الى الصحفية الشهيدة ليال نجيب
لقطة أولى :
كانت هناك تتبادل مع أخيها أعياداً مؤجّلة وكأنها ترصد أفراحاً كثيفة ، فبعلبك تستقبل عمودها الفيروزي الذي رصف العمر بأكاليل الطفولة والحب والوطن ، فيروز التي لم تفقد دهشة الإبداع والتي لاتزال مبذولة في العطاء كانت الحلم الأوحد بالنسبة إليها في ذلك ا لوقت .
لقطة ثانية :
في صباح ما من صباحات تموز المذعورة تهدلت عيناها في الذهول وهي ترى الركام يتكدّس في شوارع الوطن ، الوطن الذي كانت تتلوه كصلاة مكسوة بالخشوع وألسنة الغضب (الدخان) تعلو في فراغ النكبة وتحجب سماء المدينة التي اكتظت بالخوف والموت في آن معاً .
ولأنها مصقولة بالتجربة ، تنال من الغموض المكنوز بالتفسير بوضوح خبرتها المبتلة بلذة اللقطة لذا تقتسم مع الكاميرا الصورة التي تسدلها في الروح وفي منعطفات الظل ، راحت تصور دعسات القلق وآثاره في الخوف وفي ملامح أولئك الاطفال المتسمرين على عتبات الموت ورعشة البيوت الواهنة تحت الطيران الإسرائيلي الواطىء .
لقطة جانبية :
( الأمل يتسلل بخفة الرشاقة ويزداد ثقلاً في النمو ) .
لقطة ثالثة :
تحاول إعادة ترتيب الوطن في وجهها وفي زرقة البحر في عينيها اللتين ما إن تقترب منهما حتى ينتابك الصفاء وتسقط في دهشة البراءة ، وفي الوقت ذاته تحاول إقناع والدتها التي تحزم لها الكاميرا وقرائنها من أنها ستكون بخير وهي تلتقط الخراب وتختزله في عين الكاميرا لتسند به ذاكرة التاريخ وقاموسه يوماً قبل أن يهوي في النسيان .
وبدا الممر إلى الباب مقدساً حين راحت الأم تلبس ابنتها وصايا الحنين وتطبع على غمازتيها قبل من خوف وقبل أن تودعها دون أن تعلم أنها تودع فيها أقاصي الهديل سألتها إن كانت أخذت الكاميرا ؟
– الكاميرا أناي اللدود ( ورفعت يدها مشيرة إلى حقيبة الكاميرا ) ، هي الحقيقة والوضوح المعلق في الظل فكيف لي أن أنساها يا أماه !
ثم وضعت بين يدي والدتها ركاماً من الوحشة ورحلت مخلفة وراءها آثاراً من الفقد جعلت الأم توصد قلبها على يأس وخوف فادحين .
لقطة جانبية :
( الصورة تسكب الحياة في الكثافة ) .
لقطة رابعة :
الخوف يزدحم بالمكان ، والزمان يبدو ثقيلاً وشاحباً كفراشة بلل المطر جناحيها برطوبة الضوء ، حين مرت على مراسلين لمحطات عديدة ينقلون أحداث الحرب ، كانوا قد اختبأوا من غارة قريبة منهم .
لقطة جانية أخرى :
( خبّأت في جيوب الوطن مشاعر شاغرة بالحزن ) .
لقطة خامسة :
الليل يتدلى في نهايته ونومها لا يزال يعاني عسرًا في القلق حتى أخذ الصبح يتحاور مع أوله وينسكب في العقارب التي أشارت إلى السادسة فيما عزيمتها للمضي نحو الجنوب تتفاقم في القرار ، حدّثت والدتها على الهاتف لتصر لها الأمان في الحرص كي لا تشعرها بذلك القرار ولكن كيف لمثل قلبها أن يطمئن والخوف يضعه في الانقباض ، أنهت المكالمة بذات الوصايا التي تشبه التعويذة ذاتها . وأخذت تتدرّب على وسيلة لإقناع سائق أجرة ليقلّها إلى الجنوب دون أن تعلم أن الموت الطاعن في زهرة شبابها يتدرّب بقوة على ملامحها ، واستطاعت بكل نشاطها الذي يؤرق الحماس أن تقنع أحدهم ، الذي ما إن رآها حتى وقع في ذات الدهشة والبراءة والصفاء .
لقطة جانبية :
( تمنح الموت الشهوة في قوة الممارسة ) .
لقطة سادسة :
سلك السائق الطريق المحاذية للقصف وهو يعلم مثلها تماما أن لا محاذاة للهمجية الإسرائيلية ، راحت تصور الوحشية المفرطة في التكرار ، وكلما اقتربوا أكثر تمادى بها الموت أكثر ، وقبل أن تصل اشتد الوضع في الالتباس وأصبحت الطائرات الإسرائيلية السقف الأوحد فوقهم ، تهدل الوطن بكل ثقله في قلبها ، تلمست الغمازتين وكأنها لم تكن تريد سوى الاحتفاظ بدفء القبل أكثر من الاحتفاظ بحياتها ، ثم دوى انفجار هائل .
لقطة جانبية أخيرة :
( تركت ظلها واختبأت في الصورة ) .