا مني، وسيعبث بأموالي وأشيائي متخذا اسمي ولقبي، ولكنه ليس أنا بالطبع .
صدقني أنا لست أكذب أبدا عندما أخبرك بأنني سأتحول الى سر صغير مدفون تحت حراسة مشددة في ذاكرة الشخص الذي قد ترده يوما ما يمشي أمامك ، فما ذلك الشخص المزيف عني ان هو إلا سري الصغير الذي حرصت دوما على مواراته عن الأنظار، وحتى عن ذاكرتي.
لم أعد أرى الآن .. أكتب معتمدا على ذاكرتي ، لقد التهمت البقعة السوداء عيني. أشعر بخدر نومي في المخ .
ربما أنت لا تصدق هذه الواقعة الحقيقية ، برغم أن الكثيرين مصابون بهذا الالتباس .. أتساءل أنه إذا كانت هناك آلات تميز بين العملة الصحيحة وبين العملة المزيفة : فهل يمكن أن تخترع آلة تميز بين الانسان الحقيقي وبين الانسان المزيف ؟
على كل حال لست وحدي البضاعة المغشوشة في .. هذا.. ا.. ل .. عا… ل ..).
عندما تركت دفتر مذكرات صاحبي يفلت من بين يدي، داهمتني أغرب الأحاسيس التي يمكن ورودها على البال ، أيمكن أن يكون صاحبي الذي جئت أنا وهو يدا بيد الى هذه الفيلا ما هو الا شخصية مزيفة ؟
يا خفي الألطاف ، كيف انقذ صاحبي الحقيقي بل أين أجده؟
يا رب القيامة ، كيف سأقابل ذلك الشخص المزيف عندما يعود بعد قليل بعيد اكتشافي حقيقته ؟ كيف سأتصرف معه ، وهل يجدي ابلاغ السلطات عن حالة التباس هي برمتها غير مادية وهو الأمر الذي تمقته الشرطة ؟
اصطكت ركبتاي رعبا سمعت باب الفيلا الضخم يفتح .. قررت فجأة نسيان كل شيء وأن اتصرف معه كأن ما كان . أعدت دفتر المذكرات حيثما كان، ورحت أتأمل محتويات الديران اهربي لابدد مخاوفي . كانت هناك سبع ساعات جدارية تشير الى التوقيت المحلي في سبع عواصم أجنبية ،وكان عجيبا للغاية . أن أحاول معرفة الوقت في بلادي أثناء رؤيتي لتلك الساعات التي لم تكن مهتمة بوقتنا. وأما ساعتي فقد توقفت الى الأبد وأحملها للزينة تنهدت مفلتا استغاثة كئيبة :
– يا أول ، لماذا قدرت علينا أن نعيش في أزمنة الآخرين انقبضت روحي فورا وجف حلقي عندما رأيت صاحبي المزيف يدخل متمهلا. نظر الي بتودد، ثم راح يتأمل صورة فوتوغرافية كبيرة لها برواز مطلي بماء الذهب . كانت الصورة سوداء حالكة تماما. ولست أدري كيف خطر على بالي فجأة أن تلك الصورة ما هي الا صاحبي الحقيقي الذي التهمته البقعة السوداء!!
كدت أصرخ .. حاولت .. كان فمي محاطا بابتسامة ملائمة لظروف المرحلة .
انتزع الصورة السوداء من الجدار، فرأيت خلفها خزانة سرية تنبعث منها رائحة جثث متفسخة .. أخرج الصورة السوداء من البرواز ثم شققها نتفا صغيرة ثم أحرقها باستمتاع وتلذذ مقزز في منفضة السجائر..
امتدت يده الى وأدخلني في البرواز، ثم أعادا حيث كان في الجدار ليستر خزانته السرية العفنة عن انظار الناس .
نعم لقد كنت أنا صورته الفوتوغرافية الجديدة آنذاك .
ذلك هو ما حدث قبل سبع سنوات .. أما الآن فأعتقد أن وجهي قد فقد كل ملامحه ، وأن الشرخ الذي يمتد من جبهتي الى أرنبة أنفي قد امتد الى المكان الذي كان يشغله قلبي، ذلك الذي لا أزال حتى الآن لا أعرف أين القت به المقادير .. أد يا قلبي لماذا تركتني؟ كل عصر، كنت أسائل حبيبتي (سهام ) عن أخبار النقطة السوداء في أذني اليمنى. كانت الخزانة السرية القابعة خلفي مباشرة تزداد عفوتنها المثيرة للقيء والتي تجعل العروق تنتفض اشمئزازا مع تزايد حمولتها من الجثث المتفسخة يوما بعد يوم.
كانت حبيبتي (سهام ) تخبرني يوميا بالتقدم البطيء للنقطة السوداء على جسدي. كنت انتظر بفارغ في الصبر كما ينتظر مريض السرطان قدوم الموت ، انتهاء النقطة السوداء من التهامي. لم أعد أرى شيئا . حبيبتي (سهام ) اخبرتني أن صورتي قد أصبحت سوداء كظلام ليلة عاصفة . همست (سهام ) في روحي بأن صاحبي المزيف قد دخل الديوان العربي وبصحبته صورته الفوتوغرافية الجديدة الناصعة الألوان المحاطة بابتسامة ملائمة لظروف المرحلة تأملني باشمئزاز برهة من الزمن ، ثم انزلني الى الأرض واخرجني من البرواز ، شعرت به يشققني نتفا صغيرة .
شعرت بقداحته تقترب مني وأنا ملقى في منفضة السجائر .. بعد ذلك لم أشعر بأي شيء.
وجدي الأهدل ( قاص من اليمن)