الأبيات التي يتحدث فيها الشاعران عن الليل ليست بالأبيات الكثيرة مقارنة بالمواضيع الأخرى التي تناولها الشاعران في قصائدهما نحو وصف الناقة ووصف الفرس والبكاء على الأطلال وغيرها من مواضيع الشعر الجاهلي, إلا أن الأثر الشعري والفني لتلك الأبيات التي قيلت في الليل بقي مسيطرا على نوعية التصوير الفني والابداعي لحالة الليل في الشعر العربي كله إن كان في او الجاهلي أو العصور التي تليه. ولا نكاد نبحث في صور الليل عند الشعراء الجاهليين أو المعاصرين إلا وتبرز لنا الأبيات التي قالها هذان الشاعران أو حتى عندما نبحث عن جماليات التصوير العامة فإنه أول ما يواجهنا تصوير هذين الشاعرين لحالة الليل وغيرها من صورها المختلفة والرائعة.ونستطيع أن نؤكد أن شعراء العربية لم يستطيعوا أن يأتوا بأي قيم فنية جديدة لصورة الليل بعد صور أمرىء القيس أو النابغة الذبياني ان كان هؤلاء الشعراء من معاصريهما أو ممن أتوا بعدهما. ومهما يكن من وضعية هذه الأبيات وأثرها في الشعر العربي فان امرأ القيس ومعه النابغة كانا وما يزالان يقفان في مقدمة شعراء العربية الجاهليين إن كان في طرقهما لمراضيه مختلفة أو من ناحية جزالة الشعر وقوته أو من حيث النواحي الغنية العديدة أو في نواحي التجديد في القصيدة العربية. وقد أكد هذا المعنى العديد من النقاد العرب المعاصرين ممن تناولوا الشعر الجاهلي بالدراسة والتحليل, ويقف على رأس هؤلا0الدكتور شوقي ضيف حيث يقول في كتابه "الشعر الجاهلي " في معرض حديثه عن امريء القيس " وأكبر الظن ان فيما قدمناه ما يدل على قيمة امريء القيس فهو الذر نه. للشعراء الجاهليين من بعده الحديث في بكاء الديار والغزل القصصي ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر ولعله سبق بأشعاره في هذه الموضوعات ولكن هو الذي أعطاها النسق النهائي مظهرا في ذلك ضرويا من المهارة الفنية جعلت السابقين جميعا يجمعون على تقديمه سواء العرب في أحاديثهم عنه أو النقاد في نقدهم للشعر الجاهلي. يقول ابن سلام سبق امرؤ القيس الى أشياء ابتدعها، استحسنها العرب واتبعه فيها الشعراء منها استيقان صحبه والبكاء في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ وشبه النساء بالظباء والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصى وقيد الأوابد واجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى وكان أحسن طبقته تشبيها ان الذي يهمنا في شعر امريء القيس والنابغة الذبياني هو ذلك الشعر المتعلق بوصفهما الفني والرائع لليل والمعاني والأخيلة والصور التي تولدت من ذلك التصوير والتي ظلت متوهجة وفريدة في نوعها حتى هذا العصر.
اولا صورة الليل في شعر امرىء القيس:
لقد وردت معاني وصور الليل في العديد من قصائد امريء القيس والتي
سنتطرق الى ذكرها لاحقا على أن أهم وصف لليل ورد في تلك الأبيات المشهورة التي جاءت قي معلقته المعروفة والتي يقول في مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحرمل
حتى يصل الى وصف الليل قائلا:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بانواع الهموم ليبتلي
فقلت لة لما تمطى بصلبة
وأردف أعجاز اوناء بكل
ألا أيها الليل الا انجل
بصبح وما الاصباح منك بامثل
فيا لك من ليل كان نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كان الثريا علقت في مصامها
بامراس كتان الى صم جندل
وحقيقة فإن هذه الأ بيات أو ما يسمى بوحدة الليل في معلقة امرىء القيس قد
حازت على أكثر اهتمامات النقاد والدارسين للأدب العربي والجاهلي خاصة, على أن هذه الشروح والرؤى النقدية قد أسهمت في كشف الكثير من الأبعاد الجمالية أو النفسية.
ان امرأ القيس في البيت الأول يصف الليل بوصف غير عادي انه يصور الليل مثل موج البحر الذي أرخى أستاره على الشاعر لا لكي يسعده ويمتعه وانما ليبتليه بأنواع الهموم انه يتصور الليل بسواده كأنه أمواج لا تنتهي من الأحزان والهموم وعندما نبحث عن العلاقة الدلالية بين الليل وبين أمواج البحر فإننا سوف نصل ال النتيجة التالية:
أ – الليل = الخوف.
ب – البحر = الخوف
ج – الهموم = الحزن والابتلاء
ويبدو واضحا مما ذكرناه أن الليل في معلقة امري، القيس ليس هو الليل الرومانسي أو هو الليل العاطفي أو هو الليل المعروف. لا أنه ليل طويل زمنيا ومعنويا، ليل تحتشد فيه الهموم والابتلاء واليأس منه ومن انجلائه انه ليل مهيمن على عالم الشاعر النفسي والخاص والعالم المحيط بالشاعر بحيث ان نجوم وثريات هذا الليل لا تتحرك أبدا انه ليل سوداوي يتصف بكل معاني السوداوية واليأس انه ليل بائس لا يوجد فيه أي معنى أو بصيص لأي معنى أو نور لأي أمل أو خلاص وحتى ولو جاء الصباح فانه لا يري فه أي أمل أو نهاية لمأساته أو همومه. ان صورة الليل في هذه المقطوعة هي صورة حقيقية من معاناة الشاعر النفسية وهي صورة أخرى من حياة الشاعر البائسة التي يسيطر عليها الألم والوحدة والقهر.
ويقترب الدكتور كمال أبو ديب في كتابه الرؤى المقنعة من معنى عدم وجود تفريق بين مسافات الوحدات الزمنية والوقتية في تناوله لوحدة الليل في معلقة امري، القيس حيث يتحدث عن تفسير جديد لهذه الحالة اللا وقتية ويطلق عليها وحدة اللازمن.
أما الدكتور عبدالله الغذامي فانه يقدم تفسيرا آخر لتصوير الليل في معلقة امري، القيس فيقول لو شرحنا الليل بأنه الليل المعروف فإننا بذلك نقتل الكلمة في البيت. ولذلك فان امرأ القيس يستهل بيته بواو (رب ) التي تصرح بان الليل المطلوب هو ليل متخيل
ثانيا صورتة الليل في شعر النابغة الذبياني:
وننتقل الآن الى النابغة الذبياني فلقد حقق هذا الشاعر شهرة أدبية ومكانة اجتماعية مرموقة ليسر في قومه فحسب بل في سائر انحاء الجزيرة العربية فقد غدا الرجل سيد قومه وسفيرهم المتجول الذي يذب عنهم الأذى ويدفع عنهم الأعداء،كما غدا سيد الشعراء والحكم الذي يفصل بينهم فيرفع ويضع, ويقول فيستجاب له, فقد ذكر صاحب الأغاني انه " كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ, فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وحدث ذات مرة أن أنشده الأعشى أبو بصير، ثم حسان بن ثابت, ثم أنشدته الحسناء
بنت عمرو بن الشريد:
وإن صخرا لتأتم الهدأة به كأنه علم في وأسه نار
فقال: والله لولا أبا بصير أنشدني آنفا لقلت أنك أشعر الجن والانس, فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك فقال النابغة: يا بن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيــد اليــك نــوازع
فخنس حسان لقوله " وروى أيضا ان النابغة قدم مرة سوق عكاظ فنزل عن راحلته ثم جثا على ركبتيه ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول:
عرفت منازلا بعريتنات فأعلى الجزع للحي المبن
فقال حسان: هلك الشيخ ورأيته تبع قافية منكرة. ويقال انه قالها في موضعا فمازال ينشد حتى أتى على آخرها وهذه القصيدة من أروع شعر النابغة ".
هذه الحادثة وغيرها مما يذكره الرواة تدل بشكل قاطع على المكانة الشعرية السامية التي بلغها هذه الشاعر.
إن صور الليل عند النابغة مساوية لتلك التي وردت في قصائد امري، القيس لكنها ربما تكون مختلفة في الصياغة ومشابهة في المعاني والصور التي جاء بها امرؤ القيس الذي ربما يكون هو الآخر قد تفوق في صياغة صورة الليل في وحدة الليل التي ضمتها معلقته المشهورة, على أن أشهر أبيات النابغة التي وردت في تصوير الليل بصورة فريدة ومتميزة وظلت هذه الصورة عالقة في ذاكرة التاريخ وفي تضاريس الجغرافيا ومحفورة في صفحات الأدب وفي وجدان الشعر العربي على مر الأجيال تشبيها الرائع لسطوة النعمان بن المنذر كأنها الليل الذي هو مدركه وتحويله كل خواص الليل المعروفة عن وضعية الليل الوقتية والكونية الى خواص أخرى جديدة تشتمل فيما تشتمل الادراك وحتمية الوصول الى أي مكان أو زمان أو انسان. وهذه الأبيات وردت في أحدى قصائده التي يمدح فيها النعمان ويعتذر له.
ويقول في هذه الابيات:
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد اليك نوازع
وأنا أعتقد أن الشاعر كأنه يريد أن يدلل على أن سطوة الملك في الوصول اليه هي مثل سعة وانتشار الليل وقدرته في الوصول الى اية مكان في هذه الدنيا، والرأي الآخر هو ان الشاعر يصور سطوة الملك وبطشه التي هي إن وصلته فانه ستكون فيها نهايته.
شبر بن شرف الموسوي (كاتب من سلطنة عمان)